التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{۞وَلَقَدۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ وَبَعَثۡنَا مِنۡهُمُ ٱثۡنَيۡ عَشَرَ نَقِيبٗاۖ وَقَالَ ٱللَّهُ إِنِّي مَعَكُمۡۖ لَئِنۡ أَقَمۡتُمُ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَيۡتُمُ ٱلزَّكَوٰةَ وَءَامَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرۡتُمُوهُمۡ وَأَقۡرَضۡتُمُ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمۡ سَيِّـَٔاتِكُمۡ وَلَأُدۡخِلَنَّكُمۡ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُۚ فَمَن كَفَرَ بَعۡدَ ذَٰلِكَ مِنكُمۡ فَقَدۡ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ} (12)

{ وَلَقَدْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ بني إِسْرَآئِيلَ . . . }

قال الفخر الرازي : قوله - تعالى - { وَلَقَدْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ بني إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثني عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ الله إِنِّي مَعَكُمْ } اعلم أن في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه :

الأول : أنه - تعالى - خاطب المؤمنين فيما تقدم فقال : { واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الذي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } ثم ذكر الآن أنه أخذ الميثاق من بني إسرائيل لكنهم نقضوه وتركوا الوفاء به ، فلا تكونوا - أيها المؤمنون - مثلهم في هذا الخلق الذميم .

الثاني : أنه لما ذكر قوله : { اذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ } وقد ذكرت بعض الروايات أنها نزلت في اليهود ، وأنهم أرادوا إيقاع الشر بالمؤمنين . فلما ذكر - سبحانه - ذلك أتبعه بذكر فضائحهم ، وبيان أنهم كانوا أبدا مواظبين على نقض العهود والمواثيق .

الثالث : أن الغرض من الآيات المتقدمة ترغيب المكلفين في قبول التكاليف وترك التمرد والعصيان . فذكر - سبحانه - أنه كلف من كان قبل المسلمين كما كلفهم ليعلموا أن عادة الله في التكليف والالزام غير مخصوصة بهم ، بل هي عادة جارية له مع جميع عباده .

والميثاق : العهد الموثق المؤكد ، مأخذو من لفظ وثق المتضمن معنى الشد والربط على الشيء بقوة وإحكام .

والمراد به : ما أخذه الله على بني إسرائيل لكي يؤدوا ما أوجب عليهم من تكاليف ولكي يعملوا بما تضمنته التوراة من أحكام وتشريعات وغير ذلك مما جاء فيها .

والنقيب : كبير القوم . والكفيل عليهم والمنقب عن أحوالهم وأسرارهم فيكون شاهدهم وضمينهم وعريفهم ، وأصله من النقب وهو الثقب الواسع .

قال الآلوسي : والنقيب : قيل فعيل بمعنى فاعل مشتق من النقب بمعنى التفتيش ومنه { فَنَقَّبُواْ فِي البلاد } وسمي بذلك لتفتيشه عن أحوال القوم وأمرهم .

قال الزجاج : وأصله من النقيب وهو الثقب الواسع والطريق في الجبل :

ويقول : فلان حسن النقيبة . أي : جميل الخليقة ، ويقال : فلان نقاب ؛ للعالم بالأشياء ، الذكي القلب ، الكثير البحث عن الأمور .

والمعنى : ولقد أخذ الله العهود المؤكدة على بني إسرائيل . لكي يعملوا بما كلفهم من تكاليف ، وأمر نبيه موسى - عليه السلام - أن يختار متهم اثني عشر نقيبا . وأن يرسل هؤلاء النقباء إلى الأرض المقدسة لكي يطلعوا على أحوال ساكنيها ، ثم يخبروا نبيهم موسى - عليه السلام - بعد ذلك بما شاهدوه من أحوالهم .

