القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلََكِنّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : إنّكَ يا محمد لا تَهْدِي مَنْ أحْبَبْتَ هدايته ؛ وَلَكِنّ اللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ أن يهديه من خلقه ؛ بتوفيقه للإيمان به وبرسوله . ولو قيل : معناه : إنك لا تهدي من أحببته لقرابته منك ، ولكن الله يهدي من يشاء ؛ كان مذهبا . وَهُوَ أعْلَمُ بالمُهْتَدِينَ : يقول جلّ ثناؤه : والله أعلم من سبق له في علمه أنه يهتدي للرشاد . ذلك الذي يهديه الله فيسدّده ويوفّقه .
وذُكر أن هذه الاَية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل امتناع أبي طالب عمه من إجابته ، إذ دعاه إلى الإيمان بالله ، إلى ما دعاه إليه من ذلك .
حدثنا أبو كريب والحسين بن علي الصّدائي ، قالا : حدثنا الوليد بن القاسم ، عن يزيد بن كيسان ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه عند الموت : «قُلْ لا إلَهَ إلاّ اللّهُ أشْهَدْ لَكَ بِها يَوْمَ القِيامَةِ » . قال : لولا أن تعيّرني قريش لأقررت عينك ؛ فأنزل الله : إنّكَ لا تَهْدِي مَنْ أحْبَبْتَ . . . الاَية .
حدثنا ابن بشار قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن يزيد بن كيسان ، قال : ثني أبو حازم الأشجعي ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه : «قُلْ لا إله إلاّ اللّهُ » ثم ذكر مثله .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن يزيد بن كيسان سمع أبا حازم الأشجعي يذكر عن أبي هريرة قال : لما حضرتْ وفاة أبي طالب ، أتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : «يا عَمّاهُ ؛ قُلْ لا إلَهَ إلاّ اللّهُ » فذكر مثله ؛ إلاّ أنه قال : لولا أن تعيرني قريش ، يقولون : ما حمله عليه إلاّ جزع الموت .
حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا محمد بن عبيد ، عن يزيد بن كيسان ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة قال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم . . . فذكر نحو حديث أبي كُرَيب الصدائي .
حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ، قال : ثني عمي عبد الله بن وهب ، قال : ثني يونس ، عن الزهري قال : ثني سعيد بن المسيب ، عن أبيه ، قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أُمّية بن المُغيرة ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يا عَمّ ؛ قلْ لا إلَهَ إلاّ اللّهُ كَلِمَةً أشْهَدُ لَكَ بِها عِنْدَ اللّهِ » . فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أُمَيّة : يا أبا طالب ؛ أترغب عن ملّة عبد المطّلب ؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيد له تلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم : هو على ملة عبد المطلب ، وأبى أن يقول : لا إله إلاّ الله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أما وَاللّهِ لأَسْتَغْفرَنّ لَكَ ما لَمْ أُنْهَ عَنْكَ » ؛ فأنزل الله : ما كانَ للنّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوا أنْ يَسْتَغْفرُوا للْمُشْرِكينَ وَلَوْ كانُوا أُولي قُرْبَى ، وأنزل الله في أبي طالب ؛ فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إنّك لا تَهْدِي مَنْ أحْبَبْتَ وَلَكِنّ اللّهَ يَهْدِي . . . الاَية .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبيه ، بنحوه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو ، عن أبي سعيد بن رافع ، قال : قلت لابن عمر : إنّكَ لا تَهْدِي مَنْ أحْبَبْتَ نزلت في أبي طالب ؟ قال : نعم .
حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : قوله إنّكَ لا تَهْدِي مَنْ أحْبَبْتَ قال : قول محمد لأبي طالب : «قُلْ كَلِمةَ الإخْلاصِ أُجادِلُ عَنْكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ » . قال محمد بن عمرو في حديثه : قال : يا ابن أخي ؛ ملة الأشياخ-أو سنة الأشياخ- وقال الحارث في حديثه : قال : يا ابن أخي ؛ ملة الأشياخ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : إنّكَ لا تَهْدِي مَنْ أحْبَبْتَ . قال : قال محمد لأبي طالب : «اشْهَدْ بكَلمَةِ الإخْلاصِ أُجادِلْ عَنْكَ بِها يَوْمَ القِيامَةِ » . قال : أي ابن أخي ؛ ملة الأشياخ . فأنزل الله : إنّكَ لا تَهْدِي مَنْ أحْبَبْتَ . قال : نزلت هذه الاَية في أبي طالب .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : إنّكَ لا تَهْدِي مَنْ أحْبَبْتَ : ذُكر لنا أنها نزلت في أبي طالب . قال الأصم : عند موته يقول لا إله إلاّ الله لكيما تحلّ له بها الشفاعة فأبى عليه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عطاء ، عن عامر : لما حضر أبا طالب الموت قال له النبيّ صلى الله عليه وسلم : «يا عَمّاهُ ؛ قُلْ لا إلَهَ إلاّ اللّهُ أشْهَدُ لَكَ بِها يَوْمَ القِيامَةِ » ؛ فقال له : يا ابن أخي ؛ إنه لولا أن يكون عليك عار لم أبال أن أفعل . فقال له ذلك مرارا . فلما مات اشتدّ ذلك على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وقالوا : ما تنفع قرابة أبي طالب منك ؛ فقال : « بَلى ؛ والّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنّه السّاعَةَ لَفِي ضَحْضَاحٍ مِنَ النّارِ عَلَيْهِ نَعْلان مِنْ نارٍ تَغْلِي مِنْهُما أُمّ رأسه . وما مِنْ أهْلِ النّارِ مِنْ إنْسانٍ هُوَ أهْوَنُ عَذَابا مِنْهُ ؛ وَهُوَ الّذِي أنْزَلَ اللّهُ فِيهِ : إنّكَ لا تَهْدِي مَنْ أحْبَبْتَ ، وَلَكِنّ اللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ، وَهُوَ أعْلَمُ بالمُهْتَدِينَ » .
وقوله : وَهُوَ أعْلَمُ بالمُهْتَدِينَ . يقول : وهو أعلم بمن قضى له الهدى . كالذي حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَهُوَ أعْلَمُ بالمُهْتَدِينَ : قال : بمن قدّر له الهدى والضلالة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله .
لما ذكر معاذير المشركين وكفرهم بالقرآن ، وأعلم رسوله أنهم يتبعون أهواءهم وأنهم مجردون عن هدى الله ، ثم أثنى على فريق من أهل الكتاب أنهم يؤمنون بالقرآن ، وكان ذلك يحزن النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرض قريش وهم أخص الناس به عن دعوته أقبل الله على خطاب نبيئه صلى الله عليه وسلم بما يسلي نفسه ويزيل كمده بأن ذكّره بأن الهدى بيد الله . وهو كناية عن الأمر بالتفويض في ذلك إلى الله تعالى .
والجملة استئناف ابتدائي . وافتتاحها بحرف التوكيد اهتمام باستدعاء إقبال النبي عليه السلام على علم ما تضمنته على نحو ما قررناه آنفاً في قوله { فاعلم أنما يتبعون أهواءهم } [ القصص : 50 ] . ومفعول { أحببت } محذوف دل عليه { لا تهدي } .
والتقدير : من أحببت هديه أو اهتداءه . وما صدق { من } الموصولة كل من دعاه النبي إلى الإسلام فإنه يحب اهتداءه .
وقد تضافرت الروايات على أن من أول المراد بذلك أبا طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم قد اغتم لموته على غير الإسلام كما في الأحاديث الصحيحة . قال الزجاج : أجمع المسلمون أنها نزلت في أبي طالب . وقال الطبري : وذكر أن هذه الآية نزلت من أجل امتناع أبي طالب عمه من إجابته إذ دعاه إلى الإيمان بالله وحده . قال القرطبي : وهو نص حديث البخاري ومسلم وقد تقدم ذلك في براءة .
