{ قُلْ } لهم بطريق الإلجاء والتبكيت { لمَن ما في السماوات والأرض } من العقلاء وغيرِهم ، أي لمن الكائناتُ جميعاً خلْقاً ومُلكاً وتصرّفاً ؟ وقوله تعالى : { قُل لِلَّهِ } تقريرٌ لهم وتنبيهٌ على أنه المتعيَّنُ للجواب بالاتفاق بحيث لا يتأتّى لأحد أن يُجيب بغيره كما نطق به قوله تعالى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ منْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله } [ لقمان ، الآية 25 ] وقوله تعالى : { كَتَبَ على نَفْسِهِ الرحمة } جملةٌ مستقلة داخلة تحت الأمر ناطقةٌ بشمول رحمتِه الواسعةِ لجميع الخلق شمولَ مُلكِه وقدرته للكلِّ ، مَسوقةٌ لبيانِ أنه تعالى رؤوفٌ بعباده لا يعجَلُ عليهم بالعقوبة بل يقبل منهم التوبةَ والإنابةَ ، وأن ما سبق ذكرُه وما لحِقَ من أحكام الغضب ليس من مقتَضيَات ذاتِه تعالى ، بل من جهة الخَلْق ، كيف لا ومن رحمتِه أن خلقَهم على الفطرة السليمة وهداهم إلى معرفته وتوحيدِه بنَصْب الآياتِ الأنفسية والآفاقية ، وإرسالِ الرسل ، وإنزالِ الكُتب المشحونة بالدعوة إلى موجباتِ رِضوانِه ، والتحذيرِ عن مقتَضيَات سُخْطِه ، وقد بدّلوا فطرةَ الله تبديلاً ، وأعرَضوا عن الآياتِ بالمرة ، وكذّبوا بالكتب واستهزأوا بالرسل ، وما ظلمهم الله ولكن كانوا هم الظالمين ، ولولا شمولُ رحمتِه لسلك بهؤلاءِ أيضاً مَسلكَ الغابرين . ومعنى كتب على نفسه الرحمة أنه تعالى قضاها وأوجبها بطريق التفضُّل والإحسانِ على ذاته المقدّسةِ بالذات لا بتوسُّط شيءٍ أصلاً ، وقيل : هو ما رُوي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «لمَّا قضى الله تعالى الخلقَ كتَبَ في كتابٍ فهو عنده فوق العرش ، إنَّ رحمتي غلبتْ غضبي » وعن عمرَ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لكعب : «ما أولُ شيءٍ ابتدأه الله تعالى مِنْ خلقه ؟ » فقال كعب : كتب الله كتاباً لم يكتبْه بقلم ولا مِدادٍ كتابةَ الزَّبَرْجد واللؤلؤ والياقوت : «إني أنا الله لا إله إلا أنا سبقت رحمتي غضبي » ومعنى سبْقِ الرحمةِ وغَلَبتِها أنها أقدمُ تعلُّقاً بالخلق وأكثرُ وصولاً إليهم مع أنها من مقتضيات الذاتِ المُفضيةِ للخير ، وفي التعبير عن الذات بالنفس حجةٌ على من ادّعى أن لفظَ النفسِ لا يُطلق على الله تعالى وإن أريد به الذاتُ إلا مشاكلةً لِما ترَى من انتفاءِ المشاكلة هاهنا بنَوْعَيْها ، وقوله تعالى : { لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلى يَوْمِ القيامة } جوابُ قسمٍ محذوف ، والجملة استئنافٌ مسوقٌ للوعيد على إشراكهم وإغفالِهم النظرَ ، أي والله ليجمعنّكم في القبور مبعوثين أو محشورين إلى يوم القيامة فيجازيكم على شِرْككم وسائرِ معاصيكم وإن أمهلكم بموجَب رحمتِه ولم يعاجِلْكم بالعقوبة الدنيوية وقيل : ( إلى ) بمعنى اللام ، أي ليجمعنكم ليوم القيامة كقوله تعالى : { إِنَّكَ جَامِعُ الناس لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ } [ آل عمران ، الآية 9 ] وقيل : هي بمعنى في أي ليجمعنكم في يوم القيامة { لاَ رَيْبَ فِيهِ } أي في اليوم أو في الجمع . وقوله تعالى : { الذين خَسِرُوا أَنفُسَهُم } أي بتضييع رأسِ مالهم وهو الفطرةُ الأصليةُ والعقلُ السليم والاستعدادُ القريبُ الحاصلُ من مشاهدة الرسول عليه الصلاة والسلام ، واستماعِ الوحْي وغيرِ ذلك من آثار الرحمة ، في موضع النصْب أو الرفعِ على الذم أي أعني الذين الخ ، أو هو مبتدأ والخبر قوله تعالى : { فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } والفاء لتضمُّن المبتدأ معنى الشرط ، والإشعارُ بأن عدمَ إيمانهم بسبب خُسرانهم ، فإن إبطالَ العقل باتباع الحواسِّ والوهم والانهماك في التقليد ، وإغفالِ النظر أدّى بهم إلى الإصرار على الكفر ، والامتناعِ من الإيمان . والجملةُ تذييلٌ مَسوقٌ من جهته تعالى لتقبيح حالهم غيرُ داخلٍ تحت الأمر .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.