ثم توعدهم - سبحانه - بسوء المصير بسبب افترائهم الكذب فقال : { وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ . . . } والجعل هنا بمعنى القول والحكم على الشئ ، كما تقول جعلت زيدا أفضل الناس ، أى حكمت عليه بذلك .
أى : أن هؤلاء المشركين زعموا وحكموا بأن الملائكة الذين هم عباد الرحمن ، وصفوة خلقه ، وأهل طاعته ، وزعموا أنهم إناث ، فهل كانوا حاضرين وقت أن خلقناهم حتى حكموا عليهم بهذا الحكم الباطل ؟
كلا إنهم لم يكونوا حاضرين ، ولذا { سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ } فى صحائف أعمالهم المليئة بالسيئات { وَيُسْأَلُونَ } عنها سؤال تأنيب وتوبيخ يوم القيامة .
فالمراد بالكتابة والسؤال : معاقبتهم على افترائهم الكذب . وتجهيلهم فيما قالوه ،
ولما فرغ تعنيفهم على ما أتوا في جهة الله تعالى بقولهم : الملائكة بنات الله ، بين تعالى فساداً في مقالتهم بعينها من جهة أخرى من الفساد ، وذلك شنيع قولهم في عباد الله مختصين مقربين أنهم إناث .
وقرأ أكثر السبعة وابن عباس وابن مسعود وابن جبير وعلقمة : «عباد الرحمن إناثاً » . وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر والحسن وأبو رجاء وأبو جعفر والأعرج وشيبة وقتادة وعمر بن الخطاب رضي الله عنه : «عند الرحمن إناثاً » وهذه القراءة أدل على رفع المنزلة وقربها في التكرمة كما قيل : ملك مقرب ، وقد يتصرف المعنيان في كتاب الله تعالى في وصف الملائكة في غير هذه الآية فقال تعالى : { بل عباد مكرمون }{[10190]} ، وقال تعالى في أخرى : { فالذين عند ربك }{[10191]} ، وفي مصحف ابن مسعود : «وجعلوا الملائكة عبد الرحمن إناثاً » .
وقرأ نافع وحده «أَأُشهدوا » بالهمزتين وبلا مد بينهما ، وبفتح الأولى وضم الثانية وتسهيلها بين الهمزة والواو ، ورواها المفضل عن عاصم بتحقيق الهمزتين . وقرأ المسيبي عن نافع بمد بين الهمزتين . وقرأ أبو عمرو ونافع أيضاً وعلي بن أبي طالب وابن عباس ومجاهد : «أ . شهدوا » بتسهيل الثانية بلا مد . وقرأ جماعة من القراء بالتسهيل في الثانية ومدة بينهما . وقرأ آخرون : «أشهدوا » بهمزة واحدة بغير استفهام ، وهي قراءة الزهري ، وهي صفة الإناث ، أي مشهداً خلقهم .
ومعنى الآية : التوبيخ وإظهار فساد عقولهم ، وادعائهم وأنها مجردة من الحجة ، وهذا نظير الآية الرادة على المنجمين وأهل البضائع ، وهي قوله تعالى : { ما أشهدتم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم }{[10192]} الآية .
وقرأ جمهور الناس : «ستُكتب شهادتُهم » برفع الشهادة وبناء الفعل للمفعول . وقرأ الأعرج وابن عباس وأبو جعفر وأبو حيوة . «سنكتب » بنون الجمع «شهادتَهم » بالنصب وقرأت فرقة : «سيكتب » بالياء على معنى : سيكتب الله «شهادتَهم » بالنصب . وقرأ الحسن بن أبي الحسن : «ستُكتب شهاداتُهم » على بناء الفعل للمفعول وجمع الشهادات .
وفي قوله تعالى : { ويسألون } وعيد مفصح . و : { أشهدوا } في هذه الآية معناه : أحضروا وليس ذلك من شهادة تحمل المعاني التي تطلب أن تؤدى .
عَطف على { وجعلوا له من عباده جزءاً } [ الزخرف : 15 ] ، أعيد ذلك مع تقدم ما يغني عنه من قوله : { أم اتخذَ مما يخلق بناتٍ } [ الزخرف : 16 ] ليبْنَى عليه الإنكار عليهم بقوله : { أَأُشهدوا خلقهم } استقراء لإبطال مقالهم إذ أُبطل ابتداءً بمخالفته لدليل العقل وبمخالفته لما يجب لله من الكمال ، فكمُل هنا إبطاله بأنه غير مستند لدليل الحس .
