إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{قُل لِّمَن مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ قُل لِّلَّهِۚ كَتَبَ عَلَىٰ نَفۡسِهِ ٱلرَّحۡمَةَۚ لَيَجۡمَعَنَّكُمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ لَا رَيۡبَ فِيهِۚ ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ فَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ} (12)

{ قُلْ } لهم بطريق الإلجاء والتبكيت { لمَن ما في السماوات والأرض } من العقلاء وغيرِهم ، أي لمن الكائناتُ جميعاً خلْقاً ومُلكاً وتصرّفاً ؟ وقوله تعالى : { قُل لِلَّهِ } تقريرٌ لهم وتنبيهٌ على أنه المتعيَّنُ للجواب بالاتفاق بحيث لا يتأتّى لأحد أن يُجيب بغيره كما نطق به قوله تعالى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ منْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله } [ لقمان ، الآية 25 ] وقوله تعالى : { كَتَبَ على نَفْسِهِ الرحمة } جملةٌ مستقلة داخلة تحت الأمر ناطقةٌ بشمول رحمتِه الواسعةِ لجميع الخلق شمولَ مُلكِه وقدرته للكلِّ ، مَسوقةٌ لبيانِ أنه تعالى رؤوفٌ بعباده لا يعجَلُ عليهم بالعقوبة بل يقبل منهم التوبةَ والإنابةَ ، وأن ما سبق ذكرُه وما لحِقَ من أحكام الغضب ليس من مقتَضيَات ذاتِه تعالى ، بل من جهة الخَلْق ، كيف لا ومن رحمتِه أن خلقَهم على الفطرة السليمة وهداهم إلى معرفته وتوحيدِه بنَصْب الآياتِ الأنفسية والآفاقية ، وإرسالِ الرسل ، وإنزالِ الكُتب المشحونة بالدعوة إلى موجباتِ رِضوانِه ، والتحذيرِ عن مقتَضيَات سُخْطِه ، وقد بدّلوا فطرةَ الله تبديلاً ، وأعرَضوا عن الآياتِ بالمرة ، وكذّبوا بالكتب واستهزأوا بالرسل ، وما ظلمهم الله ولكن كانوا هم الظالمين ، ولولا شمولُ رحمتِه لسلك بهؤلاءِ أيضاً مَسلكَ الغابرين . ومعنى كتب على نفسه الرحمة أنه تعالى قضاها وأوجبها بطريق التفضُّل والإحسانِ على ذاته المقدّسةِ بالذات لا بتوسُّط شيءٍ أصلاً ، وقيل : هو ما رُوي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «لمَّا قضى الله تعالى الخلقَ كتَبَ في كتابٍ فهو عنده فوق العرش ، إنَّ رحمتي غلبتْ غضبي » وعن عمرَ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لكعب : «ما أولُ شيءٍ ابتدأه الله تعالى مِنْ خلقه ؟ » فقال كعب : كتب الله كتاباً لم يكتبْه بقلم ولا مِدادٍ كتابةَ الزَّبَرْجد واللؤلؤ والياقوت : «إني أنا الله لا إله إلا أنا سبقت رحمتي غضبي » ومعنى سبْقِ الرحمةِ وغَلَبتِها أنها أقدمُ تعلُّقاً بالخلق وأكثرُ وصولاً إليهم مع أنها من مقتضيات الذاتِ المُفضيةِ للخير ، وفي التعبير عن الذات بالنفس حجةٌ على من ادّعى أن لفظَ النفسِ لا يُطلق على الله تعالى وإن أريد به الذاتُ إلا مشاكلةً لِما ترَى من انتفاءِ المشاكلة هاهنا بنَوْعَيْها ، وقوله تعالى : { لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلى يَوْمِ القيامة } جوابُ قسمٍ محذوف ، والجملة استئنافٌ مسوقٌ للوعيد على إشراكهم وإغفالِهم النظرَ ، أي والله ليجمعنّكم في القبور مبعوثين أو محشورين إلى يوم القيامة فيجازيكم على شِرْككم وسائرِ معاصيكم وإن أمهلكم بموجَب رحمتِه ولم يعاجِلْكم بالعقوبة الدنيوية وقيل : ( إلى ) بمعنى اللام ، أي ليجمعنكم ليوم القيامة كقوله تعالى : { إِنَّكَ جَامِعُ الناس لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ } [ آل عمران ، الآية 9 ] وقيل : هي بمعنى في أي ليجمعنكم في يوم القيامة { لاَ رَيْبَ فِيهِ } أي في اليوم أو في الجمع . وقوله تعالى : { الذين خَسِرُوا أَنفُسَهُم } أي بتضييع رأسِ مالهم وهو الفطرةُ الأصليةُ والعقلُ السليم والاستعدادُ القريبُ الحاصلُ من مشاهدة الرسول عليه الصلاة والسلام ، واستماعِ الوحْي وغيرِ ذلك من آثار الرحمة ، في موضع النصْب أو الرفعِ على الذم أي أعني الذين الخ ، أو هو مبتدأ والخبر قوله تعالى : { فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } والفاء لتضمُّن المبتدأ معنى الشرط ، والإشعارُ بأن عدمَ إيمانهم بسبب خُسرانهم ، فإن إبطالَ العقل باتباع الحواسِّ والوهم والانهماك في التقليد ، وإغفالِ النظر أدّى بهم إلى الإصرار على الكفر ، والامتناعِ من الإيمان . والجملةُ تذييلٌ مَسوقٌ من جهته تعالى لتقبيح حالهم غيرُ داخلٍ تحت الأمر .