أما النوع الثاني من الناس وهم الأخيار الصادقون فقد عبر عنهم القرآن بقوله- تعالى - : { وَمِنَ الناس مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله والله رَؤُوفٌ بالعباد }
{ مَن يَشْرِي } أي : يبيعها ببذلها في طاعة الله وإعلاء كلمته ، وتحقيقه أن المكلف قد بذل نفسه بمعنى أنه أطاع الله - تعالى - وحافظ على فرائضه ، وجاهد في سبيله ، من أجل أن ينال ثواب الله ومرضاته ، فكان ما بذله من طاعات بمثابة السلعة ، وكان هو بمنزلة البائع ، وكان قبول الله - تعالى - منه ذلك وإثابتهخ عليه في معنى الشراء .
وقوله : { ابتغآء مَرْضَاتِ الله } الابتغاء الطلب الشديد للشيء ، والرغبة القوية في الحصول عليه ، وهو في الآية مفعول لأجله .
أي : ومن الناس نوع آخر قد باع نفسه وبذلها في طاعة الله طلباً لرضوانه ، وأملا في مثوبته وغفرانه .
فهذالنوع التقي المخلص من الناس ، يقابل النوع المنافق المفسد الذي سبق الحديث عنه .
قال بعضهم : وكان مقتضى هذه المقابلة أن يوصف هذا الفريق الثاني بالعمل الصالح مع عدم التعويض والتبجح بالقول ، أو مع مطابقة قوله لعمله وموافقة لسانه لما في قلبه . والآية قد تضمنت هذا الوصف وإن لم تنطق به ، فإن من يبيع نفسه لله لا يبغى ثمناً لها سوى مرضاته لا يتحرى إلا العمل الصالح وقول الحق مع الإِخلاص في القلب فلا يتكلم بلسانين ولا يقابل الناس بوجهين . ويكون هو المؤمن الذي يعتد القرآن بإيمانه " .
وقال أحد العلماء : ومرضاة مصدر ميمي بمعنى الرضا . ولا شك أن التعبير بالمصدر الميمي دون المصدر الأصلي له معنى يدركه السامع بذوقه ، ولم نجد النحويين ولا البلاغيين تعرضوا لبيان التفرقة بين المصدر الميمي وغيره والذي يتبدى لنا ونظنه تفرقة بينهما ، أن المصدر الميمي يصور المعنى المصدري واقعاً قائماً متحققاً في الوجود ، أما المصدر غير الميمي فيصور المعنى مجرداً فإذا كانت كلمة مقال بمعنى القول ، فإن التعبير بالقول يصور معنى مجرداً من غير نظر إلى كونه تحقق وجوده أولا . أما كلمة مقال فتصور معنى وجد وتحقق ، أو في صورة الموجود المتحقق ، وعلى ذلك { ابتغآء مَرْضَاتِ الله والله } أنهم يبيعون أنفسهم طالبين طلباً موثقاً رضا الله - سبحانه - حقيقة واقعة مؤكدة ، ويتصورون رضاه - سبحانه - حقيقة قائمة قد حلت بهم ، فيشتد طلبهم وافتداؤهم للحق بأموالهم وأنفسهم " .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله - : { والله رَؤُوفٌ بالعباد } أي ، رفيق رحيم بهم ، ومن مظاهر ذلك أنه لم يبكلفهم بما هو فوق طاقتهم ، وإنما كلفهم بما تطيقه نفوسهم ، وأنه أسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة في الدنيا مع تقصيرهم فيما أمرهم به أو نهاهم عنه ، وأنه كافأهم بالنعيم المقيم على العمل القليل ، وأنه جعل العاقبة للمتقين لا للمفسدين ، إلى غير ذلك من مظاهر رأفته التي لا تحصى .
هذا ، وقد أورد المفسرون روايات متعددة في سبب نزول هذه الآية منها أنها نزلت في صهيب بن سنان الرومي ، وذلك لأنه لما أسلم بمكة وأراد الهجرة منعه المشركون أن يهاجر بماله ، وإن أحب أن يتجرد منه ويهاجر أذنوا له ، فنخلص منهم وأعطاهم ماله فأنزل الله فيه هذه الآية . فتلقاه عمر بن الخطاب وجماعة إلى طرف الحرة فقالوا له : ربح البيع يا صهيب ، فقال لهم وأنتم فلا أخسر الله تجارتكم وما ذاك ؟ فأخبروه أن الله أنزل فيه هذه الآية . ويروى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له عندما رآه : " ربح البيع ، ربح البيع " مرتين .
وهناك روايات أنها نزلت في وفي عمار بن ياسر وفي خباب بن الأرت وفي غيرهم من المؤمنين المجاهدين .
والذي نراه - كما سبق أن بينا - أن الآية الكريمة تتناول كل من أطاع الله - تعالى - وبذل نفسه في سبيل إعلاء كلمته ، ويدخل في ذلك دخولا أولياً من نزلت فيهم الآية ، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما يرى جمهور العلماء .
وبذلك نرى أن الآيات قد بينت لنا نوعين من الناس : أحدهما خاسر ، والآخر رابح ، لكي نتبع طريق الرابحين ، ونهجر طريق الخاسرين ( وَمَن تزكى فَإِنَّمَا يتزكى لِنَفْسِهِ وَإِلَى الله المصير ) .
هذا قسيم { ومن الناس من يعجبك قوله } [ البقرة : 204 ] وذكره هنا بمنزلة الاستطراد استيعاباً لقسمي الناس ، فهذا القسم هو الذي تمحض فعله للخير حتى بلغ غاية ذلك وهو تعريض نفسه التي هي أنفس الأشياء عليه للهلاك لأجل تحصيل ما يرضي الله تعالى وإنما رضا الله تعالى بفعل الناس للخير الذي أمرهم به .
و ( يشري ) معناه يبيع كما أن يشتري بمعنى يبتاع وقد تقدم ذلك في قوله تعالى : { ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً } [ البقرة : 41 ] . واستعمل ( يشري ) هنا في البذل مجازاً ، والمعنى ومن الناس من يبذل نفسه للهلاك ابتغاء مرضاة الله أي هلاكاً في نصر الدين وهذا أعلى درجات الإيمان ، لأن النفس أغلى ما عند الإنسان .
