إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَرَفَعَ أَبَوَيۡهِ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ وَخَرُّواْ لَهُۥ سُجَّدٗاۖ وَقَالَ يَـٰٓأَبَتِ هَٰذَا تَأۡوِيلُ رُءۡيَٰيَ مِن قَبۡلُ قَدۡ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّٗاۖ وَقَدۡ أَحۡسَنَ بِيٓ إِذۡ أَخۡرَجَنِي مِنَ ٱلسِّجۡنِ وَجَآءَ بِكُم مِّنَ ٱلۡبَدۡوِ مِنۢ بَعۡدِ أَن نَّزَغَ ٱلشَّيۡطَٰنُ بَيۡنِي وَبَيۡنَ إِخۡوَتِيٓۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٞ لِّمَا يَشَآءُۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡحَكِيمُ} (100)

{ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ } عند نزولِهم بمصر { عَلَى العرش } على السرير تكرِمةً لهما فوق ما فعله لإخوته { وَخَرُّواْ لَهُ } أي أبواه وإخوتُه { سُجَّدًا } تحية له فإنه كان السجودُ عندهم جارياً مجرى التحيةِ والتكرمةِ كالقيام والمصافحةِ وتقبيلِ اليد ونحوِها من عادات الناس الفاشية في التعظيم والتوقير ، وقيل : ما كان ذلك إلا انحناءً دون تعفيرِ الجباه ، ويأباه الخرُورُ ، وقيل : خروا لأجله سجداً لله شكراً ويرده قوله تعالى : { وَقَالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رؤياي } التي رأيتها وقصصتها عليك { مِن قَبْلُ } في زمن الصِّبا { قَدْ جَعَلَهَا رَبّى حَقّا } صدقاً واقعاً بعينه ، والاعتذارُ بجعل يوسفَ بمنزله القِبلة وجعلِ اللام كما في قوله : { أَلَيْسَ أَوَّلَ مَنْ صلى لقبلتكم } تعسفٌ لا يخفى ، وتأخيرُه عن الرفع على العرش ليس بنص في ذلك لأن الترتيبَ الذكريَّ لا يجب كونُه على وفق الترتيب الوقوعيِّ فلعل تأخيرَه عنه ليصل به ذكرُ كونِه تعبيراً لرؤياه وما يتصل به من قوله : { وَقَدْ أَحْسَنَ بَي } المشهورُ استعمالُ الإحسان بإلى ، وقد يستعمل بالباء أيضاً كما في قوله عز اسمُه : { وبالوالدين إحسانا } [ البقرة ، الآية 83 ] وقيل : هذا بتضمين لَطَف وهو الإحسانُ الخفيُّ كما يؤذن به قوله تعالى : { إِنَّ رَبّى لَطِيفٌ لمَا يَشَاء } وفيه فائدة لا تخفى أي لطَف بي محسناً إليَّ غيرَ هذا الإحسان { إِذْ أخرجني مِنَ السجن } بعدما ابتُليت به ولم يصرِّح بقصة الجُبّ حِذاراً من تثريب إخوتِه لأن الظاهرَ حضورُهم لوقوع الكلام عَقيب خرورهم سجّداً واكتفاءً بما يتضمنه قوله تعالى : { وَجَاء بِكُمْ منَ البدو } أي البادية { مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشيطان بيني وَبَيْنَ إخوتي } أي أفسد بيننا بالإغواء وأصلُه من نخْس الرائضِ الدابةَ وحملِها على الجري ، يقال : نزَغه ونسَغه إذا نخسَه ولقد بالغ عليه الصلاة والسلام في الإحسان حيث أسند ذلك إلى الشيطان { إِنَّ رَبّى لَطِيفٌ لمَا يَشَاء } أي لطيفُ التدبير لأجله رفيقٌ حتى يجيء على وجه الحِكمة والصواب ، ما من صعبٍ إلا وهو بالنسبة إلى تدبيره سهلٌ { إِنَّهُ هُوَ العليم } بوجود المصالح { الحكيم } الذي يفعل كلّ شيء على قضية الحكمة . روي أن يوسف أخذ بيد يعقوبَ عليهما الصلاة والسلام فطاف به في خزائنه فأدخله في خزائن الورِقِ والذهب وخزائن الحِليّ وخزائن الثياب وخزائنِ السلاح وغيرِ ذلك ، فلما أدخله خزائنَ القراطيس قال : يا بني ما أعقّك ، عندك هذه القراطيسُ وما كتبت إلي على ثماني مراحلَ ؟ قال : أمرني جبريلُ ، قال : أو ما تسأله ، قال : أنا أبسطُ إليه مني فسأله قال جبريلُ : الله تعالى أمرني بذلك لقولك : أخاف أن يأكلَه الذئب ، قال : فهلا خِفْتني .

ونَ ( 102 )