التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَيۡبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ} (3)

ثم فصل القرآن بعد ذلك أوصاف المتقين ، ومدحهم بجملة من المناقب الحميدة ، فقال : { الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب } أي : يصدقون بما غاب عن حواسهم ، كالصانع وصفاته ، وكاليوم الآخر وما فيه من بعث وحساب وثواب وعقاب .

والإيمان لغة التصديق والإذعان ، وهو إفعال من الأمن . وشرعاً التصديق بما علم بالضرورة أنه من الدين ، كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر . . . الخ ، وعدى { يُؤْمِنُونَ } بالباء لتضمينه معنى أقر واعترف .

والغيب : مصدر غاب يغيب ، وكثيراً ما يستعمل بمعنى الغائب ، وهو الظاهر من هذه الآية الكريمة . ومعناه : ما لا تدركه الحواس ، ولا يعلم ببداهة العقل . قال بعض العلماء : وخص بالذكر الإيمان بالغيب دون غيره من متعلقات الإيمان ، لأن الإيمان بالغيب هو الأصل في اعتقاد إمكان ما لا تخبر به الرسل عن وجود الله والعالم العلوى ، فإذا آمن به المرء وتصدى لسماع دعوة الرسول وللنظر فيما يبلغه عن الله - تعالى - فسهل عليه إدراك الأدلة ، وأما من يعتقد أنه ليس من وراء عالم الماديات عالم آخر ، فقد راض نفسه على الإعراض عن الدعوة ، كما هو حال الماديين الذين يقولون : " ما يهلكنا إلا الدهر :

والإيمان بالغيب : يستلزم التصديق به على وجه الجزم ، وهو لا يحصل إلا عن دليل .

ولا شك أن قيام البراهين على صدق من أخبر بالغيب يجعل المؤمن بهذا الغيب مصدقاً عن دليل ، فنحن لا نحتاج في الإيمان بالملائكة والكتب السماوية السابقة ، والرسل الذين أرسلوا من قبل ، والبعث وما فيه من ثواب وعقاب ، لا نحتاج في الإيمان بكل ذلك إلى دليل زائد على الأدلة التي قامت على صدق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .

والإيمان بالغيب دليل على اتساع العقول ، وسلامة القلوب ، إذ أن معنى الإيمان بالغيب هو أن عقولهم قد سلم إدراكها ، وتقشعت عنها غشاواتها ، وامتد نظرها في الكائنات فأدركت أن لها مبدعاً حكيماً وخالقاً قديراً ، جعلها تسير بنظام محكم ، فهذه كواكب تظهر وتغيب ، وسماء مرفوعة بغير عمد ، وأرض راسية لا تميد ولا تضطرب . . . { صُنْعَ الله الذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } فكان من ذلك لتلك العقول براهين قاطعة على وجود خالق مدبر ، وحكيم قدير ، ومبدع لا تأخذه سنة ولا نوم .

والإيمان بالغيب الذي أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم يقوى ويعظم كلما قوى الإيمان في القلوب ، واستولى الصفاء على النفوس ، وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين بالغيب في أحاديث متعددة ، منها ما جاء عن خالد بن دريك ، عن ابن محيريز قال : قلت لابن جمعة : حدثنا حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : نعم أحدثك حديثاً . تغدينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا أبو عبيدة بن الجراح فقال : " يا رسول الله ، هل أحد خير منا ؟ أسلمنا معك وجاهدنا معك .

قال : نعم ، قوم من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني " . قال ابن كثير : فقد مدحهم على ذلك وذكر أنهم أعظم أجراً من هذه الحيثية لا مطلقاً .

وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن منده وأبو نعيم عن بديلة بنت أسلم قالت : صليت الظهر أو العصر في مسجد بني حارثة ، واستقبلنا مسجد إيلياء فصلينا سجدتين ، ثم جاء من يخبرنا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت ، فتحول الرجال مكان النساء ، والنساء مكان الرجال ، فصلينا السجدتين الباقيتين ونحن مستقبلون البيت الحرام ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " أولئك قوم آمنوا بالغيب " تلك أول صفة نتيجة التقوى وهي الإيمان بالغيب ، أما الصفة الثانية التي مدح الله بها المتقين فهي قوله - تعالى - : { وَيُقِيمُونَ الصلاة } . الصلاة في اللغة الدعاء ، من صلى يصلى إذا دعا ، واستعملها الشارع في العبادة ذات الركوع والسجود لاشتمالها على الدعاء ، والإقامة في الأصل : الدوام والثبات ، من قولك : قام الحق أي : ظهر وثبت . ومعنى { وَيُقِيمُونَ الصلاة } : يؤدونها في أوقاتها المقدرة لها ، مع تعديل أركانها ، وإيقاعها مستوفية لواجباتها وسننها وآدابها وخشوعها ، فإن الصلاة المقامة بحق هي تلك التي يصحبها الإخلاص ، واستحضار جلال الله في الركوع والسجود ، وهي التي تترتب عليها الآثار العظيمة من تزكية النفس ، وعفافها ، وتركها لكل الشرور والآثام ، كما قال - تعالى - { إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشآء والمنكر } وقدم الإيمان بالغيب على إقامة الصلاة تعظيماً لعمل القلب ، واعتداداً بشرطية الإيمان في صحة أعمال الجوارح .

وقدم إقامة الصلاة على الإنفاق ، لأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر ، ولأنها تتكرر في اليوم خمس مرات ، ولأنها صلة بين العبد وربه ، والإنفاق صلته بالناس ، ولأن مشروعيتها كانت سابقة على مشروعية الزكاة . أما الصفة الثالثة التي مدح الله بها المتقين فهي قوله - تعالى - : { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } . أي : ومما أعطيناهم وملكناهم يتصدقون في وجوه الخير ، ويمدون أيديهم بالإحسان إلى الفقير والمسكين .

والرزق عند جمهور العلماء ما صلح للانتفاع به حلالا كان أو حراماً ، خلافاً للمعتزلة الذين يرون أن الحرام ليس برزق . والإنفاق : إخراج المال وإنفاده وصرفه ، يقال : نفق - كفرح ونصر - نفد وفني أو قلّ . وأنفق ماله أنفده ، وأصل المادة يدل على الخروج والذهاب ، ومنه : نافق فلان ، والنافقاء ، والنفق . وقال " ينفقون " ولم يقل أنفقوا ، ليشعر بأن الإنفاق منهم يتجدد بين وقت وآخر . ولم يحدد وجوه الإنفاق بل تركها مطلقة لتشمل الفرض والواجب وغيرهما من وجوه الإحسان .

وإيراد " من " في قوله تعالى - { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ } للإشارة إلى أن مواظبتهم على إنفاق أموالهم بين الحين والحين ، كفيل بتوصيلهم إلى زمرة المهتدين المفلحين ، وللإشعار بأنهم ينفقون بعض أموالهم مبتعدين عن الإسراف والتبذير حتى لا يتركوا ورثتهم عالة يتكففون وجوه الناس .

