التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{حُرِّمَتۡ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةُ وَٱلدَّمُ وَلَحۡمُ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦ وَٱلۡمُنۡخَنِقَةُ وَٱلۡمَوۡقُوذَةُ وَٱلۡمُتَرَدِّيَةُ وَٱلنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيۡتُمۡ وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ وَأَن تَسۡتَقۡسِمُواْ بِٱلۡأَزۡلَٰمِۚ ذَٰلِكُمۡ فِسۡقٌۗ ٱلۡيَوۡمَ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمۡ فَلَا تَخۡشَوۡهُمۡ وَٱخۡشَوۡنِۚ ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗاۚ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ فِي مَخۡمَصَةٍ غَيۡرَ مُتَجَانِفٖ لِّإِثۡمٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (3)

ثم شرع - سبحانه - في بيان المحرمات التي أشار إليها قبل ذلك بقوله : { إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ } فبين ما يحرم أكله من الحيوان لأسباب معينة فقال - تعالى - :

{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم . . . }

في هذه المحرمات يتلى في قوله - تعالى - : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة } . .

والميتة كما يقول ابن جرير - كل ما له نفس - أي دم ونحوه - سائلة من دواب البر وطيره ، مما أباح الله أكلها . أهليها ووحشيها فارقتها روحها بغير تذكية .

وقال : بعضهم : الميتة : هو كل ما فارقته الحياة من دواب البر وطيره بغير تذكية شرعية ، مما أحل الله أكله " أي : حرم الله عليكم - أيها المؤمنون - أكل الميتة لخبث لحمها ، ببقاء بعض المواد الضارة في جسمها .

وقد أجمع العلماء على حرمة أكل الميتة ، أما شعرها وعظمها فقال الأحناف بطارتهما وبجواز الانتفاع بهما . وقال الشافعية بنجاستهما وبعدم جواز استعمالهما .

وقد استثنى العلماء من الميتة المحرمة السمك والجراد . فقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث ابن أبي أوفي قال : " غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد " .

وفيهما - أيضاً - من حديث جابر ، " إن البحر ألقى حوتاً ميتاً فأكل منه الجيش . فلما قدموا قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : فقال : " كلوا رزقاً أخرجه الله لكم : أطعمونا منه إن كان معكم . فأتاه بعضهم بشيء منه " .

وعن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " أحل لنا ميتتان ودمان ، فأما الميتتان فالسمك والجراد . وأما الدمان فالكبد والطحال " .

وثاني هذه المحرمات ما ذكره - سبحانه - في قوله : { والدم } أي : وحرم عليكم أكل الدم .

والمراد به : الدم المسفوح . أي السائل من الحيوان عند التذكية . لقوله - تعالى - في آية أخرى { أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً } وهي خاصة . والآية التي معنا عامة . والخاص مقدم على العام .

وكان أهل الجاهلية يجعلونه في الماعز ويشوونه ويأكلونه ، فحرمه الله - تعالى - لأنه يضر الأجسام . أما الدم الذي يكون جامداً بأصل خلقته كالكبد والطحال فإنه حلال كما جاء في حديث ابن عمر الذي سقناه منذ قليل .

وثالث هذه المحرمات ما جاء في قوله - تعالى - { وَلَحْمُ الخنزير } أي : وحرم عليكم لحم الخنزير وكذلك شحمه وجلده وجميع أجزائه ، لأنهن مستقذر تعافه الفطرة ، وتتضرر به الأجسام .

وخص لحم الخنزير بالذكر مع أن جميع أجزائه محرمة لأنه هو المقصود بالأكل قال ابن كثير ما ملخصه : وقوله - تعالى - : { وَلَحْمُ الخنزير } يعني إنسيه ووحشية ، واللحم يعم جميع أجزائه حتى الشحم . كما هو المفهوم من لغة العرب ، ومن العرف المطرد . . وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام . فقيل : يا رسول الله ، أرأيت شحوم الميتة فإنها تطلى بها السفن ، وتدهن بها الجلود . ويستصبح بها الناس ؟ فقال : لا . هو حرام : ثم قال : قاتل الله اليهود . إن الله لما حرم شحومها جملوه - أي أذابوه - ثم باعوه فأكلوا ثمنه " .

ورابع هذه المحرمات بينه - سبحانه - بقوله : { وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ } .

الإِهلال : رفع الصوت عند رؤية الهلال ثم استعمل لرفع الصوت مطلقاً . ومنه : إهلال الصبي أي : صراخه بعد ولادته ، والإِهلال بالحج أي رفع الصوت بالتلبية .

وكانوا في الجاهلية إذا أرادوا ذبح ما قربوه إلى آلهتهم ، سموا عليها أسماءها - كاللات والعزى - ورفعوا بها أصواتهم ، وسمي ذلك إهلالا . ثم توسع فيه فقيل لكل ذابح : مهل سمي أو لم يسم . جهر بالتسمية أو لم يجهر .

والمعنى : وحرم عليكم - سبحانه - أن تأكلوا مما ذبح فذكر عليه عند ذبحه غير اسم الله - تعالى - سواء اقتصر على ذكر غيره كقوله عند الذبح باسم الصنم فلان ، أو باسم المسيح أو عزير أو فلان ، أو جمع بين ذكر الله وذكر غيره بالعطف عليه كقوله : باسم الله واسم فلان .

أما إذا جمع الذابح بين اسم الله واسم غيره بدون عطف بأن قال : باسم الله المسيح نبي الله ، أو باسم الله محمد رسول الله ، فالأحناف يجوزون الأكل من الذبيحة ويعتبرون ذكر غير الله كلاماً مبتدأً بخلاف العطف فإنه يكون نصا في ذكر غير الله .

وجمهور العلماء يحرمون الأكل من الذبيحة متى ذكر مع اسم الله آخر سواء أكان ذلك بالعطف أو بدونه .

وذهب جماعة من التابعين إلى تخصيص الغير بالأصنام ، وإلى حل ذبائح أهل الكتاب مطلقاً والتحريم هنا ليس لذات الحيوان ، بل لما صحبه من عمل فيه شرك بالله - تعالى -

ثم ذكر - سبحانه - أربعة أنواع أخرى من المحرمات فقال : { والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة } .

والمنخنقة : هي التي تموت خنقاً إما قصداً بأن يخنقها آدمي . وإما اتفاقاً بأن يعرض لها من ذاتها ما يخنقها .

والموقوذة : هي التي تضرب بمثقل غير محدد كخشب أو حجر حتى تموت وكانوا في الجاهلية يضربون البهيمة بالعصى حتى إذا ماتت أكلوها .

والوقذ : شدة الضرب . وفلان وقيذ أي : مثخن ضرباً . ويقال : وقذه يقذه وقذا : ضربه ضرباً حتى استرخى وأشرف على الموت .

قال القرطبي : وفي صحيح مسلم عن عدي بن حاتم قال " قلت يا رسول الله فإني أرمي الصيد فأصيب ؟ - والمعراض : وهو سهم يرمى به بلا ريش وأكثر ما يصيب بعرض عوده دون حده - فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا رميت بالمعراض فخزق - أي نفذ وأسال الدم - فكله . وإن أصاب بعرضه فلا تأكله " .

والمتردية : هي التي تتردى أي : تسقط من أعلى إلى أسفل فتموت من التردي مأخوذ من الردى بمعنى الهلاك سواء تردت بنفسها أم رداها غيرها .

والنطيحة : هي التي تنطحها أخرى فتموت من النطاح يقال : نطحه ينطحه وينطحه أي أصابه بقرنه .

والمعنى : وحرم الله عليكم كذلك - أيها المؤمنون - الأكل من المنخنقة ، والموقوذة ، والمتردية ، والنطيحة ، إذا ماتت كل واحدة من هذه الأنواع لهذه الأسباب دون أن تذكوها ذكاة شرعية ، لأن الأكل منها في هذه الحالة يعود عليكم بالضرر .

وتاسع هذه المحرمات ذكره - سبحانه - في قوله : { وَمَآ أَكَلَ السبع إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ } .

المراد بالسبع كل ذي ناب وأظفار من الحيوان . كالأسد والنمر والذئب ونحوها من الحيوانات المفترسة .

وقوله { ذَكَّيْتُمْ } من التذكية وهي الإتمام . يقال : ذكيت النار إذا أتممت اشتعالها .

والمراد هنا : إسالة الدم وفرى الأوداج في المذبوح ، والنحر في المنحور .

والمعنى : وحرم عليكم - أيضاً - الأكل مما افترسه السبع حتى مات سواء أكل منه أم لم يأكل ، إلا ما أدركتموه من هذه الأنواع وقد بقيت فيه حياة يضرب معها اضطراب المذبوح وذكيتموه أي ذبحتموه ذبحا شرعياً : فإنه في هذه الحالة يحل لكم الأكل منه . فقوله { إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ } الاستثناء هنا يرجع إلى هذه الأنواع الخمسة .

وقيل : إن الاستثناء هنا مختص بقوله : { وَمَآ أَكَلَ السبع } .

أي : وحرم عليكم ما أكل السبع بعضه فمات بسبب جرحه ، إلا ما أدركتموه حيا فذكيتموه ذكاة شرعية فإنه في هذه الحالة يحل الأكل منه ، والأول أولى ، لأن هذه الأنواع الخمسة تشترك في أنها تعلقت بها أحوال قد تفضي بها إلى الهلاك ، فإن هلكت بتلك الأحوال لم يبح أكلها لأنها حينئذ ميتة ، وإذا أدركت بالذكاة في وقت تنفع فيه الذكاة لها جاز الأكل منها .

أما النوع العاشر في هذه المحرمات فيتجلى في قوله - تعالى - { وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب } والنصب : جمع نصاب : ككتب وكتاب . أو جمع نصب كسقف وسقف . ويصح أن يكون لفظ النصب واحداً وجمعه أنصاب مثل : طنب أطناب .

وعلى كل فهي حجارة كان الجاهليون ينصبونهها حول الكعبة ، وكان عددها ثلاثمائة وستين حجراً ، وكانوا يذبحون عليها قرابينهم التي يتقربون بها إلى أصنامهم . ويعتبرون الذبح أكثر قربة إلى معبوداتهم متى تم على هذه النصب . وليست هذه النصب هي الأوثان ، فإن النصب حجارة غير منقوشة بخلاف الأوثان فإنها حجارة مصورة منقوشة .

والمعنى : وحرم عليكم - سبحانه - أن تأكلوا مما ذبح على النصب لأنه لم يتقرب به إلى الله ، وإنما تقرب به إلى الأصنام وما تقرب به إلى غير الله فهو فسق ورجس يجب البعد عنه .

هذه عشرة أنواع من المأكولان حرمت الآية الكريمة الأكل منها ، لما اشتملت عليه من مضرة وأذى ، ولما صاحب بعضها من تقرب لغير الله ، ويكفى لتجنب الأكل من هذه المطعومات أن وأذى ، ولما صاحب بعضها من تقرب لغير الله ، ويكفى لتجنب الأكل من هذه المطعومات أن الله - تعالى - قد حرمها ، لأنه - سبحانه - لا يحرم الخبائث .

ومن شأن المؤمن الصادق في إيمانه أن يقف عند ما أحله الله - تعالى - وحرم .

ثم ذكر - سبحانه - نوعا من الأفعال المحرمة ، بعد ذكره لعشرة أنواع من المطاعم المحرمة فقال : { وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالأزلام ذلكم فِسْقٌ } .

وإنما ذكر - سبحانه - هذا الفعل المحرم مع جملة المطاعم المحرمة ، لأنه مما ابتدعه أهل الجاهلية ؛ كما ابتدعوا ما ابتدعوه في شأن المطاعم .

والاستقسام : طلب معرفة ام قسم للإِنسان من خير أو شر .

والأزلام : قداح الميسر واحدها زلم - بفتح اللام وبفتح الزاي أو ضمها - وسميت قداح الميسر بالأزلام ، لأنها زلمت أي سويت ، ويقال : رجل مزلم وامرأة مزلمة ، إذا كان جيد القد ، جميل القوام .

وكان لأهل الجاهلية طرق للاستقسام بالأزلام من أشهرها : أنه كانت لديهم سهام مكتوب على أحدها : أمرني ربي وعلى الآخر : نهاني ربي . والثالث غفل من الكتابة ، فإذا أرادوا سفراص أو حرباً أو زواجاً أو غير ذلك أتوا إلى بيت الأصنام واستقسموها فإن خرج الآمر أقدموا على ما يريدونه وإن خرج الناهي امسكوا عنه ، وإن خرج الغفل أجالوها ثانية حتى يخرج الآمر أو الناهي .

والمعنى : وحرم عليكم - سبحانه - أن تطلبوا معرفة ما قسم لكم في سفر أو غزو أو زواج أو ما يشبه ذلك بواسطة الأزلام ، لأن هذا الفعل فسق ، أي : خروج عن أمر الله وطاعته .

فاسم الإِشارة " ذلكم " يعود إلى الاستقسام بالأزلام خاصة . ويجوز أن يعود إليه وإلى تناول ما حرم عليهم .

قال ابن كثير : وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل الكعبة ، وجد إبراهيم وإسماعيل مصورين فيها . وفي أيديهما الأزلام . فقال صلى الله عليه وسلم : " قاتلهم الله . لقد علموا أنهما لم يستقسما بها أبدا " .

وثبت في الصحيحين أيضاً " أن سراقة بن مالك بن جعشم لما خرج في طلب النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ، وهما ذاهبان إلى المدينة مهاجرين : قال فاستقسمت بالأزلام . هل أضرهم أولا ؟ فخرج الذي أكره : لا تضرهم . قال : فعصيت الأزلام واتبعتهم . ثم استقسم بها ثانية وثالثة . كل ذلك يخرج الذي يكره : لا تضرهم . وكان كذلك وكان سراقة لم يسلم إذ ذاك ، ثم أسلم بعد ذلك " .

فإن قيل إن الاستقسام بالأزلام هو لون من التفاؤل ، وكان صلى الله عليه وسلم يحب الفأل الحسن فلم صار فسقاً ؟

فالجواب أن هناك فرقا واسعاً بين الاستقسام بالأزلام وبين الفأل ؛ فإن الفأل أمر اتفاقي تنفعل به النفس وتنشرح للعمل مع رجاء الخير منه بخلاف الاستقسام بالأزلام فإن القوم كانوا يستقسمون بالأزلام عند الأصنام ويعتقدون أن ما يخرج من الأمر والنهي على تلك الأزلام بإرشاد من الأصنام فلهذا كان الاستقسام بها فسقا وخروجا عن طاعة الله .

وفضلا عن هذا فإن الاستقسام بالأزلام طلب لمعرفة علم الغيب الذي استأثر الله به ، وذلك حرام وافتراء على الله - تعالى - .

وإلى هنا تكون الآية الكريمة قد ذكرت أحد عشر نوعاً من المحرمات عشرة منها تتعلق بالمأكولات ، وواحدا يتعلق بالأفعال .

وهناك مطعومات أخرى جاء تحريمها عن طريق السنة النبوية ، كتحريمه صلى الله عليه وسلم الأكل من لحوم الحمر الأهلية .

وبعد أن بين - سبحانه - هذه الأنواع من المحرمات التي حرمها على المؤمنين رحمة بهم ، ورعاية لهم ، أتبع ذلك ببيان مظاهر فضله عليهم ، وأمرهم بأن يجعلوا خشيتهم منه وحده ، فقال - تعالى - : { اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشون } .

وقوله { اليوم } ظرف منصوب على الظرفية بقوله { يَئِسَ } والألف واللام فيه للعهد الحضوري ، فيكون المراد به يوماً معيناً وهو يوم عرفة من عام حجة الوداع .

ويصح أن لا يكون المراد به يوما بعينه ، وإنما أراد به الزمان الحاضر وما يتصل به ويدانيه من الأزمنة الماضية والآتية .

