وقوله : وألْقِ عَصَاكَ فَلَمّا رآهَا تَهْتَزّ في الكلام محذوف تُرك ذكره ، استغناء بما ذُكِر عما حُذف ، وهو : فألقاها فصارت حية تهتز فَلَمّا رآها تَهْتَزّ كأنّها جانّ يقول : كأنها حية عظيمة ، والجانّ : جنس من الحيات معروف .
وقال ابن جُرَيْج في ذلك ما حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جُرَيج : وألْقِ عَصَاكَ فَلَمّا رآها تَهْتَزّ كأنّها جانّ قال : حين تحوّلت حية تسعى ، وهذا الجنس من الحيات عني الراجز بقوله :
يَرْفَعْنَ باللّيْلِ إذَا ما أسْدَفا *** أعْناقَ جِنّانٍ وَهاما رُجّفَا
*** وَعَنَقا بَعْدَ الرّسِيم خَيْطَفَا ***
وقوله : وَلّى مُدْبرا يقول تعالى ذكره : ولى موسى هاربا خوفا منها ولَمْ يُعَقّبْ يقول : ولم يرجع من قولهم : عقب فلان : إذا رجع على عقبه إلى حيث بدأ . وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : ولَمْ يُعَقّبْ قال : لم يرجع .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله .
قال : ثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان عن معمر ، عن قتادة ، قال : لم يلتفت .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله ولَمْ يُعَقّبْ قال : لم يرجع يَا مُوسَى قال : لما ألقى العصا صارت حية ، فرعب منها وجزع ، فقال الله : إنّي لا يَخافُ لَدَيّ المُرْسَلُونَ قال : فلم يرعو لذلك ، قال : فقال الله له : أقْبِلْ وَلا تَخَفْ إنّكَ مِنَ الاَمِنِينَ قال : فلم يقف أيضا على شيء من هذا حتى قال : سَنُعِيدُها سِيرَتها الأُولى قال : فالتفت فإذا هي عصا كما كانت ، فرجع فأخذها ، ثم قوي بعد ذلك حتى صار يرسلها على فرعون ويأخذها .
وقوله : يا موسَى لا تَخَفْ إنّي لا يَخافُ لَديّ المُرْسَلُونَ إلاّ مَنْ ظَلَمَ يقول تعالى ذكره : فناداه ربه : يا موسى لا تخف من هذه الحية ، إني لا يخاف لديّ المرسلون : يقول : إني لا يخاف عندي رسلي وأنبيائي الذين أختصهم بالنبوّة ، إلا من ظلم منهم ، فعمل بغير الذي أُذن له في العمل به . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قوله يا مُوسَى لا تَخَفْ إنّي لا يَخافُ لَدَيّ المُرْسَلُونَ قال : لا يخيف الله الأنبياء إلا بذنب يصيبه أحدهم ، فإن أصابه أخافه حتى يأخذه منه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا عبد الله الفزاري ، عن عبد الله بن المبارك ، عن أبي بكر ، عن الحسن ، قال : قوله : يا مُوسَى لا تَخَفْ إنّي لا يَخافُ لَدَيّ المُرْسَلُونَ إلاّ مَنْ ظَلَمَ قال : إني إنما أخفتك لقتلك النفس ، قال : وقال الحسن : كانت الأنبياء تذنب فتعاقب .
واختلف أهل العربية في وجه دخول إلا في هذا الموضع ، وهو استثناء مع وعد الله الغفران المستثنى من قوله : إنّي لا يَخافُ لَدَيّ المُرْسَلُونَ بقوله : فإنّي غَفُورٌ رَحِيمٌ . وحكم الاستثناء أن يكون ما بعده بخلاف معنى ما قبله ، وذلك أن يكون ما بعده إن كان ما قبله منفيا مثبتا كقوله : ما قام إلا زيد ، فزيد مثبت له القيام ، لأنه مستثنى مما قبل إلا ، وما قبل إلا منفيّ عنه القيام ، وأن يكون ما بعده إن كان ما قبله مثبتا منفيا كقولهم : قام القوم إلا زيدا فزيد منفي عنه القيام ومعناه : إن زيدا لم يقم ، والقوم مثبت لهم القيام ، ( إلا من ظلم ، ثم بدّل حسنا بعد سوء ) ، فقد أمنه الله بوعده الغفران والرحمة ، وأدخله في عداد من لا يخاف لديه من المرسلين . فقال بعض نحويي البصرة : أدخلت إلا في هذا الموضع ، لأن إلا تدخل في مثل هذا الكلام ، كمثل قول العرب : ما أشتكي إلا خيرا فلم يجعل قوله : إلا خيرا على الشكوى ، ولكنه علم أنه إذا قال : ما أشتكي شيئا أن يذكر عن نفسه خيرا ، كأنه قال : ما أذكر إلا خيرا .
وقال بعض نحويي الكوفة : يقول القائل : كيف صير خائفا من ظلم ، ثم بدّل حسنا بعد سوء ، وهو مغفور له ؟ فأقول لك : في هذه الاَية وجهان : أحدهما أن يقول : إن الرسل معصومة مغفور لها آمنة يوم القيامة ، ومن خلط عملاً صالحا وآخر سيئا فهو يخاف ويرجو ، فهذا وجه . والاَخر : أن يجعل الاستثناء من الذين تركوا في الكلمة ، لأن المعنى : لا يخاف لديّ المرسلون ، إنما الخوف على من سواهم ، ثم استثنى فقال : إلا مَنْ ظَلَمَ ثُمّ بَدّلَ حُسْنا يقول : كان مشركا ، فتاب من الشرك ، وعمل حسنا ، فذلك مغفور له ، وليس يخاف . قال : وقد قال بعض النحويين : إن إلا في اللغة بمنزلة الواو ، وإنما معنى هذه الاَية : لا يخاف لديّ المرسلون ، ولا من ظلم ثم بدّل حسنا ، قال : وجعلوا مثله كقول الله : لِئَلاّ يكُونَ للنّاسِ عَلَيْكُمْ حُجّةٌ إلاّ الّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قال : ولم أجد العربية تحتمل ما قالوا ، لأني لا أجيز : قام الناس إلا عبد الله ، وعبد الله قائم إنما معنى الاستثناء أن يخرج الاسم الذي بعد إلا من معنى الأسماء التي قبل إلا . وقد أراه جائزا أن يقول : لي عليك ألف سوى ألف آخر فإن وُضِعت إلا في هذا الموضع صلحت ، وكانت إلا في تأويل ما قالوا ، فأما مجرّدة قد استثنى قليلها من كثيرها فلا ، ولكن مثله مما يكون معنى إلا كمعنى الواو ، وليست بها قوله : خالِدِينَ فِيها ما دَامَتِ السّمَوَاتُ والأرْضُ إلاّ ما شاءَ رَبّكَ هو في المعنى . والذي شاء ربك من الزيادة ، فلا تجعل إلا بمنزلة الواو ، ولكن بمنزلة سوى فإذا كانت «سوى » في موضع «إلا » صلحت بمعنى الواو ، لأنك تقول : عندي مال كثير سوى هذا : أي وهذا عندي ، كأنك قلت : عندي مال كثير وهذا أيضا عندي ، وهو في سوى أبعد منه في إلا ، لأنك تقول : عندي سوى هذا ، ولا تقول : عندي إلا هذا .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في قوله إلاّ مَنْ ظَلَمَ ثُم بَدّلَ عندي غير ما قاله هؤلاء الذين حكينا قولهم من أهل العربية ، بل هو القول الذي قاله الحسن البصري وابن جُرَيج ومن قال قولهما ، وهو أن قوله : إلاّ مَنْ ظَلَمَ استثناء صحيح من قوله لا يَخافُ لَدَيّ المُرْسَلُونَ إلاّ مَنْ ظَلَمَ منهم فأتى ذنبا ، فإنه خائف لديه من عقوبته . وقد بين الحسن رحمه الله معنى قيل الله لموسى ذلك ، وهو قوله قال : إني إنما أخفتك لقتلك النفس .
فإن قال قائل : فما وجه قيله إن كان قوله إلاّ مَنْ ظَلَمَ استثناءً صحيحا ، وخارجا من عداد من لا يخاف لديه من المرسلين ، وكيف يكون خائفا من كان قد وُعد الغفران والرحمة ؟ قيل : إن قوله : ثُمّ بَدّلَ حُسْنا بَعْدَ سُوءِ كلام آخر بعد الأوّل ، وقد تناهى الخبر عن الرسل من ظلم منهم ، ومن لم يظلم عند قوله إلاّ مَنْ ظَلَمَ ثم ابتدأ الخبر عمن ظلم من الرسل ، وسائر الناس غيرهم . وقيل : فمن ظلم ثم بدّل حسنا بعد سوء فإني له غفور رحيم .
فإن قال قائل : فعلام تعطف إن كان الأمر كما قلت بثم إن لم يكن عطفا على قوله : ظَلَمَ ؟ قيل : على متروك استغني بدلالة قوله ثُمّ بَدّلَ حُسْنا بَعْدَ سُوءٍ عليه عن إظهاره ، إذ كان قد جرى قبل ذلك من الكلام نظيره ، وهو : فمن ظلم من الخلق . وأما الذين ذكرنا قولهم من أهل العربية ، فقد قالوا على مذهب العربية ، غير أنهم أغفلوا معنى الكلمة وحملوها على غير وجهها من التأويل . وإنما ينبغي أن يحمل الكلام على وجهه من التأويل ، ويلتمس له على ذلك الوجه للإعراب في الصحة مخرج لا على إحالة الكلمة عن معناها ووجهها الصحيح من التأويل .
وقوله : ثُمّ بَدّلَ حُسْنا بَعْد سُوءٍ يقول تعالى ذكره : فمن أتى ظلما من خلق الله ، وركب مأثما ، ثم بدل حسنا ، يقول : ثم تاب من ظلمه ذلك وركوبه المأثم ، فإني غَفُورٌ يقول : فإني ساتر على ذنبه وظلمه ذلك بعفوي عنه ، وترك عقوبته عليه رَحِيمٌ به أن أعاقبه بعد تبديله الحسن بضده . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله إلاّ مَنْ ظَلَمَ ، ثُمّ بَدّلَ حُسْنا بَعْدَ سُوءٍ ثم تاب من بعد إساءته فإنّي غَفُورٌ رَحِيمٌ
أمره الله عز وجل بهذين الأمرين تدريباً له في استعمالهما ، وفي الكلام حذف تقديره فألقى العصا { فلما رآها تهتز } ، وأمال «رآها » بعضُ القراء ، و «الجانّ » الحيات لأنها تجن أنفسها أي تسترها ، وقالت فرقة : الجان صغار الحيات وعصا موسى صارت حية ثعباناً وهو العظيم فإنها شبهت ب «الجانّ » في سرعة الاضطراب ، لأن الصغار أكثر حركة من الكبار ، وعلى كل قول فإن الله خلق في العصا حياة وغير أوصافها وأعراضها فصارت حية ، وقرأ الحسن والزهري وعمرو بن عبيد «جأن » بالهمز فلما أبصر موسى عليه السلام هول ذلك المنظر { ولى } فاراً ، قال مجاهد ولم يرجع وقال قتادة : ولم يلتفت .
قال القاضي أبو أحمد : و «عقب » الرجل إذا ولى عن أمر صرف بدنه أو وجهه إليه كأنه انصرف على عقبيه وناداه الله مؤنساً ومقوياً على الأمر : { يا موسى لا تخف } فإن رسلي الذين اصطفيتهم للنبوّة لا يخافون عندي ، ومعي ، فأخذ موسى الحية فرجعت عصا ثم صارت له عادة .
لعل قصد إفادة قوة توليه لمّا رأى عصاه تهْتَزّ هو الداعي لتأكيد فعل { ولّى } بقوله : { مدبراً ولم يعقب } فتأمّل .
والإدبار : التوجه إلى جهة الخلف وهو ملازم للتولي فقوله : { مدبراً } حال لازمة لفعل { ولَّى } .
والتعقب : الرجوع بعد الانصراف مشتق من العَقب لأنه رجوع إلى جهة العَقب ، أي الخلْف ، فقوله : { ولم يعقب } تأكيد لشدة تولّيه ، أي ولّى تولياً قوياً لا تردد فيه . وكان ذلك التولي منه لتغلّب القوة الواهمة التي في جبلة الإنسان على قوة العقل الباعثة على التأمل فيما دل عليه قوله : { أنا الله العزيز } من الكناية عن إعطائه النبوءة والتأييد ، إذ كانت القوة الواهمة متأصلة في الجبلة سابقة على ما تلقاه من التعريض بالرسالة ، وتأصُّل القوة الواهمة يزول بالتخلق وبمحاربة العقل للوهَم فلا يزالان يتدافعان ويضعف سلطان الوَهَم بتعاقب الأيام .
وقوله : { يا موسى لا تخف } مقول قول محذوف ، أي قلنا له . والنهي عن الخوف مستعمل في النهي عن استمرار الخوف . لأن خوفه قد حصل . والخوف الحاصل لموسى عليه السلام خوف رغب من انقلاب العصا حية وليس خوف ذَنب ، فالمعنى : لا يَجْبُنُ لديَّ المرسلون لأني أحفَظُهم .
و { إني لا يخاف لديّ المرسلون } تعليل للنهي عن الخوف وتحقيق لما يتضمنه نهيه عن الخوف من انتفاء موجبه .
وهذا كناية عن تشريفه بمرتبة الرسالة إذ عُلّل بأن المرسلين لا يخافون لدى الله تعالى . ومعنى { لديّ } في حضرتي ، أي حين تلقِّي رسالتي . وحقيقة { لدي } مستحيلة على الله لأن حقيقتها المكان .
وإذا قد كان انقلاب العصا حية حصل حين الوحي كان تابعاً لما سبقه من الوحي ، وهذا تعليم لموسى عليه السلام التخلق بخلق المرسلين من رِبَاطة الجأش . وليس في النهي حط لمرتبة موسى عليه السلام عن مراتب غيره من المرسلين وإنما هو جار على طريقة : مثلُكَ لا يبخل . والمراد النهي عن الخوف الذي حصل له من انقلاب العصا حية وعن كل خوف يخافه كما في قوله : { فاضْرِب لهم طريقاً في البَحر يَبَساً لا تخافُ درَكاً ولا تخشى } [ طه : 77 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وألق عصاك فلما رءاها تهتز} يعني: تتحرك {كأنها جان} يعني: كأنها كانت حية {ولى مدبرا} من الخوف من الحية {ولم يعقب} يعني: ولم يرجع، يقول الله عز وجل: {يا موسى لا تخف} من الحية {إني لا يخاف لدي} يعني: عندي {المرسلون}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"وألْقِ عَصَاكَ فَلَمّا رآهَا تَهْتَزّ" في الكلام محذوف تُرك ذكره، استغناء بما ذُكِر عما حُذف، وهو: فألقاها فصارت حية تهتز، "فَلَمّا رآها تَهْتَزّ كأنّها جانّ "يقول: كأنها حية عظيمة، والجانّ: جنس من الحيات معروف...
وقوله: "وَلّى مُدْبرا" يقول تعالى ذكره: ولى موسى هاربا خوفا منها، "ولَمْ يُعَقّبْ" يقول: ولم يرجع من قولهم: عقب فلان: إذا رجع على عقبه إلى حيث بدأ...
وقوله: "يا موسَى لا تَخَفْ إنّي لا يَخافُ لَديّ المُرْسَلُونَ إلاّ مَنْ ظَلَمَ" يقول تعالى ذكره: فناداه ربه: يا موسى لا تخف من هذه الحية، "إني لا يخاف لديّ المرسلون": يقول: إني لا يخاف عندي رسلي وأنبيائي الذين أختصهم بالنبوّة، إلا من ظلم منهم، فعمل بغير الذي أُذن له في العمل به.. عن ابن جُرَيج، قال: قوله "يا مُوسَى لا تَخَفْ إنّي لا يَخافُ لَدَيّ المُرْسَلُونَ" قال: لا يخيف الله الأنبياء إلا بذنب يصيبه أحدهم، فإن أصابه أخافه حتى يأخذه منه...
يقول القائل: كيف صير خائفا من ظلم، ثم بدّل حسنا بعد سوء، وهو مغفور له؟ فأقول لك: في هذه الآية وجهان: أحدهما أن يقول: إن الرسل معصومة مغفور لها آمنة يوم القيامة، ومن خلط عملاً صالحا وآخر سيئا فهو يخاف ويرجو، فهذا وجه. والآخر: أن يجعل الاستثناء من الذين تركوا في الكلمة، لأن المعنى: لا يخاف لديّ المرسلون، إنما الخوف على من سواهم، ثم استثنى فقال: "إلا مَنْ ظَلَمَ ثُمّ بَدّلَ حُسْنا" يقول: كان مشركا، فتاب من الشرك، وعمل حسنا، فذلك مغفور له، وليس يخاف... والصواب من القول في قوله "إلاّ مَنْ ظَلَمَ ثُم بَدّلَ..." عندي غير ما قاله هؤلاء الذين حكينا قولهم من أهل العربية، بل هو القول الذي قاله الحسن البصري وابن جُرَيج ومن قال قولهما، وهو أن قوله: إلاّ مَنْ ظَلَمَ استثناء صحيح من قوله لا يَخافُ لَدَيّ المُرْسَلُونَ إلاّ مَنْ ظَلَمَ منهم فأتى ذنبا، فإنه خائف لديه من عقوبته. وقد بين الحسن رحمه الله معنى قيل الله لموسى ذلك، وهو قوله قال: إني إنما أخفتك لقتلك النفس.
فإن قال قائل: فما وجه قيله إن كان قوله "إلاّ مَنْ ظَلَمَ استثناءً" صحيحا، وخارجا من عداد من لا يخاف لديه من المرسلين، وكيف يكون خائفا من كان قد وُعد الغفران والرحمة؟ قيل: إن قوله: "ثُمّ بَدّلَ حُسْنا بَعْدَ سُوءِ" كلام آخر بعد الأوّل، وقد تناهى الخبر عن الرسل من ظلم منهم، ومن لم يظلم عند قوله "إلاّ مَنْ ظَلَمَ" ثم ابتدأ الخبر عمن ظلم من الرسل، وسائر الناس غيرهم. وقيل: فمن ظلم ثم بدّل حسنا بعد سوء فإني له غفور رحيم.
فإن قال قائل: فعلام تعطف إن كان الأمر كما قلت بثم إن لم يكن عطفا على قوله: ظَلَمَ؟ قيل: على متروك استغني بدلالة قوله "ثُمّ بَدّلَ حُسْنا بَعْدَ سُوءٍ" عليه عن إظهاره، إذ كان قد جرى قبل ذلك من الكلام نظيره، وهو: فمن ظلم من الخلق. وأما الذين ذكرنا قولهم من أهل العربية، فقد قالوا على مذهب العربية، غير أنهم أغفلوا معنى الكلمة وحملوها على غير وجهها من التأويل. وإنما ينبغي أن يحمل الكلام على وجهه من التأويل، ويلتمس له على ذلك الوجه للإعراب في الصحة مخرج لا على إحالة الكلمة عن معناها ووجهها الصحيح من التأويل.
