اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَجَعَلُواْ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةَ ٱلَّذِينَ هُمۡ عِبَٰدُ ٱلرَّحۡمَٰنِ إِنَٰثًاۚ أَشَهِدُواْ خَلۡقَهُمۡۚ سَتُكۡتَبُ شَهَٰدَتُهُمۡ وَيُسۡـَٔلُونَ} (19)

قوله : { وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً } جعلوا أي حكموا به{[49709]} .

وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر : «عِنْدَ الرَّحْمَن » ظرفاً{[49710]} ويؤيده قوله : { إِنَّ الذين عِندَ رَبِّكَ } [ الأعراف : 206 ] والباقون «عباد » جمع عَبْد والرسم يحتملها . وقرأ الأعمش كذلك ، إلا أنه نصب «عباد » على إضمار فِعْل ، أي الذين هم خُلِقُوا عِبَاداً ونحوه{[49711]} وقرأ عبد الله وكذلك هي في مصحفه الملائكة عبادَ الرحمن{[49712]} وأبي عبد الرحمن بالإفراد{[49713]} ، وإناثاً هو المفعول الثاني للجَعْلِ بمعنى الاعتقاد أو التصيير القولي . وقرأ زَيْدُ بْنُ عِليّ : أُنُثاً جمعُ الجَمْعِ{[49714]} .

قوله : «أَشَهِدُوا » قرأ نافع بهمزة مفتوحة ، ثم بأخرى مضمومة مُسَهَّلةٍ بينها وبين الواو وسكون الشين على ما لم يسمّ فاعله أي أحَضَرُوا خَلْقَهُمْ حين خلقوا ، كقوله : { أَمْ خَلَقْنَا الملائكة إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ }{[49715]} [ الصافات : 150 ] . وهذا استفهام على سبيل الإنكار . وقرأ قالون ذلك بالمد يعني بإدخَال ألِفٍ بين الهمزتين ، والقصر يعني بعدم الألف . الباقون بفتح الشين بعد همزة واحدة{[49716]} . فنافع أدخل همزة للتوبيخ على «أَشَهِدُوا » فعلاً رباعياً مَبْنيًّا للمفعول فسهّل همزته الثانية وأدخل ألفاً بينهما كراهة لاجتماعهما ، وتارة لم يدخلها اكتفاء بتسهيل الثانية وهي أَوْجَهُ{[49717]} . والباقون أدخلوا همزة الإنكار على «شَهِدُوا » ثلاثياً{[49718]} . ولم ينقل أبو حيان عن نافع تسهيلَ الثانية . بل نقله عن عليِّ بْنِ أبي طالبٍ{[49719]} .

وقرأ الزهري أُشْهِدُوا رباعياً مبنياً للمفعول{[49720]} وفيه وجهان :

أحدهما : أن يكون حذف الهمزة لدلالة القراءة الأخرى عليها ، كما تقدم في قراءة أَعْجَميٌّ .

والثاني : أن تكون الجملة خبرية ، وقعت صفة لإناثاً ، أي أجَعَلُوهُمْ إنَاثاً مَشْهُوداً{[49721]} خَلْقَهُمْ كذلك .

قوله : { سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ } قرأ العام ستُكْتَب بالتاء من فوق مبنياً للمفعول «شهادتهم » بالرفع لقيامه مقام الفاعل ؟ وقرأ الحسن : شَهَادَاتُهُمْ بالجَمْع{[49722]} ، والزُّهْريُّ : سَيَكْتُبُ بالياء من تحت{[49723]} وهو{[49724]} في الباقي كالعامة . وابن عباس وزيدُ بْنُ عليّ وأبو جعفر وأبو حَيْوَةَ سَنَكْتُبُ بنون العظمة{[49725]} شَهَادَتَهُمْ بالنصب مفعولاً به .