وقد حكى الإِمام الرازي هذين الوجهين فقال ما ملخصه : وقوله : { اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ } فيه قولان :

الأول : أنه ليس المراد به ذلك اليوم بعينه حتى يقال إنهم ما يئسوا قبله بيوم أو يومين ، وإنما هو كلام خارج على عادة أهل اللسان أي لا حاجة بكم الآن إلى مداهنة هؤلاء الكفار ، لأنكم الآن صرتم بحيث لا يطمع أحد من أعدائكم في توهين أمركم ، ونظيره قوله : كنت بالأمس شابا واليوم قد صرت شيخاً . لا يريد بالأمس اليوم الذي قبل يومك ، ولا باليوم يومك الذي أنت فيه .

الثاني : أن المراد به يوم نزول هذه الآية . وقد " نزلت يوم الجمعة من يوم عرفة بعد العصر في عام حجة الوداع سنة عشر من الهجرة ، والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفات على ناقته العضباء " .

وقوله : { اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ } أي انقطع رجاؤهم في التغلب عليكم ، وفي إبطال أمر دينكم . وفي صرف الناس عنه بعد أن دخلوا فيه أفواجاً وبعد أن صار المشركون مهقورين لكم . أذلة أمام قوتكم . وما دام الأمر كذلك { فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشون } أي : فلا تجعلوا مكاناً لخشية المشركين في قلوبكم فقد ضعفوا واستكانوا ، بل اجعلوا خشيتكم وخوفكم وهيبتكم من الله وحده الذي جعل لكم الغلبة والنصر عليهم .

ثم عقب ذلك - سبحانه - بيان أكبر نعمه وأعظم مننه على هذه الأمة الإِسلامية فقال : { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً } .

أي ؛ اليوم أكملت لكم حدودي وفرائضي وحلالي وحرامي ، ونصري لكم على أعدائكم وتمكيني إياكم من أداء فريضة الحج دون أن يشارككم في الطواف بالبيت أحد من المشركين .

وأتممت عليكم نعمتي ، بأن أزلت دولة الشرك من مكة ، وجعلت كلمتكم هي العليا وكلمة أعدائكم هي السفلى ، ورضيت لكم الإِسلام دينا ، بأن اخترته لكم من بين الأديان . وجعلته الدين المقبول عندي ، فيجب عليكم الالتزام بأحكامه وآدابه وأوامره ونواهيه قال - تعالى - : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين } وليس المراد بإكمال الدين أنه كان ناقصاً قبل اليوم ثم أكمله ، وإنما المراد أن من أحكامه قبل اليوم ما كان مؤقتاً في علم الله قابلا للنسخ . ولكنها اليوم كملت وصارت مؤبدة وصالحة لكل زمان ومكان ، وغير قابلة للنسخ ، وقد بسط هذا المعنى كثير من المفسرين فقال الإِمام الرازي : قال القفال : إن الدين ما كان ناقصا البتة بل كان أبداً كاملا . يعني : كانت الشرائع النازلة من عند الله في كل وقت كافية في ذلك الوقت إلا أنه - تعالى - كان عالما في أول وقت المبعث بأن ما هو كامل في هذا اليوم بكامل في الغد ولا صلاح فيه . فلا جرم كان ينسخ بعد الثبوت . وكان يزيد بعد العدم . وأما في آخر زمان المبعث فأنزل الله شريعة كاملة وحكم ببقائها إلى يوم القيامة . فالشرع أبداً كان كاملا . إلا أن الأول كمال إلى زمان مخصوص . والثاني كمال إلى يوم القيامة . فلأجل هذا قال : { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } .

وقال القرطبي ما ملخصه : لعل قائلا يقول : { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } يدل على أن الدين كان غير كامل في وقت من الأوقات . وذلك يوجب أن يكون جميع من مات من المهاجرين والأنصار . قبل نزول هذه الآية - ماتوا على دين ناقص . ومعلوم أن النقص عيب ؟

فالجواب أن يقال له : لم قلت إن كل نقص فهو عيب وما دليلك عليه ؟ ثم يقال له : أرأيت نقصان الشهر هل يكون عيبا ، ونقصان صلاة المسافر أهو عيب لها . . ؟ لا شك أن هذا النقصان ليس بعيب .

وقوله : { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } يخرج على وجهين :

أحدهما : أن يكون المراد بلغته أقصى الحد الذي كان له عندي فيما قضيته وقدرته ، وذلك لا يوجب أن يكون ما قبل ذلك ناقصا نقصان عيب ، لكنه يوصف بنقصان مقيد فيقال له : إنه كان ناقصاً عما كان عند الله أنه ملحقه به ، وضامه إليه . . وهكذا شرائع الإِسلام شرعها الله شيئاً فشيئاً إلى أن أنهى - سبحانه - الدين منتهاه الذي كان له عنده .

وثانيهما : أنه أراد بقوله { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } أنه وفقهم للحج الذي لم يكن بقي عليهم من أركان الدين غيره ، فحجوا فاستجمع لهم الدين أداء أركانه ، وقياما بفرائضه وفي الحديث :

" بني الإِسلام على خمس " وقد كانوا تشهدوا ، وصلوا ، وزكوا ، وصاموا ، وجاهدوا ، واعتمروا ، ولم يكونوا حجوا ، فلما حجوا ذلك اليوم مع النبي صلى الله عليه وسلم أنزل الله وهم بالموقف عشية عرفة { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } أي : أكمل وضعه لهم .

وقد روى الأئمة عن طارق بن شهاب قال : " جاء رجل من اليهود إلى عمر فقال : يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرءونها لو علينا أنزلت معشر اليهود لاتخذنا ذلك اليوم عيدا . قال وأي آية ؟ قال : { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } فقال عمر : إني لأعلم اليوم الذي أنزلت فيه والمكان الذي أنزلت فيه نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة في يوم جمعة " .

وروى أنها " لما نزلت في يوم الحج الأكبر وقرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكى عمر ، فقال له ما يبكيك ؟ فقال : أبكاني أنا كنا في زيادة في ديننا فأما إذا كمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " صدقت " " .

وبعد أن ذكر - سبحانه - في صدر الآية أحد عشر نوعا من المحرمات ، وأتبع ذلك ببيان إكمال الذين وإتمام النعمة على المؤمنين . جاء ختام الآية لبيان حكم المضطر إلى أكل شيء من هذه المحرمات فقال - تعالى - : { فَمَنِ اضطر فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .

وقوله { اضطر } من الاضطرار بمعنى الوقوع في الضرورة .

والمخمصة : خلو البطن من الغذاء عند الجوع الشديد . يقال خمصه الجوع خمصا ومخمصة .

إذا اشتد به . وفي الحديث : " إن الطير تغدو خماصاً - أي جياعا ضامرات البطون - وتروح بطانا - أي مشبعات " وقال الأعشى :

يبيتون في المشتى ملاءً بطونهم . . . وجاراتهم غرثى يبتن خمائصا

أي : وجاراتهم جوعى وقد ضمرت بطونهن من شدة الجوع .

وقوله { مُتَجَانِفٍ } من الجنف وهو الميل ، يقال : جنف عن الحق - كفرح - إذا مال عنه وجنف عن طريقه - كفرح وضرب - جنفاً وجنوفاً إذا مال عنه .

والمعنى : فمن ألجأته الضرورة إلى كل شيء من هذه المحرمات في مجاعة شديدة حالة كونه غير مائل إلى ارتكاب إثم من الآثام فلا ذنب عليه في ذلك لأن الله - تعالى - واسع المغفرة .

فهو بكرمه يغفر لعباده تناول ما كان محرما إذا اضطروا إلى تناوله لدفع الضرورة بدون بغي أو تعد ، وهو واسع الرحمة حيث أباح لهم ما يدفع عنهم الضرر ولو كان محرما .

قال الآلوسي : وقوله : { غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ } أي غير مائل ومنحرف إليه ومختار له بأن يأكل منها زائداً على ما يمسك رمقه فإن ذلك حرام . وقيل : يجوز أن يشبع عند الضرورة . وقيل : المراد غير عاص بأن يكون باغياً أو عادياً بأن ينزعها من مضطر آخر أو خارجاً في معصية .