و { مرضاة الله } رضاه فهو مصدر رَضيَ على وزن المفعل زيدت فيه التاء سماعاً كالمَدْعاة والمَسْعاة ، في أسباب النزول قال سعيد بن المسيب نزلت في صهيب بن سنان النَّمرَى بن النمر بن قاسط الملقب بالرومي ؛ لأنه كان أسَرَه الرومُ في الجاهلية في جهات الموصل واشتراه بنو كلب فكان مولاهم وأثرى في الجاهلية بمكة وكان من المسلمين الأولين فلما هاجر النبي خرج صهيب مهاجراً فلحق به نفر من قريش ليوثقوه فنزل عن راحلته وانتثل كنانته وكان رامياً وقال لهم لقد علمتم أني من أرماكم وأَيْمُ الله لا تصلون إليَّ حتى أرمي بما في كنانتي ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيءٌ فقالوا : لا نتركك تخرج من عندنا غنياً وقد جئتنا صعلوكاً ، ولكن دلنا على مالك وتخلي عنك وعاهدوه على ذلك فدلهم على ماله ، فلما قدم على النبي قال له حين رآه رَبِحَ البيعُ أيا يحْيى وتلا عليه هذه الآية ، وقيل إن كفار مكة عذَّبوا صهيباً لإسلامه فافتدى منهم بماله وخرج مهاجراً ، وقيل : غير ذلك ، والأظهر أنها عامة ، وأن صهيباً أو غيره ملاحظ في أول من تشمله .
وقوله { والله رؤوف بالعباد } تذييل أي رؤوف بالعباد الصالحين الذين منهم من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله ، فالرأفة كناية عن لازمها وهو إيتاء الخيرات كالرحمة .
والظاهر أن التعريف في قوله ( العباد ) تعريف استغراق ، لأن الله رؤوف بجميع عباده وهم متفاوتون فيها فمنهم من تناله رأفة الله في الدنيا وفي الآخرة على تفاوت فيهما يقتضيه علم الله وحكمته ، ومنهم من تناله رأفة الله في الدنيا دون الآخرة وهم المشركون والكافرون ؛ فإن من رأفته بهم أنه أعطاهم العافية والرِّزق ، ويجوز أن يكون التعريف تعريف العهد أي بالعباد الذين من هذا القبيل أي قبيل الذي يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله .
ويجوز أن يكون ( أَلْ ) عوضاً عن المضاف إليه كقوله { فإن الجنة هي المأوى } [ النازعات : 41 ] ، والعباد إذا أضيف إلى اسم الجلالة يراد به عباد مقربون قال تعالى : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } في [ سورة الحجر : 42 ] .
ومناسبة هذا التذييل للجملة أن المخبر عنهم قد بذلوا أنفسهم لله وجعلوا أنفسهم عبيده فالله رءوف بهم كرأفة الإنسان بعبده فإن كان مَا صْدَق ( مَنْ ) عاماً كما هو الظاهر في كل من بذل نفسه لله ، فالمعنى والله رءوف بهم فعدل عن الإضمار إلى الإظهار ليكون هذا التذييل بمنزلة المثل مستقلاً بنفسه وهو من لوازم التذييل ، وليدل على أن سبب الرأفة بهم أنهم جعلوا أنفسهم عباداً له ، وإن كان ما صْدَق ( مَنْ ) صهيباً رضي الله عنه فالمعنى والله رءوف بالعباد الذين صهيب منهم ، والجملة تذييل على كل حال ، والمناسبة أن صهيباً كان عبداً للروم ثم لطائفة من قريش وهم بنو كلب وهم لم يرأفوا به ، لأنه عذب في الله فلما صار عبد الله رأف به .
وفي هذه الآية وهي قوله : { ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا } [ البقرة : 204 ] إلى قوله { رؤوف بالعباد } معان من معاني أدب النفوس ومراتبها وأخلاقها تعلِّم المؤمنين واجب التوسم في الحقائق ودواخل الأمور وعدم الاغترار بالظواهر إلاّ بعد التجربة والامتحان ، فإن من الناس من يغُر بحسن ظاهره وهو منطو على باطن سوء ويعطي من لسانه حلاوة تعبير وهو يضمر الشر والكيد قال المعري :
وقد يُخْلِفُ الإنسانُ ظَنَّ عَشِيرةٍ *** وإن رَاقَ منه مَنْظَرٌ ورُوَاء
وقد شمل هذا الحالَ قول النبي صلى الله عليه وسلم « إن من البيان لسحرا » بأحد معنييه المحتوي عليهما وهو من جوامع الكَلِم وتبلغ هلهلة دينه إلى حد أن يُشهد الله على أن ما يقوله صدق وهو بعكس ذلك يبيت في نفسه الخصام والكراهية .
وعلامة الباطن تكون في تصرفات المرء فالذي يحب الفساد ويهلك الحرث والنسل ولا يكون صاحب ضمير طيب ، وأن الذي لا يصغي إلى دعوة الحق إذا دعوته إليه ويظهر عليه الاعتزاز بالظلم لا يرعوي عن غيه ولا يترك أخلاقه الذميمة ، والذي لا يشح بنفسه في نصرة الحق ينبىء خلقه عن إيثار الحق والخير على الباطل والفساد ومن لا يرأف فالله لا يرأف به .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{و من الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله}، وذلك أن كفار مكة أخذوا عمارا، وبلالا، وخبابا، وصهيبا، فعذبوهم لإسلامهم حتى يشتموا النبي صلى الله عليه وسلم، فأما صهيب بن سنان مولى عبد الله بن جدعان القرشي، فقال لأهل مكة:... فقد علمت أنكم إنما تريدون مالي، وما تريدون نفسي، فخذوا مالي واتركوني وديني غير راحلة، فإن أردت أن ألحق بالمدينة فلا تمنعوني، فقال بعضهم لبعض: صدق، خذوا ماله فتعاونوا به على عدوكم، ففعلوا ذلك، فاشترى نفسه بماله كله غير راحلة، واشترط ألا يمنع عن صلاة، ولا هجرة. فأقام بين أظهرهم ما شاء، ثم ركب راحلته نهارا حتى أتى المدينة مهاجرا.
