وبعد أن تحدث - سبحانه - عن الإِفاضة من عرفة إلى المزدلفة وأمر بالإِكثار من ذكره ، عقب ذلك ببيان الطريقة المثلى للإِفاضة فقال : { ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس واستغفروا الله إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } :
أي : أفيضوا من عرفة لا من المزدلفة .
وهناك قولان في المخاطب بهذه الآية . .
أحدهما : أن الخطاب فيها لقريش وحلفائها ، وذلك لأنهم كانوا يترفعون على الناس ، فلا يقفون معهم على عرفات ، وإنما يقفون وحدهم بالمزدلفة ، وكانوا يقولون : نحن قطين الله - أي سكان حرمه فينبغي لنا أن نعظم الحرم - وهو المزدلفة - ولا نعظم شيئاً من الحل - وهو عرفات - .
روى البخاري عن عائشة - رضي الله عنها - قالت ، كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة ، وكانوا يسمون الحمس ، وكان سائر العرب يقفون بعرفات ، فلما جاء الإِسلام أمر الله - نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأتي عرفات ثم يقف بها ثم يفيض منها فذلك قوله : { ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس } .
والمعنى : أفيضوا يا معشر قريش من المكان الذي يفيض منه الناس وهو عرفة ، واتركوا ما تفعلونه من الإِفاضة من المزدلفة ، فالمقصود إبطال ما كانت تفعله قريش .
والثاني : أن الخطاب في الآية لجميع الناس ، أمرهم الله - تعالى - فيه أن يفيضوا من حيث أفاض الناس .
والمراد بالناس في الآية إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام -فإن سنتهما كانت الإِفاضة من عرفة لا من المزدلفة .
قال بعضهم : وإيقاع اسم الجمع على الواحد جائز إذا كان رئيساً يقتدى به كما في قوله - تعالى - : { الذين قَالَ لَهُمُ الناس } يعني " نعيم بن مسعود " .
والذي نراه أن القول الثاني أولى بالقبول ، لأن المغزى الذي تهدف إليه الآية في معناها الخاص والعام هو دعوة الناس جميعاً إلى التجمع في مكان واحد ليشعروا بالإِخاء والمساواة عند أدائهم لفريضة الحج بدون تفرقة بين كبير وصغير ، وغني وفقير ، وقرشي وغير قرشي ، ويدخل في النهي دخولا أولياً تلبك الحالة التي كانت عليها قريش . وقد قال العلماء : العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
و " ثم " للتفاوت المعنوي بين الإِفاضتين - إي الإِفاضة من عرفات والإِفاضة من مزدلفة - لبيان البعد بينهما ، إذ أن إحداهما صواب والأخرى خطأ .
أي : لا تفيضوا من المزدلفة لأنه خطأ جسيم ، واجعلوا أفاضتكم من عرفات لأن هذا العمل هو الصواب الذي يحبه الله ويرضاه .
وقوله : { واستغفروا الله إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } معطوف على { أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس } أي : استغفروا الله من ذنوبكم ومما سلف منكم من أخطاء فإن المؤمن كلما قويت روحه ، وصفت نفسه أحس بأنه مقصر أمام نعم خالقه التي لا تحصى ، ومن أكثر من التوبة والاستغفار غفر الله له ما فرط منه ، لأنه - سبحانه - كثير الغفران ، واسع الرحمة .
{ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } ( 199 )
قال ابن عباس وعائشة وعطاء وغيرهم : المخاطب بهذه الآية قريش ومن ولدت وهم الحمس ، وذلك أنهم كانوا يقولون نحن قطين الله( {[1890]} ) فينبغي لنا أن نعظم الحرم ولا نعظم شيئاً من الحل ، فسنوا شق الثياب في الطواف إلى غير ذلك وكانوا مع معرفتهم وإقرارهم أن عرفة هي موقف إبراهيم لا يخرجون من الحرم ويقفون بجمع ويفيضون منه ، ويقف الناس بعرفة ، فقيل لهم أن يفيضوا مع الجملة( {[1891]} ) ، و { ثم } ليست في هذه الآية للترتيب ، إنما هي لعطف جملة كلام على جملة هي منها منقطعة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحمس ، ولكنه كان يقف مذ كان بعرفة ، هداية من الله .
وقال الضحاك : «المخاطب بالآية جملة الأمة » والمراد ب { الناس } إبراهيم عليه السلام كما قال : { الذين قال لهم الناس } [ آل عمران : 173 ] وهو يريد واحداً( {[1892]} ) ، ويحتمل على هذا أن يؤمر بالإفاضة من عرفة ، ويحتمل أن تكون إفاضة أخرى وهي التي من المزدلفة فتجيء { ثم } على هذا الاحتمال على بابها( {[1893]} ) ، وعلى هذا الاحتمال عول الطبري ، وقرأ سعيد بن جبير «الناسي »( {[1894]} ) وتأوله آدم عليه السلام ، ويجوز عند بعضهم تخفيف الياء فيقول الناس كالقاض والهاد .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : أما جوازه في العربية فذكره سيبويه ، وأما جوازه مقروءاً به فلا أحفظه( {[1895]} ) ، وأمر تعالى بالاستغفار لأنها مواطنه ومظان القبول ومساقط الرحمة ، وفي الحديث( {[1896]} ) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب عشية عرفة فقال : «أيها الناس ، إن الله عز وجل قد تطاول عليكم في مقامكم هذا ، فقبل من محسنكم ووهب مسيئكم لمحسنكم إلا التبعات فيما بينكم ، أفيضوا على اسم الله » ، فلما كان غداة جمع ، خطب فقال : «أيها الناس إن الله تطاول عليكم فعوض التبعات من عنده » .