وبذلك نرى الآية الكريمة قد بينت ما يحرم في حالة الاختيار ، وما يحل في حالة الاضطرار .

وجاءت بين ذلك بجمل معترضة - وهي قوله { اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ } إلى قوله : { وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً } لتأكيد تحريم هذه الأشياء ، لأن تحريمها من جملة الدين الكامل ، والنعمة التامة ، والإِسلام المرضى عند الله .

هذا ، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية الكريمة ما يأتي :

1 - حرمة هذه الأنواع الأحد عشر التي ذكرها الله - تعالى - في هذه الآية ووجوب الابتعاد عنها لأنها رجس أو فسق ، ولأن استحلال شيء منها يكون خروجا عن تعاليم دين الله ، وانتهاكا لحرماته .

2 - حل المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع ، متى ذبحت ذبحاً شرعياً وكانت بها بقية حياة تجعلها تضطرب بعد ذبحها اضطراب المذبوح .

وللفقهاء كلام طويل في ذلك يؤخذ منه اتفاقهم على أن الخنق وما معه إذا لم يبلغ بالحيوان إلى درجة اليأس من حياته بأن غلب على الظن أنه يعيش مع هذه الحالة كانت الذكاة محللة له . أما إذا غلب على الظن أنه يهلك بما حصل له بسبب الخنق أو الوقذ أو التردي أو النطح أو أكل السبع منه ، فقد أفتى كثير من العلماء بعمل الذكاة فيه ، وقد أخذ بذلك الأحناف . فقد قالوا : متى كانت عينه أو ذنبه يتحرك أو رجله ترك ثم ذكى فهو حلال .

وقال قوم لا تعمل الذكاة فيه ويحرم أكله .

ومنشأ اختلافهم في أن الذكاة تعمل أولا تعمل يعود إلى : هل الاستثناء هن متصل أو منقطع ؟

فمن قال إنه متصل يرى أنه أخرج من الجنس بعض ما تناوله اللفظ ، فما قبل حرف الاستثناء حرام ، وما بعده خرج منه فيكون حلالا .

ومن قال إنه منقطع يرى أنه لا تأثير للاستثناء في الجملة المتقدمة . وكأنه قال : ما ذكيتموه من غير الحيوانات المتقدمة فهو حلال أباح الله لكم التمتع به . أما هذه الحيوانات التي حرمها الله في الآية فلا يجوز لكم الأكل منها مطلقا .

وقد رجح المحققون من العلماء أن الاستثناء متصل ، وقالوا : يؤيد القول بأن الاستثناء متصل بالإِجماع على أن الذكاة تحلل ما يغلب على الظن أنه يعيش فيكون مخرجاً لبعض ما يتناوله المستثنى منه ، فيكون الاستثناء فيه متصلا .

هذا ملخص لما قاله العلماء في هذه المسألة ومن أراد المزيد فليرجع إلى كتب الفروع .

3 - إباحة تناول هذه المحرمات عند الضرورة لدفع الضرر ، ومن هذه الإباحة مقيدة بقيود ذكرها الفقهاء من أهمها قيدان .

الأول : أن يقصد بالتناول دفع الضرر فقط .

الثاني : ألا يتجاوز ما يسد الحاجة ، أما إذا قصد التلذذ أو إرضاء الشهوة ، أو تجلوز المقدار الذي يدفع الضرر فإنه في هذه الأحوال يكون واقعا في المحرم الذي نهى الله عنه .

وقد تكلم الإمام ابن كثير عن هذه المسألة فقال : قوله - تعالى - { فَمَنِ اضطر فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيم } أي : فمن احتاج إلى تناول شيء من هذه المحرمات التي ذكرها الله لضرورة ألجأته إلى ذلك فله تناول والله غفور له رحيم به ، لأنه - تعالى - يعلم حاجة عبده المضطر وافتقاره إلى ذلك فيتجاوز عنه ويغفر له .

وفي المسند وصحيح ابن حبان عن ابن عمر - مرفوعاً - قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله يحب أن تؤتي رخصه كما يكره أن تؤتي معصيته " .

ولهذا قال الفقهاء : قد يكون تناول الميتة واجباً في بعض الأحيان ، و هو إذا خاف على نفسه ولم يجد غيرها ، وقد يكون مندوبا ، وقد يكون مباحاً بحسب الأحوال . واختلفوا : هل يتناول منها قدر ما يسد به الرمق ، أوله أن يشبع ويتزود على أقوال ، وليس من شرط تناول الميتة أن يمضي عليه ثلاثة أيام لا يجد طعاماً ، كما قد يتوهمه كثير من العوام وغيرهم - بل متى اضطر إلى ذلك جاز له .

وقد روى الإمام أحمد عن أبي واقد الليثي أنهم قالوا : يا رسول الله ، إنا بأرض تصيبنا بها المخمصة ، فمتى تحل لنا بها الميتة ؟ فقال : " إذا لم تصطحبوا ولم تغتبقوا ولم تحتفثوا بقلا فشأنكم بها " .

والاصطباح شرب اللبن بالغداة فما دون القائلة ، وما كان منه بالعشي فهو الاغتباق ومعنى لم تحتفثوا : أي تقتلعوا .

وقوله : { غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ } أي متعاط لمعصية الله .

وقد استدل بهذه الآية من يقول بأن العاصي بسفره لا يترخص بشيء من رخص السفر ، لأن الرخص لا تنال بالمعاصي .

4 - أخذ العلماء من قوله - تعالى - { وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالأزلام ذلكم فِسْقٌ } أن الاستقسام بالأزلام محرم ، ومحرم أيضاً كل ما يشبهه من القمار والتنجيم والرمل وما إلى ذلك قال بعض العلماء : من عمل بالأيام في السعد والنحس معتقداً لها تأثيراً كفر وإن لم يعتقد أثم .

وقد روى أبو داود والنسائي وابن حبان عن قطن بن قبيصة ، عن أبيه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " العيافة والطرق والطيرة من الجبت " .

والعيافة : زجر الطير . والطرق : الخط يخط في الأرض . وقيل : الطرق الضرب بالحصى الذي تفعله النساء .

وفي القاموس : عفت الطير عيافة زجرتها . وهو أن تعتبر بأسمائها ومساقطها فتسعد وتتشاءم . وهو من عادة العرب كثيراً . والطيرة : من اطيرت وتطيرت وهو ما يتشاءم من الفأل الرديء ، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يحب الفأل ويكره الطيرة .

والجبت : كل ما عبد من دون الله .

وقد روى مسلم في صحيحيه عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من أتى عرافا فسأله عن شيء فصدقه ، لم تقبل له صلاة أربعين يوماً " .

وروى الإِمام أحمد وأبو داود والحاكم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من أتى عرافاً أو كاهنا فصدقه بما يقول ، فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - " .

وعن عمران بن حصين مرفوعا : " ليس منا من تطير أو تطير له ، أو تكهن أو تكهن له . أو سحر أو سحر له "

5 - استدل بعضهم بقوله - تعالى - { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } على نفي القياس وبطلان العمل به لأن إكمال الدين يقتضي أنه نص على أحكام جميع الوقائع إذ لو بقى بعض لم يبين حكمه لم يكن الدين كاملا .

وأجيب على ذلك بأن غاية ما يقتضيه إكمال الدين أن يكون الله - تعالى - قد أبان الطرق لجميع الأحكام وقد أمر الله بالقياس ، وتعبد المكلفين به بمثل قوله - تعالى - { فاعتبروا ياأولي الأبصار } فكان هذا مع النصوص الصريحة بياناً لكل أحكام الوقائع ، غاية الأمر أن الوقائع صارت قسمين : قسما نص الله على حكمه ، وقسما أرشد الله - تعالى - إلى أنه يمكن استنباط الحكم فيه من القسم الأول . فلم تصلح الآية متمسكا لهم .

