إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيۡكُم مِّنۢ بَعۡدِ ٱلۡغَمِّ أَمَنَةٗ نُّعَاسٗا يَغۡشَىٰ طَآئِفَةٗ مِّنكُمۡۖ وَطَآئِفَةٞ قَدۡ أَهَمَّتۡهُمۡ أَنفُسُهُمۡ يَظُنُّونَ بِٱللَّهِ غَيۡرَ ٱلۡحَقِّ ظَنَّ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِۖ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ ٱلۡأَمۡرِ مِن شَيۡءٖۗ قُلۡ إِنَّ ٱلۡأَمۡرَ كُلَّهُۥ لِلَّهِۗ يُخۡفُونَ فِيٓ أَنفُسِهِم مَّا لَا يُبۡدُونَ لَكَۖ يَقُولُونَ لَوۡ كَانَ لَنَا مِنَ ٱلۡأَمۡرِ شَيۡءٞ مَّا قُتِلۡنَا هَٰهُنَاۗ قُل لَّوۡ كُنتُمۡ فِي بُيُوتِكُمۡ لَبَرَزَ ٱلَّذِينَ كُتِبَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡقَتۡلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمۡۖ وَلِيَبۡتَلِيَ ٱللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمۡ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمۡۚ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ} (154)

{ ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ } عطفٌ على قوله تعالى : { فأثابكم } [ آل عمران ، الآية : 153 ] ، والخطابُ للمؤمنين حقاً { من بَعْدِ الغم } أي الغمِّ المذكور ، والتصريحُ بتأخُّر الإنزالِ عنه مع دَلالة { ثُمَّ } عليه وعلى تراخيه عنه لزيادة البيانِ وتذكيرِ عِظَم النعمةِ كما في قوله تعالى : { ثُمَّ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا } [ النحل ، الآية 119 ] الآية ، { أمنَةً } أي أمناً نُصب على المفعولية ، وقوله تعالى : { نُّعَاساً } بدلٌ منها أو عطفُ بيانٍ وقيل : مفعولٌ له أو هو المفعول وأمنةً حالٌ منه متقدمةٌ عليه أو مفعول له حالٌ من المخاطبين على تقدير مضافٍ أي ذو أمنةٍ أو على أنه جمعُ آمن كبارّ وبرَرَة وقرئ بسكون الميم كأنها مرّةٌ من الأمنِ ، وتقديمُ الظرفين على المفعول الصريحِ لِمَا مر غيرَ مرةٍ من الاعتناء بشأن المقدّمِ والتشويقِ إلى المؤخر ، وتخصيصُ الخوفِ من بين فنونِ الغمِّ بالإزالة لأنه المهمُّ عندهم حينئذ لما أن المشركين لما انصرفوا كانوا يتوّعدون المسلمين بالرجوع فلم يأمنوا كرَّتَهم وكانوا تحت الحَجَفِ متأهّبين للقتال فأنزل الله تعالى عليهم الأمنةَ فأخذهم النعاسُ . قال ابن عباس رضي الله عنهما : أمنَّهم يومئذ بنعاس تغشّاهم بعد خوفٍ وإنما ينعَسُ من أمِنَ ، والخائفُ لا ينام . وقال الزبير رضي الله عنه : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم حين اشتد الخوفُ فأنزل الله علينا النومَ والله إني أسمع قولَ مُعتبِ بنِ قشير والنعاسُ يغشاني ما أسمعه إلا كالحُلُم يقول : لو كان لنا من الأمر شيءٌ ما قُتلنا هاهنا . وقال أبو طلحةَ رضي الله عنه : «رفعتُ رأسي يومَ أحُدٍ فجعلتُ لا أرى أحداً من القوم إلا وهو يَميدُ تحت حَجَفَتِه من النعاس » . قال : «وكنتُ ممن أُلقِيَ عليه النعاسُ يومئذ فكان السيفُ يسقُط من يدي فآخذُه ثم يسقُط السَّوْطُ من يدي فآخُذه » ، وفيه دِلالةٌ على أن من المؤمنين من لم يُلْقَ عليه النعاسُ كما ينبئ عنه قوله عز وجل : { يغشى طَائِفَةً مِنْكُمْ } قال ابن عباس : هم المهاجرون وعامةُ الأنصار ولا يقدَح ذلك في عموم الإنزالِ للكل ، والجملةُ في محل النصب على أنها صفةٌ لنعاساً ، وقرئ بالتاء على أنها صفة لأمَنةً ، وفيه أن الصفةَ حقُّها أن تتقدم على البدل وعطفِ البيان وأن لا يُفصل بينها وبين الموصوفِ بالمفعول له ، وأن المعهودَ أن يحدُث عن البدل دون المُبدلِ منه { وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ } أي أوقعتهم في الهموم والأحزانِ ، أو ما بهم إلا همُّ أنفسِهم وقصدُ خلاصِها ، من قولهم : همّني الشيءُ أي كان من هِمّتي وقصدي ، والقصرُ مستفادٌ بمعونة المقامِ ، { وَطَائِفَةٌ } مبتدأٌ وما بعدها إما خبرُها ، وإنما جاز ذلك مع كونها نكرةً لاعتمادها على واو الحال كما في قوله : [ الطويل ]