{والله رءوف بالعباد}: للفعل فعل صهيب بن سنان.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني جل ثناؤه: ومن الناس من يبيع نفسه بما وعد الله المجاهدين في سبيله وابتاع به أنفسهم بقوله:"إنّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أنْفُسَهُمْ وأمْوَالَهُمْ بأنّ لَهُمُ الجَنّةَ" وقد دللنا على أن معنى شرى: باع.
"ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ": هذا الشاري يشري إذا اشترى طلب مرضاة الله.
ثم اختلف أهل التأويل فيمن نزلت هذه الآية فيه ومن عنى بها؛ فقال بعضهم: نزلت في المهاجرين والأنصار، وعنى بها المجاهدون في سبيل الله... وقال بعضهم: نزلت في رجال من المهاجرين بأعيانهم...
وقال آخرون: بل عنى بذلك كل شار نفسه في طاعة الله وجهاد في سبيله أو أمر بمعروف... حدثنا أبو عون، عن محمد، قال: حمل هشام بن عامر على الصفّ حتى خرقه، فقالوا: ألقى بيده، فقال أبو هريرة: "وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْري نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ"... عن المغيرة، قال: بعث عمر جيشا فحاصروا أهل حصن، وتقدم رجل من بجيلة، فقاتل، فقتل، فأكثر الناس فيه يقولون: ألقى بيده إلى التهلكة. قال: فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: كذبوا، أليس الله عز وجل يقول: {وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ واللّه رَءُوفٌ بالعِبادِ}؟...
عن أبي الخليل، قال: سمع عمر إنسانا قرأ هذه الآية: "وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضَاتِ الله "قال: استرجع عمر فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، قام رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقتل.
والذي هو أولى بظاهر هذه الآية من التأويل، ما روي عن عمر بن الخطاب وعن عليّ بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهم، من أن يكون عنى بها الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر. وذلك أن الله جل ثناؤه وصف صفة فريقين: أحدهما منافق يقول بلسانه خلاف ما في نفسه وإذا اقتدر على معصية الله ركبها وإذا لم يقتدر رامها وإذا نهي أخذته العزّة بالإثم بما هو به آثم، والآخر منهما بائع نفسه طالب من الله رضا الله. فكان الظاهر من التأويل أن الفريق الموصوف بأنه شرى نفسه لله وطلب رضاه، إنما شراها للوثوب بالفريق الفاجر طلب رضا الله. فهذا هو الأغلب الأظهر من تأويل الآية.
وأما ما رُوي من نزول الآية في أمر صهيب، فإن ذلك غير مستنكر، إذ كان غير مدفوع جواز نزول آية من عند الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بسبب من الأسباب، والمعنّي بها كل من شمله ظاهرها.
فالصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله عز ذكره وصف شاريا نفسه ابتغاء مرضاته، فكل من باع نفسه في طاعته حتى قتل فيها أو استقتل وإن لم يقتل، فمعنيّ بقوله: "وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ"، في جهاد عدوّ المسلمين كان ذلك منه أو في أمر بمعروف أو نهي عن منكر.
"وَاللّهُ رَءُوفٌ بالعِباد": قد دللنا فيما مضى على معنى الرأفة بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع، وأنها رقة الرحمة فمعنى ذلك: والله ذو رحمة واسعة بعبده الذي يشري نفسه له في جهاد من حادّه في أمره من أهل الشرك والفسوق وبغيره من عباده المؤمنين في عاجلهم وآجل معادهم، فينجز لهم الثواب على ما أبلوا في طاعته في الدنيا، ويسكنهم جناته على ما عملوا فيها من مرضاته.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله}؛
يحتمل {يشري نفسه ابتغاء}: يهلك نفسه، أي يبيع نفسه في عبادة الله تعالى وطاعته، فذلك شراؤه إياها.
ويحتمل {يشري نفسه ابتغاء} أي يبذل نفسه للجهاد في سبيل الله، وهو كقوله: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} [التوبة: 111]؛ فهؤلاء بذلوا أنفسهم لذلك بتفضيل الله عز وجل يبذل الجنة لهم، فهو [الشراء]، والله أعلم، وهو ما روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه ألقى نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما هم المشركون قتله. وفيه دلالة أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان أشجع الصحابة وأصلبهم، وإن كان ضعيفا في نفسه، لما لا يتجاسر أحد من الصحابة على مثله. وما روي أيضا أنه خرج لمقاتلة أهل الردة وحده. فدل هذا كله أنه كان أشجعهم وأصلبهم في الدين... والله أعلم.
ويحتمل إن أراد بالعباد المؤمنين خاصة، فهو رحيم بهم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وإنما ذكر الرؤف بالعباد هنا للدلالة على أنه إنما رغب العبد في بيع نفسه بالجهاد في نفسه رأفة به، وحسن نظر له، ليبتليه من الثواب المستحق على عمله ما لا يجوز أن يصل إليه في جلالته إلا بتلك المنزلة.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أولئك الذين أدركتهم خصائص الرحمة، ونعتتهم سوابق القسمة، فآثروا رضاء الحق على أنفسهم، واستسلموا بالكلية لمولاهم.
{والله رؤوف بالعباد}: ولرأفته بهم وصلوا إلى هذه الأحوال، لا بهذه الأحوال استوجبوا رأفته...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{والله رَءوفٌ بالعباد} حيث كلفهم الجهاد فعرضهم لثواب الشهداء.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله تعالى: {والله رؤوف بالعباد} ترجية تقتضي الحض على امتثال ما وقع به المدح في الآية كما في قوله تعالى: {فحسبه جهنم} تخويف يقتضي التحذير مما وقع به الذم في الآية.
اعلم أنه تعالى لما وصف في الآية المتقدمة حال من يبذل دينه لطلب الدنيا ذكر في هذه الآية حال من يبذل دنياه ونفسه وماله لطلب الدين فقال: {ومن الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضات الله}.
فإن قيل: إن الله تعالى جعل نفسه مشتريا حيث قال: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم} وهذا يمنع كون المؤمن مشتريا. قلنا: لا منافاة بين الأمرين، فهو كمن اشترى ثوبا بعبد، فكل واحد منهما بائع، وكل واحد منهما مشتر، فكذا ههنا وعلى هذا التأويل فلا يحتاج إلى ترك الظاهر وإلى حمل لفظ الشراء على البيع.