6 - الآية الكريمة قد اشتملت على بشارات لأبناء هذه الأمة الإِسلامية فقد بشرتهم - أولا - بأن أعداءهم قد انقطع رجاؤهم في إبطال أمر الإِسلام أو تحريفه أو تبديل أحكامه التي كتب الله لها البقاء .

وها نحن أولا . نراجع التاريخ فنرى المسلمين قد تغلب عليهم أعداؤهم في معارك حربية ولكن هؤلاء الأعداء لم يستطيعوا التغلب على أحكام هذا الدين ومبادئه . بل بقيت محفوظة يتناقلها الخلف عن السلف إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ولقد روى الإِمام مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبه حجة الوداع : " إن الشيطان قد يئس أن يعيده المصلون في جزيرة العرب ولكنه رضي بالتحريش بينهم " .

وبشرتهم - ثالثاً - بإتمام نعمة الله عليهم . وأي نعمة أتم على المؤمنين من إخراج الله إياهم من ظلمات الشرك إلى نور الوحدانية ومن تمكينه لهم في الأرض واستخلافهم فيها ، وجعل كلمتهم العليا بعد أن كانوا في ضعف من أمرهم وفساد في أحوالهم .

وبشرتهم - رابعا - بأن الله قد اختار لهم الإِسلام دينا ، وجعله هو الدين المرضي عنده وهو الذي يجب على الناس أن يدخلوا فيه ، وأن يعملوا بأوامره ونواهيه ، لأنه من الحمق والغباء أن يبتعد إنسان عن الدين الذي اختاره الله وارتضاه ليختاره لنفسه طريقاً من نزغات نفسه وهواه .

وهذه بعض الأحكام والآداب التي استلهمها العلماء من الآية الكريمة . وهناك أحكام أخرى ذكرناها خلال تفسيرنا لألفاظ الآية الكريمة .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{حُرِّمَتۡ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةُ وَٱلدَّمُ وَلَحۡمُ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦ وَٱلۡمُنۡخَنِقَةُ وَٱلۡمَوۡقُوذَةُ وَٱلۡمُتَرَدِّيَةُ وَٱلنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيۡتُمۡ وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ وَأَن تَسۡتَقۡسِمُواْ بِٱلۡأَزۡلَٰمِۚ ذَٰلِكُمۡ فِسۡقٌۗ ٱلۡيَوۡمَ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمۡ فَلَا تَخۡشَوۡهُمۡ وَٱخۡشَوۡنِۚ ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗاۚ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ فِي مَخۡمَصَةٍ غَيۡرَ مُتَجَانِفٖ لِّإِثۡمٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (3)

{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ }

وقوله تعالى : { حرمت عليكم الميتة } الآية تعديد لما يتلى على الأمة مما استثني من { بهيمة الأنعام } [ المائدة : 1 ] و { الميتة } كل حيوان له نفس سائلة خرجت نفسه من جسده على غير طريق الذكاة المشروع سوى الحوت والجراد على أن الجراد قد رأى كثير من العلماء أنه لا بد من فعل فيها يجري مجرى الذكاة ، وقرأ جمهور الناس «الميْتة » بسكون الياء ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع «الميّتة » بالتشديد في الياء قال الزجاج : هما بمعنى واحد ، وقال قوم من أهل اللسان : الميْت بسكون الياء ما قد مات بعد والميّت يقال لما قد مات ولما لم يمت وهو حي بعد ولا يقال له ميت بالتخفيف ورد الزجاج هذا القول واستشهد على رده بقول الشاعر :

ليس من مات فاستراح بميت . . . إنما الميت ميت الأحياء{[4429]}

قال القاضي أبو محمد : والبيت يحتمل أن يتأول شاهداً عليه لا له وقد تأول قوم استراح في هذا البيت بمعنى اكتسب رائحة إذ قائله جاهلي لا يرى في الموت راحة .

وقوله تعالى : { والدم } معناه المسفوح لأنه بهذا تقيد الدم في غير هذه الآية فيرد المطلق إلى المقيد وأجمعت الأمة على تحليل الدم المخالط للحم ، وعلى تحليل الطحال ونحوه ، وكانت الجاهلية تستبيح الدم ، ومنه قولهم : " لم ُيحرم من ُفصد له " {[4430]} ، والعلهز دم ووبر يأكلونه في الأزمات{[4431]} .

{ ولحم الخنزير } مقتض لشحمه بإجماع{[4432]} ، واختلف في استعمال شعره وجلده بعد الدباغ فأجيز ومنع وكل شيء من الخنزير حرام بإجماع جلداً كان أو عظماً ، وقوله تعالى : { وما أهلّ لغير الله به } يعني ما ذبح لغير الله تعالى وقصد به صنم أو بشر من الناس كما كانت العرب تفعل وكذلك النصارى ، وعادة الذابح أن يسمي مقصوده ويصيح به فذلك إهلاله ومنه استهلال المولود إذ صاح عند الولادة ، ومنه إهلال الهلال أي الصياح بأمره عند رؤيته ومن الإهلال قول ابن أحمر :

يهل بالفرقد ركبانها . . . كما يهل الراكب المعتمر{[4433]}

وقوله تعالى : { والمنخنقة } معناه التي تموت خنقاً وهو حبس النفس سواء فعل بها ذلك آدمي أو اتفق لها ذلك في حجر أو شجرة أو بحبل أو نحوه وهذا إجماع ، وقد ذكر قتادة أن أهل الجاهلية كانوا يخنقون الشاة وغيرها فإذا ماتت أكلوها وذكر نحوه ابن عباسرضي الله عنهما . { والموقوذة } التي ترمى أو تضرب بعصا أو بحجر أو نحوه وكأنها التي تحذف به وقال الفرزدق :

شَّغارة َتقذُ الفصيل برجلها فَطّارة لقوادم الأَبكار{[4434]}

وقال ابن عباسرضي الله عنهما : { الموقوذة } التي تضرب بالخشب حتى يوقذها فتموت ، وقال قتادة : كان أهل الجاهلية يفعلون ذلك ويأكلونها .

قال القاضي أبو محمد : ومن اللفظة قول معاوية : «وأما ابن عمر فرجل قد وقذه الورع وكفى أمره ونزوته » وقال الضحاك : كانوا يضربون «الأنعام بالخشب لآلهتهم حتى يقتلوها فيأكلونها » ، وقال أبو عبد الله الصنابحي :«ليس { الموقوذة } إلا في مالك ، وليس في الصيد وقيذ » .

قال القاضي أبو محمد : وعند مالك وغيره من الفقهاء في الصيد ما حكمه حكم الوقيذ وهو نص في قول النبي صلى الله عليه وسلم ، في المعراض{[4435]} : «وإذا أصاب بعرضه فلا تأكل فإنه وقيذ »{[4436]} { والمتردية } هي التي تتردى من العلو إلى السفل فتموت كان ذلك من جبل أو في بئر ونحوه ، هي متفعلة من الردى وهو الهلاك وكانت الجاهلية تأكل المتردي ولم تكن العرب تعتقد ميتة إلا ما مات بالوجع ونحو ذلك دون سبب يعرف فأما هذه الأسباب فكانت عندها كالذكاة ، فحصر الشرع الذكاة في صفة مخصوصة وبقيت هذه كلها ميتة ، { والنطيحة } فعيلة بمعنى مفعولة وهي الشاة تنطحها أخرى أو غير ذلك فتموت ، وتأول قوم { النطيحة } بمعنى الناطحة لأن الشاتين قد تتناطحان فتموتان ، وقال قوم : لو ذكر الشاة لقيل : والشاة النطيح كما يقال كف خضيب ولحية دهين ، فلما لم تذكر ألحقت الهاء لئلا يشكل الأمر أمذكراً يريد أم مؤنثاً ، قال ابن عباس والسدي وقتادة والضحاك : النطيحة الشاة تناطح الشاة فتموتان أو الشاة تنطحها البقر والغنم . .