سرينا ونجمٌ قد أضاء فمذ بدا *** محياكِ أخفي ضوؤُه كلَّ شارقِ{[129]}

أو لوقوعها في موضع التفصيل كما في قوله : [ الطويل ]

إذا ما بكى من خلفها انصرَفَتْ له *** بشِقّ وشقّ عندنا لم يُحَوَّلِ{[130]}

وإما صفتُها والخبرُ محذوفٌ أي ومعكم طائفةٌ أو وهناك طائفةٌ ، وقيل : تقديره ومنكم طائفةٌ ، وفيه أنه يقتضي دخولَ المنافقين في الخطاب بإنزال الأمنةِ وأياً ما كان فالجملةُ إما حاليةٌ مبيِّنةٌ لفظاعة الهولِ مؤكِّدةٌ لعِظَم النعمةِ في الخلاص عنه كما في قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ } [ العنكبوت ، الآية 67 ] وإما مستأنفةٌ مَسوقةٌ لبيان حالِ المنافقين وقوله عز وجل : { يَظُنُّونَ بالله } حال من ضمير أهمتْهم أو من طائفةٌ لتخصصها بالصفة ، أو صفةٌ أخرى لها أو خبرٌ بعد خبرٍ أو استئنافٌ مبينٌ لما قبله وقوله تعالى : { غَيْرَ الحق } في حُكم المصدرِ أي يظنون به تعالى غيرَ الظنِّ الحقِّ الذي يجب أن يُظنَّ به سبحانه ، وقوله تعالى : { ظَنَّ الجاهلية } بدلٌ منه وهو الظنُّ المختصُّ بالملة الجاهليةِ والإضافة كما في حاتم الجودِ ورجلِ صِدْقٍ وقوله تعالى : { يَقُولُونَ } بدلٌ من يظنون لما أن مسألتَهم كانت صادرةً عن الظن أي يقولون لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم على صورة الاسترشاد : { هَل لَّنَا مِنَ الأمر } أي من أمر الله ووعدِه من النصر والظفَرِ { مِن شَيء } أي من نصيب قط أو هل لنا من التدبير من شيء ؟ وقوله تعالى : { قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ } أي إن الغلبةَ بالآخرة لله تعالى ولأوليائه فإن حزبَ الله هم الغالبون أو إن التدبيرَ كلَّه لله فإنه تعالى قد دبر الأمرَ كما جرى في سابق قضائِه فلا مردَّ له وقرئ كلُّه بالرفع على الابتداء وقوله تعالى : { يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِم } أي يُضمرون فيها أو يقولون فيما بينهم بطريق الخُفية { ما لاَ يُبْدُونَ لَكَ } استئنافٌ أو حال من ضمير يقولون وقوله تعالى : { قُلْ إِنَّ الأمر } الخ ، اعتراضٌ بين الحال وصاحبِها أي يقولون ما يقولون مُظْهِرين أنهم مسترشِدون طالبون للنصر مُبْطنين الإنكارَ والتكذيبَ ، وقوله تعالى : { يَقُولُونَ } استئنافٌ وقع جواباً عن سؤال نشأ مما قبله كأنه قيل : أيَّ شيء يخفون ؟ فقيل : يحدثون أنفسَهم أو يقول بعضُهم لبعض فيما بينهم خُفيةً : { لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شيء } كما وعد محمد عليه الصلاة والسلام من أن الغلبةَ لله تعالى ولأوليائه وأن الأمرَ كلَّه لله أو لو كان لنا من التدبير والرأيِّ شيءٌ { مَا قُتِلْنَا هاهنا } أي ما غُلبنا أو ما قُتل مَنْ قُتل منا في هذه المعركةِ على أن النفيَ راجعٌ إلى نفس القتلِ لا إلا وقوعه فيها فقط ، ولما برحنا من منازلنا كما رآه ابنُ أُبي ويؤيده تعيينُ مكانِ القتلِ وكذا قوله تعالى : { قُل لَّوْ كُنتُمْ في بُيُوتِكُمْ } أي لو لم تخرُجوا إلى أُحُد وقعدتم بالمدينة كما تقولون { لَبَرَزَ الذين كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتل } أي في اللوح المحفوظِ بسبب من الأسباب الداعيةِ إلى