الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{فِيهِ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٞ مَّقَامُ إِبۡرَٰهِيمَۖ وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنٗاۗ وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلٗاۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (97)

{ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ } : قرأ ابن عباس : آية بينة .

{ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } آية بينة على الواحد أراد مقام إبراهيم وحده ، وقال : أثر قدميه في المقام آية بينة .

وقرأ الباقون : آيات بالجمع أرادوا مقام إبراهيم والحجر الأسود والحطيم وزمزم والمشاعر ، وقد مضى ذكر مقام إبراهيم في سورة البقرة { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } [ آل عمران : 97 ] من أن يهاج فيه ، لأنه حرم ، وذلك بدعاء إبراهيم ( عليه السلام ) حيث قال :

{ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً } [ البقرة : 126 ] وكان في الجاهلية من دخله ولجأ إليه آمن من الغارة والقتل ولم يزده الإسلام إلاّ شدة .

وكتب أبو الخلد إلى ابن عباس : أن أول من لاذ بالحرم الحيتان الصغار والكبار هرباً من الطوفان ، وقيل : من دخله عام عمرة القضاء مع محمد صلى الله عليه وسلم كان آمناً دليله قوله :

{ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَآءَ اللَّهُ آمِنِينَ } [ الفتح : 27 ] .

وقال أهل المعاني : صورة الآية خبر ومعناها أمر تقديرها : ومن دخلوه فأمنوه ، كقوله :

{ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ } [ البقرة : 197 ] أي لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا . وقيل : ( ومن دخله ) لقضاء النسك معظماً له عارفاً لحقه متقرباً إلى الله عزّ وجلّ كان آمناً يوم القيامة وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم " من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار " أي في نهار يوم القيامة .

يدل عليه ما روى جويبر عن الضحاك { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } يقول : من حجه ودخله كان آمناً من الذنوب التي اكتسبها قبل ذلك .

وروى زياد بن أبي عياش عن يحيى بن جعدة في قوله تعالى : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } قال : من النار .

وقال جعفر الصادق ( رضي الله عنه ) : من دخله على الصفاء كما دخله الأنبياء والأولياء كان آمناً من عذابه .

وقال أبو النجم القرشي الصوفي : كنت أطوف بالبيت فقلت : يا سيدي ، قلت : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } من أي شيء ؟ فسمعت من ورائي [ قائلا ] يقول : آمناً من النار ، فالتفت فلم أر شيئاً .

ويدل على صحة هذا التأويل ما روى أبان بن عياش عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " " من مات في أحد الحرمين بعثه الله عزّ وجلّ مع الآمنين " " .

وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الحجون والبقيع يؤخذ بأطرافهما وينثران في الجنة وهما مقبرتا مكة والمدينة " .

وروى شقيق بن سلمة عن ابن مسعود قال : " وقف النبي صلى الله عليه وسلم على ثنية المقبرة وليس هما يومئذ مقبرة ، وقال : " بعث الله من هذه البقعة من هذا الحرم كله سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ، يشفع كل واحد منهم في سبعين ألفاً وجوههم كالقمر ليلة البدر " " .

وبه عن عبد الرحمن بن زيد العمى عن أبيه عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من صبر على حرّ مكة ساعة من نهار ، تباعدت منه جهنم مسيرة مائتي عام ، وتقربت منه الجنة مسيرة مائة عام " .

وقال وهب بن منبه : مكتوب في التوراة : إن الله يبعث يوم القيامة سبعمائة ألف ملك من الملائكة المقربين بيد كل واحد منهم سلسلة من ذهب إلى البيت الحرام فيقول لهم : إذهبوا إلى البيت الحرام فزموه بهذه السلاسل ثم قودوه إلى المحشر فيأتونه فيزمونه بسبعمائة ألف سلسلة من ذهب ثم يمدونه وملك ينادي : يا كعبة الله سيري فتقول : لست بسائرة حتى أعطي سؤلي .