هذا ، وقد عنى القرآن الكريم عناية فائقة بالحض على الإنفاق في وجوه الخير ، ومدح الذين يفعلون ذلك مدحاً عظيماً في عشرات الآيات ، وذلك لأن الأمة التي يكثر فيها المنفقون لأموالهم في وجوه الخير ، لا بد أن تعز كلمتها ، وتسلم من كوارث شتى ، كالجهل ، والفقر ، والمرض .

فببذل المال تسد حاجات البؤساء ، وتشاد معاهد التعليم ، وتقام وسائل حفظ الصحة ، وتنمو المحبة والمودة بين الأغنياء والفقراء . قال تعالى : { مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ }

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَيۡبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ} (3)

{ الذين يؤمنون بالغيب } إما موصول بالمتقين على أنه صفة مجرورة مقيدة له إن فسر التقوى بترك مالا ينبغي مترتبة عليه ترتيب التحلية على التخلية ، والتصوير على التصقيل أو موضحة إن فسر بما يعم فعل الحسنات وترك السيئات لاشتماله على ما هو أصل الأعمال وأساس الحسنات من الإيمان والصلاة والصدقة ، فإنها أمهات الأعمال النفسانية والعبادات البدنية والمالية المستتبعة لسائر الطاعات والتجنب عن المعاصي غالبا ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } . وقوله عليه الصلاة والسلام : " الصلاة عماد الدين ، والزكاة قنطرة الإسلام " . أو مسوقة للمدح بما تضمنه المتقين . وتخصيص الإيمان بالغيب وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة بالذكر إظهار لفضلها على سائر ما يدخل تحت اسم التقوى . أو على أنه مدح منصوب ، أو مرفوع بتقدير أعني أو هم الذين . وإما مفصول عنه مرفوع بالابتداء وخبره أولئك على هدى ، فيكون الوقف على المتقين تاما . والإيمان في اللغة عبارة عن التصديق مأخوذ من الأمن ، كأن المصدق أمن من المصدق التكذيب والمخالفة ، وتعديته بالباء لتضمنه معنى الاعتراف وقد يطلق بمعنى الوثوق من حيث إن الواثق بالشيء صار ذا أمن منه ، ومنه ما أمنت أن أجد صحابة وكلا الوجهين حسن في يؤمنون بالغيب .

وأما في الشرع : فالتصديق بما علم بالضرورة أنه من دين محمد صلى الله عليه وسلم كالتوحيد والنبوة والبعث والجزاء ، ومجموع ثلاثة أمور : اعتقاد الحق ، والإقرار به ، والعمل بمقتضاه عند جمهور المحدثين والمعتزلة والخوارج . فمن أخل بالاعتقاد وحده فهو منافق ، ومن أخل بالإقرار فكافر ، ومن أخل بالعمل ففاسق وفاقا ، وكافر عند الخوارج ، وخارج عن الإيمان غير داخل في الكفر عند المعتزلة ، والذي يدل على أنه التصديق وحده أنه سبحانه وتعالى أضاف الإيمان إلى القلب فقال : { أولئك كتب في قلوبهم الإيمان } ، { وقلبه مطمئن بالإيمان } ، { ولم تؤمن قلوبهم } ، { ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } ، وعطف عليه العمل الصالح في مواضع لا تحصى وقرنه بالمعاصي فقال تعالى : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } ، { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى } ، { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } مع ما فيه من قلة التغيير فإنه أقرب إلى الأصل وهو متعين الإرادة في الآية ، إذ المعدى بالباء هو التصديق وفاقا . ثم اختلف في أن مجرد التصديق بالقلب هل هو كاف لأنه المقصود أم لا بد من انضمام الإقرار به للمتمكن منه ، ولعل الحق هو الثاني لأنه تعالى ذم المعاند أكثر من ذم الجاهل المقصر ، وللمانع أن يجعل الذم للإنكار لا لعدم الإقرار للمتمكن منه . والغيب مصدر ، وصف به للمبالغة كالشهادة في قوله تعالى : { عالم الغيب والشهادة } والعرب تسمي المطمئن من الأرض والخمصة التي تلي الكلية غيبا ، أو فيعل خفف كقيل ، والمراد به الخفي الذي لا يدركه الحس ولا تقتضيه بديهة العقل ، وهو قسمان : قسم لا دليل عليه وهو المعني بقوله تعالى : { وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو } وقسم نصب موقع عليه دليل : كالصانع وصفاته واليوم الآخر وأحواله وهو المراد به في هذه الآية ، هذا إذا جعلته صلة للإيمان وأوقعته موقع المفعول به . وإن جعلته حالا على تقدير ملتبسين بالغيب كان بمعنى الغيبة والخفاء . والمعنى أنهم يؤمنون غائبين عنكم لا كالمنافقين الذين إذا { لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون } . أو عن المؤمن به لما روي أن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : والذي لا إله غيره ما آمن أحد أفضل من إيمان بغيب ، ثم قرأ هذه الآية . وقيل المراد بالغيب : القلب لأنه مستور ، والمعنى يؤمنون بقلوبهم لا كمن يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم . فالباء عل الأول للتعدية وعلى الثاني للمصاحبة . وعلى الثالث للآلة . { ويقيمون الصلاة } أي يعدلون أركانها ويحفظونها من أن يقع زيغ في أفعالها ، من أقام العود إذا قومه أو يواظبون عليها ، من قامت السوق إذا نفقت وأقمتها إذا جعلتها نافقة قال :

أقامت غزالة سوق الضراب *** لأهل العراقين حولا قميطا

فإنه إذا حوفظ عليها كانت كالنافق الذي يرغب فيه ، وإذا ضيعت كانت كالكاسد المرغوب عنه ، أو يتشمرون لأدائها من غير فتور ولا توان ، من قولهم قام بالأمر وأقامه إذا جد فيه وتجلد ، وضده قعد عن الأمر ، وتقاعد . أو يؤدونها .

عبر عن الأداء بالإقامة لاشتمالها على القيام ، كما عبر عنها بالقنوت والركوع والسجود والتسبيح . والأول أظهر لأنه أشهر وإلى الحقيقة أقرب وأفيد ، لتضمنه التنبيه على أن الحقيق بالمدح من راعى حدودها الظاهرة من الفرائض والسنن ، وحقوقها الباطنة من الخشوع والإقبال بقلبه على الله تعالى ، لا { المصلون الذين هم عن صلاتهم ساهون } ، ولذلك ذكر في سياق المدح والمقيمين الصلاة ، وفي معرض الذم فويل للمصلين ، والصلاة فعلة من صلى إذا دعا كالزكاة من زكى ، كتبتا بالواو على لفظ المفخم ، وإنما سمي الفعل المخصوص بها لاشتماله على الدعاء .