البروز { إلى مَضَاجِعِهِمْ } إلى مصارعهم التي قدَّر الله تعالى قتلَهم فيها وقُتلوا هنالك البتةَ ولم تنفَعِ العزيمةُ على الإقامة بالمدينة قطعاً ، فإن قضاءَ الله تعالى لا يُرَدّ وحكمُه لا يُعقَّب ، وفيه مبالغةٌ في رد مقالتِهم الباطلةِ حيث لم يُقتَصرْ على تحقيق نفسِ القتلِ كما في قوله عز وجل : { أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككمُ الموت } [ النساء ، الآية 78 ] بل عُيِّن مكانُه أيضاً ، ولا ريب في تعيُّن زمانِه أيضاً لقوله تعالى : { فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } [ الأعراف ، الآية 34 ] رُوي أن ملك الموتِ حضر مجلسَ سليمانَ عليه الصلاة والسلام فنظر إلى رجل من أهل المجلسِ نَظرةً هائلة فلما قام قال الرجلُ : من هذا ؟ فقال سليمانُ عليه السلام : ملكُ الموتِ ، قال : أرسِلْني مع الريح إلى عالم آخَرَ فإني رأيتُ منه مرأىً هائلاً فأمرها عليه السلام فألقتْه في قُطر سحيقٍ من أقطار العالم فما لبث أن عاد ملكُ الموتِ إلى سليمانَ عليه السلام فقال : كنت أُمِرْتُ بقبض روحِ ذلك الرجلِ في هذه الساعةِ في أرض كذا فلما وجدتُه في مجلسك قلت : متى يصِلُ هذا إليها وقد أرسلتَه بالريح إلى ذلك المكانِ فوجدتُه هناك فقُضي أمرُ الله عز وجل في زمانه ومكانِه من غير إخلالٍ بشيء من ذلك ، وقرئ كَتَبَ على البناء للفاعل ونصبِ القتلُ ، وقرئ كُتب عليهم القتالُ وقرئ لبُرِّز بالتشديد على البناء للمفعول { وَلِيَبْتَلِىَ الله مَا في صُدُورِكُمْ } أي ليعاملَكم معاملةَ مَنْ يبتلي ما في صدوركم من الإخلاص والنفاقِ ويُظهرَ ما فيها من السرائر ، وهو علةٌ لفعل مقدرٍ قبلها معطوفةٌ على علل لها أخرى مطويةٍ للإيذان بكثرتها ، كأنه قيل : فعلَ ما فعل لمصالحَ جمةٍ وليبتليَ الخ ، وجعلُها عِللاً لبَرَز يأباه الذوقُ السليمُ فإن مقتضى المقامِ بيانُ حكمةِ ما وقع يومئذ من الشدة والهولِ لا بيانُ حِكمةِ البروزِ المفروضِ ، أو لفعلٍ مقدرٍ بعدها أي وللابتلاء المذكورِ فعلَ ما فعل ، لا لعدم العنايةِ بأمر المؤمنين ونحو ذلك ، وتقديرُ الفعل مقدماً خالٍ عن هذه المزية . { وَلِيُمَحّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ } من مخفيات الأمورِ ويكشِفَها أو يُخلِّصَها من الوساوس { والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } أي السرائر والضمائرِ الخفيةِ التي لا تكاد تفارقُ الصدورَ بل تلازمها وتصاحبُها ، والجملةُ إما اعتراضٌ للتنبيه على أن الله تعالى غنيٌ عن الابتلاء ، وإنما يُبرِز صورةَ الابتلاءِ لتمرين المؤمنين وإظهارِ حالِ المنافقين ، أو حالٌ من متعلَّق الفعلين أي فَعل ما فَعل للابتلاء والتمحيصِ والحال أنه تعالى غنيٌ عنهما مُحيطٌ بخفيات الأمورِ ، وفيه وعدٌ ووعيد .


[129]:وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 3/98 والدرر 2/23 وشرح شواهد المغني 2/863 ومغني اللبيب 2/471 والمقاصد النحوية 1/546 والشاهد فيه قوله: "ونجم قد أضاء" حيث سوّغت واو الحال الابتداء بالنكرة.
[130]:وهو لامرئ القيس في ديوانه ص 12 وبلا نسبة في رصف المباني ص 316 والشاهد فيه قوله: "إذا ما بكى" يريد إذا بكى فزاد "ما".