فينادي ملك من جو السماء : سلي تعط . فتقول الكعبة : يا رب شفّعني في جيرتي الذين دفنوا حولي من المؤمنين . فيقول الله : قد أعطيتك سؤلك . قال : فيحشر موتى مكة من قبورهم بيض الوجوه كلهم محرمين ، فيجتمعون حول الكعبة يلبّون ثم يقول الملائكة : سيري يا كعبة الله ، فتقول : لست بسائرة حتى أعطي سؤلي ، فينادي ملك من جو السماء : سلي تعط ، فتقول الكعبة : يا رب عبادك المؤمنين الذين وفدوا إليَّ من كل فجّ عميق شعثاً غبراً ، تركوا الأهلين والأولاد والأحباب ، وخرجوا شوقاً إليَّ زائرين مسلمين طائعين ، حتى قضوا مناسكهم كما أمرتهم ، فأسألك أن تؤمنهم من الفزع الأكبر وتشفّعني فيهم وتجمعهم حولي ، فينادي الملك : إن منهم من ارتكب الذنوب بعدك وأصرَّ على الذنوب الكبائر حتى وجبت له النار ، فتقول الكعبة : إنما أسألك الشفاعة لأهل الذنوب العظام . فيقول الله : قد شفّعتك فيهم وأعطيتك سؤلك . فينادي منادي من جو السماء : ألا من زار الكعبة فليعتزل من بين الناس . فيعتزلون ، فيجمعهم الله حول البيت الحرام بيض الوجوه آمنين من النار يطوفون ويلبون ، ثم ينادى ملك من جو السماء : ألا يا كعبة الله سيري . فتقول الكعبة : لبيك لبيك والخير بيديك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك ، ثم [ يمدّونها ] إلى المحشر .

{ وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } .

قال عكرمة : لما نزلت { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } [ آل عمران : 85 ] قالت اليهود : فنحن مسلمون فأمروا أن يحجوا إن كانوا مسلمين ، واللام في قوله لله لام الايجاب والإلزام ، أي قد فرض وأوجب على الناس حجّ البيت . قرأ أبو جعفر والأعمش وحمزة والكسائي : حِج ، بكسر الحاء في هذا الحرف خاصة .

وقرأ ابن أبي إسحاق جميع ما في القرآن بالكسر ، وهي لغة أهل نجد .

وقرأ الباقون : بالفتح كل القرآن ، وهي لغة أهل الحجاز .

واختيار أبي عبيد ، وأبي حاتم ، فهما لغتان فصيحتان بمعنى واحد .

وقال الحسن الجعفي الفتح المصدر والكسر اسم الفعل ، ثم قال : { مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } إعلم أن شرائط وجوب الحج تسعة أشياء هي : البلوغ والعقل والإسلام والحرية ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " رفع القلم عن ثلاثة : عن الصبي حتى يبلغ وعن المجنون حتى يفيق وعن النائم حتى ينتبه " .

ولقوله صلى الله عليه وسلم : " أيّما صبي حج ثم بلغ الحنث فعليه حجة أخرى ، وأيّما أعرابي حج ثم هاجر فعليه حجة أخرى " .

وأراد بالهجرة هاهنا : الإسلام وتخلية الطريق ، وهي أن يكون الطريق آمناً مسلوكاً ، لا مانع فيه من عدو ونحوه ، فإن كان غير مسلوك لم يجب الحج .

والدليل عليه : أنه لو كان محرماً فحصره العدو ، فله أن يحل منه ، فإذا جاز له الخروج منه بالحصر فبان بعض الدخول فيه ، والقصد إليه مع وجود الحصر أولى وأحرى ، وإمكان المسير وهو أن يكون في الوقت سعة ممكنة فيه الحج ، فإذا وجد شرائط الحج وهو [ . . . . ] وقد بلغ الحاج إلى [ الكرقة ] مثلا ، فلا يجب عليه ، لأنه جعل شرائطه في وقت تعذر فعله فيه ، فهو كالصبي الذي يبلغ في أثناء نهار الصيام ، فلا يجب عليه صوم ذلك اليوم ، وزاد كاف وراحلة مبلغة وقوة بدنية واختلف أقاويل الفقهاء في تفصيل هذه الشرائط الثلاثة .