وقيل : أصل صلى حرك الصلوين لأن المصلي يفعله في ركوعه وسجوده ، واشتهار هذا اللفظ في المعنى الثاني مع عدم اشتهاره في الأول لا يقدح في نقله عنه ، وإنما سمي الداعي مصليا تشبيها له في تخشعه بالراكع الساجد . { ومما رزقناهم ينفقون } الرزق في اللغة : الحظ قال تعالى : { وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون } . والعرف خصصه بتخصيص الشيء بالحيوان للانتفاع به وتمكينه منه .

وأما المعتزلة لما استحالوا على الله تعالى أن يمكن من الحرام لأنه منع من الانتفاع به وأمر بالزجر عنه ، قالوا الحرام ليس برزق ، ألا ترى أنه تعالى أسند الرزق ههنا إلى نفسه إيذانا بأنهم ينفقون الحلال المطلق . فإن إنفاق الحرام لا يوجب المدح ، وذم المشركين على تحريم بعض ما رزقهم الله تعالى بقوله : { قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا } وأصحابنا جعلوا الإسناد للتعظيم والتحريض على الإنفاق ، والذم لتحريم ما لم يحرم . واختصاص ما رزقناهم بالحلال للقرينة . وتمسكوا لشمول الرزق له بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عمرو بن قرة : " لقد رزقك الله طيبا فاخترت ما حرم الله عليك من رزقه مكان ما أحل الله لك من حلاله " . وبأنه لو لم يكن رزقا لم يكن المتغذي به طول عمره مرزوقا ، وليس كذلك لقوله تعالى : { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها } .

وأنفق الشيء وأنفده أخوان ، ولو استقريت الألفاظ وجدت كل ما فاؤه نون وعينه فاء دالا على معنى الذهاب والخروج ، والظاهر من هذا الإنفاق صرف المال في سبيل الخير من الفرض والنفل . ومن فسره بالزكاة ذكر أفضل أنواعه والأصل فيه ، أو خصصه بها لاقترانه بما هو شقيقها . وتقديم المفعول للاهتمام به وللمحافظة على رؤوس الآي ، وإدخال من التبعيضية عليه لمنع المكلف عن الإسراف المنهي عنه . ويحتمل أن يراد به الإنفاق من جميع المعاون التي أتاهم الله من النعم الظاهرة والباطنة ، ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام : " إن علما لا يقال به ، ككنز لا ينفق منه " . وإليه ذهب من قال ومما خصصناهم به من أنوار المعرفة يفيضون .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَيۡبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ} (3)

الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ( 3 )

{ يؤمنون } معناه يصدقون ويتعدى بالباء ، وقد يتعدى باللام كما قال تعالى : { ولاتؤمنوا إلا لمن تبع دينكم }( {[14]} ) [ آل عمران : 73 ] وكما قال : { فما آمن لموسى }( {[15]} ) [ يونس : 83 ] وبين التعديتين فرق ، وذلك أن التعدية باللام في ضمنها تعدٍّ بالباء يفهم من المعنى( {[16]} ) . واختلف القراء في همز { يؤمنون } فكان ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي يهمزون «يؤمنون » وما أشبهه ، مثل يأكلون ، ويأمرون ، ويؤتون ؛ وكذلك مع تحرك الهمزة مثل «يؤخركم » و «يؤوده » إلا أن حمزة كان يستحب ترك الهمز إذا وقف ، والباقون يقفون بالهمز .

وروى ورش عن نافع ترك الهمز في جميع ذلك . وقد روي عن عاصم أنه لم يكن يهمز الساكنة .

وكان أبو عمرو إذا أدرج القراءة أو قرأ في الصلاة لم يهمز كل همزة ساكنة ، إلا أنه يهمز حروفاً من السواكن بأعيانها ستذكر في مواضعها إن شاء الله . وإذا كان سكون الهمزة علامة للجزم لم يترك همزها مثل { ننسأها } [ البقرة : 105 ] { وهيىء لنا } [ الكهف : 8 ] وما أشبهه .

وقوله : { بالغيب } قالت طائفة : معناه يصدقون إذا غابوا وخلوا ، لا كالمنافقين الذين يؤمنون إذا حضروا ويكفرون إذا غابوا . وقال آخرون : معناه يصدقون( {[17]} ) بما غاب عنهم مما أخبرت به الشرائع .

واختلفت عبارة المفسرين في تمثيل ذلك ، فقالت فرقة : «الغيب في هذه الآية هو الله عز وجل » وقال آخرون : «القضاء والقدر » وقال آخرون : «القرآن وما فيه من الغيوب » وقال آخرون : «الحشر والصراط والميزان والجنة والنار » .

قال القاضي أبو محمد : وهذه الأقوال لا تتعارض ، بل يقع الغيب على جميعها( {[18]} ) . والغيب في اللغة : ما غاب عنك من أمر ، ومن مطمئن الأرض الذي يغيب فيه داخله .

وقوله : { يقيمون } معناه يظهرونها ويثبتونها( {[19]} ) ، كما يقال : أقيمت السوق ، وهذا تشبيه بالقيام من حالة خفاء ، قعود أو غيره ، ومنه قول الشاعر( {[20]} ) : [ الكامل ] .

وإذا يقال أتيتُم يبرحوا . . . حتى تقيمَ الخيلُ سوقَ طِعان

ومنه قول الشاعر( {[21]} ) : [ المتقارب ]

أقمنا لأهل العراقين سوق الطِّ . . . طِعان فخاسوا وولّوا جميعا

وأصل { يقيمون } يقومون ، نقلت حركة الواو إلى القاف فانقلبت ياء لكون الكسرة قبلها . و { الصلاة } مأخوذة من صلى يصلي( {[22]} ) إذا دعا ، كما قال الشاعر( {[23]} ) : [ البسيط ]

عليكِ مثل الذي صلّيت فاغتمضي . . . يوماً فإنَّ لجنب المرءِ مُضْطَجعا

ومنه قول الآخر( {[24]} ) : [ الطويل ]

لها حارس لا يبرح الدهرَ بيتها . . . وإنْ ذبحت صلّى عليها وزمزما

فلما كانت الصلاة في الشرع دعاء انضاف إليه هيئات وقراءة سمي جميع ذلك باسم الدعاء . وقال قوم : هي مأخوذة من الصَّلاَ وهو عِرْق في وسط الظهر ويفترق عند العجب فيكتنفه ، ومنه أخذ المصلي في سبق الخيل ، لأنه يأتي مع صَلَوي السابق ، فاشتقّت الصلاة منه ، إما لأنها جاءت ثانية للإيمان فشبهت بالمصلِّي من الخيل ، وإما لأن الراكع والساجد صَلَواه( {[25]} ) .

قال القاضي أبو محمد : والقول إنها من الدعاء أحسن .

