التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{رَبَّنَا وَٱجۡعَلۡنَا مُسۡلِمَيۡنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةٗ مُّسۡلِمَةٗ لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبۡ عَلَيۡنَآۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ} (128)

ثم حكى القرآن جملة من الدعوات الخاشعات ، التي توجه بها إبراهيم وإسماعيل إلى الله - تعالى - فقال : { رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ } :

مسلمين من الإِسلام ، وهو الخضوع والإِذعان ، وقد كانا خاضعين لله مذعنين في كل حال ، وإنما طلبا الثبات والدوام على ذلك ، والإِسلام الذي هو الخضوع لله بحق إنما يتحقق بعقيدة التوحيد ، وتحرى ما رسمه الشارع في العبادات والمعاملات ، والإِخلاص في أداء ما أمر به ، واجتناب ما نهى عنه .

وقوله : { وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } معناه : واجعل يا ربنا من ذريتنا أمة مخلصة وجهها إليك ، مذعنة لأوامرك ونواهيك .

ومن ( من ) للتبعيض ، أو للتعيين كقوله : { وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ } وإنما خص الذرية بالدعاء لأنهم أحق بالشفقة ، ولأنهم إذا صلحوا صلح بهم الأتباع ؛ ولأن صلاح الذرية مرغوب فيه طبعاً ، والدعاء لهم بالصلاح مرغب فيه شرعاً ، وقد حكى القرآن من دعاء الصالحين قوله - تعالى - :

{ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ واجعلنا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً } { وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا } أي : علمنا شرائع ديننا وأعمال حجنا ، كالطواف والسعي والوقوف . أو متعبداتنا التي تقام فيها شرائعنا ، كمنى ، وعرفات ، وتحوهما .

والمناسك : جمع منسك - بفتح السين وكسرها - بمعنى الفعل وبمعنى الموضع من النسك - مثلثة النون وبضمها وضم السين - وهو غاية العبادة والطاعة ، وشاعت تسمية أعمال الحج بالمناسك كالطواف والسعي وغيرهما .

{ وَتُبْ عَلَيْنَآ } تسند التوبة إلى العبد فيقال : تاب فلان إلى الله ومعناها الندم على ما لابس من الذنب ، والإِقلاع عنه ، والعزم على عدم العود إليه ، ورد المظالم إن استطاع ، أو نية ردها إن لم يستطع وتسند إلى الله فيقال : تاب الله على فلان ، ومعناها حينئذ توفيقه إلى التوبة ، أو قبولها منه . فمعنى { وَتُبْ عَلَيْنَآ } وفقنا للتوبة أو تقبلها منا .

والتوبة تكون من الكبائر والصغائر ، وتكون من ترك ما هو أولى أو من تقصير يؤدي إلى خطأ في الاجتهاد ، وعلى أحد هذين الوجهين ، تحمل التوبة التي يسأل الأنبياء والمرسلون ربهم قبولها أو التوفيق لها .

{ إِنَّكَ أَنتَ التواب الرحيم } التواب : كثير القبول لتوبة المنيبين إليه ، وقبول توبتهم يقتضي عدم مؤاخذتهم بما يأتونه من سيئات ، ثم بعد تخلصهم من عقوبة الخطيئة أو المعاتبة عليها ينتظرون من رحمة الله أن تحفهم بإحسان .

وإبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - قد طلبا قبول توبتهما صراحة في قولهما { وَتُبْ عَلَيْنَآ } ولوحا إلى طلب الرحمة بذكر اسمه الرحيم ، إذ الرحمة صفة من أثرها الإِحسان ، فكأنهما قالا : تب علينا وارحمنا ، وهذا من أكمل آداب الدعاء وأرجاها للقبول عند الله تعالى .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{رَبَّنَا وَٱجۡعَلۡنَا مُسۡلِمَيۡنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةٗ مُّسۡلِمَةٗ لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبۡ عَلَيۡنَآۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ} (128)

