ثم بين - سبحانه - حكما يتعلق بما بين الزوجين من حقوق فقال - تعالى - : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ . . . } .
والفاء فى قوله { فَإِذَا بَلَغْنَ . . } للتفريع على ما تقدم من أحكام تتعلق بالعدة .
والمراد ببلوغ أجلهن ، مقاربة نهاية مدة العدة بقرينة ما بعده ، لأن الرجل لا يؤمر بإمساك زوجه بعد انقضاء عدتها ، لأن الإمساك يكون قبل انقضائها .
فالكلام من باب المجاز ، لمشابهة مقاربة الشىء ، بالحصول فيه ، والتلبس به .
والمراد بالإمساك المراجعة وعدم السير فى طريق مفارقتها .
والمعروف : ما أم به الشرع من حسن المعاملة بين الزوجين ، وحرص كل واحد منهما على أداء ما عليه لصاحبه من حقوق .
والمعنى : لقد بينت لكم جانبا من الأحكام التى تتعلق بعدة النساء ، فإذا قاربن وشارفن آخر عدتهن ، فأمسكوهن وراجعوهن بحسن معاشرة ، أو فارقوهن بمعروف بأن تعطوهن حقوقهن كاملة غير منقوصة ، بأن تكفوا ألسنتكم عن ذكرهن بسوء .
والأمر فى قوله : { فَأَمْسِكُوهُنَّ } و { فَارِقُوهُنَّ } للإباحة ، و " أو " للتخيير .
والتعبير بالإمساك للإشعار بأن المطلقة طلاقا رجعيا لها حكم الزوجة ، ما عدا الاستمتاع بها ، فعليه أن يستمسك بها ، ولا يتسرع فى فراقها ، فهى ما زالت فى عصمته .
وقدم - سبحانه - الإمساك على الفراق ، للإشارة إلى أنه هو الأولى رعاية لحق الزوجية ، وإبقاء للمودة والرحمة .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ . . . } ثم قال - سبحانه - : { وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ مِّنكُمْ } أى : وأشهدوا عند المراجعة لأزواجكم وعند مفارقتكم لهن رجلين تتوفر فيهما العدالة والاستقامة لأن الإشهاد يقطع التنازع ، ويدفع الريبة ، وينفى التهمة .
والأمر فى قوله : { وَأَشْهِدُواْ } للندب والاستحباب فى حالتى المراجعة والمفارقة ، فهو كقوله - تعالى - : { وأشهدوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ } وقال الشافعى فى القديم : إنه للوجوب فى الرجعة . وزعم الطبرسى أن الظاهر أنه أمر بالإشهاد على الطلاق ، وأنه مروى عن أثمة أهل البيت ، وأنه للوجوب ، وشرط فى صحة الطلاق .
وقوله : { وَأَقِيمُواْ الشهادة لِلَّهِ } معطوف على ما قبله ، والخطاب لكل من تتعلق به الشهادة .
والمراد بإقامة الشهادة : أداؤها بالعدل والصدق .
أى : وعليكم - أيها المؤمنون - عند أدائكم للشهادة ، أن تؤدوها بالعدل والأمانة ، وأن تجعلوها خالصة لوجه الله - تعالى - وامتثالا لأمره .
والجملة الكريمة دليل على أن أداء الشهادة على وجهها الصحيح عند الحكام وغيرهم ، أمر واجب ، لأن الشهادة هنا اسم للجنس ، ولأن الله - تعالى - يقول فى آية أخرى : { وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ . . } والإشارة فى قوله - سبحانه - : { ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر } تعود إلى جميع ما تقدم من أحكام ، كإحصاء العدة وعدم إخراج المطلقة من بيت الزوجية حتى تنتهى عدتها ، والحث على أداء الشهادة بالحق والعدل .
والوعظ معناه : التحذير مما يؤذى بطريقة تؤثر فى القلوب ، وتهدى النفوس إلى الرشد .
أى : ذلك الذى ذكرناه لكم من أحكام إنما يتأثر به ، ويعمل بمقتضاه الذين يؤمنون بالله - تعالى - وباليوم الآخر إيمانا حقا .
وخص - سبحانه - الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر بالذكر ، لأنهم هم المنتفعون بهذه الأحكام ، وهم المنفذون لها تنفيذا صحيحا .
ثم بشر - سبحانه - عباده الذين يتقونه ويراقبونه ببشارات متعددة فقال : { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } .
والجملة الكريمة اعتراض بين قوله - تعالى - : { وَأَقِيمُواْ الشهادة لِلَّهِ } وبين قوله - سبحانه - بعد ذلك : { واللائي يَئِسْنَ مِنَ المحيض } وجىء بهذا الاعتراض بين هذه الأحكام لحمل النفوس على تقبل تشريعاته - تعالى - وآدابه ، ولحض الزوجين على مراقبته - سبحانه - وتقواه .
أى : ومن يتق الله - تعالى - فى كل أقواله وأفعاله وتصرفاته . يجعل له - سبحانه - مخرجا من هموم الدنيا وضوائقها ومتاعبها ، ومن شدائد الموت وغمراته ، ومن أهوال الآخرة وعذابها ، ويزرقه الفوز بخير الدارين ، من طرق لا تخطر له على بال ، ولا ترد له على خاطر ، فإن أبواب رزقه - سبحانه - لا يعلمها أحد إلا هو - عز وجل - .
وفى هذه الجملة الكريمة ما فيها من البشارة للمؤمن ، حتى يثبت فؤاده ، ويستقيم قلبه ، ويحرص على طاعة الله - تعالى - فى كل أحواله .
قال القرطبى : قال أبو ذر ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنى لأعلم آية لو أخذ الناس بها لكفتهم ، ثم تلا : { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } .
وعن جابر بن عبد الله قال : نزلت هذه الآية فى عوف بن مالك الأشجعى ، أسر المشركون ابنا له ، فأتى النبى - صلى الله عليه وسلم - وأخبره بذلك . فقال له - صلى الله عليه وسلم - : " اتق الله واصبر ، وآمرك وزوجك أن تستكثرا من قول : لا حول ولا قوة إلا بالله " .
فعاد إلى بيته وقال لامرأته : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرنى وإياك أن نستكثر من قول : لا حول ولا قوة إلا بالله . فقالت : نعم ما أمرنا ، فجعلا يقولان ذلك ، فغفل العدو عن ابنه ، فساق غنمهم وجاء بها إلى أبيه عوف ، فنزلت الآية . .
ثم قال - تعالى - : { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ الله بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً } .
ولفظ { حَسْبُ } بمعنى كاف وأصله اسم مصدر أو مصدر ، ومعنى { بَالِغُ أَمْرِهِ } بإضافة الوصف إلى مفعوله ، أى : يبلغ ما يريده - سبحانه - ، وقرأ الجمهور { بَالِغُ أَمْرِهِ } بتنوين الوصف ونصب أمره على المفعولية ، والمراد بأمره ، شأنه ومراده .
أى : ومن يفوض أمره إلى الله - تعالى - ويتوكل عليه وحده ، فهو - سبحانه - كافيه فى جميع أموره ، لأنه - سبحانه - يبلغ ما يريده ، ولا يفوته مراد ، ولا يعجزه شىء ، ولا يحول دون أمره حائل . . . ومن مظاهر حكمه فى خلقه ، أنه عز وجل - قد جعل لكل شىء تقديرا قبل وجوده ، وعلم علما تاما مقاديرها وأوقاتها وأحوالها .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } وقوله - سبحانه - : { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } وقوله - عز وجل - : { وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ } قال بعض العلماء ما ملخصه : ولهذه الجملة ، وهى قوله - تعالى - : { قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً } موقع تتجلى فيه صورة من صور إعجاز القرآن ، فى ترتيب مواقع الجمل بعضها بعد بعض . . . فهذه الجملة لها موقع الاستئناف البيانى الناشىء عما اشتملت عليه جمل : { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً . . } إلى قوله : { إِنَّ الله بَالِغُ أَمْرِهِ } لأن استعداد السامعين لليقين بما تضمنته تلك الجمل متفاوت ، فقد يستبعد بعض السامعين تحقق الوعد لأمثاله ، فيقول : أين أنا من تحصيل هذا الشىء . . . ويتملكه اليأس . . . فيقول الله - تعالى - له : { قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً } أى : فلا تيأس أيها الإنسان .
ولها موقع التعليل الجملة { وَأَحْصُواْ العدة } فإن العدة من الأشياء التى تعد ، فلما أمر الله بإحصائها علل ذلك فقال : { قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً } .
ولها موقع التذبيل لجملة { وَتِلْكَ حُدُودُ الله وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } أى : الذى وضع تلك الحدود ، قد جعل الله لكل شىء قدرا لا يعدوه ، كما جعل الحدود .
ولها موقع التعليل لجملة : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } ، لأن المعنى إذا بلغن القدر الذى جعله الله لمدة العدة ، فقد حصل المقصد الشرعى ، الذى أشار إليه بقوله - تعالى - : { لاَ تَدْرِى لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً } .
ولها موقع التعليل لجملة : { وَأَقِيمُواْ الشهادة } فإن الله - تعالى - جعل الشهادة قدرا لرفع النزاع .
يقول تعالى : فإذا بلغت المعتدات أجلهن ، أي : شارفن على انقضاء العدة وقاربن ذلك ، ولكن لم تفرغ العدة بالكلية ، فحينئذ إما أن يعزم الزوج على إمساكها ، وهو رجعتها إلى عصمة نكاحه والاستمرار بها على ما كانت عليه عنده . { بِمَعْرُوفٍ } أي : محسنًا إليها في صحبتها ، وإما أن يعزم على مفارقتها { بِمَعْرُوفٍ } أي : من غير مقابحة ولا مشاتمة ولا تعنيف ، بل يطلقها على وجه جميل وسبيل حسن .
وقوله : { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } أي : على الرجعة إذا عَزَمتم عليها ، كما رواه أبو داود وابن ماجة ، عن عمران {[28956]} بن حُصَين : أنه سُئِل عن الرجل يطلق امرأته ثم يقع بها ولم يشهد على طلاقها ولا على رجعتها فقال : طَلَّقتَ لغير سنة ، ورجعت لغير سنة ، وأشهِدْ على طلاقها وعلى رجعتها ، ولا تَعُدْ{[28957]} {[28958]}
وقال ابن جريج : كان عطاء يقول : { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } قال : لا يجوز في نكاح ولا طلاق ولا رجاع إلا شاهدا عدل ، كما قال الله ، عز وجل ، إلا أن يكون من عذر .
وقوله : { ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } أي : هذا الذي أمرناكم به من الإشهاد وإقامة الشهادة ، إنما يأتمر به من يؤمن بالله وأنه شرع هذا ، ومن يخاف عقاب{[28959]} الله في الدار الآخرة .
ومن ها هنا ذهب الشافعي - في أحد قوليه - إلى وجوب الإشهاد في الرجعة ، كما يجب عنده في ابتداء النكاح . وقد قال بهذا طائفة من العلماء ، ومن قال بهذا يقول : إن الرجعة لا تصح إلا بالقول ليقع الإشهاد عليها .
وقوله : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } أي : ومن يتق الله فيما أمره به ، وتَرَك ما نهاه عنه ، يجعل له من أمره مخرجًا ، ويرزقه من حيث لا يحتسب ، أي : من جهة لا تخطر بباله .
قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، أخبرنا كَهمس بن الحسن ، حدثنا أبو السليل ، عن أبي ذر قال : جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو عَلَيَّ هذه الآية : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } حتى فرغ من الآية ، ثم قال : " يا أبا ذر ، لو أن الناس كلهم أخذوا بها كفتهم " . وقال : فجعل يتلوها ويُرددها علي حتى نَعَست ، ثم قال : " يا أبا ذر ، كيف تصنع إن{[28960]} أخرجت من المدينة ؟ . " قلت : إلى السعة والدّعة{[28961]} أنطلق ، فأكون حمامة من حمام مكة . قال : " كيف تصنع إن أخرجت من مكة ؟ " . قال : قلت : إلى السعة والدّعة ، وإلى الشام والأرض المقدسة . قال : " وكيف تصنع إن أخرجتَ من الشام ؟ " . قلت : إذا - والذي بعثك بالحق{[28962]} - أضع سيفي على عاتقي . قال : " أو خير من ذلك ؟ " . قلت : أو خير من ذلك ؟ قال : " تسمع وتطيع ، وإن كان عبدًا حبشيًّا " {[28963]}
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ، حدثنا يعلى بن عبيد ، حدثنا زكريا ، عن عامر ، عن شُتَير{[28964]} بن شكَل قال : سمعت عبد الله بن مسعود يقول : إن أجمع آية في القرآن : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ } [ النحل : 90 ] وإن أكثر آية في القرآن فرجًا : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا }
وفي المسند : حدثني مهدي بن جعفر ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن الحكم بن مصعب ، عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ، عن أبيه ، عن جده عبد الله بن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل هَمٍّ فرجًا ، ومن كل ضيق مخرجًا ، ورزقه من حيث لا يحتسب " {[28965]}
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } يقول : ينجيه من كل كرب في الدنيا والآخرة ، { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ }
وقال الربيع بن خثيم : { يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } أي : من كل شيء ضاق على الناس .
وقال عكرمة : من طلق كما أمره الله يجعل له مخرجًا . وكذا روي عن ابن عباس ، والضحاك .