قال القاضي أبو محمد : وكل ما مات ضغطاً فهو نطيح ، وقرأ أبو ميسرة «والمنطوحة » وقوله : { وما أكل السبع } يريد كل ما افترسه ذو ناب وأظفار من الحيوان كالأسد والنمر والثعلب والذئب والضبع ونحوه ، هذه كلها سباع . ومن العرب من يوقف اسم السبع على الأسد ، وكان العرب إذا أخذ السبع شاة فقتلها ثم خلصت منه أكلوها وكذلك إن أكل بعضها ، قاله قتادة وغيره .

وقرأ الحسن والفياض وطلحة بن سليطان وأبو حيوة وما «أكل السبْع » بسكون الباء وهي لغة أهل نجد{[4437]} ، وقرأ بذلك عاصم في رواية أبي بكر عنه . وقرأ عبد الله بن مسعود «وأكيلة السبع » وقرأ عبد الله بن عباس «وأكيل السبع » ، واختلف العلماء في قوله تعالى : { إلا ما ذكيتم } فقال ابن عباس والحسن بن أبي الحسن وعلي بن أبي طالب وقتادة وإبراهيم النخعي وطاوس وعبيد بن عمير والضحاك وابن زيد وجمهور العلماء الاسثناء هو من هذه المذكورات فما أدرك منها يطرف بعين أو يمصع{[4438]} برجل أو يحرك ذنباً وبالجملة ما يتحقق أنه لم تفض نفسه بل له حياة فإنه يذكى على سنة الذكاة ويؤكل ، وما فاضت نفسه فهو في حكم الميتة بالوجع ونحوه على ما كانت الجاهلية تعتقده ، وقال مالك رحمه الله مرة بهذا القول ، وقال أيضاً وهو المشهور عنه وعن أصحابه من أهل المدينة أن قوله تعالى : { إلا ما ذكيتم } معناه من هذه المذكورات في وقت تصح فيه ذكاتها وهو ما لم تنفذ مقاتلها ويتحقق أنها لا تعيش ومتى صارت في هذا الحد فهي في حكم الميتة .

قال القاضي أبو محمد : فقال بعض المفسرين إن الاستثناء في قول الجمهور متصل وفي قول مالك منقطع لأن المعنى عنده «لكن ما ذكيتم » مما تجوز تذكيته فكلوه حتى قال بعضهم إن المعنى { إلا ماذكيتم } من غير هذه فكلوه ، وفي هذا عندي نظر ، بل الاستثناء على قول مالك متصل لكنه يخالف في الحال التي تصح ذكاة هذه المذكورات ، وقال الطبري : إن الاستثناء عند مالك من التحريم لا من المحرمات .

قال القاضي أبو محمد : وفي هذه العبارة تجوز كثير وحينئذ يلتئم المعنى ، والذكاة في كلام العرب الذبح ، قاله ثعلب قال ابن سيده : والعرب تقول ذكاة الجنين ذكاة أمه .

قال القاضي أبو محمد : وهذا إنما هو حديث{[4439]} ، وذكى الحيوان ذبحه ، ومنه قوله الشاعر :

*يذكيها الأسل{[4440]}*

ومما احتج به المالكيون لقول مالك«إن ما تيقن أنه يموت من هذه الحوادث فهو في حكم الميتة »أنه{[4441]} لو لم تحرم هذه التي قد تيقن موتها إلا بأن تموت لكان ذكر الميتة أولاً يغني عنها ، فمن حجة المخالف أن قال إنما ذكرت بسبب أن العرب كانت تعتقد أن هذه الحوادث كالذكاة فلو لم يذكر لها غير الميتة لظنت أنها ميته الوجع حسب ما كانت هي عليه .

{ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

قوله : { وما ذبح } عطف على المحرمات المذكورات ، و { النصب } جمع واحده نصاب ، وقيل هو اسم مفرد وجمعه أنصاب وهي حجارة تنصب كل منها حول الكعبة ثلاثمائة وستون ، وكان أهل الجاهلية يعظمونها ويذبحون عليها لآلهتهم ولها أيضاً وتلطخ بالدماء وتوضع عليه اللحوم قطعاً قطعاً ليأكل الناس ، قال مجاهد وقتادة وغيرهما : { النصب } حجارة كان أهل الجاهلية يذبحون عليها ، وقال ابن عباس : ويهلون عليها ، قال ابن جريج : { النصب } ليست بأصنام ، الصنم يصور وينقش ، وهذه حجارة تنصب .

قال القاضي أبو محمد : وقد كانت للعرب في بلادها أنصاب حجارة يعبدونها ويحكون{[4442]} فيها أنصاب مكة ، ومنها الحجر المسمى بسعد وغيره ، قال ابن جريج : كانت العرب تذبح بمكة وينضحون بالدم ما أقبل من البيت ويشرحون اللحم ويضعونه على الحجارة . . فلما جاء الإسلام قال المسلمون لرسول الله صلى الله عليه وسلم نحن أحق أن نعظم هذا البيت بهذه الأفعال ، فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكره ذلك فأنزل الله تعالى : { لن ينال الله لحومها ولا دماؤها }{[4443]} ونزلت { وما ذبح على النصب } .

قال القاضي أبو محمد : المعنى والنية فيها تعظيم النصب ، قال مجاهد . وكان أهل مكة يبدلون ما شاؤوا من تلك الحجارة إذا وجدوا أعجب إليهم منها ، قال ابن زيد : { ما ذبح على النصب } وما أهل به لغير الله شيء واحد .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله : { ما ذبح على النصب } جزء مما أهل به لغير الله ، لكن خص بالذكر بعد جنسه لشهرة الأمر وشرف الموضع وتعظيم النفوس له . وقد يقال للصنم أيضاً نصب ونصب لأنه ينصب وروي أن الحسن بن أبي الحسن قرأ «وما ذبح على النَّصْب » بفتح النون وسكون الصاد ، وقال :على الصنم ، وقرأ طلحة ابن مصرف «على النُّصْب » بضم النون وسكون الصاد ، وقرأ عيسى بن عمر «على النَّصَب » بفتح النون والصاد ، وروي عنه أنه قرأ بضم النون والصاد كقراءة الجمهور ، وقوله تعالى : { وأن تستقسموا بالأزلام } حرم به تعالى طلب القسم وهو النصيب أو القسم بفتح القاف وهو المصدر { بالأزلام } وهي سهام واحد زلم بضم الزاي وبفتحها ، وأزلام العرب ثلاثة أنواع ، منها الثلاثة التي كان يتخذها كل إنسان لنفسه على أحدها افعل ، والآخر لا تفعل ، والثالث مهمل لا شيء عليه فيجعلها في خريطة معه ، فإذا أراد فعل شيء أدخل يده وهي متشابهة فأخرج أحدها وائتمر وانتهى بحسب ما يخرج له ، وإن خرج القدح الذي لا شيء فيه أعاد الضرب ، وهذه هي التي ضرب بها سراقة بن مالك بن جعشم حين اتبع النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وقت الهجرة ، والنوع الثاني سبعة قداح كانت عند هبل في جوف الكعبة فيها أحكام العرب وما يدور بين الناس من النوازل ، في أحدها العقل في أمور الديات ، وفي آخر : منكم ، وفي آخر : من غيركم ، وفي آخر : ملصق{[4444]} ، وفي سائرها أحكام المياه وغير ذلك ، وهي التي ضرب بها على بني عبد المطلب ، إذ كان نذر هو نحر أحدهم إذا أكملوا عشرة ، وهو الحديث الطويل الذي في سيرة ابن إسحاق ، وهذه السبعة أيضاً متخذة عند كل كاهن من كهان العرب وحكامهم على نحو ما كانت في الكعبة عند هبل . والنوع الثالث هو قداح الميسر ، وهي عشرة سبعة منها فيها خطوط لها بعددها حظوظ ، وثلاثة أغفال وكانوا يضربون بها مقامرة ففيها لهو للبطالين ولعب ، وكان عقلاؤهم يقصدون بها إطعام المساكين والمعدم في زمن الشتاء وَكَلب البرد وَتعذُّر التحرف ، وكان من العرب من يستقسم بها لنفسه طلب الكسب والمغامرة وقد شرحت أمرها بأوعب من هذا في سورة البقرة في تفسير الميسر ، فالاستقسام بهذا كله هو طلب القسم والنصيب وهو من أكل المال بالباطل وهو حرام ، وكل مقامرة بحمام أو بنرد أو بشطرنج أو بغير ذلك من هذه الألعاب فهو استقسام بما هو في معنى «الأزلام » حرام كله وقوله تعالى : { ذلكم فسق } إشارة إلى الاستقسام { بالأزلام } والفسق الخروج من مكان محتوٍ جامع يقال فسقت الرطبة خرجت من قشرها والفأرة من جحرها واستعملت اللفظة في الشرع فيمن يخرج من احتواء الأمر الشرعي وجمعه وإحاطته .