وجملة { الذين هم عند الرحمن } صفة الملائكة . قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وأبو جعفر ويعقوب { عند } بعين فنون ودال مفتوحة والعندية عندية تشريف ، أي الذين هم معدودون في حضرة القدس المقدسة بتقديس الله فهم يتلقون الأمر من الله بدون وساطة وهم دائبون على عبادته ، فكأنهم في حضرة الله ، وهذا كقوله : { وله ما في السماوات والأرض ومَن عنده } [ الأنبياء : 19 ] وقوله : { إن الذين عند ربّك لا يستكبرون عن عبادته } [ الأعراف : 206 ] ومِنْه قول النبي صلى الله عليه وسلم « تحاجَّ آدمُ وموسى عندَ الله عز وجل » الحديث ، فالعندية مجاز والقرينة هي شأن من أضيف إليه { عِنْد } .
وقرأ الباقون { عِبَادُ الرحمن } بعين وموحدة بعدها ألف ثم دال مضمومة على معنى : الذين هم عباد مُكرمون ، فالإضافة إلى اسم الرحمان تفيد تشريفهم قال تعالى : { بل عبادٌ مكرمون } [ الأنبياء : 26 ] والعبودية عبودية خاصة وهي عبودية القرب كقوله تعالى : { فكذّبوا عَبْدنَا } [ القمر : 9 ] .
وجملة { أَأُشهدوا خلقهم } معترضة بين جملة { وجعلوا الملائكة } وجملةِ { وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم } [ الزخرف : 20 ] .
وقرأ نافع وأبو جعفر بهمزتين أولاهما مفتوحة والأخرى مضمومة وسكون شين { أَأُشْهدوا } مبنياً للنائب وكيفية أداء الهمزتين يَجري على حكم الهمزتين في قراءة نافع ، وعلى هذه القراءة فالهمزة للاستفهام وهو للإنكار والتوبيخ . وجيء بصيغة النائب عن الفاعل دون صيغة الفاعل لأن الفاعِل معلوم أنه الله تعالى لأن العالَم العلوي الذي كان فيه خلق الملائكة لا يحضره إلا مَن أمر الله بحضوره ، ألا ترى إلى ما ورد في حديث الإسراء من قول كُلّ ملَك موكَّللٍ بباب من أبواب السماوات لِجبريل حين يستفتح ( من أنت ؟ قال : جبريل ، قال : ومن معك ؟ قال : محمد قال : وقد أرسل إليه ؟ قال : نعم ، قال : مرحباً ونعم المجيء جاء وفتح له ) .
والمعنى : أأشهدهم الله خلق الملائكة وكقوله تعالى : { ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض } [ الكهف : 51 ] .
وقرأه الباقون بهمزة مفتوحة فشين مفتوحة بصيغة الفعل ، فالهمزة لاستفهام الإنكار دخلت على فعل شَهِد ، أي ما حضروا خلق الملائكة على نحو قوله تعالى : { أم خلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون } [ الصافات : 150 ] .
وجملة { ستكتب شهادتهم } بدل اشتمال من جملة { أَأُشهدوا خلقهم } لأن ذلك الإنكار يشتمل على الوعيد . وهذا خبر مستعمل في التوعد . وكتابة الشهادة كناية عن تحقق العقاب على كذبهم كما تقدم آنفاً في قوله : { وإنه في أُم الكتاب لدينا لعليٌّ حكيم } [ الزخرف : 4 ] ومنه قوله تعالى : { سنكتب ما قالوا } [ آل عمران : 181 ] . والسِّين في { ستكتب } لتأكيد الوعيد .
والمراد بشهادتهم : ادعاؤهم أن الملائكة إناثاً ، وأطلق عليها شهادة تهكماً بهم .
والسؤال سؤال تهديد وإنذار بالعقاب وليس مما يتطلب عنه جواب كقوله تعالى : { ثم لتُسألُنّ يومئذٍ عن النعيم } [ التكاثر : 8 ] ، ومنه قول كعب بن زهير :
لَذاكَ أهيبُ عندي إذْ أُكلمه *** وقيل إنّك مَنْسُوبٌ ومَسْؤول
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.