إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ إِنَّ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡبَصَرَ وَٱلۡفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَـٰٓئِكَ كَانَ عَنۡهُ مَسۡـُٔولٗا} (36)

{ وَلاَ تَقْفُ } ولا تتبعْ من قفا أثرَه إذا تبِعه ، وقرئ ولا تقُفْ من قاف أثرَه أي قفاه ، ومنه القافةُ في جمع القائف { مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } أي لا تكن في إتباع ما لا علمَ لك به من قول أو فعل كمن يتّبعُ مسلكاً لا يدري أنه يوصله إلى مقصِده ، واحتج به من منع إتباع الظنِّ وجوابُه أن المرادَ بالعلم هو الاعتقادُ الراجحُ المستفادُ من سند قطعياً كان أو ظنيًّا واستعمالُه بهذا المعنى مما لا يُنكَر شيوعُه ، وقيل : إنه مخصوصٌ بالعقائد ، وقيل : بالرمي وشهادةِ الزورِ ويؤيده قولُه عليه الصلاة والسلام : « مَنْ قفا مؤمناً بما ليس فيه حبَسه الله تعالى في رَدْغة الخَبال حتى يأتيَ بالمخرج » ومنه قول الكميت : [ الوافر ]

ولا أرمي البريءَ بغير ذنب *** ولا أقفو الحواصِنَ إن رُمينا

{ إِنَّ السمع والبصر والفؤاد } وقرئ بفتح الفاءِ والواو المقلوبةِ من الهمزة عند ضم الفاء { كُلُّ أولئك } أي كلُّ واحد من تلك الأعضاءِ فأُجريت مُجرى العقلاءِ لما كانت مسؤولةً عن أحوالها شاهدةً على أصحابها . هذا وإن أولاء وإن غلب في العقلاء لكنه من حيث إنه اسمٌ لذا الذي يعُمّ القَبيلين جاء لغيرهم أيضاً قال : [ الكامل ]

ذُمَّ المَنازِلَ بعد مَنزِلَة اللِّوى *** والعيشَ بعدَ أولئِكَ الأيامِ{[502]}

{ كَانَ عَنْهُ مسؤولا } أي كان كلٌّ من تلك الأعضاء مسؤولا عن نفسه ، على أن اسمَ كان ضميرٌ يرجِعُ إلى كلُّ وكذا الضميرُ المجرورُ ، وقد جُوّز أن يكون الاسمُ ضميرَ القافي{[503]} بطريق الالتفات إذ الظاهرُ أن يقال : كنتَ عنه مسؤولا ، وقيل : الجارُّ والمجرور في محل الرفع قد أُسند إليه مسؤولا معللاً بأن الجارَّ والمجرور لا يلتبس بالمبتدأ وهو السببُ في منع تقديمِ الفاعلِ وما يقوم مقامَه .

ولكن النحاسَ حكى الإجماعَ على عدم جواز تقديمِ القائم مقامَ الفاعل إذا كان جاراً ومجروراً ، ويجوز أن يكون من باب الحذفِ على شريطة التفسيرِ ، ويحذف الجارّ من المفسر ويعود الضميرُ مستكناً كما ذكرنا في قوله تعالى : { يَوْمٌ مَّشْهُودٌ } وجُوّز أن يكون مسؤولا مسنداً إلى المصدر المدلولِ عليه بالفعل وأن يكون فاعلُه المصدرَ وهو السؤالُ وعنه في محل النصب . وسأل ابن جني أبا علي عن قولهم : فيك يُرغب ، وقال : لا يرتفع بما بعده ، فأين المرفوع ؟ فقال : المصدرُ أي فيك يُرغب الرغبةُ بمعنى تُفعل الرغبة ، كما في قولهم : يُعطي ويمنع أي يفعل الإعطاء والمنع ، وجُوز أن يكون اسمُ كان أو فاعله ضميرَ كلُّ بحذف المضافِ أي كان صاحبه عنه مسؤولا أو مسؤولا صاحبُه .


[502]:البيت لجرير في ديوانه ص 990 (وفيه "الأقوام" مكان "الأيام")؛ وتخليص الشواهد ص 123؛ وخزانة الأدب 5/430؛ وشرح التصريح 1/128؛ وشرح شواهد الشافية ص 167؛ وشرح المفصل 9/129؛ ولسان العرب (أولى)؛ والمقاصد النحوية 1/408؛ وبلا نسبة في أوضح المسالك 1/134.
[503]:أي الذي يقفو، من قوله "ولا تقف ما ليس لك به علم".