وسنفصل القول في شأن بعث هؤلاء النقباء عند تفسيرنا لقوله - تعالى - بعد ذلك { وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً } وأكد - سبحانه - ما أخذه على بني إسرائيل من عهود بقد وباللام ، للاهتمام بشأن هذا الخبر ، ولترغيب المؤمنين في الوفاء بعهودهم مع الله - تعالى - حتى لا يصيبهم ما أصاب بني إسرائيل من عقوبات بسبب نقضهم لمواثيقهم .

وأسند - سبحانه - الأخذ إليه ، لأنه هو الذي أمر به موسى - عليه السلام - ولأن في إسناد أخذ الميثاق إليه - سبحانه - ما أخذه على بني إسرائيل من عهود بقد وباللام ، للاهتمام بشأن هذا الخبر ، ولترغيب المؤمنين في الوفاء بعهودهم مع الله - تعالى - حتى لا يصيبهم ما أصاب بني إسرائيل من عقوبات بسبب نقضهم لمواثيقهم .

وأسند - سبحانه - الأخذ إلأيه ، لأنه هو الذي أمر به موسى - عليه السلام - ولأن في إسناد أخذ الميثاق إليه - سبحانه - زيادة في توثيقه ، وتعظيم توكيده وأي عهد يكون أقوى وأوثق من عهد يكون بين العبد والرب ؟

وفي قوله : { وَبَعَثْنَا } التفات إلى المتلكم العظيم - سبحانه - لتهويل شأن هذا الابتعاث ، لأن الله - تعالى - هو الذي أمر به .

وإنما اختار موسى - عليه السلام - اثني عشر نقيبا من بني إسرائيل لأنهم كانوا اثني عشر سبطا ، كما قال - تعالى - { وَقَطَّعْنَاهُمُ اثنتي عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً } ولأن كل نقيب كان بمنزلة الرقيب على القبيلة التي هو منها يذكرها بالفضائل ويرغبها في اتباع موسى - عليه السلام - وينهاها عن معصيته .

والمعية في قوله - تعالى - { وَقَالَ الله إِنِّي مَعَكُمْ } معية مجازية بمعنى الحفظ والرعاية والنصرة .

أي : أخذ الله على بني إسرائيل العهود الموثقة ، وأمر نبيه موسى أن يرسل منهم اثني عشر نقيبا لمعرفة أحوال الجبارين الذين يسكنون الأرض المقدسة وقال الله - تعالى - لهؤلاء النقباء ، أو لبني إسرائيل جميعا : إني معكم لا تخفى علىَّ خافية من أحوالكم . وسأؤيدكم برعايتي ونصري متى وفيتم بعهدي ، واتبعتم رسلي . فالجملة الكريمة تحذير لهم من معصية الله ؛ لأنه لا تخفى عليه خافية ، ووعد لهم بالنصر متى أطاعوه .

ثم بين - سبحانه - بعض التكاليف التي كلفهم بها ، وأخذ عليهم العهد بالمحافظة عليها فقال : { لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصلاة وَآتَيْتُمُ الزكاة وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضاً حَسَناً لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } .

واللام في قوله { لئن } موطئة للقسم المحذوف ، و " إن " شرطية ، وقوله : { لأكفرن } جواب القسم وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه .

وقوله : { وَعَزَّرْتُمُوهُمْ } من التعزيز بمعنى النصر والإِعانة مع التعظيم والتفخيم يقال : عزر فلان فلانا إذا نصره وقواه ، وأصل معناه : المنع والذب ؛ لأن من نصر إنسانا منع عنه أعداءه .

والمعنى : لئن داومتم على إقامة الصلاة ، وعلى أدائها على الوجه الأكمل بخضوع وخشوع ، وأعطيتم الزكاة لمستحقيها { وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي } إيمانا كاملا ، ونصرتموهم مع تعظيمهم وطاعتهم { وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضاً حَسَناً } بأن أنفقتم جانبا من أموالكم في وجوه الخير والبر ، لئن فعلتم ذلك { لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } بأن أغفرها لكم ، ولأدخلنكم في الآخرة جنات تجري من تحت أشجارها وبساتينها الأنهار .