وقوله تعالى : { ومما رزقناهم ينفقون } كتبت «مما » متصلة «وما » بمعنى «الذي » فحقّها أن تكون منفصلة ، إلا أن الجار والمجرور كشيء واحد ، وأيضاً فلما خفيت نون «من » في اللفظ حذفت في الخط . والرزق عند أهل السنة . ما صح الانتفاع به حلالاً كان أو حراماً ، بخلاف قول المعتزلة إن الحرام ليس برزق( {[26]} ) . و { ينفقون } معناه هنا يؤتون ما ألزمهم الشرع من زكاة وما ندبهم إليه من غير ذلك .

قال ابن عباس : { ينفقون } يؤتون الزكاة احتساباً لها .

قال غيره : الآية في النفقة في الجهاد .

قال الضحاك : هي نفقة كانوا يتقربون بها إلى الله عز وجل على قدر يُسْرهم .

قال ابن مسعود وابن عباس أيضاً : هي نفقة الرجل على أهله .

قال القاضي أبو محمد : والآية تعمّ الجميع . وهذه الأقوال تمثيل لا خلاف( {[27]} ) .

/خ4


[14]:- أي لأن الدليل الذي استدل به لا يشهد له، كما قال المؤلف بعد: «وهو في الحقيقة دليل على خلاف ما ذهب إليه». إلخ.
[15]:- هو إبراهيم بن أبي عبلة، بن يقظان، بن المرتحل، أبو إسماعيل المقدسي، تابعي، له حروف في القراءات، واختيار خالف فيه العامة، أخذ القراءة عن أم الدرداء الصغرى هجيمة، قال: قرأت القرآن عليه سبع مرات، ويقال: إنه قرأ على الزهري، وروى عنه وعن أبي أمامة، وروى عنه مالك بن أنس، وابن المبارك. توفي سنة 153هـ.
[16]:- جاء في كتاب (البيان والتبيين) للجاحظ الجزء الثالث صفحة166 ما نصه: وقال الوزيري: وأعلم أنـني سأصير مـيتا *** إذا سار النواعج لا أسير وقال السائلون: من المُسَجَّى؟ *** فقال المخبرون لهم: وزير والمسجى الملتف في أكفانه، والنواعج الإبل السراع، جمع ناعجة، والبيتان في (الجامع لأحكام القرآن)1/118 بلفظ (القائلون)، بدلا من (المخبرون).
[17]:- قال في القاموس: كان غاوي بن عبد العزى سادنا لصنم لبني سليم، فبينما هو عنده إذ أقبل ثعلبان يشتدان حتى تسنماه، فبالا عليه، فقال البيت، ثم قال: يا معشر سليم، لا والله لا يضر ولا ينفع، ولا يعطي ولا يمنع، فقال: بل أنت راشد بن عبد ربه. وبان من هذا أن قائل البيت بن عبد العزى، وأن كلمة (الثعلبان) هي تثنية (ثعلب) وفي حياة الحيوان للدميري إثبات أنه ليس بتثنية، وإنما هو ذكر الثعالب فتكون بضم الثاء واللام.
[18]:- الخبت: المطمئن من الأرض فيه رمل،والخبت والعرعر هنا مكانان معينان.
[19]:- بعده: و كنت امرءا لا أمدح الدهر سوقة فلست على خير أتاك بحاسد امتن عليه بمدحه، وجعله خيرا سيق إليه لا يحسده عليه، وهذا مما أخذ عليه والخَبَبُ ضرب من السير.
[20]:- هو الفرزدق – من قصيدة يمدح بها عبد الملك بن مروان، وهو في البيت يذم قوما، ويشبههم ببدوية حمقاء، وضعت سمنها في زق غير صالح ففسد. وسلأت: معناها طبخت، يقال: سلأت السمن واستلأته، وذلك إذا طبخ وعولج. وحقنت معناه: صبت: من حقن اللبن في السقاء يحقنه حقنا: صبه فيه ليخرج زبده "والسلاء بالكسر ممدود": هو السمن.
[21]:- لما بلغ خبر هزيمة حنين إلى مكة سر بذلك قوم، وأظهروا الشماتة، وقال قائل منهم: ترجع العرب إلى دين آبائها. وقال آخر وهو أخ صفوان لأمه: «ألا قد بطل السحر اليوم»، فقال له صفوان وهو يومئذ مشرك: «اسكت، فض الله فاك، والله لأن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوزان». انظر السيرة الحلبية.
[22]:- بنو عمه "بنو أمية"، وغيرهم هم "بنو أسد"، فبنو أمية أقرب إلى ابن عباس نسبا من بني أسد، وإنما قال هذا لما كان بينه وبين ابن الزبير من سوء التفاهم.
[23]:- قائله علقمة بن عبدة، ويعني بقوله أفضت إليك، وصلت إليك ربابتي بكسر الراء، فصرت أنت الذي ترب أمري وتصلحه، لما خرجت من ربابة غيرك من الملوك الذين كانوا قبلك، فضيعوا أمري، وهم الربوب جمع رب، وفي رواية: "ومن قبل" وستأتي عند المؤلف، وفي اللسان: ربه يربه ربا: ملكه.
[24]:- فكل قرن وجيل منها يسمى عالما أيضا، ومن ثم حسن جميع الأجيال والقرون من كل شيء في العالمين.
[25]:- (مالك) اسم فاعل، و(ملك) صفة مشبهة أو مخفف من (مالك). و(مالك يوم الدين) هو للاستمرار الثبوتي، كما أن قوله تعالى (وجاعل الليل سكنا) هو للاستمرار التجددي، فالاستمرار عندهم قسمان تجددي وثبوتي.
[26]:- معاذ بن جبل بن عمرو، أحد الذين حفظوا القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، توفي سنة (18)هـ. وطلحة بن عبيد الله بن عثمان، أسلم على يد أبي بكر، وكان واحدا من الستة أصحاب الشورى، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وقى النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه في غزوة أحد. وقد قتله مروان بن الحكم سنة (36)هـ. والزبير بن العوام –أحد المبشرين بالجنة، وابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم، قتله عمرو بن جرموز غدرا سنة (36)هـ.
[27]:- هو عبد الوارث بن سعيد. أبو عبيدة العنبري مولاهم البصري المتوفي سنة 180هـ، قرأ القرآن وجوده على أبي عمرو بن العلاء.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَيۡبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ} (3)

{ الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب } .

يتعين أن يكون كلاماً متصلاً بقوله : { للمتقين } [ البقرة : 2 ] على أنه صفة لإرْدَاف صفتِهم الإجمالية بتفصيلٍ يعرف به المراد ، ويكون مع ذلك مبدأ استطراد لتصنيف أصناف الناس بحسب اختلاف أحوالهم في تلقي الكتاب المنوَّه به إلى أربعة أصناف بعد أن كانوا قبل الهجرة صنفين ، فقد كانوا قبل الهجرة صِنفاً مؤمنين وصنفاً كافرين مصارحين ، فزاد بعد الهجرة صنفان : هما المنافقون وأهل الكتاب ، فالمشركون الصرحاء هم أعداء الإسلام الأولون ، والمنافقون ظهروا بالمدينة فاعتز بهم الأولون الذين تركهم المسلمون بدار الكفر ، وأهل الكتاب كانوا في شغل عن التصدي لمناوأة الإسلام ، فلما أصبح الإسلام في المدينة بجوارهم أوجسوا خيفة فالتفُّوا مع المنافقين وظاهَروا المشركين . وقد أشير إلى أن المؤمنين المتقين فريقان : فريق هم المتقون الذين أسلموا ممن كانوا مشركين وكان القرآن هُدى لهم بقرينة مقابلة هذا الموصول بالموصول الآخر المعطوف بقوله : { والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون } [ البقرة : 4 ] الخ . فالمثنيُّ عليهم هنا هم الذين كانوا مشركين فسمعوا الدعوة المحمدية فتدبروا في النجاة واتقوا عاقبة الشرك فآمنوا ، فالباعث الذي بعثهم على الإسلام هو التقوى دون الطمع أو التجربة ، فوائل بن حجر مثلاً لما جاء من اليمن راغباً في الإسلام هو من المتقين ، ومسيلمة حين وفد مع بني حنيفة مضمر العداء طامعاً في الملك هو من غير المتقين . وفريق آخر يجيء ذكره بقوله : { والذين يؤمنون بما أنزل إليك } [ البقرة : 4 ] الآيات .

وقد أجريت هذه الصفات للثناء على الذين آمنوا بعد الإشراك بأن كان رائدهم إلى الإيمان هو التقوى والنظر في العاقبة ، ولذلك وصفهم بقوله : { يؤمنون بالغيب } أي بعد أن كانوا يكفرون بالبعث والمعاد كما حكى عنهم القرآن في آيات كثيرة ، ولذلك اجتلبت في الإخبار عنهم بهذه الصِّلات الثلاث صيغة المضارع الدالة على التجدُّد إيذاناً بتجدد إيمانهم بالغيب وتجدد إقامتهم الصلاة والإنفاق إذ لم يكونوا متصفين بذلك إلا بعد أن جاءهم هدى القرآن .

وجوز صاحب « الكشاف » كونه كلاماً مستأنفاً مبتدأ وكون : { أولئك على هدى } [ البقرة : 5 ] خبره . وعندي أنه تجويز لما لا يليق ، إذ الاستئناف يقتضي الانتقال من غرض إلى آخر ، وهو المسمى بالاقتضاب وإنما يحسن في البلاغة إذا أشيع الغرض الأول وأفيض فيه حتى أوعب أو حتى خيفت سآمة السامع ، وذلك موقع أما بعد أو كلمة هذا ونحوهما ، وإلا كان تقصيراً من الخطيب والمتكلم لا سيما وأسلوب الكتاب أوسع من أسلوب الخطابة لأن الإطالة في أغراضه أمكن .

والغيب مصدر بمعنى الغيبة : { ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب } [ يوسف : 52 ] { ليعلم الله من يخافه بالغيب } [ المائدة : 94 ] وربما قالوا بظهر الغيب قال الحطيئة :

كيف الهجاء وما تنفك صالحة *** من آل لام بظهر الغيب تأتيني

وفي الحديث : " دعوة المؤمن لأخيه بظهر الغيب مستجابة " والمراد بالغيب ما لا يدرك بالحواس مما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم صريحاً بأنه واقع أو سيقع مثل وجودِ الله ، وصفاتِه ، ووجودِ الملائكة ، والشياطين ، وأشراطِ الساعة ، وما استأثر الله بعلمه . فإن فسر الغيب بالمصدر أي الغيبة كانت الباء للملابسة ظرفاً مستقراً فالوصف تعريض بالمنافقين ، وإن فسر الغيب بالاسم وهو ما غاب عن الحس من العوالم العلوية والأخروية ، كانت الباء متعلقة بيؤمنون ، فالمعنى حينئذٍ : الذين يؤمنون بما أخبر الرسول من غير عالم الشهادة كالإيمان بالملائكة والبعث والروح ونحو ذلك . وفي حديث الإيمان : " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره " وهذه كلها من عوالم الغيب ، كان الوصف تعريضاً بالمشركين الذين أنكروا البعث وقالوا : { هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد } [ سبأ : 7 ] فجَمَع هذا الوصف بالصراحة ثناءً على المؤمنين ، وبالتعريض ذماً للمشركين بعدم الاهتداء بالكتاب ، وذماً للمنافقين الذين يؤمنون بالظاهر وهم مبطنون الكفر ، وسيُعْقَب هذا التعريضُ بصريح وصفهم في قوله : { إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم } [ البقرة : 6 ] الآيات . وقوله : { ومن الناس من يقول آمنا بالله } [ البقرة : 8 ] .

ويؤمنون معناه يصدقون ، وآمن مزيد أمن وهمزته المزيدة دلت على التعدية ، فأصل آمن تعدية أَمِن ضد خاف فآمن معناه جعل غيره آمناً ثم أطلقوا آمن على معنى صدَّق ووَثِق حكَى أبو زيد عن العرب : « ما آمنت أَنْ أجد صحابةً » يقوله المسافر إذا تأخر عن السفر ، فصار آمن بمعنى صدَّق على تقدير أنه آمن مُخبِرَه من أن يُكذِّبه ، أو على تقدير أنه آمن نفسه من أن تخاف من كَذِب الخبر مبالغة في أمن كأقدم على الشيء بمعنى تقدم إليه وعمد إليه ، ثم صار فعلاً قاصراً إما على مراعاة حذف المفعول لكثرة الاستعمال بحيث نزل الفعل منزلة اللازم ، وإما على مراعاة المبالغة المذكورة أي حصل له الأمْن أي من الشك واضطراب النفس واطمأن لذلك لأن معنى الأمن والاطمئنان متقارب ، ثم إنهم يضمنون آمن معنى أَقر فيقولون آمن بكذا أي أقر به كما في هذه الآية ، ويضمنونه معنى اطمأَن فيقولون آمن له : { أفتطمعون أن يؤمنوا لكم } [ البقرة : 75 ] .

ومجيء صلة الموصول فعلاً مضارعاً لإفادة أن إيمانهم مستمر متجدد كما علمت آنفاً ، أي لايطرأ على إيمانهم شك ولا ريبة .