[و] أكثر المفسرين على أن المراد بهذا الشراء: البيع، قال تعالى: {وشروه بثمن بخس} أي باعوه، وتحقيقه أن المكلف باع نفسه بثواب الآخرة وهذا البيع هو أنه بذلها في طاعة الله، من الصلاة والصيام والحج والجهاد، ثم توصل بذلك إلى وجدان ثواب الله، كان ما يبذله من نفسه كالسلعة، وصار الباذل كالبائع، والله كالمشتري، كما قال: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} وقد سمى الله تعالى ذلك تجارة، فقال: {يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم} وعندي أنه يمكن إجراء لفظة الشراء على ظاهرها وذلك أن من أقدم على الكفر والشرك والتوسع في ملاذ الدنيا والإعراض عن الآخرة وقع في العذاب الدائم فصار في التقدير كأن نفسه كانت له، فبسبب الكفر والفسق خرجت عن ملكه وصارت حقا للنار والعذاب، فإذا ترك الكفر والفسق وأقدم على الإيمان والطاعة صار كأنه اشترى نفسه من العذاب والنار فصار حال المؤمن كالمكاتب يبذل دراهم معدودة ويشتري بها نفسه فكذلك المؤمن يبذل أنفاسا معدودة ويشتري بها نفسه أبدا لكن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم، فكذا المكلف لا ينجو عن رق العبودية ما دام له نفس واحد في الدنيا ولهذا قال عيسى عليه السلام: {وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا} وقال تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} إذا عرفت هذا فنقول: يدخل تحت هذا كل مشقة يتحملها الإنسان في طلب الدين، فيدخل فيه المجاهد، ويدخل فيه الباذل مهجته الصابر على القتل، كما فعله أبو عمار وأمه، ويدخل فيه الآبق من الكفار إلى المسلمين، ويدخل في المشتري نفسه من الكفار بماله كما فعل صهيب، ويدخل فيه من يظهر الدين والحق عند السلطان الجائر.
أما قوله تعالى: {والله رءوف بالعباد} فمن رأفته أنه جعل النعيم الدائم جزاء على العمل القليل المنقطع، ومن رأفته جوز لهم كلمة الكفر إبقاء على النفس، ومن رأفته أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها ومن رأفته ورحمته أن المصر على الكفر مائة سنة إذا تاب ولو في لحظة أسقط كل ذلك العقاب. وأعطاه الثواب الدائم، ومن رأفته أن النفس له والمال، ثم أنه يشتري ملكه بملكه فضلا منه ورحمة وإحسانا.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
والذي ينبغي أن يقال: إنه تعالى لما ذكر {ومن الناس من يعجبك قوله} وكان عاماً في المنافق الذي يبدي خلاف ما أضمر، ناسب أن يذكر قسيمه عاماً من: يبذل نفسه في طاعة الله تعالى من أي صعب كان، فكذلك المنافق مدارٍ عن نفسه بالكذب والرياء، وحلاوة المنطق، وهذا باذلٌ نفسه لله ولمرضاته. ولا يبعد أن يكون السبب خاصاً، والمراد عموم اللفظ، ولما طال الفصل هنا بين القسم الأول والقسم الثاني، أتى في التقسيم الثاني بإظهار المقسم منه، فقال: {ومن الناس من يشري} بخلاف قوله: {ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة} فانه لما قرب ذكر أحد القسمين من القسم، أضمر في الثاني المقسم. والعباد إن كان عاماً، فرأفته بالكافرين إمهالهم إلى انقضاء آجالهم، وتيسير أرزاقهم لهم، ورأفته بالمؤمنين تهيئته إياهم لطاعته، ورفع درجاتهم في الجنة. وإن كان خاصاً، وهو الأظهر، لأنه لما ختم الآية بالوعيد من قوله: {فحسبه جهنم} وكان ذلك خاصاً بأولئك الكفار، ختم هذه بالوعد المبشر لهم بحسن الثواب، وجزيل المآب، ودل على ذلك بالرأفة التي هي سبب لذلك، فصار ذلك كناية عن إحسان الله إليهم، لأن رأفته بهم تستدعي جميع أنواع الإحسان، ولو ذكر أي نوع من الإحسان لم يفد ما أفاده لفظ الرأفة، ولذلك كانت الكناية أبلغ، ويكون إذ ذاك في لفظ: العباد، التفاتاً، إذ هو خروج من ضمير غائب مفرد إلى اسم ظاهر، فلو جرى على نظم الكلام السابق لكان: والله رؤوف به أو بهم.
وحسن الالتفات هنا بهذا الاسم الظاهر شيئا، أحدهما: أن لفظ: العباد، له في استعمال القرآن تشريف واختصاص، كقوله: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً} {ثم أورثنا الكتاب الذي اصطفينا من عبادنا} {بل عباد مكرمون}.
والثاني: مجيء اللفظة فاصلة، لأن قبله: {والله لا يحب الفساد، فحسبه جهنم ولبئس المهاد} فناسب: {والله رؤوف بالعباد}.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أتم الخبر عن هذا القسم الذي هو شر الأقسام أتبعه خيرها ليكون ختاماً وبينهما تباين فإن الأول من يهلك الناس لاستبقاء نفسه وهذا يهلك نفسه لاستصلاح الناس فقال: {ومن الناس من} أي شخص أو الذي {يشري} أي يفعل هذا الفعل كلما لاح له وهو أنه يبيع بغاية الرغبة والانبعاث {نفسه} فيقدم على إهلاكها أو يشتريها بما يكون سبب إعتاقها وإحيائها بالاجتهاد في أوامر الله بالنهي لمثل هذا الألد عن فعله الخبيث والأمر له بالتقوى والتذكير بالله،
ثم علل ذلك بقوله: {ابتغآء} أي تطلب وتسهل وتيسر بغاية ما يمكن أن يكون كل من ذلك {مرضات الله} أي رضى المحيط بجميع صفات الكمال وزمان الرضى ومكانه بما دل عليه كون المصدر ميمياً ويكون ذلك غاية في بابه بما دل عليه من وقفه بالتاء الممدودة لما يعلم من شدّة رحمة الله تعالى به {والله رؤوف} أي بالغ الرحمة، وأظهر موضع الإضمار دلالة على العموم وعلى الوصف المقتضي للرحمة والشرف فقال: {بالعباد} كلهم حيث أسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة مع كفرهم به أو تقصيرهم في أمره، وبين لهم الطريق غاية البيان بالعقل أولاً والرسل ثانياً والشرائع ثالثاً والكتب الحافظة لها رابعاً.