{ ربنا واجعلنا مسلمين لك } مخلصين لك ، من أسلم وجهه ، أو مستسلمين من أسلم إذا استسلم وانقاد ، والمراد طلب الزيادة في الإخلاص والإذعان ، أو الثبات عليه . وقرئ { مسلمين } على أن المراد أنفسهما وهاجر . أو أن التثنية مراتب الجمع . { ومن ذريتنا أمة مسلمة لك } أي واجعل بعض ذريتنا ، وإنما خصا الذرية بالدعاء لأنهم أحق بالشفقة ولأنهم إذا صلحوا صلح بهم الأتباع ، وخصا بعضهم لما أعلما أن في ذريتهما ظلمة ، وعلما أن الحكمة الإلهية لا تقتضي الاتفاق على الإخلاص والإقبال الكلي على الله تعالى ، فإنه مما يشوش المعاش ، ولذلك قيل : لولا الحمقى لخربت الدنيا ، وقيل : أراد بالأمة أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، ويجوز أن تكون من للتبيين كقوله تعالى : { وعد الله الذين آمنوا منكم } قدم على المبين وفصل به بين العاطف والمعطوف كما في قوله تعالى : { خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن } . { وأرنا } من رأى بمعنى أبصر ، أو عرف ، ولذلك لم يتجاوز مفعولين { مناسكنا } متعبداتنا في الحج ، أو مذابحنا . والنسك في الأصل غاية العبادة وشاع في الحج لما فيه من الكلفة والبعد عن العادة . وقرأ ابن كثير والسوسي عن أبي عمرو ويعقوب { أرنا } ، قياسا على فخذ ، في فخذ وفيه إجحاف لأن الكسرة منقولة من الهمزة الساقطة دليل عليها . وقرأ الدوري عن أبي عمرو بالاختلاس { وتب علينا } استتابة لذريتهما ، أو عما فرط منهما سهوا . ولعلهما قالا هضما لأنفسهما وإرشادا لذريتهما { إنك أنت التواب الرحيم } لمن تاب .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{رَبَّنَا وَٱجۡعَلۡنَا مُسۡلِمَيۡنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةٗ مُّسۡلِمَةٗ لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبۡ عَلَيۡنَآۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ} (128)

فائدة تكرير النداء بقوله : { ربنا } إظهار الضراعة إلى الله تعالى وإظهار أن كل دعوى من هاته الدعوات مقصودة بالذات ، ولذلك لم يكرر النداء إلا عند الانتقال من دعوة إلى أخرى فإن الدعوة الأولى لطلب تقبل العمل والثانية لطلب الاهتداء فجملة النداء معترضة بين المعطوف هنا والمعطوف عليه في قوله الآتي : { ربنا وابعث فيهم رسولاً } [ البقرة : 129 ] .

والمراد بمسلميْن لك المنقادان إلى الله تعالى إذ الإسلام الانقياد ، ولما كان الانقياد للخالق بحق يشمل الإيمان بوجوده وأن لا يشرك في عبادته غيره ومعرفة صفاته التي دل عليها فعله كانت حقيقة الإسلام ملازمة لحقيقة الإيمان والتوحيد ، ووجه تسمية ذلك إسلاماً سيأتي عند قوله : { فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون } [ البقرة : 132 ] ، وأما قوله تعالى : { قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا } [ الحجرات : 14 ] فإنه فكك بينهما لأن إسلامهم كان عن خوف لا عن اعتقاد ، فالإيمان والإسلام متغايران مفهوماً وبينهما عموم وخصوص وجهي في الماصدق ، فالتوحيد في زمن الفترة إيمان لا يترقب منه انقياد إذ الانقياد إنما يحصل بالأعمال ، وانقياد المغلوب المكره إسلام لم ينشأ عن اعتقاد إيمان ، إلا أن صورتي الانفراد في الإيمان والإسلام نادرتان .

ألهم الله إبراهيم اسم الإسلام ثم ادخره بعده للدين المحمدي فنُسي هذا الاسم بعد إبراهيم ولم يلقب به دين آخر لأن الله أراد أن يكون الدين المحمدي إتماماً للحنيفية دين إبراهيم وسيجيء بيان لهذا عند قوله تعالى : { ما كان إبراهيم يهودياً } في سورة آل عمران ( 67 ) .

ومعنى طلب أن يجعلهما مسلمين هو طلب الزيادة في ما هما عليه من الإسلام وطلب الدوام عليه ، لأن الله قد جعلهما مسلمين من قبل كما دل عليه قوله : { إذ قال له ربه أسلم } [ البقرة : 131 ] الآية .

وقوله : { ومن ذريتنا أمة مسلمة لك } يتعين أن يكون { من ذريتنا } و { مسلمة } معمولين لفعل { واجعلنا } بطريق العطف ، وهذا دعاء ببقاء دينهما في ذريتهما ، و ( من ) في قوله : { ومن ذريتنا } للتبعيض ، وإنما سألا ذلك لبعض الذرية جمعاً بين الحرص على حصول الفضيلة للذرية وبين الأدب في الدعاء لأن نبوءة إبراهيم تقتضي علمه بأنه ستكون ذريته أمماً كثيرة وأن حكمة الله في هذا العالم جرت على أنه لا يخلو من اشتماله على الأخيار والأشرار فدعا الله بالممكن عادة ، وهذا من أدب الدعاء وقد تقدم نظيره في قوله تعالى : { قال ومن ذريتي } [ البقرة : 124 ] .