وخص بالذكر الإيمان بالغيب دون غيره من متعلقات الإيمان لأن الإيمان بالغيب أي ما غاب عن الحس هو الأصل في اعتقاد إمكان ما تخبر به الرسل عن وجود الله والعالم العلوي ، فإذا آمن به المرء تصدى لسماع دعوة الرسول وللنظر فيما يبلِّغه عن الله تعالى فسهل عليه إدراك الأدلة ، وأما مَن يعتقدُ أن ليس وراء عالم الماديات عالم آخر وهو ما وراء الطبيعة فقد راض نفسه على الإعراض عن الدعوة إلى الإيمان بوجود الله وعالم الآخرة كما كان حال الماديين وهم المسموْن بالدُّهْريين الذين قالوا : { ما يهلكنا إلا الدهر } [ الجاثية : 24 ] وقريب من اعتقادهم اعتقاد المشركين ولذلك عبدوا الأصنام المجسمة ومعظم العرب كانوا يثبتون من الغيب وجودَ الخالق وبعضهم يثبت الملائكة ولا يؤمنون بسوى ذلك . والكلام على حقيقة الإيمان ليس هذا موضعه ويجىء عند قوله تعالى : { وما هم بمؤمنين } [ البقرة : 8 ] .

{ وَيُقِيمُونَ الصلاة } .

الإقامة مصدر أقام الذي هو معدى قام ، عدي إليه بالهمزة الدالة على الجعل ، والإقامة جعلها قائمة ، مأخوذ من قامت السوق إذا نَفَقَت وتداول الناس فيها البيع والشراء وقد دل على هذا التقدير تصريح بعض أهل اللسان بهذا المقدر . قال أيمن ابن خرَيم الأنطري{[75]} :

أقامت غزالةُ سُوقَ الضِّرابْ *** لأَهل العراقَين حَوْلاً قميطاً

وأصل القيام في اللغة هو الانتصاب المضاد للجلوس والاضطجاع ، وإنما يقوم القائم لقصد عمل صعب لا يتأتى من قعود ، فيقوم الخطيب ويقوم العامل ويقوم الصانع ويقوم الماشي فكان للقيام لوازم عرفية مأخوذة من عوارضه اللازمة ولذلك أطلق مجازاً على النشاط في قولهم قام بالأمر ، ومن أشهر استعمال هذا المجاز قولهم قامت السوق وقامت الحرب ، وقالوا في ضده ركدت ونامت ، ويفيد في كل ما يتعلق به معنى مناسباً لنشاطه المجازي وهو من قبيل المجاز المرسل وشاع فيها حتى ساوى الحقيقة فصارت كالحقائق ولذلك صح بناء المجاز الثاني والاستعارة عليها ، فإقامة الصلاة استعارة تبعية شبهت المواظبة على الصلوات والعناية بها بجعل الشيء قائماً ، وأحسب أن تعليق هذا الفعل بالصلاة من مصطلحات القرآن وقد جاء به القرآن في أوائل نزوله فقد ورد في سورة المزمل ( 20 ) : { وأقيموا الصلاة } وهي ثالثة السور نزولاً . وذكر صاحب الكشاف وجوهاً أُخر بعيدة عن مساق الآية .

وقد عبر هنا بالمضارع كما وقع في قوله : { يؤمنون } ليصلح ذلك للذين أقاموا الصلاة فيما مضى وهم الذين آمنوا من قبل نزول الآية ، والذين هم بصدد إقامة الصلاة وهم الذين يؤمنون عند نزول الآية ، والذين سيهتدون إلى ذلك وهم الذين جاءوا من بعدهم إذ المضارع صالح لذلك كله لأن من فعل الصلاة في الماضي فهو يفعلها الآن وغداً ، ومن لم يفعلها فهو إما يفعلها الآن أو غداً وجميع أقسام هذا النوع جعل القرآن هدى لهم . وقد حصل من إفادة المضارع التجدد تأكيد ما دل عليه مادة الإقامة من المواظبة والتكرر ليكون الثناء عليهم بالمواظبة على الصلاة أصرح .

والصلاة اسم جامد بوزن فَعَلة محرَّك العين ( صَلَوة ) ورد هذا اللفظ في كلام العرب بمعنى الدعاء كقول الأعشى :

تقول بنتي وقد يَمَّمتُ مُرتحــلا *** يا ربِّ جنِّبْ أبي الأوصاب والوجَعا

عليكِ مثلُ الذي صليتِ فاغْتمضِي *** جَفْنا فإن لجنبِ المرء مضطَجَعــا

وورد بمعنى العبادة في قول الأعشى :

يُراوِح من صلوات المَلِي *** كِ طَوْراً سُجوداً وطَوراً جُؤَاراً{[76]}

فأما الصلاة المقصودة في الآية فهي العبادة المخصوصة المشتملة على قيام وقراءة وركوع وسجود وتسليم .

قال ابن فارس كانت العرب في جاهليتها على إرث من إرث آبائهم في لغاتهم فلما جاء الله تعالى بالإسلام حالت أحوال ونقلت ألفاظ من مواضع إلى مواضع أخر بزيادات ، ومما جاء في الشرع الصلاة وقد كانوا عرفوا الركوع والسجود وإن لم يكن على هاته الهيأة قال النابغة :

أو دُرةٌ صَدفيَّةٌ غَوَّاصُها *** بَهِيجٌ متى يَرَها يُهلِّ ويسجدِ{[77]}

وهذا وإن كان كذا فإن العرب لم تعرفه بمثل ما أتت به الشريعة من الأعداد والمواقيت ا هـ .

قلت لا شك أن العرب عرفوا الصلاة والسجود والركوع وقد أخبر الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام فقال : { ربنا ليقيموا الصلاة } [ إبراهيم : 37 ] وقد كان بين ظهرانيهم اليهود يصلون أي يأتون عبادتهم بهيأة مخصوصة ، وسمَّوا كنيستهم صَلاة ، وكان بينهم النصارى وهم يصلون وقد قال النابغة في ذكر دَفن النعمان بن الحارث الغساني :

فآب مُصلُّوه بعين جلية *** وغودِر بالجولان حزمٌ ونايل{[78]}

على رواية مصلوه بصاد مهملة أراد المصلين عليه عند دفنه من القسس والرهبان ، إذ قد كان متنصرا{[79]} ومنه البيت السابق . وعرفوا السجود قال النابغة :

أو درة صدفية غَوَّاصها *** بَهِج متى يَرَها يُهلِّ ويسجدِ

وقد تردد أئمة اللغة في اشتقاق الصلاة ، فقال قوم مشتقة من الصلا وهو عرق غليظ في وسط الظهر ويفترق عند عَجْب الذنب فيكتنفه فيقال : حينئذٍ هما صَلَوان ، ولما كان المصلي إذا انحنى للركوع ونحوه تحرك ذلك العرق اشتقت الصلاة منه كما يقولون أَنِفَ من كذا إذا شمخ بأنفه لأنه يرفعه إذا اشمأز وتعاظم فهو من الاشتقاق من الجامد كقولهم استنوق الجمل وقولهم تنمر فلان ، وقولها : « زَوجي إذا دَخل فَهِدْ وإذا خَرج أَسِدْ »{[80]} والذي دل على هذا الاشتقاق هنا عدم صلوحية غيره فلا يعد القول به ضعيفاً لأجل قلة الاشتقاق من الجوامد كما توهمه السيد .

وإنما أطلقت على الدعاء لأنه يلازم الخشوع والانخفاض والتذلل ، ثم اشتقوا من الصلاة التي هي اسم جامد صلى إذا فعل الصلاة واشتقوا صلى من الصلاة كما اشتقوا صلّى الفرس إذا جاء معاقباً للمجلي في خيل الحلبة ، لأنه يجىء مزاحماً له في السبق ، واضعاً رأسه على صَلاَ سابقه واشتقوا منه المصلّي اسماً للفرس الثاني في خيل الحلبة ، وهذا الرأي في اشتقاقها مقتضب من كلامهم وهو الذي يجب اعتماده إذْ لم يصلح لأصل اشتقاقها غير ذلك . وما أورده الفخر في « التفسير » أنّ دعوى اشتقاقها من الصلْوَيْن يفضي إلى طعن عظيم في كون القرآن حجة لأن لفظ الصلاة من أشد الألفاظ شهرة ، واشتقاقه من تحريك الصلوين من أبعد الأشياء اشتهاراً فيما بين أهل النقل ، فإذا جوزنا أنه خَفِي واندرس حتى لا يعرفه إلا الآحاد لجاز مثله في سائر الألفاظ فلا نقطع بأن مراد الله تعالى من هذه الألفاظ ما يتبادر منها إلى أفهامنا في زماننا هذا لاحتمال أنها كانت في زمن الرسول موضوعة لمعان أخر خفيت علينا ا هـ يَرُده بالاستعمال أنه لا مانع من أن يكون لفظ مشهور منقولاً من معنى خفي لأنه العبرة في الشيوع بالاستعمال وأما الاشتقاق فبحث علمي ولهذا قال البيضاوي : « واشتهارُ هذا اللفظ في المعنى الثاني مع عدم اشتهاره في الأول لا يقدح في نقله منه » .

ومما يؤيد أنها مشتقة من هذا كتابتها بالواو في المصاحف إذ لولا قصد الإشارة إلى ما اشتقت منه ما كان وجه لكتابتها بالواو وهم كتبوا الزكاة والربا والحياة بالواو إشارة إلى الأصل . وأما قول « الكشاف » : وكتابتها بالواو على لفظ المفخم أي لغة تفخيم اللام يرده أن ذلك لم يصنع في غيرها من اللامات المفخمة .

ومصدر صلَّى قياسه التصلية وهو قليل الورود في كلامهم . وزعم الجوهري أنه لا يقال صلَّى تصلية وتبعه الفيروزابادي ، والحق أنه ورد بقلة في نقل ثعلب في « أماليه » .

وقد نقلت الصلاة في لسان الشرع إلى الخضوع بهيأة مخصوصة ودعاء مخصوص وقراءة وعدد . والقول بأن أصلها في اللغة الهيئة في الدعاء والخضوع هو أقرب إلى المعنى الشرعي وأوفق بقول القاضي أبي بكر ومن تابعه بنفي الحقيقة الشرعية ، وأن الشرع لم يستعمل لفظاً إلا في حقيقته اللغوية بضميمة شروط لا يقبل إلا بها . وقالت المعتزلة الحقائق الشرعية موضوعة بوضع جديد وليست حقائق لغوية ولا مجازات . وقال صاحب « الكشاف » : الحقائق الشرعية مجازات لغوية اشتهرت في معان . والحق أن هاته الأقوال ترجع إلى أقسام موجودة في الحقائق الشرعية .

{ وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ } .

صلة ثالثة في وصف المتقين مما يحقق معنى التقوى وصدق الإيمان من بذل عزيز على النفس في مرضاة الله ؛ لأن الإيمان لما كان مقره القلب ومترجمه اللسان كان محتاجاً إلى دلائل صدق صاحبه وهي عظائم الأعمال ، من ذلك التزام آثاره في الغيبة الدالة عليه : { الذين يؤمنون بالغيب } ومن ذلك ملازمة فعل الصلوات لأنها دليل على تذكر المؤمن من آمن به . ومن ذلك السخاء ببذل المال للفقراء امتثالاً لأمر الله بذلك .

والرزق ما يناله الإنسان من موجودات هذا العالم التي يسد بها ضروراته وحاجاته وَينال بها مُلائَمه ، فيطلق على كل ما يحصل به سد الحاجة في الحياة من الأطعمة والأنعام والحيوان والشجر المثمر والثياب وما يقتني به ذلك من النقدين ، قال تعالى : { وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه } [ النساء : 8 ] أي مما تركه الميت وقال : { الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وفرحوا بالحياة الدنيا } [ الرعد : 26 ] وقال في قصة قارون : { وآتيناه من الكنوز } إلى قوله { ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } [ القصص : 76 82 ] مراداً بالرزق كنوزُ قارون وقال : { ولو بسط الله الرزق لعباده لبَغوا في الأرض } [ الشورى : 27 ] واشْهَرُ استعماله بحسب ما رأيتُ من كلام العرب وموارد القرآن أنه ما يحصل من ذلك للإنسان ، وأما إطلاقه على ما يتناوله الحيوان من المرعى والماء فهو على المجاز ، كما في قوله تعالى :

{ وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها } [ هود : 6 ] وقوله : { وجد عندها رزقاً } [ آل عمران : 37 ] وقوله : { لا يأتيكما طعام ترزقانه } [ يوسف : 37 ] .

والرزق شرعاً عند أهل السنة كالرزق لغة إذ الأصل عدمُ النقل إلا لدليل ، فيصدق اسم الرزق على الحلال والحرام لأن صفة الحل والحرمة غير مُلتفت إليها هنا فبيان الحلال من الحرام له مواقع أخرى ولا يقبل الله إلا طيباً وذلك يختلف باختلاف أحوال التشريع مثل الخمر والتجارة فيها قبل تحريمها ، بل المقصود أنهم ينفقون مما في أيديهم . وخالفت المعتزلة في ذلك في جملة فروع مسألة خلْق المفاسد والشرور وتقديرهما ، ومسألة الرزق من المسائل التي جرت فيها المناظرة بين الأشاعرة والمعتزلة كمسألة الآجال ، ومسألة السعر ، وتمسك المعتزلة في مسألة الرزق بأدلة لا تنتج المطلوب .

والإنفاق إعطاء الرزق فيما يعود بالمنفعة على النفس والأهل والعيال ومن يُرغب في صلته أو التقرب لله بالنفع له من طعام أو لباس . وأريد به هنا بثه في نفع الفقراء وأهل الحاجة وتسديد نوائب المسلمين بقرينة المدح واقترانه بالإيمان والصلاة فلا شك أنه هنا خصلة من خصال الإيمان الكامل ، وما هي إلا الإنفاق في سبيل الخير والمصالح العامة إذ لا يمدح أحد بإنفاقه على نفسه وعياله إذ ذلك مما تدعو إليه الجبلة فلا يعتني الدين بالتحريض عليه ؛ فمن الإنفاق ما هو واجب وهو حق على صاحب الرزق ، للقرابة وللمحاويج من الأمة ونوائب الأمة كتجهيز الجيوش والزكاة ، وبعضه محدد وبعضه تفرضه المصلحة الشرعية الضرورية أو الحاجية وذلك مفصل في تضاعيف الأحكام الشرعية في كتب الفقه ، ومن الإنفاق تطوع وهو ما فيه نفع من دَعَا الدينُ إلى نفعه .

