الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{وَرَفَعَ أَبَوَيۡهِ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ وَخَرُّواْ لَهُۥ سُجَّدٗاۖ وَقَالَ يَـٰٓأَبَتِ هَٰذَا تَأۡوِيلُ رُءۡيَٰيَ مِن قَبۡلُ قَدۡ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّٗاۖ وَقَدۡ أَحۡسَنَ بِيٓ إِذۡ أَخۡرَجَنِي مِنَ ٱلسِّجۡنِ وَجَآءَ بِكُم مِّنَ ٱلۡبَدۡوِ مِنۢ بَعۡدِ أَن نَّزَغَ ٱلشَّيۡطَٰنُ بَيۡنِي وَبَيۡنَ إِخۡوَتِيٓۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٞ لِّمَا يَشَآءُۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡحَكِيمُ} (100)

{ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ } على السرير ، يعني أجلسهما عليه قال ابن اسحاق يعني رفع اسمهما { وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً } يعني يعقوب وخالته وإخوته ، وكانت تحيّة الناس يومئذ السجود ، ولم يرد بالسجود وضع الجباه على الأرض ، لأنّ ذلك لا يجوز إلاّ للهِ تعالى وإنّما هو الانحناء والتواضع على طريق التحيّة والتعظيم والتسليم إلاّ على جهة العبادة والصلاة ، وهذا قول الأعشى بن ثعلبة :

فلمّا أتانا بعيد الكرى *** سجدنا له ورفعنا العمارا

وقال آخر :

فضول لأزمتها أسجدت *** سجود النصارى لأربابها

وقيل : السجود في اللغة الخضوع كقول النابغة :

بجمع تضل البلق في حجراته *** ترى الاكم فيه سُجّداً للحوافِر

أي متطامنة ذليلة .

قال [ ثعلبة ] : خرّوا يعني مرّوا ، ولم يرد الوقوع والسقوط على الأرض ، نظيره قوله تعالى :

{ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً } [ الفرقان : 73 ] إنّما أراد لم يمرّوا كذلك ، مجاهد : بمعنى المرور ، وروي عن ابن عباس أنّ معناه خرّوا لله سُجّداً فقوله : له كناية عن الله تعالى { وَقَالَ } يوسف عند ذلك واقشعرّ جلده : { هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً } ، وهو قوله { إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً } .

واختلفوا في مدّة غيبة يوسف عن يعقوب ، فقال الكلبي : مائتان وعشرون سنة ، سلمان الفارسي : أربعون سنة ، عبدالله بن شدّاد : سبعون سنة وقيل : سبع وسبعون سنة ، وقال الحسن : أُلقي يوسف في الجُب وهو ابن سبع عشرة سنة وغاب عن أبيه ثمانين سنة ، وعاش بعد لقائه بيعقوب ثلاثاً وعشرين سنة ، ومات وهو ابن عشرين ومائه سنة ، وفي التوراة : مائة وستّ وعشر سنين . في قول ابن إسحاق بن يسار : ثمانين وسبعة أعوام ، وقال ابن أبي إسحاق : ثماني عشرة سنة ، وولد ليوسف من امرأة العزيز : افراثيم وميشا ورحمة امرأة أيوّب ، وبين يوسف وموسى أربعمائة سنة .

{ وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ } ولم يقل من الجبّ استعمالا للكرم لئلاّ يذكّر إخوته صنيعهم ، وقيل : لأنّ نعمة الله عليه في النجاة من السجن أكبر من نعمته عليه في إنقاذه من الجب ، وذلك أنّ وقوعه في البئر كان لحسد إخوته ، ووقوعه في السجن مكافأة من الله لزلّة كانت منه .

{ وَجَآءَ بِكُمْ مِّنَ الْبَدْوِ } وذلك أنّ يعقوب وبنوه كانوا أهل بادية ومواشي ، والبدو مصدر قولك : بدا ، يبدو ، بدوّاً ، إذا صار بالبادية ، { مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ } أفسد { الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ } ذو لُطف وصنع { لِّمَا يَشَآءُ } عالم بدقائق الأمور وحقائقها ، { إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } .

روى عبدالصمد عن أبيه عن وهب : قال : دخلوا يعني يعقوب وولده مصر وهم اثنان وسبعون إنساناً ما بين رجل وامرأة وخرجوا منها مع موسى ومقاطنهم ستّمائة ألف وخمسمائة وبضع وسبعون رجلا سوى الذرّية والهرمى والزمنى ، وكانت الذرّية ألف ألف ومائتا ألف سوى المقاتلة .

قال أهل التاريخ : أقام يعقوب بمصر بعد موافاته بأهله أربعاً وعشرين سنة في أغبط حال وأهنأ عيش ، ثمّ مات بمصر ، ولمّا حضرته الوفاة أوصى إلى ابنه يوسف أن يحمل جسده حتى يدفنه عند أبيه إسحاق ، ففعل يوسف ذلك ومضى به حتى دفنه بالشام ، ثمّ انصرف إلى مصر .

قال سعيد بن جبير : نُقل في تابوت من ساج إلى بيت المقدس ووافق ذلك يوم مات عيصوا فدفنا في قبر واحد ، فمن ثَمّ تنقل اليهود موتاهم إلى بيت المقدس من فعل ذلك منهم ، وولد يعقوب وعُيص في بطن واحد ، ودفنا في قبر واحد وكان عمرهما جميعاً مائة وسبعة وأربعين سنة .