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
قال بعضهم: كان مقتضى المقابلة للفريق الأول أن يوصف هذا الفريق بالعمل الصالح مع عدم الدعوى والتَّبَجُّحِ بالقول، أو مع مطابقة قوله لعمله، وموافقة لسانه لما في جنانه! والآية تضمنت هذا الوصف وإن لم تنطق به. فإن من يبيع نفسه لله، لا يبغي ثمنا لها غير مرضاته، لا يتحرّى إلا العمل الصالح وقول الحق والإخلاص في القلب فلا يتكلم بلسانين، ولا يقابل الناس بوجهين، ولا يؤثر على ما عند الله عرض الحياة الدنيا... وهذا هو المؤمن الذي يعتد القرآن بإيمانه...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ثم إن هذا البيع لا يحقق إلا إذا كان المؤمن يجود بنفسه وبماله في سبيل الله إذا مست الحاجة لذلك فكيف إذا ألجأت إليه الضرورة كجهاد أعداء الملة والأمة عند الاعتداء عليهما أو الاستيلاء على شيء من دار الإسلام، وحينئذ يكون فرضا عينا على جميع الأفراد، فمن قدر على الجهاد بنفسه وجب عليه، ومن قدر عليه بماله وجب عليه، ومن قدر عليه بهما معا وجب عليه.
وسبيل الله هي الطريق الموصلة إلى مرضاته، وهي التي يحفظ بها دينه ويصلح بها حال عباده. ومعنى هذا أنه لا يكتفي من المؤمن أن يكتسب بالحلال، ويتمتع بالحلال، وينفع نفسه ولا يضر غيره، وأن يصلي ويصوم، لأن كل هذا يعمله لنفسه خاصة، بل أن يكون وجوده أوسع، وعمله أشمل وأنفع، فيساعد على نفع الناس ودرء الضرر عنهم، بحفظ الشريعة، وتعزيز الأمة بالمال والأعمال، والدعوة إلى الخير، ومقاومة الشر، ولو أفضى ذلك إلى بذل روحه. فإن قصر في واجب يتعلق بحفظ الملة وعزة الأمة من غير عذر شرعي فقد آثر نفسه على مرضاة الله تعالى، وخرج من زمرة كملة المؤمنين الذين باعوا أنفسهم لله تعالى، وكان أكبرهم إجراما ممن يقصر في واجب لا يضر تقصيره فيه إلا بنفسه، ذلك أن الحكمة في تربية النفس بالأعمال الحسنة والأخلاق الفاضلة، هي أن ترتقي ويتسع وجودها في الدنيا فيعظم خيرها وينتفع الناس بها، وتكون في الآخرة أهلا لجوار الله تعالى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، الذين بذلوا أنفسهم وأموالهم وجعلوا أكثر أعمالهم خدمة للناس وسعيا في خيرهم. فإن الله تعالى لم يشتر أنفس المؤمنين من الحظوظ والشهوات الشخصية الخسيسة لأجل نفعه سبحانه أو دفع الضر عنه جل شأنه، فهو غني عن العالمين، وإنما شرع هذا ليكون المؤمن باتساع وجوده وعموم نفعه سيد الناس.
[وقد] ذكر تعالى أن من الناس من يشري أي يبيع نفسه وهم المؤمنون الخلص كما في الآيات الأخرى، والأخبار بذلك أقوى في طلبه من الأمر به وأدل على تقريره، لأن الأمر به لا يدل على امتثال المأمورين والإخبار هو الذي يدل على الوقوع، فالقرآن يصور المؤمنين عاملين بمقتضى الإيمان. ثم بين أن ما شرع هذا إلا رأفة بعباده:
{والله رءوف بالعباد} إذ يرفع همم بعضهم، ويعلي نفوسهم، حتى يبذلونها في سبيله لرفع الشر والفساد عن عباده، وتقرير الحق والعدل والخير فيهم، ولولا ذلك لغلب شر أولئك المفسدين في الأرض حتى لا يبقى فيها صلاح {ولولا دفع الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض} (البقرة: 251) وإن هذا يؤيد ما قلناه في إزالة وهم من يتوهم أن بيع النفس يؤذن بترك الدنيا، وأن لا يمتع المؤمن نفسه بلذاتها، ولو كان كذلك وهو من تكليف ما لا يطاق لما قرنه الله تعالى باسمه الرؤوف الدال على سعة رحمته بعباده، فيا الله ما أعجب بلاغة كلام الله، وما أعظم خذلان المعرضين عن هداه.