وقالت فرقة : المعنى واستغفروا الله من فعلكم الذي كان مخالفاً لسنة إبراهيم في وقوفكم بقزح( {[1897]} ) من المزدلفة .
الذي عليه جمهور المفسرين أن ثم للتراخي الإخباري للترقى في الخبر وأن الإفاضة المأمور بها هنا هي عين الإفاضة المذكورة في قوله تعالى : { فإذا أفضتم من عرفات } [ البقرة : 198 ] وأن العطف بثم للعودة إلى الكلام على تلك الإفاضة .
فالمقصود من الأمر هو متعلق { أفيضوا } أي قوله : { من حيث أفاض الناس } إشارة إلى عرفات فيكون متضمناً الأمر بالوقوف بعرفة لا بغيرها إبطالاً لعمل قريش الذين كانوا يقفون يوم الحج الأكبر على ( قُزَح ) المسمى بجمع وبالمشعر الحرام فهو من المزدلفة وكان سائر العرب وغيرهم يقف بعرفات فيكون المراد بالناس في جمهورهم من عدا قريشاً .
عن عائشة أنها قالت : كانت قريش ومن دَان دينها يقفون بيوم عرفة في المزدلفة وكانوا يسمون الحمس وكان سائر العرب يقفون بعرفة فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه أن يأتي عرفات ثم يقف بها ثم يفيض منها فذلك قوله تعالى : { ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس } اهـ فالمخاطب بقوله : { أفيضوا } جميع المسلمين والمراد بالناس عموم الناس يعني من عدا قريشاً ومن كان من الحمس الذين كانوا يفيضون من المزدلفة وهم قريش ومن ولدوا وكنانة وأحلافهم .
روى الطبري عن ابن أبي نجيح قال : كانت قريش لا أدري قبل الفيل أم بعده ابتدعت أمر الحمس رأياً قالوا : نحن ولاة البيت وقاطنو مكة فليس لأحد من العرب مثل حقنا ولا مثل منزلنا فلا تعظموا شيئاً من الحللِ كما تعظمون الحرم يعني لأن عرفة من الحل فإنكم إن فعلتم ذلك استخفت العرب بحرَمكم وقالوا : قد عظموا من الحل مثلَ ما عظموا من الحرم فلذلك تركوا الوقوف بعرفة والإفاضة منها وكانت كنانة وخزاعة قد دخلوا معهم في ذلك اه ، يعني فكانوا لا يفيضون إلاّ إفاضة واحدة بأن ينتظروا الحجيج حتى يردوا من عرفة إلى مزدلفة فيجتمع الناس كلهم في مزدلفة ولعل هذا وجه تسمية مزدلفة بجمع ، لأنها يجمع بها الحمس وغيرهم في الإفاضة فتكون الآية قد ردت على قريش الاقتصار على الوقوف بمزدلفة .
وقيل : المراد بقوله : { ثم أفيضوا } الإفاضة من مزدلفة إلى منى ، فتكون ( ثم ) للتراخي والترتيب في الزمن أي بعد أن تذكروا الله عند المشعر الحرام وهي من السنة القديمة من عهد إبراهيم عليه السلام فيما يقال ، وكان عليها العرب في الجاهلية وكانت الإجازة فيها بيد خُزاعة ثم صارت بعدهم لبني عَدْوان من قيس عَيلان ، وكان آخرُ من تولى الإجازة منهم أبا سَيَّارة عُمَيلة بن الأعزل أجاز بالناس أربعين سنة إلى أن فتحت مكة فأبطلت الإجازة وصار الناس يتبعون أمير الحج ، وكانوا في الجاهلية يخرجون من مزدلفة يوم عاشر ذي الحجة بعد أن تطلع الشمس على ثَبير وهو أعلى جبلٍ قُرب منى وكان الذي يُجيز بهم يقف قبيل طلوع الشمس مستقبل القبلة ويدعو بدعاء يقول فيه : « اللهم بَغِّض بين رعائنا ، وحَبِّب بين نسائنا ، واجعل المال في سُمَحائنا ، اللهم كن لنا جاراً ممن نخافه ، أَوْفُوا بعهدكم ، وأكرموا جاركم ، واقروا ضيفكم » ، فإن قرب طلوع الشمس قال : « أَشْرِقْ ثَبير كيما نُغير » ويركب أبو سيارة حماراً أسود فإذا طلعت الشمس دَفَع بهم وتبعه الناس وقد قال في ذلك راجزهم :
خَلُّوا السبيلَ عن أبي سَيَّارهْ *** وعن مَواليه بني فَزارهْ
حتَّى يُجيز سالماً حِمــارَه *** مستقبل القبلةِ يَدْعو جَارهْ
أي يدعو الله تعالى لقوله : « اللهم كن لنا جاراً ممن نخافه .
فقوله : { من حيث أفاض الناس } أي من المكان الذي يفيض منه سائر الناس وهو مزدلفة . وعبر عنه بذلك لأن العرب كلهم يجتمعون في مزدلفة ، ولولا ما جاء من الحديث لكان هذا التفسير أظهر لتكون الآية ذكرت الإفاضتين بالصراحة وليناسب قوله بعد : { فإذا قضيتم مناسككم } [ البقرة : 200 ] .
وقوله : { من ربكم } عطف على { أفيضوا من حيث أفاض الناس } أمرهم بالاستغفار كما أمرهم بذكر الله عند المشعر الحرام . وفيه تعريض بقريش فيما كانوا عليه من ترك الوقوف بعرفة .