فأنت ترى أن الله - تعالى - قد كلف بني إسرائيل بخمسة أمور نافعة ووعدهم على أدائها بتكفير سيئاتهم في الدنيا ، وبإدخالهم جناته في الآخرة .

قال الإِمام الرازي : وأخر - سبحانه - الإِيمان بالرسل عن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مع أنه مقدم عليها ؛ لأن اليهود كانوا مقربين بأنه لا بد من حصول النجاة من الصلاة وإيتاء الزكاة إلا أنهم كانوا مصرين على تكذيب بعض الرسل . فذكر بعد إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة أنه لا بد من الإِيمان بجميع الرسل حتى يحصل المقصود . وإلا لم يكن لإِقامة الصلاة وإيتاء الزكاة تأثير في حصول النجاة بدون الإِيمان بجميع الرسل .

والمراد بالزكاة في قوله { وَآتَيْتُمُ الزكاة } الزكاة المفروضة .

والمراد بالقرض الحسن في قوله { وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضاً حَسَناً } الصدقات غير المفروضة التي يبذلها القادرون عليها في وجوه الخير المتنوعة بدون رياء أو أذى وفي التعبير بقوله : { وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضاً حَسَناً } تأنيس للقلوب وترغيب للنفوس في البذل والعطاء ، حيث شبه - سبحانه - ما يعطي للمحتاج رغبة في الثواب بالقرض الذي سيكافئ الله - تعالى - صاحبه عليه بأضعافه من الخير والنعم .

وأضاف - سبحانه - الرسل إليه في قوله { وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي } لتشريفهم وتكريمهم وتعظيم شأن رسالاتهم وللإِشارة إلى أن الإِيمان بهم جميعا واجب ، فمن أطاعهم قد أطاع الله ، ومن كفر بواحد منهم كفر بالله - تعالى - .

ثم بعد أن فتح الله - تعالى - لهم باب كرمه إن أدوا ما أمرهم به حذرهم من المخالفة والعصيان فقال : { فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل } أي : فمن جحد منكم شيئاً مما أمرته به فتركه ، أو أعرض عن التكاليف التي كلفته بها بعد أن عرفها فقد بعد عن السبيل المستوية ، أخطأ الطريق الواضح المستقيم ، وسار في متاهات الضلال التي لا هداية فيها ولا خير معها .

فالجملة الكريمة تهديد شديد لمن ترك الدين الحق واتجه إلى الأديان الباطلة .

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : من كفر قبل ذلك أيضاً فقد ضل سواء السبيل ، فلم قال : { فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك } قلت : أجل من كفر قبل ذلك أيضاً فقد ضل . ولكن الضلال بعده أظهر وأعظم : لأن الكفر إنما عظم قبحه لعظم النعم المكفورة ، فإذا زادت النعمة زاد قبح الكفر وبلغ النهاية العظمى .

وبذلك نرى الآية الكريمة قد بينت أن الله - تعالى - قد أخذ الميثاق على بني إسرائيل بأن يقوموا بالتكليفات التي كلفهم بها ، وحذرهم من النقض والخيانة والكفر ، ورغبهم في الطاعة والإِيمان فماذا كان موقفهم من عهود الله - تعالى - ؟

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{۞وَلَقَدۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ وَبَعَثۡنَا مِنۡهُمُ ٱثۡنَيۡ عَشَرَ نَقِيبٗاۖ وَقَالَ ٱللَّهُ إِنِّي مَعَكُمۡۖ لَئِنۡ أَقَمۡتُمُ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَيۡتُمُ ٱلزَّكَوٰةَ وَءَامَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرۡتُمُوهُمۡ وَأَقۡرَضۡتُمُ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمۡ سَيِّـَٔاتِكُمۡ وَلَأُدۡخِلَنَّكُمۡ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُۚ فَمَن كَفَرَ بَعۡدَ ذَٰلِكَ مِنكُمۡ فَقَدۡ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ} (12)

{ ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا } شاهدا من كل سبط ينقب عن أحوال قومه ويفتش عنها ، أو كفيلا يكفل عليهم بالوفاء بما أمروا به . روي أن بني إسرائيل لما فرغوا من فرعون واستقروا بمصر ، أمرهم الله سبحانه وتعالى بالمسير إلى أريحاء من أرض الشام ، وكان يسكنها الجبابرة الكنعانيون وقال : إني كتبتها لكم دارا وقرارا فاخرجوا إليها وجاهدوا من فيها فإني ناصركم ، وأمر موسى عليه الصلاة والسلام أن يأخذ من كل سبط كفيلا عليهم بالوفاء بما أمروا به ، فأخذ عليهم الميثاق واختار منهم النقباء وسار بهم فلما دنا من أرض كنعان بعث النقباء يتجسسون الأخبار ، ونهاهم أن يحدثوا قومهم ، فرأوا أجراما عظيمة وبأسا شديدا فهابوا ورجعوا وحدثوا قومهم ونكث الميثاق إلا كالب بن يوفنا من سبط يهوذا ، ويوشع بن نون من سبط افراييم بن يوسف . { وقال الله إني معكم } بالنصرة { لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم } أي نصرتموهم وقويتموهم وأصله الذب ومنه التعزيز . { وأقرضتم الله قرضا حسنا } بالإنفاق في سبيل الخير وقرضا يحتمل المصدر والمفعول . { لأكفرن عنكم سيئاتكم } جواب للقسم المدلول عليه باللام في لئن ساد مسد جواب الشرط . { ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك } بعد ذلك الشرط المؤكد المعلق به الوعد العظيم . { منكم فقد ضل سواء السبيل } ضلالا لا شبهة فيه ولا عذر معه بخلاف من كفر قبل ذلك ، إذ قد يمكن أن يكون له شبهة ويتوهم له معذرة .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞وَلَقَدۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ وَبَعَثۡنَا مِنۡهُمُ ٱثۡنَيۡ عَشَرَ نَقِيبٗاۖ وَقَالَ ٱللَّهُ إِنِّي مَعَكُمۡۖ لَئِنۡ أَقَمۡتُمُ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَيۡتُمُ ٱلزَّكَوٰةَ وَءَامَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرۡتُمُوهُمۡ وَأَقۡرَضۡتُمُ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمۡ سَيِّـَٔاتِكُمۡ وَلَأُدۡخِلَنَّكُمۡ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُۚ فَمَن كَفَرَ بَعۡدَ ذَٰلِكَ مِنكُمۡ فَقَدۡ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ} (12)

هذه الآيات المتضمنة الخبر عن نقضهم مواثيق الله تعالى تقوي أن الآية المتقدمة في كف الأيدي إنما كانت في أمر بني النضير ، واختلف المفسرون في كيفية بعثة هؤلاء النقباء بعد الإجماع على أن النقيب كبير القوم القائم بأمورهم الذي ينقب عنها وعن مصالحهم فيها ، والنقاب : الرجل العظيم الذي هو في الناس كلهم على هذه الطريقة ، ومنه قيل في عمر : إنه كان لنقاباً ، فالُنقباء قوم كبار من كل سبط تكفل كل واحد بسبطه بأن يؤمنوا ويتقوا الله تعالى .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : ونحو هذا كان النقباء ليلة بيعة العقبة مع محمد صلى الله عليه وسلم ، وهي العقبة الثالثة بايع فيها سبعون رجلاَ وامرأتان فاختار رسول الله صلى الله عليه وسلم من السبعين اثني عشر رجلا وسماهم النقباء ، وقال الربيع ، والسدي ، وغيرهما :إنما بعث النقباء من بني إسرائيل أمناء على الاطلاع على الجبارين والسبر لقوتهم ومنعتهم فساروا حتى لقيهم رجل من الجبارين فأخذهم جميعاً فجعلهم في حجزته .