وقوله: "ثُمّ بَدّلَ حُسْنا بَعْد سُوءٍ" يقول تعالى ذكره: فمن أتى ظلما من خلق الله، وركب مأثما، ثم بدل حسنا، يقول: ثم تاب من ظلمه ذلك وركوبه المأثم، "فإني غَفُورٌ" يقول: فإني ساتر على ذنبه وظلمه ذلك بعفوي عنه، وترك عقوبته عليه "رَحِيمٌ" به أن أعاقبه بعد تبديله الحسن بضده.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون} فإن قيل: كيف نهاه عن الخوف؟ وأخبر أنه لا يخاف لديه المرسلون، وقد مدح الله الملائكة وغيرهم من الخلائق بالخوف من ربهم حين قال: {يخافون ربهم من فوقهم} [النحل: 50]...وأمثال ذلك من الآيات مما فيها مدحهم بالخوف من ربهم. لكنه يخرج على وجوه: أحدهما: أنهه قد أمن موسى حين قال: {ولا تخف إنك من الأمنين} [القصص: 31]. فكأنه قال ههنا: لا تخف بعدما أمنتك {إني لا يخاف لدي المرسلون} إذ أمنتهم. والثاني: لا تخف من غيري {إني لا يخاف لدي المرسلون} من غيري. فكأنه قال، والله أعلم: على هذا التأويل: إنما نهاه عن الخوف من غيره، وأخبر أنه لا يخاف لديه المرسلون. والثالث: إخبار وأمن منه من خوف الآخرة وأهوالها، كأنه قال: لا تخف فإني سأؤمن المرسلين من خوف يومئذ.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
فإن قيل: كيف قال في موضع {كَأَنَّهَا جَآنٌّ} وفي موضع آخر {فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ} والموصوف واحد؟ قلنا: فيه وجهان: أحدهما: أنّها في أوّل أمرها جانّ وفي آخر الأمر ثعبان، وذلك أنّها كانت تصير حية على قدر العصا ثم لا تزال تنتفخ وتربو حتى تصير كالثعبان العظيم. والآخر: أنّها في سرعة الجانّ وخفّته وفي صورة الثعبان وقوّته..
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقّبْ...} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: ولم يرجع، قاله مجاهد. قال قطرب: مأخوذ من العقب.
الثاني: ولم ينتظر، قاله السدي.
الثالث: ولم يلتفت، قاله قتادة.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
أمره الله عز وجل بهذين الأمرين تدريباً له في استعمالهما، وفي الكلام حذف تقديره فألقى العصا {فلما رآها تهتز}، وأمال «رآها» بعضُ القراء، و «الجانّ» الحيات لأنها تجن أنفسها أي تسترها، وقالت فرقة: الجان صغار الحيات وعصا موسى صارت حية ثعباناً وهو العظيم فإنها شبهت ب «الجانّ» في سرعة الاضطراب، لأن الصغار أكثر حركة من الكبار، وعلى كل قول فإن الله خلق في العصا حياة وغير أوصافها وأعراضها فصارت حية... فلما أبصر موسى عليه السلام هول ذلك المنظر {ولى} فاراً، قال مجاهد ولم يرجع وقال قتادة: ولم يلتفت.
قال القاضي أبو أحمد: و «عقب» الرجل إذا ولى عن أمر صرف بدنه أو وجهه إليه كأنه انصرف على عقبيه، وناداه الله مؤنساً ومقوياً على الأمر: {يا موسى لا تخف} فإن رسلي الذين اصطفيتهم للنبوّة لا يخافون عندي، ومعي، فأخذ موسى الحية فرجعت عصا ثم صارت له عادة.