ومن هنا ابتدىء التعريض بالمشركين الذين أعرضوا عن التوحيد واتبعوا الشرك ، والتمهيد لشرف الدين المحمدي .

والأمة اسم مشترك يطلق على معان كثيرة والمراد منها هنا الجماعة العظيمة التي يجمعها جامع له بال من نسب أو دين أو زمان ، ويقال أمة محمد مثلاً للمسلمين لأنهم اجتمعوا على الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وهي بزنة فُعله وهذه الزنة تدل على المفعول مثل لقطة وضحكة وقدوة ، فالأمة بمعنى مأمومة اشتقت من الأم بفتح الهمزة وهو القصد ، لأن الأمة تقصدها الفرق العديدة التي تجمعها جامعة الأمة كلها ، مثل الأمة العربية لأنها ترجع إليا قبائل العرب ، والأمة الإسلامية لأنها ترجع إليها المذاهب الإسلامية ، وأما قوله تعالى : { وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم } [ الأنعام : 38 ] فهو في معنى التشبيه البليغ أي كأمم إذا تدبرتم في حكمة إتقان خلقهم ونظام أحوالهم وجدتموه كأمم أمثالكم لأن هذا الاعتبار كان الناس في غفلة عنه .

وقد استجيبت دعوة إبراهيم في المسلمين من العرب الذين تلاحقوا بالإسلام قبل الهجرة وبعدها حتى أسلم كل العرب إلا قبائل قليلة لا تنخرم بهم جامعة الأمة ، وقد أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى : { ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم } [ البقرة : 129 ] ، وأما من أسلموا من بني إسرائيل مثل عبد الله بن سلام فلم يلتئم منهم عدد أمة .

وقوله : { وأرنا مناسكنا } سؤال لإرشادهم لكيفية الحج الذي أمرا به من قبل أمراً مجملاً ، ففعل { أرنا } هو من رأى العرفانية وهو استعمال ثابت لفعل الرؤية كما جزم به الراغب في « المفردات » والزمخشري في « المفصل » وتعدت بالهمز إلى مفعولين . وحق رأى أن يتعدى إلى مفعول واحد لأن أصله هو الرؤية البصرية ثم استعمل مجازاً في العلم بجعل العلم اليقيني شبيهاً برؤية البصر ، فإذا دخل عليه همز التعدية تعدى إلى مفعولين وأما تعدية أرى إلى ثلاثة مفاعيل فهو خلاف الأصل وهو استعمال خاص وذلك إذا أراد المتكلم الإخبار عن معرفة صفة من صفات ذات فيذكر اسم الذات أولاً ويعلم أن ذلك لا يفيد مراده فيكمله بذكر حال لازمة إتماماً للفائدة فيقول رأيت الهلال طالعاً مثلاً ثم يقول : أراني فلان الهلال طالعاً ، وكذلك فعل علم وأخواته من باب ظن كله ومثله باب كان وأخواتها ، ألا ترى أنك لو عدلت عن المفعول الثاني في باب ظن أو عن الخبر في باب كان إلى الإتيان بمصدر في موضع الاسم في أفعال هذين البابين لاستغنيت عن الخبر والمفعول الثاني فتقول كان حضور فلان أي حصل وعلمت مجيء صاحبك وظننت طلوع الشمس وقد رُوي قولُ الفِنْد الزِّمّاني :

عَسَى أن يُرجِعَ الأيّا *** مُ قَوْماً كالذي كانوا

وقال حَطائط بن يَعْفُر :

أَرِيني جَواداً مات هُزْلاً لعلَّني*** أَرى ما ترين أو بخيلاً مُخَلَّدا

فإن جملة مات هزلاً ليست خبراً عن جواداً إذ المبتدأ لايكون نكرة ، وبهذا يتبين أن الصواب أن يعد الخبر في باب كان والمفعول الثاني في باب ظن أحوالاً لازمة لتمام الفائدة وأن إطلاق اسم الخبر أو المفعول على ذلك المنصوب تسامح وعبارة قديمة .

وقرأ ابن كثير ويعقوب { وأرْنا } بسكون الراء للتخفيف وقرأه أبو عمرو باختلاس كسرة الراء تخفيفاً أيضاً ، وجملة { إنك أنت التواب الرحيم } تعليل لجمل الدعاء .

والمناسك جمع منسك وهو اسم مكان من نسك نَسكاً من باب نصر أي تعبد أو من نسك بضم السين نساكة بمعنى ذبح تقرباً ، والأظهر هو الأول لأنه الذي يحق طلب التوفيق له وسيأتي في قوله تعالى : { فإذا قضيتم مناسككم } [ البقرة : 200 ] .