وهذا من العام النازل على سبب خاص فيعمه وغيره وهو يقتضي أن تكون هذه السورة نزلت عقب موت أبي طالب وكانت وفاة أبي طالب سنة ثلاث قبل الهجرة ، أو كان وضع هذه الآية عقب الآيات التي قبلها بتوقيف خاص .
ومعنى { ولكن الله يهدي من يشاء } أنه يخلق من يشاء قابلاً للاهتداء في مدى معين وبعد دعوات محدودة حتى ينشرح صدره للإيمان فإذا تدبر ما خلقه الله عليه وحدده كثر في علمه وإرادته جعل منه الاهتداء ، فالمراد الهداية بالفعل . وأما قوله تعالى { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } [ الشورى : 52 ] فهي الهداية بالدعوة والإرشاد فاختلف الإطلاقان .
ومفعول فعل المشيئة محذوف لدلالة ما قبله عليه ، أي من يشاء اهتداءه ، والمشيئة تعرف بحصول الاهتداء وتتوقف على ما سبق من علمه وتقديره .
وفي قوله { وهو أعلم بالمهتدين } إيماء إلى ذلك ، أي هو أعلم من كل أحد بالمهتدين في أحوالهم ومقادير استعدادهم على حسب ما تهيأت إليه فطرهم من صحيح النظر وقبول الخير واتقاء العاقبة والانفعال لما يلقى إليها من الدعوة ودلائلها . ولكل ذلك حال ومدى ولكليهما أسباب تكوينية في الشخص وأسلافه وأسباب نمائه أو ضعفه من الكيان والوسط والعصر والتعقل .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"إنّكَ" يا محمد "لا تَهْدِي مَنْ أحْبَبْتَ "هدايته؛ "وَلَكِنّ اللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ" أن يهديه من خلقه؛ بتوفيقه للإيمان به وبرسوله. ولو قيل: معناه: إنك لا تهدي من أحببته لقرابته منك، ولكن الله يهدي من يشاء؛ كان مذهبا.
"وَهُوَ أعْلَمُ بالمُهْتَدِينَ": يقول جلّ ثناؤه: والله أعلم من سبق له في علمه أنه يهتدي للرشاد، ذلك الذي يهديه الله فيسدّده ويوفّقه.
وذُكر أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل امتناع أبي طالب عمه من إجابته، إذ دعاه إلى الإيمان بالله، إلى ما دعاه إليه من ذلك...
وقوله: "وَهُوَ أعْلَمُ بالمُهْتَدِينَ". يقول: وهو أعلم بمن قضى له الهدى.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الهداية في الحقيقة إمالة القلب من الباطل إلى الحق، وذلك من خصائص قدرة الحق – سبحانه – وتطلق الهداية بمعنى الدعاء إلى الحق – توسع وذلك جائز بل واجب في صفته صلى الله عليه وسلم؛ قال تعالى: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} [الشورى: 52]. ويقال: لك شرف النبوة، ومنزلة الرسالة، وجمال السفارة، والمقام المحمود، والحوض المورود، وأنت سيد ولد آدم.. ولكنك لا تهدي من أحببت؛ فخصائص الربوبية لا تصلح لمن وصفه البشرية.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ}: لا تقدر أن تدخل في الإسلام كل من أحببت أن يدخل فيه من قومك وغيرهم؛ لأنك عبد لا تعلم المطبوع على قلبه من غيره؛ {ولكن الله} يدخل في الإسلام {مَن يَشَآءُ} وهو الذي علم أنه غير مطبوع على قلبه، وأن الألطاف تنفع فيه؛ فيقرن به ألطافه حتى تدعوه إلى القبول.
{وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين}: بالقابلين من الذين لا يقبلون
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
أجمع جل المفسرين على أن قوله تعالى {إنك لا تهدي من أحببت} إنما نزلت في شأن أبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أبو هريرة وابن المسيب وغيرهما: إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليه وهو يجود بنفسه فقال له: «أي عم؛ قل لا إله إلا الله؛ كلمة أشهد لك بها عند الله». وكان بحضرته عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل بن هشام؛ فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب يا أبا طالب! فقال أبو طالب: يا محمد؛ لولا أني أخاف أن يعير بها ولدي من بعدي لأقررت بها عينك. ثم قال أبو طالب: أنا على ملة عبد المطلب والأشياخ. فتفجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج عنه؛ فمات أبو طالب على كفره؛ فنزلت هذه الآية.
مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي 710 هـ :
{وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين} بمن يختار الهداية ويقبلها ويتعظ بالدلائل والآيات.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
روى البخاري في التفسير عن سعيد بن المسيب عن أبيه رضي الله عنه: قال:"لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيره؛ فقال: أي عم! قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله؛ فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيدانه بتلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك. فأنزل الله عز وجل {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى}، وأنزل الله في أبي طالب؛ فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} -الآية -" انتهى. وقال في كتاب التوحيد: {إنك لا تهدي من أحببت}: قال سعيد بن المسيب عن أبيه رضي الله عنه: نزلت في أبي طالب. وفي مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالتوحيد فقال: لولا أن تعيرني نساء قريش لأقررت بها عينك؛ فأنزل الله الآية.
تيسير التفسير لاطفيش 1332 هـ :
والآية إما تسلية له صلى الله عليه وسلم على حزنه لتكذيب قومه إياه، أو عتاب على مبالغته في أن يؤثر في قومه كقوله تعالى:"لعلك باخع نفسك"، أو تسلية وعتاب معاً.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لما ذكر معاذير المشركين وكفرهم بالقرآن، وأعلم رسوله أنهم يتبعون أهواءهم وأنهم مجردون عن هدى الله، ثم أثنى على فريق من أهل الكتاب أنهم يؤمنون بالقرآن، وكان ذلك يحزن النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرض قريش وهم أخص الناس به عن دعوته أقبل الله على خطاب نبيئه صلى الله عليه وسلم بما يسلي نفسه ويزيل كمده بأن ذكّره بأن الهدى بيد الله. وهو كناية عن الأمر بالتفويض في ذلك إلى الله تعالى.
والجملة استئناف ابتدائي. وافتتاحها بحرف التوكيد اهتمام باستدعاء إقبال النبي عليه السلام على علم ما تضمنته على نحو ما قررناه آنفاً في قوله {فاعلم أنما يتبعون أهواءهم} [القصص: 50]. ومفعول {أحببت} محذوف دل عليه {لا تهدي}.
والتقدير: من أحببت هديه أو اهتداءه. وما صدق {من} الموصولة كل من دعاه النبي إلى الإسلام فإنه يحب اهتداءه.
وقد تضافرت الروايات على أن من أول المراد بذلك أبا طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم قد اغتم لموته على غير الإسلام كما في الأحاديث الصحيحة. قال الزجاج: أجمع المسلمون أنها نزلت في أبي طالب. وقال الطبري: وذكر أن هذه الآية نزلت من أجل امتناع أبي طالب عمه من إجابته إذ دعاه إلى الإيمان بالله وحده. قال القرطبي: وهو نص حديث البخاري ومسلم وقد تقدم ذلك في براءة.
وهذا من العام النازل على سبب خاص فيعمه وغيره وهو يقتضي أن تكون هذه السورة نزلت عقب موت أبي طالب وكانت وفاة أبي طالب سنة ثلاث قبل الهجرة، أو كان وضع هذه الآية عقب الآيات التي قبلها بتوقيف خاص.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ}. فلا تتعقَّد من كُفر من كَفَر، وضلال من ضلّ، وانحراف من انحرف، ولا تحزن من ذلك، ولا تعتبر أن ذلك يعني فشلاً في المهمّة الموكولة إليك؛ فقد قمت بأداء رسالتك خير قيام، ولم يكن ما حدث منهم ناشئاً عن تقصيرٍ منك؛ بل عن عوامل أخرى في داخل التكوين الذاتي لشخصيتهم؛ مما تنفعل به وتنطلق معه، مما يعلمه الله ولا تعلمه أنت؛ فهو القادر على الهداية {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} من خلال ما يطّلع عليه من خفايا النفوس وغوامض الأسباب.