القول في تأويل قوله تعالى : { أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَحَسْرَتَا عَلَىَ مَا فَرّطَتُ فِي جَنبِ اللّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السّاخِرِينَ } .
يقول تعالى ذكره : وأنيبوا إلى ربكم ، وأسلموا له أنْ تَقُولَ نَفْسٌ بمعنى لئلا تقول نفس : يا حَسْرَتا على ما فَرّطْتُ في جَنْبِ اللّهِ ، وهو نظير قوله : وألْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسي أنْ تَمِيدَ بِكُمْ بمعنى : أن لا تميد بكم ، فأن ، إذ كان ذلك معناه ، في موضع نصب .
وقولهّ : يا حَسْرَتا يعني أن تقول : يا ندما ، كما :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : ثني أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، في قوله : يا حَسْرَتا قال : الندامة .
والألف في قوله يا حَسْرَتا هي كناية المتكلم ، وإنما أريد : يا حسرتي ولكن العرب تحوّل الياء في كناية اسم المتكلم في الاستغاثة ألفا ، فتقول : يا ويلتا ، ويا ندما ، فيخرجون ذلك على لفظ الدعاء ، وربما قيل : يا حسرة على العباد ، كما قيل : يا لهف ، ويا لهفا عليه وذكر الفراء أن أبا ثَرْوانَ أنشده :
تَزُورُونَها وَلا أزُورُ نِساءَكُمْ *** أَلَهْفِ لأَوْلادِ الإماء الحَوَاطِبِ
خفضا كما يخفض في النداء إذا أضافه المتكلم إلى نفسه ، وربما أدخلوا الهاء بعد هذه الألف ، فيخفضونها أحيانا ، ويرفعونها أحيانا وذكر الفراء أن بعض بني أسد أنشد :
يا رَبّ يا رَبّاهِ إيّاكَ أَسَلْ *** عَفْرَاءَ يا رَبّاهُ مِنْ قَبْلِ الأجَلْ
خفضا ، قال : والخفض أكثر في كلامهم ، إلا في قولهم : يا هَناه ، ويا هَنْتاه ، فإن الرفع فيها أكثر من الخفض ، لأنه كثير في الكلام ، حتى صار كأنه حرف واحد .
وقوله : على ما فَرّطْتُ فِي جَنْبِ اللّهِ يقول : على ما ضيعت من العمل بما أمرني الله به ، وقصرت في الدنيا في طاعة الله . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزّة ، عن مجاهد ، في قوله : يا حَسْرَتَا على ما فَرّطْتُ فِي جَنْبِ اللّهِ يقول : في أمر الله .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : على ما فَرّطْتُ فِي جَنْبِ اللّهِ قال : في أمر الله .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : على ما فَرّطْتُ فِي جَنْبِ اللّهِ قال : تركت من أمر الله .
وقوله : وَإنْ كُنْتُ لَمِنَ السّاخِرِينَ يقول : وإن كنت لمن المستهزئين بأمر الله وكتابه ورسوله والمؤمنين به . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : أنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتا على ما فَرّطْتُ فِي جَنْبِ اللّهِ وَإنْ كُنْتُ لَمِنَ السّاخِرِينَ قال : فلم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى جعل يسخر بأهل طاعة الله ، قال : هذا قول صنف منهم .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ وَإنْ كُنْتُ لَمِنَ السّاخِرِينَ يقول : من المستهزئين بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالكتاب ، وبما جاء به .
{ أن تقول نفس } كراهة أن تقول وتنكير { نفس } لأن القائل بعض الأنفس أو للتكثير كقول الأعشى :
ورب بقيع لو هتفت بجوه *** أتاني كريم ينفض الرأس مغضبا
{ يا حسرتى } وقرئ بالياء على الأصل . { على ما فرطت } بما قصرت . { في جنب الله } في جانبه أي في حقه وهو طاعته . قال سابق البريري :
أما تتقين الله في جنب وامق *** له كبد حرى عليك تقطع
إن السماحة والمروءة والندى *** في قبة ضربت على ابن الحشرج
وقيل في ذاته على تقدير مضاف كالطاعة وقيل في قربه من قوله تعالى : { والصاحب بالجنب } وقرئ " في ذكر الله " . { وإن كنت لمن الساخرين } المستهزئين بأهله ومحل { إن كنت } نصب على الحال كأنه قال فرطت وأنا ساخر .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.