القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنّىَ يُؤْفَكُونَ } .
اختلف أهل التأويل في القائل : عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ فقال بعضهم : كان ذلك رجلاً واحدا ، هو فنحاص . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : سمعت عبد الله بن عبيد بن عمير ، قوله : وَقالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ ، قال : قالها رجل واحد ، قالوا : إن اسمه فنحاص ، وقالوا : هو الذي قال : إنّ اللّهَ فَقِيرٌ ونَحنُ أغْنِياءُ .
وقال آخرون : بل كان ذلك قول جماعة منهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، قال : ثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، قال : ثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سلامُ بن مشكم ، ونعمان بن أوفى ، وشاس بن قيس ، ومالك بن الصيف ، فقالوا : كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا ، وأنت لا تزعم أن عزيرا ابن الله ؟ فأنزل في ذلك من قولهم : وَقالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقالَتِ النّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ اللّهِ . . . إلى : أنّى يُؤْفَكُونَ .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَقالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وإنما قالوا : هو ابن الله من أجل أن عزيرا كان في أهل الكتاب وكانت التوراة عندهم يعملون بها ما شاء الله أن يعملوا ، ثم أضاعوها وعملوا بغير الحقّ . وكان التابوت فيهم فلما رأى الله أنهم قد أضاعوا التوراة وعملوا بالأهواء ، رفع الله عنهم التابوت ، وأنساهم التوراة ونسخها من صدورهم ، وأرسل الله عليهم مرضا ، فاستطلقت بطونهم ، حتى جعل الرجل يمشي كَبِدُه ، حتى نسوا التوراة ، ونسخت من صدورهم ، وفيهم عزير . فمكثوا ما شاء الله أن يمكثوا بعد ما نسخت التوراة من صدورهم ، وكان عزير قبل من علمائهم ، فدعا عزير الله وابتهل إليه أن يردّ إليه الذي نسخ من صدره من التوراة . فبينما هو يصلي مبتهلاً إلى الله ، نزل نور من الله فدخل جوفه ، فعاد إليه الذي كان ذهب من جوفه من التوراة ، فأذن في قومه فقال : يا قوم قد آتاني الله التوراة ، وردّها إليّ فعلق يعلمهم ، فمكثوا ما شاء الله وهو يعلمهم . ثم إن التابوت نزل بعد ذلك ، وبعد ذهابه منهم فلما رأوا التابوت عرضوا ما كان فيه على الذي كان عزير يعلمهم ، فوجدوه مثله ، فقالوا : والله ما أوتي عزير هذا إلا أنه ابن الله .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَقالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ إنما قالت ذلك ، لأنهم ظهرت عليهم العمالقة فقتلوهم ، وأخذوا التوراة ، وذهب علماؤهم الذين بقوا فدفنوا كتب التوراة في الجبال . وكان عزير غلاما يتعبد في رءوس الجبال لا ينزل إلا يوم عيد ، فجعل الغلام يبكي ويقول : ربّ تركت بني إسرائيل بغير عالم فلم يزل يبكي حتى سقطت أشفار عينيه . فنزل مرّة إلى العيد فلما رجع إذا هو بامرأة قد مثلت له عند قبر من تلك القبور تبكي وتقول : يا مطعماه ، ويا كاسياه فقال لها : ويحك ، من كان يطعمك ويكسوك ويسقيك وينفعك قبل هذا الرجل ؟ قالت : الله . قال : فإن الله حيّ لم يمت . قالت : يا عزير ، فمن كان يعلم العلماء قبل بني إسرائيل ؟ قال : الله . قالت : فلم تبكي عليهم ؟ فلما عرف أنه قد خُصِم ولى مدبرا ، فدعته فقالت : يا عزير إذا أصبحت غدا فأت نهر كذا وكذا فاغتسل فيه ، ثم اخرج فصلّ ركعتين ، فإنه يأتيك شيخ فما أعطاك فخذه فلما أصبح ، انطلق عزير إلى ذلك النهر ، فاغتسل فيه ، ثم خرج فصلى ركعتين ، فجاءه الشيخ فقال : افتح فمك ففتح فمه ، فألقى فيه شيئا كهيئة الجمرة العظيمة مجتمعا كهيئة القوارير ثلاث مرار . فرجع عزير وهو من أعلم الناس بالتوراة ، فقال : يا بني إسرائيل ، إني قد جئتكم بالتوراة . فقالوا يا عزير ما كنت كذّابا . فعمد فربط على كلّ أصبع له قلما ، وكتب بأصابعه كلها ، فكتب التوراة كلها . فلما رجع العلماء أخبروا بشأن عزير ، فاستخرج أولئك العلماء كتبهم التي كانوا دفنوها من التوراة في الجبال ، وكانت في خوابٍ مدفونة ، فعارضوها بتوراة عزير فوجدوها مثلها ، فقالوا : ما أعطاك الله هذا إلا أنك ابنه .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة وبعض المكيين والكوفيين : «وَقالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ » لا ينوّنون «عزيرا » . وقرأه بعض المكيين والكوفيين : عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ بتنوين «عزير » . قال : هو اسم مجرى وإن كان أعجميا لخفته ، وهو مع ذلك غير منسوب إلى الله ، فيكون بمنزلة قول القائل : زيد بن عبد الله ، وأوقع الابن موقع الخبر ، ولو كان منسوبا إلى الله لكان الوجه فيه إذا كان الابن خبرا : الإجراء والتنوين ، فكيف وهو منسوب إلى غير أبيه . وأما من ترك تنوين «عزير » ، فإنه لما كانت الباء من ابن ساكنة مع التنوين الساكن والتقى ساكنان فحذف الأوّل منهما استثقالاً لتحريكه ، قال الراجز :
لَتَجِدَنّي بالأَمِيرِ بَرّا *** وبالقَناةِ مِدْعَسا مِكَرا
*** إذا غَطَيْفُ السّلَمِيّ فَرّا ***
فحذف النون للساكن الذي استقبلها .
قال أبو جعفر : وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ : عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ بتنوين «عزير » لأن العرب لا تنوّن الأسماء إذا كان الابن نعتا للاسم ، كقولهم : هذا زيد بن عبد الله ، فأرادوا الخبر عن عُزير بأنه ابن الله ، ولم يريدوا أن يجعلوا الابن له نعتا . والابن في هذا الموضع خبر لعزير ، لأن الذين ذكر الله عنهم أنهم قالوا ذلك ، إنما أخبروا عن عزير أنه كذلك ، وإن كانوا بقيلهم ذلك كانوا كاذبين على الله مفترين . وَقالَتِ النّصَارَى المسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذلكَ قَوْلُهُمْ بأفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ يعني قول اليهود : عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ . يقول : نسبة قول هؤلاء في الكذب على الله والفرية عليه ونسبتهم المسيح إلى أنه لله ابن ككذب اليهود وفريتهم على الله في نسبتهم عزير إلى أنه لله ابن ، ولا ينبغي أن يكون لله ولد سبحانه ، بل له ما في السموات والأرض ، كلّ له قانتون .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ يقول : يشبهون .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ ضاهت النصارى قول اليهود قبلهم .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ النصارى يضاهئون قول اليهود في عزير .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج : يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ يقول : النصارى يضاهئون قول اليهود .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ يقول : قالوا مثل ما قال أهل الأوثان .
وقد قيل : إن معنى ذلك : يحكون بقولهم قول أهل الأديان الذين قالوا : اللات والعُزّى ومناة الثالثة الأخرى .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الحجاز والعراق : «يُضَاهُونَ » بغير همز . وقرأه عاصم : يُضَاهِئُونَ بالهمز ، وهي لغة لثقيف . وهما لغتان ، يقال : ضاهيته على كذا أضاهيه مضاهاة وضاهأته عليه مضاهأة ، إذا مالأته عليه وأعنته .
قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك ترك الهمز ، لأنها القراءة المستفيضة في قرأة الأمصار واللغة الفصحى .
وأما قوله : قاتَلَهُمُ اللّهُ فإن معناه فيما ذكر عن ابن عباس ، ما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : قاتَلَهُمُ اللّهُ يقول : لعنهم الله ، وكلّ شيء في القرآن «قتل » فهو لعن .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : قاتَلَهُمُ اللّهُ يعني النصارى ، كلمةٌ من كلام العرب .
فأما أهل المعرفة بكلام العرب فإنهم يقولون معناه : قتلهم الله ، والعرب تقول : قاتعك الله ، وقاتعها الله بمعنى : قاتلك الله ، قالوا : وقاتعك الله أهون من قاتله الله . وقد ذكروا أنهم يقولون : شاقاه الله ما باقاه ، يريدون : أشقاه الله ما أبقاه . قالوا : ومعنى قوله : قاتَلَهُمُ اللّهُ كقوله : قُتِلَ الخَرّاصُونَ وقُتِلَ أصَحابُ الأُخْدُودِ واحد ، وهو بمعنى التعجب . فإن كان الذي قالوا كما قالوا ، فهو من نادر الكلام الذي جاء على غير القياس ، لأن فاعلت لا تكاد أن تجيء فعلاً إلا من اثنين ، كقولهم : خاصمت فلانا وقاتلته ، وما أشبه ذلك . وقد زعموا أن قولهم : عافاك الله منه ، وأن معناه : أعفاك الله ، بمعنى الدعاء لمن دعا له بأن يعفيه من السوء .
وقوله : أنّى يُؤْفَكُونَ يقول : أيّ وجه يذهب بهم ويحيدون ، كيف يصدّون عن الحقّ ، وقد بينا ذلك بشواهده فيما مضى قبل .
{ وقالت اليهود عُزير ابن الله } إنما قاله بعضهم من متقدميهم أو ممن كانوا بالمدينة ، وإنما قالوا ذلك لأنه لم يبق فيهم بعد وقعة بختنصر من يحفظ التوراة ، وهو لما أحياه الله بعد مائة عام أملى عليهم التوراة حفظا فتعجبوا من ذلك وقالوا : ما هذا إلا أنه ابن الله . والدليل على أن هذا القول كان فيهم أن الآية قرئت عليهم فلم يكذبوا مع تهالكهم على التكذيب . وقرأ عاصم والكسائي ويعقوب " عزيزُ " بالتنوين على أنه عربي مخبر عنه بابن غير موصوف به وحذفه في القراءة الأخرى إما لمنع صرفه للعجمة والتعريف ، أو لالتقاء الساكنين تشبيها للنون بحروف اللين أو لأن الابن وصف والخبر محذوف مثل معبودنا أو صاحبنا وهو مزيف لأنه يؤدي إلى تسليم النسب وإنكار الخبر المقدر . { وقالت النصارى المسيح ابن الله } هو أيضا قول بعضهم ، وإنما قالوه استحالة لأن يكون ولد بلا أب أو لأن يفعل ما فعله من إبراء الأكمة والأبرص وإحياء الموتى من لم يكن إلها . { ذلك قولهم بأفواههم } إما تأكيد لنسبة هذا القول إليهم ونفي للتجوز عنها ، أو إشعار بأنه قول مجرد عن برهان وتحقيق مماثل للمهمل الذي يوجد في الأفواه ولا يوجد مفهومه في الأعيان . { يُضاهئون قول الذين كفروا } أي يضاهي قولهم قول الذين كفروا فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه . { من قبل } أي من قبلهم والمراد قدماؤهم على معنى أن الكفر قديم فيهم ، أو المشركون الذين قالوا الملائكة بنات الله ، أو اليهود على أن الضمير للنصارى ، والمضاهاة المشابهة والهمز لغة فيه . وقرأ به عاصم ومنه قولهم امرأة ضهيأ على فعيل للتي شابهت الرجال في أنها لا تحيض . { قاتلهم الله } دعاء عليهم بالإهلاك فإن من قاتله الله هلك ، أو تعجب من شناعة قولهم . { أنّى يؤفكون } كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل .
الذي كثر في كتب أهل العلم أن فرقة من اليهود تقول هذه المقالة وروي أنه لم يقلها إلا فنحاص ، وقال ابن عباس : قالها أربعة من أحبارهم ، سلام بن مشكم ، ونعمان بن أوفى ، وشاس بن قيس ، ومالك بن الصيف ، وقال النقاش : لم يبق يهودي يقولها بل انقرضوا .
قال القاضي أبو محمد : فإذا قالها واحد فيتوجه أن يلزم الجماعة شنعة المقالة لأجل نباهة القائل فيهم ، وأقوال النبهاء أبداً مشهورة في الناس يحتج بها ، فمن هنا صح أن تقول الجماعة قول نبيها ، وقرأ عاصم والكسائي «عزير ابن الله » بتنوين عزير ، والمعنى أن ابناً على هذا خبر ابتداء عن عزير ، وهذا هو أصح المذاهب لأن هذا هو المعنى المنعيّ عليهم ، و { عزير } ونحوه ينصرف عجمياً كان أو عربياً ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «عزير ابن الله » دون تنوين عزير ، فقال بعضهم «ابن » خبر عن «عزير » وإنما حذف التنوين من عزير لاجتماع الساكنين{[5600]} ونحوه قراءة من قرأ { أحد الله الصمد }{[5601]} قال أبو علي وهو كثير في الشعر ، وأنشد الطبري في ذلك [ الرجز ]
إذا عطيف السلمي فرا{[5602]}
قال القاضي أبو محمد : فالألف على هذه القراءة والتأويل ثابتة في «ابن » وقال بعضهم «ابن » صفة ل «عزير » كما تقول زيد بن عمرو وجعلت الصفة والموصوف بمنزلة اسم واحد وحذف التنوين إذا جاء الساكنان كأنهما التقيا من كلمة واحدة « ، والمعنى عزير ابن الله معبودنا وإلهنا أو المعنى معبودنا أو إلهنا عزير ابن الله .
قال القاضي أبو محمد : وقياس هذه القراءة والتأويل أن يحذف الألف من ابن «لكنها تثبت في خط المصحف ، فيترجح من هذا كله أن قراءة التنوين في » عزير «أقواها ، وحكى الطبري وغيره أن بني إسرائيل أصابتهم فتن وبلاء وقيل مرض وأذهب الله عنهم التوراة في ذلك ونسوها ، وكان علماؤهم قد دفنوها أول ما أحسوا بذلك البلاء ، فلما طالت المدة فقدت التوراة جملة فحفظها الله عزيراً كرامة منه له ، فقال لبني إسرائيل إن الله قد حفظني التوراة فجعلوا يدرسونها من عنده ، ثم إن التوراة المدفونة وجدت فإذا هي مساوية لما كان عزير يدرس ، فضوا عند ذلك وقالوا إن هذا لن يتهيأ لعزير إلا وهو ابن الله ، وظاهر قول النصارى { المسيح ابن الله } أنها بنوة النسل كما قالت العرب في الملائكة وكذلك يقتضي قول الضحاك والطبري وغيرهما ، وهذا أشنع في الكفر ، قال أبو المعالي : أطبقت النصارى على أن المسيح إله وأنه ابن الإله .