فصل

المعنى سنكتب شهادتهم على الملائكة أنهم بنات الله ويسألون عنها . قال الكلبي ومقاتل : لما قالوا هذا القول سألهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما يُدْرِيكُمْ أنهم إناث ؟ قالوا : سمعنا من آبائنا ونحن نشهد أنهم لَمْ يُكَذِّبُوا فقال الله تعالى : { سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ } عنها في الآخرة وهذا يدل على أن القول بغير دليل منكر ، وأن التقليد حرام يوجب الذم العظيم ، والعقاب الشديد .

قال المحققون : هؤلاء الكفار كفروا في هذا القول من ثلاثة أوجه :

أولها : إثبات الولد .

ثانيها : أن ذلك الولد بنت .

وثالثها : الحكم على هؤلاء الملائكة بالأنوثة{[49726]} .

فصل

احتج من قال بتفضيل الملائكة على البشر بهذه القراءات ، أما قراءة «عِنْدَ » بالنون ، فهذه العندية لا شك أنها عندية الفضل والقرب من الله تعالى بسبب الطاعة ولفظة «هُمْ » يوجب الحصر والمعنى أنهم هم الموصوفون بهذه العندية لا غيرهم ، فوجب كونهم أفضل من غيرهم ، رعاية للفظ الدال على الحَصْرِ{[49727]} .

وأما قراءة عِبَاد جمع «العَبْد » فقد تقدم أن لفظ العباد في القرآن مخصوصٌ بالمؤمنين ، فقوله «عِبَاد الرَّحْمَنِ » يفيد حَصْرَ العُبُودِيَّة فيهم ، فَإذَا كَانَ اللَّفظُ الدّالُ على العُبُوديَّة دالاً على حصر الفضل والقرب والشرف لهم وجب كونهم أفضل ؛ والله أعلم{[49728]} .


[49709]:قاله الزجاج في مرجعه السابق.
[49710]:قراءة سبعية متواترة ذكرها مكي في الكشف 2/256، وابن خالويه في الحجة 320، كما ذكرها صاحبها الإتحاف والبحر 685 و8/10.
[49711]:شاذة ذكرها ابن خالويه في مختصره 135 قال: "هي في مصحف ابن مسعود كذلك".
[49712]:المرجع السابق.
[49713]:ذكرها أبو حيان في البحر المحيط 8/10، قال: "ومعناه الجمع لأنه اسم جنس".
[49714]:المرجع السابق وجمع الجمع هو أنث جمعا للجمع إناث جمع لأنثى المفرد.
[49715]:150 من الصافات وانظر الإتحاف 385 والسبعة 585 أقول وقد ورد عن نافع: أو شهدوا، والباقون عن نافع لا يمدون، وانظر السبعة المرجع السابق.
[49716]:انظر إتحاف فضلاء البشر 385 والدر المصون 4/777.
[49717]:انظر الكشف في القراءات السبع 2/357 وحجة ابن خالويه 321.
[49718]:المراجع السابقة وانظر في هذا كله الدر المصون 4/777.
[49719]:قال: "وعلي بن أبي طالب وابن عباس ومجاهد في رواية أبي عمرو ونافع بتسهيل الثانية بلا مد".
[49720]:نقلها أبو الفتح بن جني في المحتسب 2/354 وهي شاذة وكذا نقلها الإمام القرطبي 16/73.
[49721]:الأفصح ـ كما في المحتسب ـ مشهدا. وهذان التوجيهان نقلهما ابن جني في المحتسب المرجع السابق بالمعنى. وانظر القراءة المشار إليها في سورة فصلت.
[49722]:نقلها صاحب الإتحاف 385، وصاحب المختصر وهي من الأربع فوق العشر المتواتر.
[49723]:ولم ينسبها أبو حيان في البحر 8/10، بل نسبها صاحب الدر المصون 4/777 وهي من الشواذ غير المتواترة.
[49724]:أي الزهري في باقي الآية.
[49725]:نسبها القرطبي إلى السلمي وابن السميقع، وهبيرة عن حفص وابن خالويه في المختصر 321 نسبها للأعرج وما هو أعلى موافق لما في البحر المحيط لأبي حيان 8/10 والدر المصون للسمين 4/777.
[49726]:الرازي 27/202 و203.
[49727]:السابق أيضا.
[49728]:الرازي المرجع السابق.