وقال ابن مسعود ، ومسروق : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } يعلم أن الله إن شاء منع ، وإن شاء أعطى { مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } أي{[28966]} من حيث لا يدري .
وقال قتادة : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } أي : من شبهات الأمور والكرب{[28967]} عند الموت ، { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } ومن حيث لا يرجو أو لا يأمل .
وقال السدي : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ } يطلق للسنة ، ويراجع للسنة ، وزعم أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له : " عوف بن مالك الأشجعي " كان له ابن ، وأن المشركين أسروه ، فكان فيهم ، وكان أبوه يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيشكو إليه مكان ابنه وحاله التي هو بها وحاجته ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمره بالصبر ، ويقول له : " إن الله سيجعل لك فرجًا " {[28968]} فلم يلبث بعد ذلك إلا يسيرًا أن انفلت ابنه من أيدي العدو فمر بغنم من أغنام العدو ، فاستاقها فجاء بها إلى أبيه ، وجاء معه بغنى{[28969]} قد أصابه من الغنم ، فنزلت فيه هذه الآية : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ }
رواه ابن جرير ، {[28970]} وروي أيضًا من طريق سالم بن أبي الجعد مرسلا نحوه{[28971]}
وقال الإمام أحمد ، حدثنا وكَيع ، حدثنا سفيان ، عن عبد الله بن عيسى ، عن عبد الله بن أبي الجعد ، عن ثوبان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن العبد لَيُحْرَمُ الرزق بالذنب يُصيبُه ، ولا يرد القدر إلا الدعاء ، ولا يزيد في العمر إلا البر " .
ورواه النسائي وابن ماجة ، من حديث سفيان - وهو الثوري - به{[28972]}
وقال محمد بن إسحاق : جاء مالك الأشجعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : له أسر ابني عوف . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أرسل إليه أن رسول الله يأمرك أن تكثر من قول : لا حول ولا قوة إلا بالله " . وكانوا قد شدوه بالقد فسقط القِد عنه ، فخرج ، فإذا هو بناقة لهم فركبها ، وأقبل فإذا بسَرْح القوم الذين كانوا قد شدوه فصاح بهم ، فاتبع أولها آخرها ، فلم يفجأ أبويه إلا وهو ينادي بالباب ، فقال أبوه : عوف ورب الكعبة . فقالت أمه : واسوأتاه . وعوف كيف يقدم لما هو فيه من القد - فاستبقا الباب والخادم ، فإذا عوف قد ملأ الفناء إبلا فقص على أبيه أمره وأمر الإبل ، فقال أبوه : قفا حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسأله عنها . فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بخبر عوف وخبر الإبل ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اصنع بها ما أحببت ، وما كنت صانعًا بمالك " . ونزل : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } رواه ابن أبي حاتم .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق ، حدثنا إبراهيم بن الأشعث ، حدثنا الفضيل بن عياض ، عن هشام بن حسان{[28973]} عن عمران بن حُصَين قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من انقطع إلى الله كفاه الله كل مَئُونة ، ورزقه من حيث لا يحتسب ، ومن انقطع إلى الدنيا وكَلَه إليها " {[28974]}
وقوله : { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } قال الإمام أحمد :
حدثنا يونس ، حدثنا ليث ، حدثنا قيس بن الحجاج ، عن حَنَش الصنعاني ، عن عبد الله بن عباس : أنه حدثه أنه ركب خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا غلام ، إني معلمك كلمات : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، وإذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك ، لم ينفعوك إلا بشيء كتبه الله لك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك ، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام ، وجفت الصحف " .
وقد رواه الترمذي من حديث الليث بن سعد ، وابن لَهِيعة ، به{[28975]} وقال : حسن صحيح .
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا بشير بن سلمان ، عن سيار أبي الحكم ، عن طارق بن شهاب ، عن عبد الله - هو ابن مسعود - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من نزل به حاجة فأنزلها بالناس كان قمنًا أن لا تُسَهَّل حاجته ، ومن أنزلها بالله أتاه الله برزق عاجل ، أو بموت آجل " .
ثم رواه عن عبد الرزاق ، عن سفيان ، عن بشير ، عن سيار أبي حمزة ، ثم قال : وهو الصواب ، وسيار أبو الحكم لم يحدث عن طارق{[28976]}
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ } أي : منفذ قضاياه وأحكامه في خلقه بما يريده ويشاؤه { قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا } كقوله : { وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ } [ الرعد : 8 ]
وقوله : { من حيث لا يحتسب } احتراس لئلا يتوهَّم أحد أن طرق الرزق معطلة عليه فيستبعد ذلك فيمسك عن مراجعة المطلقة لأنه لا يستقبل مالاً ينفق منه ، فأعلمه الله أن هذا الرزق لطف من الله والله أعلم كيف يهيىء له أسباباً غير مرتقبة .