ومن الدقة الغريبة في هذا التعبير الموجز بيان حقيقة عظيمة وهي أن وجود هذه الأمة في الناس رحمة عامة للعباد لا خاصة بهم، والأمر كذلك، بل كثيرا ما ينتفع الناس بعمل المصلحين من دونهم، إذ تظهر ثمرات إصلاحهم من بعدهم. وأن على من يبذل نفسه ابتغاء مرضاة الله تعالى في نفع عباده أن لا يتهور ويلقي بنفسه في التهلكة، بل عليه أن يكون حكيما يقدر الأمور بقدرها، إذ ليس المقصود بهذا الشراء إهانة النفس ولا إذلالها، وإنما المراد دفع الشر وتقرير الخير العام رأفة بالعباد، وإيثارا للمصلحة العامة. وإن أمة يتصف جميع أفرادها أو أكثرهم بهذا الوصف لجديرة بأن تسود العالمين، وكذلك ساد سلفنا الصالحون، وإن أمة تحرم من هذا الصنف لخليقة بأن تكون مستعبدة لجميع المتغلبين، وكذلك استعبد خلفنا الطالحون، فهل نحن معتبرون؟
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
هؤلاء هم الموفقون الذين باعوا أنفسهم و أرخصوها وبذلوها طلبا لمرضاة الله ورجاء لثوابه، فهم بذلوا الثمن للمليء الوفي الرؤوف بالعباد، الذي من رأفته ورحمته أن وفقهم لذلك، وقد وعد الوفاء بذلك، فقال: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} إلى آخر الآية. وفي هذه الآية أخبر أنهم اشتروا أنفسهم وبذلوها، وأخبر برأفته الموجبة لتحصيل ما طلبوا، وبذل ما به رغبوا، فلا تسأل بعد هذا عن ما يحصل لهم من الكريم، وما ينالهم من الفوز والتكريم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ذلك نموذج من الناس. يقابله نموذج آخر على الطرف الآخر من القياس: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله. والله رؤوف بالعباد}.. ويشري هنا معناها يبيع. فهو يبيع نفسه كلها لله؛ ويسلمها كلها لا يستبقي منها بقية، ولا يرجو من وراء أدائها وبيعها غاية إلا مرضاة الله. ليس له فيها شيء، وليس له من ورائها شيء. بيعة كاملة لا تردد فها ولا تلفت ولا تحصيل ثمن، ولا استبقاء بقية لغير الله.. والتعبير يحتمل معنى آخر يؤدي إلى نفس الغاية.. يحتمل أن يشتري نفسه بكل أعراض الحياة الدنيا، ليعتقها ويقدمها خالصة لله، لا يتعلق بها حق آخر إلا حق مولاه. فهو يضحي كل أعراض الحياة الدنيا ويخلص بنفسه مجردة لله... فهي أبعد مدى من مجرد حادث ومن مجرد فرد. وهي ترسم صورة نفس، وتحدد ملامح نموذج من الناس؛ ترى نظائره في البشرية هنا وهناك
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذا قسيم {ومن الناس من يعجبك قوله} [البقرة: 204] وذكره هنا بمنزلة الاستطراد استيعاباً لقسمي الناس، فهذا القسم هو الذي تمحض فعله للخير حتى بلغ غاية ذلك وهو تعريض نفسه التي هي أنفس الأشياء عليه للهلاك لأجل تحصيل ما يرضي الله تعالى وإنما رضا الله تعالى بفعل الناس للخير الذي أمرهم به...
وقوله {والله رؤوف بالعباد} تذييل أي رؤوف بالعباد الصالحين الذين منهم من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله، فالرأفة كناية عن لازمها وهو إيتاء الخيرات كالرحمة. والظاهر أن التعريف في قوله {العباد} تعريف استغراق، لأن الله رؤوف بجميع عباده وهم متفاوتون فيها فمنهم من تناله رأفة الله في الدنيا وفي الآخرة على تفاوت فيهما يقتضيه علم الله وحكمته، ومنهم من تناله رأفة الله في الدنيا دون الآخرة وهم المشركون والكافرون؛ فإن من رأفته بهم أنه أعطاهم العافية والرِّزق، ويجوز أن يكون التعريف تعريف العهد أي بالعباد الذين من هذا القبيل أي قبيل الذي يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله...
ومناسبة هذا التذييل للجملة أن المخبر عنهم قد بذلوا أنفسهم لله وجعلوا أنفسهم عبيده فالله رءوف بهم كرأفة الإنسان بعبده
فإن كان مَا صدق (مَنْ) عاماً كما هو الظاهر في كل من بذل نفسه لله، فالمعنى والله رءوف بهم فعدل عن الإضمار إلى الإظهار ليكون هذا التذييل بمنزلة المثل مستقلاً بنفسه وهو من لوازم التذييل، وليدل على أن سبب الرأفة بهم أنهم جعلوا أنفسهم عباداً له،
وإن كان ما صدق (مَنْ) صهيباً رضي الله عنه فالمعنى والله رؤوف بالعباد الذين صهيب منهم، والجملة تذييل على كل حال، والمناسبة أن صهيباً كان عبداً للروم ثم لطائفة من قريش وهم بنو كلب وهم لم يرأفوا به، لأنه عذب في الله فلما صار عبد الله رأف به.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
بعد أن ذكر الله سبحانه بعض الناس الذين يعدون داء الجماعات التي تؤدي إلى الفساد، وإلى الهلاك، وحالهم إذا تولوا حكم الناس، ذكر أهل الفضل الذين يعدون دواء هذا الداء، وعلاج ذلك المرض الفتاك، وصلاح ذلك الفساد، فإنه إذا كان طغيان بعض الولاة هو الذي يؤدي إلى هلاك الحرث والنسل، فأولئك الأبرار الذين يجاهدون الطغيان هم الذين يقفون تياره، و يصدعون بأمر الله، وهم الذين باعوا أنفسهم مجاهدين ناطقين بكلمة الحق، ولذا قال سبحانه: {و من الناس من يشري نفسه} أي يبيع نفسه لله سبحانه، فيفدي دين الله والحق بنفسه وماله وكل ما يملك، وفي ذكر الفريق المقابل لأهل الشر بذلك الوصف الذي يشعر بأن أخص حالهم بذل النفس والنفيس، لا مجرد الإخلاص والبراءة من النفاق إشارة إلى عظم المهمة الملقاة على عاتقهم، وهي مجاهدة الشر والتغلب عليه، وإزالة أوضاره، فإن ذلك يقتضي التعرض للأذى، بل للتلف، ومن قتل في سبيله قتل شهيدا، بل إنه يكون أفضل الشهداء، كما صرح بذلك النبي صلى الله عليه وسلم... وإن هذا الذي يبيع نفسه لله سبحانه، ويفدي الحق بنفسه وماله، لا يطلب إلا ثمنا واحدا، هو أعلى الأثمان، وهو رضا الله سبحانه وتعالى، ولذا قال سبحانه فيما يطلبه:
{ابتغاء مرضات الله} الابتغاء: الطلب الشديد والرغبة القوية الصادقة، ومرضاة مصدر ميمي بمعنى الرضا، ولا شك أن التعبير بالمصدر الميمي دون المصدر الأصلي له معنى يدركه السامع بذوقه، ولم نجد النحويين ولا البلاغيين تعرضوا لبيان التفرقة بين التعبير بالمصدر الميمي وغيره، والذي يتبدى لنا ونظنه تفرقة بينهما أن المصدر الميمي يصور المعنى المصدري واقعا قائما متحققا في الوجود، أما المصدر غير الميمي فيصور المعنى مجردا، فإذا كانت كلمة مقال بمعنى القول، فإن التعبير بالقول يصور معنى مجردا من غير نظر إلى كونه تحقق وجوده أولا، أما كلمة مقال فتصور معنى وجد وتحقق، أو في صورة الموجود المتحقق، وعلى ذلك يكون معنى
{ابتغاء مرضات الله} أنهم يبيعون أنفسهم طالبين طلبا موثقا رضا الله سبحانه حقيقة واقعة مؤكدة، ويتصورون رضاه سبحانه حقيقة قائمة قد حلت بهم، فيشتد طلبهم، وافتداؤهم للحق بأموالهم وأنفسهم... و أولئك الذين باعوا أنفسهم لله، وافتدوا الحق بأموالهم وأنفسهم، هم حجة الله القائمة في عهد الظلم والظلمات، وإذا كان الله سبحانه وتعالى يبتلي الجماعات بأهل الشر والطاغوت، وحكم الظالمين، فإنه يرسل في هذا البلاء أولئك الذين ندبوا أنفسهم للحق يدعون عليه، ويجهرون به، ويجاهدون في سبيل الله لرفع مناره، وجعل كلمة الله هي العليا، وعندئذ يكون معهم كل من يميل إلى الحق قلبه، بين هؤلاء قوم لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
[وقد] ذيل الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بتلك الكلمة السامية، للإشارة إلى أمور ثلاثة وصلت إليها مداركنا:
أولها – أن الله سبحانه وتعالى من رحمته بعباده جعل الخير القوي بجوار الشر المندفع، فهدى الله أهل الخير الأقوياء إلى مدافعة أهل الشر الطغاة، ولولا ذلك لعم الفساد، وهلك العباد، {و لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض...251} (البقرة).