وفي إسناده فعل ( رزقنا ) إلى ضمير الله تعالى وجعْل مفعوله ضميرَ { الذين يؤمنون } تنبيه على أن ما يصير الرزق بسببه رزقاً لصاحبه هو حق خاص له خَوَّله اللَّهُ إياه بحكم الشريعة على حسب الأسباب والوسائل التي يتقرر بها ملك الناس للأموال والأرزاق ، وهو الوسائل المعتبرة في الشريعة التي اقتضت استحقاق أصحابها واستئثارهم بها بسبب الجُهد مما عمله المرء بقوة بدنه التي لا مريَة في أنها حقه مثلُ انتزاع الماء واحتطاب الحطب والصيد وجنْي الثمار والتقاطِ ما لا مِلْك لأحدٍ عليه ولا هو كائنٌ في ملك أحد ، ومثلُ خدمتِه بقوته من حَمل ثقل ومَشي لقضاء شؤون من يؤجره وانحباس للحراسة ، أو كان مما يصنع أشياء من مواد يَملكها وله حق الانتفاع بها كالخَبْز والنسج والتَّجْر وتطريق الحديد وتركيب الأطعمة وتصوير الآنية من طين الفخار ، أو كان مما أنتجه مثل الغرس والزرع والتوليد ، أو مما ابتكره بعقله مثل التعليم والاختراع والتأليف والطب والمحاماة والقضاء ونحو ذلك من الوظائف والأعمال التي لنفع العامة أو الخاصة ، أو مما أعطاه إياه مالِكُ رزقٍ مِن هبات وهدايا ووصايا ، أو أذِن بالتصرف كإحياءِ الموات ، أو كان مما ناله بالتعارض كالبيوع والإجارات والأكرية والشركات والمغارسة ، أو مما صار إليه من مال انعدم صاحبه بكونِه أحقَّ الناس به كالإرث .

وتملك اللُّقطة بعد التعريف المشروط ، وحق الخمس في الركاز . فهذه وأمثالها مما شمله قول الله تعالى : { مما رزقناهم } .

وليس لأحد ولا لمجموع الناس حق فيما جعله الله رزق الواحد منهم لأنه لا حق لأحد في مال لم يسْع لاكتسابه بوسائله وقد جاءت هند بنت عقبة زوج أبي سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : « إن أبا سفيان رجل مِسِّيكٌ فهل أنفق من الذي له عيالَنا فقال لها : « لاَ إلا بالمعروف » أي إلا ما هو معروف أنه تتصرف فيه الزوجة مما في بيتها مما وضعه الزوج في بيته لذلك دون مسارقة ولا خلسة .

وتقديم المجرور المعمولِ على عامله وهو { ينفقون } لمجرد الاهتمام بالرزق في عرف الناس فيكون في التقديم إيذان بأنهم ينفقون مع ما للرزق من المعزَّة على النفس كقوله تعالى : { ويطعمون الطعام على حبه } [ الإنسان : 8 ] ، مع رعي فواصل الآيات على حَرف النون ، وفي الإتيان بِمنْ التي هي للتبعيض إيماء إلى كون الإنفاق المطلوب شرعاً هو إنفاق بعض المال لأن الشريعة لم تكلف الناس حرجاً ، وهذا البعض يقل ويتوفر بحسب أحوال المنفقين . فالواجب منه ما قَدرت الشريعة نُصُبَه ومقاديره من الزكاة وإنفاقِ الأزواج والأبناءِ والعبيدِ ، وما زاد على الواجب لا ينضبط تحديده وما زاد فهو خير ، ولم يشرع الإسلامُ وجوب تسليم المسلم ما ارتزقه واكتسبه إلى يد غيره . وإنما اختير ذكر هذه الصفات لهم دون غيرها لأنها أول ما شرع من الإسلام فكانت شعارَ المسلمين وهي الإيمان الكامل وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة فإنهما أقدم المشروعات وهما أختان في كثير من آيات القرآن ، ولأن هذه الصفات هي دلائل إخلاص الإيمان لأن الإيمان في حال الغيبة عن المؤمنين وحال خُوَيصَّة النفس أدل على اليقين والإخلاص حين ينتفي الخوف والطمع إن كان المراد ما غاب . أو لأن الإيمان بما لا يصل إليه الحس أدل دليل على قوة اليقين حتى إِنه يَتبقَى من الشارع ما لا قبل للرأي فيه وشأن النفوس أن تنبو عن الإيمان به لأنها تميل إلى المحسوس فالإيمان به على علاته دليل قوة اليقين بالمخبر وهو الرسول إن كان المراد من الغيب ما قابل الشهادة ، ولأن الصلاة كلفة بدنية في أوقات لا يتذكرها مقيمها أي مُحسن أدائها إلا الذي امتلأ قلبه بذكر الله تعالى على ما فيها من الخضوع وإظهار العبودية ، ولأن الزكاة أداء المال وقد عُلم شح النفوس قال تعالى : { وإذا مسه الخير منوعاً } [ المعارج : 21 ] ولأن المؤمنين بعد الشرك كانوا محرومين منها في حال الشرك بخلاف أهل الكتاب فكان لذكرها تذكير بنعمة الإسلام .


[75]:- أيمن بن خريم بالخاء المعجمة والراء المفتوحة من قصيدة يحرض أهل العراق على قتال لخوارج، ويذكر غزالة بنت طريف زوجة شبيب الخارجي كانت تولت قيادة الخوارج بعد قتل زوجها وحاربت الحجاج عاما كاملا ثم قتبت وأول القصيدة: أبى الجبناء من أهل العراق *** على الله والناس إلا سقوطا
[76]:- عائد إلى أيبلي في قوله قبله: وما أيبلي على هيكل *** بناه وصلب فيه وصارا والأيبلي الراهب.
[77]:- يهل : أي يرفع صوته فرحا بما أتيح له ويسجد شكرا لله تعالى.
[78]:- روى مصلوه بالصاد فقال في شرح ديوانه: إن معناه رجع الرهبان الذين صلوا عليه صلاة الجنازة وروى بالضاد المعجمة ومعناه دافنواه. أي رجع الذين أضلوه أي غيبوه في الأرض. قال تعالى : { وقالوا أئذا ضللنا في الأرض إنا لفي خلق جديد} وقوله بعين جلية : أي بتحقق خبر موته لمن كان في شك من ذلك لشدة هول المصاب. والجولان: موضع دفن فيه.
[79]:في النسخة المطبوعة منتصرا.-
[80]:- في حديث أم زرع.