فقال الشافعي ( رضي الله عنه ) : الإستطاعة وجهان : أن يكون مستطيعاً بدنه واجداً من ماله ما يبلغه الحج ، والثاني : أن يكون معضوباً في بدنه لا يثبت على مركبه ، وهو قادر على من يطعه إذا أمره أن يُحج عنه بأجرة وغير أجرة ، وأما المستطيع بالمال : فقد لزمه فرض الحج بالسنّة ، لحديث الخثعمية ، فأما المستطيع بنفسه : فهو القوي الذي لا يلحقه مشقة غير محتملة في الكون على الراحلة ، فإن هذا إذا ملك الزاد والراحلة لزمه فرض الحج ، فإن عدم الزاد والراحلة أو أحدهما يسقط فرض الحج عنه ، فإن كان قادراً على المشي مطيقاً له ووجد الزاد أو قدر على كسب الزاد في طريقه بصنعة مثل الخرز والحجامة ونحوهما ، فالمستحب له أن يحج ماشياً ، رجلا كان أو امرأة .

قال الشافعي : والرجل أقل عذراً من المرأة ، لأنه أقوى وهذا على طريق الإستحباب لا على طريق الإيجاب ، فأما إن قدر على الزاد بمسألة الناس في الطريق كرهت له أن يحج ، لأنه يصير كلاًّ على الناس ، وهذا الذي ذكرت من أن وجود الزاد والراحلة شرط في وجوب الحج ، وهو قول عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) وابنه عبد الله وعبد الله بن عباس ومن التابعين الحسن البصري وسعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه والشافعي والثوري وأحمد وإسحاق ، دليلهم ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما السبيل إلى الحج ؟ قال : " الزاد والراحلة " " .

ومثله روى ابن مسعود وابن عباس وعائشة وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك .

روى الحرث عن علي كرم الله وجهه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من ملك زاداً وراحلة تبلغانه إلى بيت الله فلم يحج فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً ، فإن الله تعالى يقول : { وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } " .

قال ابن عمر : " قام رجل فقال : يا رسول الله ما يوجب الحج ؟ قال : " الزاد والراحلة " قال : فما الحاج ؟ قال : " [ الشعث التفل ] " قال : فما أفضل الحج ؟ قال : " العج والثج " " .

وقال مالك : إذا قدر على المشي ووجد الزاد والراحلة لزمه الحج بلا خلاف ، وإن لم يجد الزاد والراحلة وقدر على المشي نظر ، فإن كان مالكاً للزاد فعليه فرض الحج لكل حال ، وإن لم يكن مالكاً للزاد ولكنه يقدر على كسب حاجته منه في الطريق اختلف هذا باختلاف حال الرجل ، فإن كان من أهل المروات وممّن لا يكسب بنفسه لم يجب عليه ، وإن كان ممن يكسب كفايته بتجارة أو صناعة لزمه فرض الحج ، وهكذا إذا كان عادته مسئلة الناس لزمه فرض الحج ، فأوجب مالك على المطيق للمشي الحج إذا لم يكن له زاد وراحلة ، وهذا قول عبد الله بن الزبير والشعبي وعكرمة .

وقال الضحاك : إن كان شاباً صحيحاً ليس له مال ، فعليه أن يؤاجر نفسه بأكله أو عقبه حتى يقضي حجته ، فقال : له قائل ما كلف الله الناس أن يمشوا إلى البيت . فقال : لو أن لبعضهم ميراثاً بمكة أكان تاركه بل كان ينطلق إليه ولو حبواً ، كذلك يجب عليه الحج ، واحتج هؤلاء بقوله تعالى :

{ وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً } [ الحج : 27 ] أي مُشاة .

قالوا : ولأن الحج من عبادات الأبدان من فرائض الأعيان ، فوجب أن لا يكون من فرض وجوبها الزاد والراحلة كالصلاة والصيام ، فإذا [ تقرر ] أن وجود الزاد والراحلة شرط في وجوب الحج على قول أكثر أهل العلم ، فوجب أن يبيّن كيفية اعتبار الراحلة والنفقة ، وذلك يختلف باختلاف أحوال الناس .

وأما الراحلة : فهي ما لا يلحقه مشقة شديدة في الركوب عليها ، وأما النفقة : فإن كان ذا أهل وعيال يجب عليه نفقتهم ، فلا يلزمه الحج حتى يكون لهم نفقتهم مدة غيبته لذهابه ورجوعه ، لأن هذا الإنفاق فرض على الفور والحج فرض على التراخي ، وكان تقديم إنفاق العيال أولى وأهم .

وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " كفى بالمرء إثماً أن يضيّع من يقوت " فإذا لم يكن له أهل وعيال فلابد من نفقته لذهابه ، وهل يعتبر فيه الرجوع أم لا ؟ فيه قولان للفقهاء :

قال بعضهم : لا يعتبر ، لأنه ليس عليه كثير مشقة في تركه القيام ببلده ، لأنه لا أهل له فيه ولا عيال له ، فكل البلاد له وطن .

وقال الآخرون : يعتبر ، وهو الظاهر من مذهب الشافعي ، لأنه قال في الإملاء : لا يجب عليه الحج حتى يكون له نفقته ذاهباً وجائياً . فأطلق ولم يفرّق ، وهذا أولى بالصواب ، لأن الإنسان يستوحش بفراق وطنه كما يستوحش بفراق مسكنه ، ألا ترى أن البكر إذا زنا جُلد وغرّب عن بلده سواء كان له أهل أو لم يكن ، فإن كان له عقار يستغله أو ثياب أو أثاث ونحوها ، لزمه فرض الحج وبيع العقار ورقاب الأموال وصرفها في الحج فأما المسكن والخادم .

قال الشافعي : في الأم : فإذا كان له مسكن وخادم له نفقة أهله بقدر غيبته لزمه الحج . وظاهر هذا أنه اعتبر أن يكون مال الحج فاضلا عن الخادم والمسكن ، لأنه قدّمه على نفقة أهله ، فكأنه قال : بعد هذا كله .

وقال أصحابه : يلزمه أن يبيع المسكن والخادم ويشتري مسكناً وخادماً لأهله ، فأما إذا كان له بضاعة يتجر بها وربحها قدر كفايته وكفاية عياله على الدوام ، ومتى أنفق من أصل البضاعة اختل عليه ربحها ولم يكن ربحها قدر كفايته ، فهل يلزمه الحج من أصل البضاعة أم لا ؟

قال أبوالعباس بن شريح : لا يلزمه ذلك وتبقى البضاعة على ما هي عليه ولا يحج من أصلها ، لأن الحج إنما يجب عليه في الفاضل من كفايته .

وقال الآخرون : بل عليه أن يحج من أصل البضاعة ، وهو الصحيح المشهور الذي عليه الجمهور ، لأنه لا خلاف أنه لو كان له عقار يكفيه غلته لزمه بيع أصل العقار في الحج ، وكذلك البضاعة ، وجملته أن فرض الحج يتعلق بما يتعلق به فرض زكاة الفطر ، فما وجب بيعه في زكاة الفطر وجب بيعه في الحج ، فهذا القول في أحد وجهي الإستطاعة ، فأما الوجه الآخر : فهو أن يكون مغصوباً في بدنه لا يقدر أن يثبت على مركب بحال ، أو يكون فضو الخلقة ابتداء ، أو يكون مريضاً مزمناً شديداً لا يرجى برؤه ، أو يكون شيخاً كبيراً ضعيفاً ولكن يكون قادراً على من يطيعه إذا أمره بالحج عنه ، فهذا أيضاً مستطيع استطاعة ما . وهو على وجهين :

أحدهما : أن يكون قادراً على مال يستأجر عليه من يحج ، فإنه يلزمه فرض الحج ، وهذا قول علي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) روى عنه أنه قال لشيخ كبير لم يحج : جهّز رجلا يحج عنك . وإليه ذهب الشافعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه وعبد الله بن المبارك وأحمد بن المبارك وإسحاق .

والثاني : أن يكون قادراً على من يبذل له الطاعة والنيابة فيحج عنه ، فهذا أيضاً يلزمه الحج عند الشافعي وابن حنبل وابن راهوية .

وقال أبو حنيفة : لا يجب عليه الحج ببذل الطاعة بحال .

وقال مالك : إذا كان مغصوباً سقط عنه فرض الحج أصلا ، سواء كان قادراً على من يحج بالمال أو بغير المال ، أو كان عاجزاً فلا يلزمه فرض الحج ، ولو وجب عليه الحج ثم عضب وزمن سقط عنه فرض الحج ، ولا يجوز أن يحج عنه في حال حياته بحال بل إن أوصى أن يحج عنه حُج بعد موته عنه من الثلث وكان تطوعاً ، واحتج بقوله تعالى :

{ وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى } [ النجم : 39 ] فأخبر أنه ليس له إلاّ ما سعى فمن قال له ما سعى غيره ، فقد خالف ظاهر الآية ويقول عزّ وجلّ : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سبيلا } وهذا غير مستطيع ، لأن الحج هو القصد إلى البيت بنفسه ومن طريق الاعتبار هو أنه غير متمكن من الحج بنفسه ، فوجب أن لا يلزمه الحج عن نفسه ، كما لو كان مغصوباً لا مال له ، ولأن كل عبادة لا يدخلها النيابة مع القدرة عليها ، فوجب أن لا يدخلها النيابة مع العجز عنها كالصلاة وعكسه الزكاة ، ودليل الشافعي وأصحابه ما روى الزهري عن سليمان بن يسار عن ابن عباس " أن امرأة من خثعم سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يستمسك على الراحلة ، فهل يجزي أن أحج عنه ؟ فقال : " نعم " ، فقالت : فهل ينفعه ذلك ؟ فقال ( عليه السلام ) : " أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أما كان يجزي ؟ " قالت : نعم ، قال : " فدين له أحق " " .

فأوجب النبي صلى الله عليه وسلم عليه الحج بطاعة ابنته إياه وبذلها نفسها له بأن تحج عنه ، فإذا وجب ذلك بطاعة البنت له كان بأن يجب عليه بقدرته على المال الذي يستأجر به أولى ، فأما إن بذل له المال دون الطاعة ، والصحيح أن لا يلزمه قبوله والحج به عن بنفسه ولا يصير ببذل المال له مستطيعاً ، وأما من به مرض يرجى زواله كالبرسام والحمى الشديدة وغيرهما فلا يجوز له أن يحج عنه ، لأنه لم ييأس عن الحج بنفسه فلم يحج له ، كالصحيح وعكسه المغصوب .

وقال أبو حنيفة : يجوز له أن يحج عن نفسه ولو حج عنه وبرأ سقط عنه فرض الحج والله أعلم .

{ وَمَن كَفَرَ } .

قال الحسن وابن عباس وعطاء والضحاك : جحد فرض الحج .

مجاهد : هو ما أن حج لم يره براً وإن قعد لم يره مأثماً .

وروى سفيان عن منصور عنه { وَمَن كَفَرَ } بالله واليوم الآخر ، يدل عليه ما روى ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في قوله : { وَمَن كَفَرَ } قال : " من كفر بالله واليوم الآخر " .

وقال سعيد بن المسيب : نزلت في اليهود حيث قالت : الحج إلى [ . . . ] واجب .

الضحاك : لما نزلت آية الحج جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الأديان كلهم فخطبهم ، وقال : " إن الله عزّ وجلّ كتب عليكم الحج فحجّوا " فآمنت إليه أهل ملة واحدة وهم المسلمون وكفرت به خمس ملل ، وقالوا : لا نؤمن به ولا نصلي إليه ولا نحجه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .

عطاء بن السائب : ( ومن كفر ) بالبيت .

ابن زيد : ( ومن كفر ) بهذه الآيات التي ذكرها الله في قوله تعالى : { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ } .

قال السدي : أما من كفر فهو من وجد ما يحج عنه ثم لم يحج حتى مات فهو كفره به .

فصل في إيجاب الحج

قال النبي صلى الله عليه وسلم : " صلوا خمسكم وصوموا شهركم وأدّوا زكاة مالكم وحجّوا بيت ربكم تدخلوا جنة ربكم " .

وقال صلى الله عليه وسلم : " حجّوا قبل أن لا تحجوا فإنه قد هدم البيت مرتين ويرفع في الثالثة " .

وقال ابن مسعود : حجّوا هذا البيت قبل أن تنبت في البادية شجرة لا تأكل منها دابة إلاّ نفقت . وروى عبد الرحمن بن أبي سابط عن أبي أُمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من لم تمنعه حاجة ظاهرة أو مرض حابس أو سلطان جائر ولم يحج فليمت إن شاء يهودياً وإن شاء نصرانياً " .

وحدثنا موسى بن جعفر عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من مات ولم يحج لم يقبل الله منه يوم القيامة عملاً . . . " .

شعبة عن قتادة عن الحسين قال : قال عمر( رضي الله عنه ) : لقد هممت أن أبعث رجالا إلى الأمصار فينظرون إلى مَن كان له مال ولم يحج فيضربون عليه الجزية .