و ثانيها – الإشارة إلى أن الغلب للحق دائما، لأن ذلك من دواعي رأفته ورحمته بعباده، والحق الذي يجيء بالمغالبة حق قوي عزيز يعض عليه بالنواجذ، وفيه إعلان لغلبة المعاني الإنسانية على النواحي الحيوانية.
و ثالثها – أن من رحمة الله بعباده ألا يمكن للظالمين، وأن يمكن للعادلين، فإن الحكم العادل يكون رحمة بالناس ورفقا بهم، والحاكم العادل ظل الله في أرضه، ورحمته بخلقه، وتسليط الظالمين من أمارة غضب العلي الحكيم...
ثم في تذييل الآية ذلك التذييل فوق ما سبق دعوة إلى الرحمة بالناس والرفق بهم والحدب عليهم، ولقد قال صلى الله عليه وسلم:"اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به". اللهم هب لنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وعلى عكس طائفة المنافقين التي وصفتها هذه الآيات أدق وصف، تحذيرا من ألاعيبها وتنبيها إلى مناوراتها، وتعريفا بمظاهرها البراقة الخلابة حتى لا يقع المسلمون في أشراكها، تولت آيات أخرى وصف المؤمنين الصادقين أحسن وصف وأصدقه تعريفا بهم، وتنبيها إليهم، حتى يلتف المسلمون حولهم كل الالتفاف، فقال تعالى
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاة اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)}. وهذا يقضي أن هناك طائفة من الناس [تهب] حياتها، وتخصص جهودها، وتبيع نفسها في سبيل الله، ابتغاء مرضاة الله، لا ابتغاء مرضاة الناس، فهي لا تبخل بوقت ولا بجهد في سبيل الصالح العام والخير المشترك، والتعاون على البر والتقوى، وفي سبيل ذلك تتنازل عن شهواتها، وتتخلى عن أهوائها، وتتجرد من أنانيتها، حتى تتقمص فيها روح الجماعة وخيرها، ولا تتحرك إلا بها ولها، امتثالا لأمر الله، وابتغاء مرضاة الله، ولا شك أن وجود هذه الطائفة من الناس في المجتمعات والأمم نعمة كبرى من أكبر النعم التي ينعم الله بها عليها، إذ بواسطتها يتحقق كثير من الإصلاح، وعلى يدها يزول كثير من الفساد، وبفضل توجيهها والمثل الصالح الذي تضربه لبقية الناس يتم كثير من التقدم والازدهار، وتنتشر بينهم ظاهرة التضحية والإيثار، فهي رحمة من الله عميقة الأثر في الأفراد والجماعات...
وقوله تعالى في هذا السياق: {واللهُ رَؤُوفٌ بالعِبَادِ}. إشارة إلى أنه سبحانه وتعالى يهيئ لعباده من بينهم من يأخذ بيدهم، ويمهد لهم سبل الصلاح والفلاح، على غرار قوله تعالى: {لَقَد جَاءَكُم رَسُولٌ مَّنَ أَنفُسِكُم عَزيزٌ عَلَيهِ مَا عَنِتُّم، حَريصٌ عَلَيكُم، بالمُؤمِنينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}.
ومن المعاني السامية التي يحمل عليها قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَّشرِي نَفسَهُ ابتِغَاءَ مَرضَاة اللهِ}. الرجل القوي من المسلمين الذي يجاهد في سبيل الله، إذا أراد أن يحمل أثناء جهاده على جيش كبير من العدو، وكان ذلك منه بنية خالصة، طلبا للشهادة، فهذا العمل جائز عند المدققين من علماء الشريعة، وتنطبق عليه هذه الآية تمام الانطباق.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَمِنَ النّاس مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضَاتِ اللّه} الأمر الذي يجعله يشعر أنه لا يملك نفسه ولا يرى لها حريّة مطلقة بعيداً عن إرادة اللّه وطاعته. ولذلك فهو يعيش الإحساس العميق بأنَّ عليه أن يبذل كلّ طاقاته الفكرية والروحية والجسدية في سبيل اللّه، فلا مجال للترف الفكري في الأجواء التي تتحرّك فيها التحدّيات الفكرية ضدّ الفكر الحقّ، ولا موقع للخيال أمام حاجة الواقع إلى التعامل مع الظروف الموضوعية المطروحة في الساحة، ولا وقت للفراغ في المجالات التي يشعر فيها الإنسان بالزمن يضيق عن المطامح الكبرى للقضايا الأساسية الحيّة في واقع الإنسان والحياة. وهكذا تنطلق حياته لتتحرّك من موقع الحقّ المتحرّك في أكثر من اتجاه ضدّ خطوات الباطل التي تطلق التحدّي في أكثر من مجال. إنه نموذج الرساليين الذين يعيشون رسالتهم في كلّ مظهر لحركة الحياة من حولهم، ويعيشون حياتهم من أجل رسالتهم في الخطّ المستقيم؛ فلا ينحرفون أمام كلّ محاولات الإغراء ولا يستسلمون لكلّ عوامل الضغط؛ بل يظلون في الموقع الصلب، في ساحات التحدّي الصعب، ليشهدوا اللّه على أنهم صدقوا العهد وأكدوا الميثاق بجهادهم وتضحياتهم في سبيله، ولم تأخذهم فيه لومة لائم.