قال القاضي أبو محمد : في قصص طويل ضعيف مقتضاه أنهم اطلعوا من الجبارين على قوة عظيمة وظنوا أنهم لا قبل لهم بهم فتعاقدوا بينهم على أن يخفوا ذلك عن بني إسرائيل وأن يعلموا به موسى عليه السلام ليرى فيه أمر ربه فلما انصرفوا إلى بني إسرائيل خان منهم عشرة فعرفوا قراباتهم ومن وثقوه على سرهم ففشا الخبر حتى اعوج أمر بني إسرائيل وقالوا اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون ، وأسند الطبري عن ابن عباس قال : النقباء من بني إسرائيل بعثهم موسى لينظروا إلى مدينة الجبارين فذهبوا ونظروا فجاءوا بحبة من فاكهتهم وقر رجل{[4485]} ، فقالوا : اقدروا قدر قوم هذه فاكهتهم فكان ذلك سبب فتنة بني إسرائل ونكولهم ، وذكر النقاش أن معنى قوله تعالى : { وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً } أي ملكاً وأن الآية تعديد نعمة الله عليهم في أن بعث لإصلاحهم هذا العدد من الملوك ، قال فما وفى منهم إلا خمسة : داود عليه السلام وابنه سليمان وطالوت وحزقيا وابنه ، وكفر السبعة وبدلوا وقتلوا الأنبياء وخرج خلال الاثني عشر اثنان وثلاثون جباراً كلهم يأخذ الملك بالسيف ويعيث فيهم ، والضمير في { معكم } لبني إسرائيل جميعاً ولهم كانت هذه المقالة ، وقال الربيع : بل الضمير للاثني عشر ولهم كانت هذه المقالة .

قال القاضي أبو محمد : والقول الأول أرجح و { معكم } معناه بنصري وحياطتي وتأييدي واللام في قوله { لئن } هي المؤذنة بمجيء لام القسم ، ولام القسم هي قوله { لأكفرن } والدليل على أن هذه اللام إنما هي مؤذنة أنها قد يستغنى عنها أحياناً ويتم الكلام دونها ، ولو كانت لام القسم لن يترتب ذلك ، وإقامة الصلاة توفية شروطها و { الزكاة } هنا شيء من المال كان مفروضاً فيما قال بعض المفسرين ، ويحتمل أن يكون المعنى : وأعطيتم من أنفسكم كل ما فيه زكاة لكم حسبما ندبتم إليه ، وقدم هذه على الإيمان تشريفاً للصلاة والزكاة ، وإذ قد علم وتقرر أنه لا ينفع عمل إلا بإيمان ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «برسْلي » ساكنة السين في كل القرآن .

{ وعزرتموهم } معناه : وقرتموهم ، وعظمتموهم ، ونصرتموهم ، ومنه قول الشاعر :

وكم من ماجد لهم كريم *** ومن ليث يعزر في الندى{[4486]}

وقرأ عاصم الجحدري «وعَزرتموهم » خفيفة الزاي حيث وقع ، وقرأ في سورة الفتح «وتَعزروه »{[4487]} بفتح التاء وسكون العين وضم الزاي ، وقد تقدم في سورة البقرة تفسير الإقراض ، وتكفير السيئات تغطيتها بالمحو والإذهاب فهي استعارة . و { سواء السبيل } وسطه ، ومنه { سواء الجحيم }{[4488]} ومنه قول الأعرابي قد انقطع سوائي ، وأوساط الطرق : هي المعظم اللاحب منها ، وسائر ما في الآية بيّن والله المستعان .


[4485]:- الوقر- بكسر الواو-: الحمل الثقيل، والمراد هنا: مقدار ما يستطيع الرجل حمله. هذا وعبارة الطبري بعد ذلك: "قدروا قوة قوم وبأسهم، هذه فاكهتهم".
[4486]:- قال القرطبي: "أنشده أبو عبيدة"،- ومعنى يعزر: يعظم ويوقر. والندي مجلس القوم ماداموا مجتمعين فيه.
[4487]:- من قوله تعالى في الآية (9) من سورة (الفتح): {لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا}.
[4488]:- من قوله تعالى في الآية (47) من سورة (الدخان): {خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم}