{ وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتّبَعَ مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً } . .
وهذا قضاء من الله جلّ ثناؤه للإسلام وأهله بالفضل على سائر الملل غيره وأهلها ، يقول الله : { وَمَنْ أحْسَنُ دِينا } أيها الناس ، وأصوب طريقا وأهدى سبيلاً¹ { مِمّنْ أسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ } يقول : ممن استسلم وجهه لله ، فانقاد له بالطاعهة ، مصدّقا نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من عند ربه . { وَهُوَ مُحْسِنٌ } يعني : وهو عامل بما أمره به ربه ، محرّم حرامه ، ومحلل حلاله . { وَاتّبَعَ مِلّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفا } يعني بذلك : واتبع الدين الذي كان عليه إبراهيم خليل الرحمن ، وأمر به نبيه من بعده وأوصاهم به¹ حنيفا ، يعني : مستقيما على منهاجه وسبيله . وقد بينا اختلاف المختلفين فيما مضى قبل في معنى الحنيف والدليل على الصحيح من القول في ذلك بما أغنى عن إعادته .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . وممن قال ذلك أيضا الضحاك .
حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : أخبرنا يزيد قال : أخبرنا جويبر عن الضحاك ، قال : فضل الله الإسلام على كلّ دين ، فقال : { وَمَنْ أحْسَنُ دِينا مِمّنْ أسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ } . . . إلى قوله : { وَاتّخَذَ اللّهُ إبْرَاهيمَ خَليلاً } وليس يقبل فيه عمل غير الإسلام ، وهي الحنيفية .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاتّخَذَ اللّهُ إبْرَاهيمَ خَليلاً } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : واتخذ الله إبراهيم وليّا .
فإن قال قائل : وما معنى الخُلة التي أعطيها إبراهيم ؟ قيل : ذلك من إبراهيم عليه السلام العداوة في الله والبغض فيه ، والولاية في الله والحبّ فيه ، على ما يُعرف من معاني الخلة . وأما من الله لإبراهيم ، فنصرته على من حاوله بسوء ، كالذي فعل به إذا أراده نمروذ بما أراده به من الإحراق بالنار ، فأنقذه منها ، وأعلى حجته عليه إذ حاجه ، وكما فعل ملك مصر إذ أراده عن أهله ، وتمكينه مما أحبّ ، وتصييره إماما لمن بعده من عباده وقدوة لمن خلقه في طاعته وعبادته ، فذلك معنى مخالّته إياه . وقد قيل : سماه الله خليلاً من أجل أنه أصاب أهل ناحيته جدب ، فارتحل إلى خليل له من أهل الموصل وقال بعضهم : من أهل مصر في امتيار طعام لأهله من قبلَه فلم يصب عنده حاجته ، فلما قرب من أهله مرّ بمفازة ذات رمل ، فقال : لو ملأت غرائري من هذا الرمل لئلا أغمّ أهلي برجوعي إليهم بغير ميرة ، وليظنوا أني قد أتيتهم بما يحبون ! ففعل ذلك ، فتحوّل ما في غرائره من الرمل دقيقا ، فلما صار إلى منزله نام وقام أهله ، ففتحوا الغرائر فوجدوا دقيقا ، فعجنوا منه وخبزوا ، فاستيقظ فسألهم عن الدقيق الذي منه خبزوا ، فقالوا : من الدقيق الذي جئت به من عند خليلك ، فعلم ، فقال : نعم هو من خليلي الله . قالوا : فسماه الله بذلك خليلاً .
الأظهر أنّ الواو للحال من ضمير { يدخلون الجنّة } [ النساء : 124 ] الذي ما صْدَقُه المؤمنون الصالحون ، فلما ذكر ثواب المؤمنين أعقبه بتفضيل دينهم . والاستفهامُ إنكاري . وانتصب { دينا } على التمييز . وإسلام الوجه كناية عن تمام الطاعة والاعتراف بالعبودية ، وهو أحسن الكنايات ، لأنّ الوجه أشرف الأعضاء ، وفيه ما كان به الإنسان إنساناً ، وفي القرآن { فقُل أسلمت وجهي لله ومن اتّبعني } [ آل عمران : 20 ] . والعرب تذكر أشياء من هذا القبيل كقوله : { لنسفعن بالناصية } [ العلق : 15 ] ، ويقولون : أخذ بساقه ، أي تمكن منه ، وكأنّه تمثيل لإمساك الرعاة الأنعام . وفي الحديث " الطلاق لمن أخذ بالساق " . ويقولون : ألقى إليه القياد ، وألقى إليه الزمام ، وقال زيد بن عمرو بن نفيل :
ويقولون : يدي رهن لفلان . وأراد بإسلام الوجه الاعتراف بوجود الله ووحدانيته . وقد تقدّم ما فيه بيان لهذا عنا ، قوله تعالى : { إنّ الدين عند الله الإسلام } [ آل عمران : 19 ] وقوله : { وأوصى بها إبراهيم بنيه } [ البقرة : 132 ] .
وجملة « وهو محسن » حال قصد منها اتّصافه بالإحسان حين إسلامه وجهَه لله ، أي خلع الشرك قاصداً الإحسان ، أي راغباً في الإسلام لِمَا رأى فيه من الدعوة إلى الإحسان . ومعنى { واتبع ملة إبراهيم حنيفاً } أنه اتّبع شريعة الإسلام التي هي على أُسس ملّة إبراهيم . فهذه ثلاثة أوصاف بها يكمل معنى الدخول في الإسلام ، ولعلّها هي : الإيمان ، والإحسان ، والإسلام . ولك أن تجعل معنى { أسلم وجهه لله } أنّه دخل في الإسلام ، وأنّ قوله : { وهو محسن } مخلص راغب في الخير ، وأنّ اتّباع ملّة إبراهيم عني به التوحيد . وتقدّم أنّ { حنيفاً } معناه مائلاً عن الشرك أو متعبّداً . وإذا جعلت معنى قوله : { وهو محسن } أي عامل الصالحات كان قوله : { واتبع ملة إبراهيم حنيفاً } بمنزلة عطف المرادف وهو بعيد .
وقوله : { واتخذ الله إبراهيم خليلاً } عطف ثناء إبراهيم على مدح من اتّبع دينه زيادة تنويه بدين إبراهيم ، فأخبر أنّ الله اتّخذ إبراهيم خليلاً . والخليل في كلام العرب الصاحب الملازم الذي لا يخفى عنه شيء من أمور صاحبه ، مشتقّ من الخِلال ، وهو النواحي المتخلّلة للمكان { فترى الودق يخرج من خلاله } [ النور : 43 ] { فجّرنا خلالهما نهرا } [ الكهف : 33 ] . هذا أظهر الوجوه في اشتقاق الخليل . ويقال : خِلّ وخُلّ بكسر الخاء وضمّها ومؤنّثهُ : خُلّة بضمّ الخاء ، ولا يقال بكسر الخاء ، قال كعب :
أكرم بها خُلَّةً لو أنَّها صدقت
وجمعها خلائل . وتطلق الخلّة بضمّ الخاء على الصحبة الخالصة { لا بيع فيه ولا خُلّة ولا شفاعة } [ البقرة : 254 ] ، وجمعها خِلال { مِنْ قَبْلِ أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال } [ إبراهيم : 31 ] . ومعنى اتُخاذ الله إبراهيم خليلاً شدّة رِضَى اللَّهِ عنه ، إذ قد علم كلّ أحد أنّ الخلّة الحقيقية تستحِيل على الله فأريد لوازمها وهي الرضى ، واستجابة الدعوة ، وذكره بخير ، ونحو ذلك .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.