وقوله تعالى : { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم } معناه عند ابن عباس من أن ترجعوا إلى دينهم وقاله السدي وعطاء ، وظاهر أمر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وظهور دينه يقتضي أن يأس الكفار عن الرجوع إلى دينهم قد كان وقع منذ زمان ، وإنما هذا اليأس عندي من اضمحلال أمر الإسلام وفساد جمعه لأن هذا أمر كان يترجاه من بقي من الكفار ألا ترى إلى قول أخي صفوان بن أمية في يوم هوازن حين انكشف المسلمون وظنها هزيمة : ألا بطل السحر اليوم ، إلى غير هذا من الأمثلة ، وهذه الآية نزلت في إثر حجة الوداع وقيل في يوم عرفة يوم الجمعة ، قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، ولم يكن المشركون حينئذ إلا في حيز القلة ولم يحضر منهم الموسم بشر ، وفي ذلك اليوم أمحى أمر الشرك من مشاعر الحج ، ويحتمل قوله تعالى : { اليوم } أن يكون إشارة إلى اليوم بعينه لا سيما في قول الجمهور عمر بن الخطاب وغيره ، إنها نزلت في عشية عرفة يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الموقف على ناقته وليس في الموسم مشرك . ويحتمل أن يكون إشارة إلى الزمن والوقت أي في هذا الأوان { يئس } الكفار من دينكم وقوله تعالى : { الذين كفروا } يعم مشركي العرب وغيرهم من الروم والفرس وغير ذلك وهذا يقوي أن اليأس من انحلال أمر الإسلام وذهاب شوكته ويقوي أن الإشارة باليوم إنما هي إلى الأوان الذي فاتحته يوم عرفة ولا مشرك بالموسم ويعضد هذا قوله تعالى : { فلا تخشوهم واخشون } فإنما نهى المؤمنين عن خشية جميع أنواع الكفار وأمر بخشيته تعالى التي هي رأس كل عبادة كما قال صلى الله عليه وسلم ومفتاح كل خير ، وروي عن أبي عمرو أنه قرأ «ييس » بغير همزة وهي قراءة أبي جعفر .

وقوله تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم } تحتمل الإشارة ب { اليوم } ما قد ذكرناه ، وهذا الإكمال عند الجمهور هو الإظهار واستيعاب عظم الفرائض والتحليل والتحريم . قالوا : وقد نزل بعد ذلك قرآن كثير ونزلت آية الربا ونزلت آية الكلالة إلى غير ذلك ، وإنما كمل عظم الدين وأمر الحج أن حجوا وليس معهم مشرك . وقال ابن عباس والسدي : هو إكمال تام ولم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك اليوم تحليل ولا تحريم ولا فرض ، وحكى الطبري عن بعض من قال هذا القول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعش بعد نزول هذه الآية إلا إحدى وثمانين ليلة .

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : والظاهر أنه عاش عليه السلام أكثر بأيام يسيرة . وروي أن هذه الآية لما نزلت في يوم الحج الأكبر وقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يبكيك ؟ فقال أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا فأما إذ كمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ( صدقت ){[4445]} .

وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له يهودي : آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً فقال له عمر أية آية هي ؟ فقال له : { اليوم أكملت لكم دينكم } فقال له عمر قد علمنا ذلك اليوم نزلت على رسول الله وهو واقف بعرفة يوم الجمعة{[4446]} .

قال القاضي أبو محمد : ففي ذلك اليوم عيدان لأهل الإسلام إلى يوم القيامة ، وقال داود بن أبي هند للشعبي إن اليهود تقول كيف لم تحفظ العرب هذا اليوم الذي كمل الله لها دينها فيه فقال الشعبي أو ما حفظته ؟ قال داود : فقلت أي يوم هو ؟ قال يوم عرفة ، وقال عيسى بن جارية الأنصاري كنا جلوساً في الديوان فقال لنا نصراني مثل ما قال اليهودي لعمر بن الخطاب فما أجابه منا أحد فلقيت محمد بن كعب القرظي فأخبرته فقال هلا أجبتموه ، قال عمر بن الخطاب أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف على الجبل يوم عرفة{[4447]} .

قال القاضي أبو محمد : وذكر عكرمة عن عمر بن الخطاب أنه قال : نزلت سورة المائدة بالمدينة يوم الاثنين ، وقال الربيع بن أنس نزلت سورة المائدة في مسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حجة الوداع ، وهذا كله يقتضي أن السورة مدنية بعد الهجرة ، وإتمام النعمة هو في ظهور الإسلام ونور العقائد وإكمال الدين وسعة الأحوال وغير ذلك مما انتظمته هذه الملة الحنيفية إلى دخول الجنة والخلود في رحمة الله هذه كلها نعم الله المتممة قَبلنا ، وقوله تعالى : { ورضيت لكم الإسلام ديناً } يحتمل الرضا في هذا الموضع أن يكون بمعنى الإرادة ويحتمل أن يكون صفة فعل عبارة عن إظهار الله إياه لأن الرضى من الصفات المترددة بين صفات الذات وصفات الأفعال والله تعالى قد أراد لنا الإسلام ورضيه لنا ، وثم أشياء يريد الله تعالى وقوعها ولا يرضاها ، والإسلام في هذه الآية هو الذي في قوله تعالى : { إن الدين عند الله الإسلام }{[4448]} وهو الذي تفسر في سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم وهو الإيمان والأعمال والشعب .

وقوله تعالى : { فمن اضطر في مخمصة } يعني من دعته ضرورة إلى أكل الميتة وسائر تلك المحرمات ، وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم [ متى تحل الميتة ؟ فقال : إذا لم تصطحبوا ولم تغتبقوا ولم تحتفئوا بها بقلاً{[4449]} . ]

قال القاضي أبو محمد : فهذه مثال في حال عدم المأكول حتى يؤدي ذلك إلى ذهاب القوى والحياة ، وقرأ ابن محيصن «فمن اُّطر » بإدغام الضاد والطاء وليس بالقياس ولكن العرب استعملته في ألفاظ قليلة استعمالاً كثيراً وقد تقدم القول في أحكام الاضطرار في نظير هذه الآية في سورة البقرة و «المخمصة » المجاعة التي تخمص فيها البطون أي تضمر ، والخمص ضمور البطن فالخلقة منه حسنة في النساء ومنه يقال : خمصانة وبطن خميص ، ومنه أخمص القدم ، ويستعمل ذلك كثيراً في الجوع والغرث ، ومنه قول الأعشى :

تبيتون في المشتى ملاء بطونكم *** وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا{[4450]}

أي منطويات على الجوع قد أضمر بطونهن ، وقوله تعالى : { غير متجانف لإثم } وهو بمعنى { غير باغ ولا عاد }{[4451]} وقد تقدم تفسيره وفقهه في سورة البقرة والجنف الميل ، وقرأ أبو عبد الرحمن ويحيى بن وثاب وإبراهيم النخعي «غير متجنف » ، دون ألف وهي أبلغ في المعنى من { متجانف } ، لأن شد العين يقتضي مبالغة وتوغلاً في المعنى وثبوتاً لحكمه ، وتفاعل إنما هي محاكاة الشيء والتقرب منه . ألا ترى إذا قلت تمايل الغصن فإن ذلك يقتضي تأوداً ، ومقاربة ميل ، وإذا قلت تميل فقد ثبت حكم الميل ، وكذلك تصاون وتصون وتغافل وتغفل وقوله تعالى : { فإن الله غفور رحيم } نائب مناب فلا حرج عليه إلى ما يتضمن من زيادة الوعد وترجية النفوس وفي الكلام محذوف يدل عليه المذكور تقديره فأكل من هذه المحرمات المذكورات .