{وَاللَّهُ رَؤوفٌ بِالْعِبَادِ} فهو الذي يتقبل منهم هذه النفوس المجاهدة التي تستقبل الموت بكلّ رضى واطمئنان، انطلاقاً من خطّ الواجب الذي تلتقي فيه الرسالة بالشهادة والشهادة بالنصر، ويجزل لها الثواب في مستقر رحمته ورضوانه، وهو الذي يجازيهم الثواب الكثير بالعمل القليل.
[وإنما أطلق] التعبير {وَمِنَ النّاس} لأنَّ القضية هي أنَّ اللّه يريد للنموذج الفكرة أن ينطلق ليكون عاماً في حياة النّاس، وذلك من خلال النموذج الأمثل في مقابل النموذج السيئ الذي لا يفكر إلاَّ بذاته وشخصه.
أمّا ما نستوحيه من هذه الآيات فهو عدّة أمور:
أن نتعلّم كيف نمنح الآخرين الثقة والتأييد والدعم، من خلال المواقف لا من خلال الكلمات والمظاهر، لأنَّ الكلمات قد تخدع، والمظاهر قد تغش، ولكن المواقف التي تتحرّك من خلال التجربة المريرة الصعبة لا تنطلق إلاَّ من قاعدة الحقّ والإخلاص. ويبقى للآيات إيحاؤها العميق الذي يريد أن يعطي الفكرة من خلال عرض الصورتين المتقابلتين، ليشعر الإنسان بأنَّ للحياة أكثر من وجه وأنَّ ظاهر الصورة قد لا يعبّر عن واقعها في كثير من الحالات.
أن نلاحق هذين النموذجين في حركة الواقع، من أجل أن نتابع الأول بالرفض والمواجهة من أجل إزاحته من واجهة الصورة في الحياة، لتخليص النّاس من فساده وبغيه وطغيانه واستكباره، أمّا النموذج الثاني فنحاول متابعته بالتأييد والدعم والرعاية من أجل تقويته وتثبيته وتشجيع الإنسان على أن يحتذيه ويقتدي به في كلّ مواقفه ومنطلقاته، لإفساح المجال أمام القيم التي يحملها والمواقف التي يمثّلها أن تتحرّك على الساحة بالخير والإصلاح والمحبة والإنسانية الودية الذكية.
أن نتمثّل في وعينا المبادئ السلبية من الإفساد في الأرض، وإهلاك الحرث والنسل، لنجعل منها أساساً للتعامل السلبي مع كلّ البرامج السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية، لنجابهها في ما نملكه من مواقع المجابهة كما نتمثّل المبادئ الإيجابية التي تتلخص في أن يبيع الإنسان نفسه للّه ابتغاء مرضاته، لنؤكد الخطّ الإيجابي في الحياة السائر على هذا النهج في عملية تقوية وتأييد وتنمية، مهما كانت الصعوبات التي تتحدّانا، والمشاكل التي تحتوينا، فإنَّ ذلك هو الذي يحقّق لنا معنى الالتقاء برضى اللّه في ما يحبّه، والابتعاد عن سخطه في ما يكرهه؛ حتى نفهم من معنى الحبّ وعدم الحبّ، الجانب العملي الإيجابي والسلبي من خطّ العمل، لا الجانب الوجداني الداخلي الذي لا يلتقي إلا بالعاطفة الذاتية الواقعة في خطّ الانفعال.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
أما هذه الطائفة الثّانية فتعاملهم مع الله وحده حيث يقدّمون أرواحهم رخيصة في سبيله، ولا يبتغون سوى رضاه، ولا يطلبون عزّة ورفعة الاّ بالله، وبتضحيات هؤلاء يصلح أمر الدّين والدنيا ويستقيم شأن الحقّ والحقيقة وتصفو حياة الإنسان وتثمر شجرة الإسلام.
ومن هنا يتّضح أنّ جملة {والله رؤوف بالعباد} بمثابة النقطة المقابلة لما ورد في الآية السابقة عن المنافقين المفسدين في الأرض {فحسبه جهنّم ولبئس المهاد}
وقد تكون إشارة إلى أن الله عزّ وجلّ في الوقت الّذي هو رحيم ورؤوف بالعباد هو الّذي يشري الأنفس بأغلى الأثمان وهو رضوان الله تعالى عن الإنسان. وممّا يسترعي النظر أنّ البائع هو الإنسان، والمُشتري هو الله تعالى، والبضاعة هي النفس، وثمنها هو رضوان الله تعالى، في حين نرى في موارد أخرى أنّ ثمن مثل هذه المعاملات هو الجنّة الخالدة والنجاة من النار، من قبيل قوله تعالى {إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنّة يقاتلون في سبيل الله فَيَقْتلُون ويُقْتَلون}
(التوبة: 111). ولعلّه لهذا السبب كانت {مِن} في الآية مورد البحث تبعيضية {ومن الناس}، يعني أنّ بعض الناس يستطيعون أن يقوموا بمثل هذه الأعمال الخارقة بحيث لا يطلبون عوضاً عن أرواحهم وأنفسهم سوى رضوان الله تعالى، وأمّا في الآية (111) من سورة التوبة التي ذكرناها سابقاً رأينا أنّ جميع المؤمنين قد دُعوا إلى التعامل والتجارة مع الله تعالى في مقابل الجنّة الخالدة.