قال القاضي أبو محمد : ويقال إن بعضهم يعتقدها بنوة ُحُنٍّو ورحمة ، وهذا المعنى أيضاً لا يحل أن تطلق البنوة عليه ، وهو كفر لمكان الإشكال الذي يدخل من جهة التناسل وكذلك كفرت اليهود في قولهم { عزير ابن الله } وقولهم نحن أبناء الله ، وإنما توجد في كلام العرب استعارة البنوة عبارة عن نسب وملازمات تكون بين الأشياء إذا لم يشكل الأمر وكان أمر النسل لاستحالة من ذلك قول عبد الملك بن مروان : وقد زبنتنا الحرب وزبناها{[5603]} فنحن بنوها وهي أمنا يريد للملازمة ومن ذلك قول حديث بن مخفض : [ الطويل ]
بنو المجد لم تقعد بهم أمهاتهم*** وآباؤهمْ أبناء صدق فأنجبوا{[5604]}
ومن ذلك ابن نعش وابن ماء وابن السبيل ونحو ذلك ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
ومنه أحد التأويلات في قوله صلى الله عليه وسلم «لا يدخل الجنة ابن زنى »{[5605]} أي ملازمة والتأويل الآخر أن لا يدخلها مشكل الأمر والتأويلان في قول النصارى { المسيح ابن الله } كما تقدم من الصفة والخبر إلا أن شغب التنوين ارتفع هاهنا ، و { عزير } نبي من أنبياء بني إسرائيل ، وقوله { بأفواههم } يتضمن معنيين : أحدهما إلزامهم المقالة والتأكيد في ذلك كما قال { يكتبون الكتاب بأيديهم }{[5606]} ، وكقوله { ولا طائر يطير بجناحيه }{[5607]} ، والمعنى الثاني في قوله { بأفواهم } أي هو ساذج لا حجة عليه ولا برهان{[5608]} غاية بيانه أن يقال بالأفواه قولاً مجرداً نفس دعوى{[5609]} ، و { يضاهون } قراءة الجماعة ومعناه يحاكون ويبارون ويماثلون ، وقرأ عاصم وحده من السبعة وطلحة بن مصرف «يضاهئون » بالهمز على أنه من ضاهأ وهي لغة ثقيف بمعنى ضاهى .
قال القاضي أبو محمد : ومن قال إن هذا مأخوذ من قولهم امرأة ضهياء وهي التي لا تحيض وقيل التي لا ثدي لها سميت بذلك لشبهها بالرجال فقوله خطأ قاله أبو علي : لأن الهمزة في ضاهأ أصلية ، وفي ضهياء زائدة كحمراء{[5610]} ، وإن كان الضمير في { يضاهون } لليهود والنصارى جميعاً فالإشارة بقوله { الذين كفروا من قبل } هي إما لمشركي العرب إذ قالوا الملائكة بنات الله وهم أول كافر وهو قول الضحاك : وإما لاسم سالفة قبلهما ، وإما للصدر الأول من كفرة اليهود والنصارى ، ويكون { يضاهون } لمعاصري محمد صلى الله عليه وسلم ، وإن كان الضمير في { يضاهون } للنصارى فقط كانت الإشارة ب { الذين كفروا من قبل } إلى اليهود ، وعلى هذا فسر الطبري وحكاه الزهراوي عن قتادة ، وقوله { قاتلهم الله } دعاء عليهم عام لأنواع الشر ، ومعلوم أن من قاتله الله فهو المغلوب المقتول ، وحكى الطبري عن ابن عباس أن المعنى لعنهم الله{[5611]} ، و{ أنى يؤفكون } مقصده أنى توجهوا أو أنى ذهبوا ، وبدل مكان هذا الفعل المقصود فعل سوء يحق لهم ، وذلك فصيح في الكلام كما تقول لعن الله الكافر أنى هلك كأنك تحتم عليه بهلاك وكأنه حتم عليهم في هذه الآية بأنهم يؤفكون ، ومعناه يحرمون ويصرفون عن الخير ، والأرض المأفوكة التي لم يصبها مطر ، قال أبو عبيدة { يؤفكون } معناه يحدون .
قال القاضي أبو محمد : يريد من قولك رجل محدود أي محروم لا يصيب خيراً ، وكأنه من الإفك الذي هو الكذب ، فكأن المأفوك هو الذي تكذبه أراجيه فلا يلقى خيراً{[5612]} ، ويحتمل أن يكون قوله تعالى : { أنى يؤفكون } ابتداء تقرير ، أي بأي سبب ومن أي جهة يصرفون عن الحق بعدما تبين لهم ، و «قاتل » في هذه الآية بمعنى قتل وهي مفاعلة من واحد وهذا كله بين .