[4429]:- نسبه في "لسان العرب" إلى عدي بن الرعلاء، وبعده: إنما الميت من يعيش كئيبا كاسفا باله قليل الرجاء فأناس يمصصون ثمــادا وأناس حلوقهم في الماء وكما اختلفوا في معنى كل من ميت وميّت، اختلفوا كذلك في دلالة كل من ميت ومائت فقالوا: حكى الجوهري عن الفراء: يقال لمن لم يمت: إنه مائت عن قليل وميّت، ولا يقولون لمن مات: هذا مائت. قيل: وهذا خطأ، وإنما ميت يصلح لما قد مات ولما سيموت، قال الله تعالى: {إنك ميت وإنهم ميتون}. وقد جمع بين اللغتين عدي بن الرعلاء في أبياته حين جعل الميت كالميت
[4430]:- هذا مثل يضرب لمن يحصل على بعض حاجته، ويروي "من فزدله". وفصد من الفصد. كانوا إذا أعياهم قرى الضيف فصدوا بعيرا وعالجوا دمه بشيء فأكلوه، وأصل المثل أن رجلين باتا عند أعرابي فالتقيا صباحا، فسأل أحدهما صاحبه عن القرى فقال: ما قريت، وإنما فصد لي، فقال: "لم يحرم من فصد له".
[4431]:- كانت العرب في الجاهلية تأكل العلهز في الجدب، وفي حديث عكرمة: (كان طعام أهل الجاهلية العلهز)، وأنشد ابن شميل: وإن ثرى قحطان قرف وعلهز فأقبح بهذا ويح نفسك من فعل وفي الحديث في دعائه عليه الصلاة والسلام على مضر: (اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف، فابتلوا بالجوع حتى أكلوا العلهز). (راجع اللسان).
[4432]:- قال في "البحر المحيط": "وليس كذلك، فقد خالف فيه داود وغيره".
[4433]:- الفرقد: نجم قريب من القطب الشمالي ثابت الموقع تقريبا، ولذا يهتدى به، وهو المسمى: "النجم القطبي"، ويقربه نجم آخر مماثل له وأصغر منه، وهما فرقدان. والمعتمر: الزائر (في رأي الأصمعي)، وقال أبو عبيدة: المعتمر: المتعمم بالعمامة. ومعنى البيت كما قال الأصمعي: "إذا انجلى لهم السحاب عن الفرقد أهلوا، أي: رفعوا أصواتهم بالتكبير"- وقد فسّر غير (الفرقد) بأنه ولد البقرة، ولهذا قالوا: "إن معنى البيت أنهم في مفازة بعيدة من المياه فإذا رأوا ولد البقرة رفعوا أصواتهم بالتكبير والتهليل". –وأصل الإهلال هو رفع الصوت، وفي الحديث: (الصبي إذا ولد لم يورث ولم يرث حتى يستهل صارخا).
[4434]:- البيت في وصف ناقة، والشّغارة هي التي ترفع قوائمها لتضرب، وتقذ: تضرب الفصيل حتى تصرعه أو تتركه مريضا، والفصيل: ولد الناقة أو البقرة بعد فطامه وفصله عن أمه-وهذا هو سبب ضربها له- والفطر: الحلب بالسبابة والوسطى ويستعان بطرف الإبهام، وخلفا الضرع المقدمان: هما القادمان، وجمعه: القوادم، والأبكار تحلب فطرا، لأنه لا يمكن حلبها كما يقال ضبا لقصر الخلف، لأنها صغار- والفطر: القليل من اللبن- والحلب ضبا هو الحلب بقوة وشدة.
[4435]:- المعراض: سهم يرمى به بلا ريش، وأكثر ما يصيب بعرض عوده دون حده.
[4436]:- في الصحيحين وغيرهما عن عدي قال: قلت يا رسول الله، إني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب، فقال عليه الصلاة والسلام: (إذا رميت بالمعراض فخرق فكله، وإن أصاب بعرضه فإنما هو وقيذ فلا تأكله).
[4437]:- قال حسان في عتبة بن أبي لهب: متى يرجع العام إلى أهله فما أكيل السبع بالراجع
[4438]:- يقال: مصعت الدابة بذنبها: حركته من غير عدد.
[4439]:-قال القرطبي: "الحديث الذي أشار إليه أخرجه الدارقطني من حديث أبي سعيد، وأبي هريرة، وعلي، وعبد الله".
[4440]:- نقله في القرطبي هكذا، وذكره بنفس الصورة في اللسان، ولم ينسبه أحد منهما ولا من المحققين. والأسل: الرماح
[4441]:- قوله: "أنه لو لم تحرم" مبتدأ مؤخر، والخبر قوله في بداية الكلام: "ومما احتج به المالكيون" وجملة: "إن ما تيقن...الخ" هي قول مالك، وقد وضعناها بين علامتي التنصيص.
[4442]:- أي: يحاكون فيها أنصاب مكة.
[4443]:- من الآية (37) من سورة (الحج)
[4444]:- كان العرب إذا شكوا في نسب أحدهم ذهبوا إلى هبل وبمائة درهم وجزور فأعطوها صاحب القداح الذي يضرب بها، ثم قربوا صاحبهم الذي يريدون به ما يريدون، ثم قالوا: يا إلهنا، هذا فلان بن فلان قد أردنا به كذا وكذا، فأخرج الحق فيه، ثم يقولون لصاحب القداح: اضرب، فإن خرج عليه "منكم" كان منهم وسيطا، وإن خرج "من غيركم" كان حليفا، وإن خرج "ملصق" كان على منزلته فيهم لا نسب له ولا حلف- (عن سيرة ابن هشام). ويمكنك الرجوع إليها ففيها توضيح أكثر.
[4445]:- أخرجه ابن أبي شيبة، وابن جرير، عن عنترة- ولم يفهم الصحابة كلهم ما فهمه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "أخبر الله نبيه والمؤمنين أنه قد أكمل لهم الإيمان، فلا تحتاجون إلى زيادة أبدا، وقد أتمه فلا ينقص أبدا، وقد رضيه فلا يسخطه أبدا" فقد نظر إلى الآية نظرة شاملة تناولت ما فيها من إكمال وإتمام ورضا. والله أعلم.
[4446]:- أخرجه الحميدي، وأحمد، وعبد بن حميد، والبخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن حبان، والبيهقي في سننه- عن طارق بن شهاب.
[4447]:- أخرجه ابن جرير عن عيسى بن حارثة الأنصاري، وفي (الدر المنثور) زيادة في آخره: (فلا يزال ذلك اليوم عيدا للمسلمين ما بقي منهم أحد)
[4448]:- من الآية (69) من سورة (آل عمران)
[4449]:- تصطحبوا: تشربون الصبوح، وهو ما يشرب في الصباح، وتغتبقوا: تشربون الغبوق، وهو ما يشرب في المساء، والاحتفاء قال فيه أبو سعيد الضرير صوابه: ما تحتفوا بها- من أحفى الشعر أزاله، وقيل: هو من الجفا وبالهمزة وهو أصل البردي، وقد يؤكل النوع الأبيض منه، يقول: ما تقتلعوا هذا بعينه فتأكلوه، وأورد اللسان الحديث هكذا (وفي الحديث أنه سئل: متى تحل لنا الميتة؟ فقال: ما لم تصطحبوا أو تغتبقوا أو تحتفوا بقلا، فشأنكم بها) مادة (صبح) ولعل الخطأ في الأصل هنا من النساخ.
[4450]:- هذا البيت من قصيدة قالها الأعشى يهجو علقمة بن علاثة، وغرثى: جوعى- ورواية الديوان: (جوعى)، وبعده: يراقبن من جوع خلال مخافة نجوم السماء العاتمات الغوامصا
[4451]:- من قوله تعالى في الآية (173) من سورة (البقرة): {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه، إن الله غفور رحيم}.