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
{إني لاَ يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} أي: لا يخافون عندي... فكأنه نبهه على أن من آمنه الله بالنبوة من عذابه، لا ينبغي أن يخاف من حية.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
ثم أمره أن يلقي عصاه من يده؛ ليظهر له دليلا واضحا على أنه الفاعل المختار، القادر على كل شيء. فلما ألقى موسى تلك العصا من يده انقلبت في الحال حَيَّةً عظيمة هائلة في غاية الكبر، وسرعة الحركة مع ذلك؛ ولهذا قال: {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ} والجان: ضرب من الحيات، أسرعه حركة، وأكثره اضطرابا -وفي الحديث نَهْيٌ عن قتل جِنَّان البيوت- فلما عاين موسى ذلك {وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ} أي: لم يلتفت من شدة فرقه {يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} أي: لا تخف مما ترى، فإني أريد أن أصطَفيك رسولا وأجعلك نبيًا وجيهًا.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان التقدير: فافعل جميع ما آمرك به فإنه لا بد منه، ولا تخف من شيء فإنه لا يوصل إليك بسوء لأنه متقن بقانون الحكمة، محروس بسور العزة، دل عليه بالعطف في قوله: {وألق عصاك} أي لتعلم علماً شهودياً عزتي وحكمتي -أو هو معطوف على {أن بورك}- فألقاها كما أمر، فصارت في الحال -بما أذنت به الفاء- حية عظيمة جداً، هي -مع كونها في غاية العظم- في نهاية الخفة والسرعة في اضطرابها عند محاولتها ما يريد {فلما رآها تهتز} أي تضطرب في تحركها مع كونها في غاية الكبر {كأنها جآن} أي حية صغيرة في خفتها وسرعتها، ولا ينافي ذلك كبر جثتها {ولى} أي موسى عليه الصلاة والسلام.
ولما كانت عليه التولية مشتركة بين معان، بين المراد بقوله: {مدبراً} أي التفت هارباً منها مسرعاً جداً لقوله: {ولم يعقب} أي لم يرجع على عقبه، ولم يتردد في الجد في الهرب، ولم يلتفت إلى ما وراءه بعد توليته، يقال: عقب عليه تعقيباً، أي كر، وعقب في الأمر تعقيباً: تردد في طلبه مجداً -هذا في ترتيب المحكم. وفي القاموس: التعقيب: الالتفات. وقال القزاز في ديوانه: عقب- إذا انصرف راجعاً فهو معقب.
ولما تشوفت النفس إلى ما قيل له عند هذه الحالة، أجيبت بأنه قيل له: {يا موسى لا تخف} ثم علل هذا النهي بقوله، مبشراً بالأمن والرسالة: {إني لا يخاف لديّ} أي في الموضع الذي هو من غرائب نواقض العادات، وهي وقت الوحي ومكانه {المرسلون} أي لأنهم معصومون من الظلم، ولا يخاف من الملك العدل إلا ظالم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم نودي موسى بالنداء العلوي المطمئن؛ وأعلن له عن طبيعة التكليف الذي سيلقاه: يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون.. لا تخف. فأنت مكلف بالرسالة. والرسل لا يخافون في حضرة ربهم وهم يتلقون التكليف.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{يا موسى لا تخف} مقول قول محذوف، أي قلنا له. والنهي عن الخوف مستعمل في النهي عن استمرار الخوف. لأن خوفه قد حصل. والخوف الحاصل لموسى عليه السلام خوف رغب من انقلاب العصا حية وليس خوف ذَنب، فالمعنى: لا يَجْبُنُ لديَّ المرسلون لأني أحفَظُهم. و {إني لا يخاف لديّ المرسلون} تعليل للنهي عن الخوف وتحقيق لما يتضمنه نهيه عن الخوف من انتفاء موجبه. وهذا كناية عن تشريفه بمرتبة الرسالة إذ عُلّل بأن المرسلين لا يخافون لدى الله تعالى. ومعنى {لديّ} في حضرتي، أي حين تلقِّي رسالتي. وحقيقة {لدي} مستحيلة على الله لأن حقيقتها المكان. وإذا قد كان انقلاب العصا حية حصل حين الوحي كان تابعاً لما سبقه من الوحي، وهذا تعليم لموسى عليه السلام التخلق بخلق المرسلين من رِبَاطة الجأش. وليس في النهي حط لمرتبة موسى عليه السلام عن مراتب غيره من المرسلين وإنما هو جار على طريقة: مثلُكَ لا يبخل. والمراد النهي عن الخوف الذي حصل له من انقلاب العصا حية وعن كل خوف يخافه كما في قوله: {فاضْرِب لهم طريقاً في البَحر يَبَساً لا تخافُ درَكاً ولا تخشى} [طه: 77].