فمعنى { من حيث لا يحتسب } : من مكان لا يحتسب منه الرزق أي لا يظن أنه يرزق منه .
و { حيثُ } مستعملة مجازاً في الأحوال والوجوه تشبيهاً للأحوال بالجهات لأنها لما جعلت مقارنة للرزق أشبهت المكان الذي يَرِد منه الوارد ولذلك كانت { مِن } هنا للابتداء المجازي تبعاً لاستعارة { حيث } . ففي حرف { مِن } استعارة تبعية . وذكر الواحدي في « أسباب النزول » أنها نزلت في شأن عوف بن مالك الأشجعي إذْ أسَرَ المشركون ابنه سالماً فأتى عوف النبي صلى الله عليه وسلم وشكا إليه ذلك وأن أمه جزعت فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم « اتق الله واصبر » وأمره وزوجَه أن يكثرا قولاً : لا حول ولا قوة إلا بالله فغفل المشركون عن الابن فَسَاقَ عنزاً كثيرة من عنز المشركين وجاء بها المدينة فنزلت الآية ، فيجوز أن يكون نزولها في أثناء نزول هذه السورة فصادفت الغرضين ، ويكون ذلك من قبيل معجزات القرآن .
{ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ الله بالغ أمره } .
تكملة للتي قبلها فإن تقوى الله سبب تفريج الكُرَب والخَلاص من المضائق ، وملاحظةُ المسلم ذلك ويقينُه بأن الله يدفع عنه ما يخطر بباله من الخواطر الشيطانية التي تثبطه عن التقوى يحقق وعد الله إياه بأن يجعل له مخرجاً ويرزقَه من حيث لا يحتسب .
وَحَسْب : وصف بمعنى كاففٍ . وأصله اسم مصدر أو مصدر .
وجملة { إن الله بالغ أمره } في موضع العلة لجملة { ومن يتوكل على الله فهو حسبه } ، أي لا تستبعدوا وقوع ما وعدكم الله حين ترون أسباب ذلك مفقودة فإن الله إذا وعد وعداً فقد أراده وإذا أراد الله أمراً يسَّر أسبابه .
ولعل قوله : { قد جعل الله لكل شيء قدراً } إشارة إلى هذا المعنى ، أي علم الله أن يكفي من يتوكل عليه مهمّة فقدّر لذلك أسبابه كما قدّر أسباب الأشياء كلها فلا تشُكّوا في إنجاز وَعده فإنه إذا أراد أمراً يسّر أسبابه من حيث لا يحتسب الناس وتصاريف الله تعالى خفية عجيبة .
ومعنى { بالغ أمره } : واصلٌ إلى مراده . والبلوغ مجاز مشهور في الحصول على المراد . والأمر هنا بمعنى الشأن .
وعن عبد الله بن رافع لما نزل قوله تعالى : { ومن يتوكل على الله فهو حسبه } قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ( أي بعضهم ) : فنحن إذا توكلنا نرسل ما كان لنا ولا نحفظه فنزلت { إن الله بالغ أمره } ، أي فيكم وعليكم اه .
وقرأ الجمهور { بالغٌ } بالتنوين و { أمرَه } بالنصب . وقرأه حفص عن عاصم { بالغُ أمرهِ } بإضافة { بالغ } إلى { أمره } .
{ قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَىْءٍ قدرا } .
لهذه الجملة موقع تتجلى فيه صورة من صور إعجاز القرآن في ترتيب مواقع الجمل بعضها بعد بعض كما نبهت عليه في مواقع سلفت . فهذه الجملة لها موْقع الاستئناف البياني ناشىء عما اشتملت عليه جمل { ومن يتق الله يجعل له مخرجاً } ، إلى قوله : { إن الله بالغ أمره } لأن استعداد السامعين لليقين بما تضمنته تلك الجمل متفاوت فقد يستبعد بعض السامعين تحقق الوعد لأمثاله بما تضمنته تلك الجمل بعرضها على ارتباك أحْواله ، أو يتردد يقينه فيقول : أين أنا من تحصيل هذا ، حين يُتبع نظره فيرى بَوْنا عن حصول الموعود بسبب انعدام وسائله لديه فيتملكه اليأس .
فهذا الاستئناف البياني وقع عقب الوعد تذكيراً بأن الله علم مواعيده وهيأ لها مقادير حصولها لأنه جعل لكل شيء قدراً .
ولها موقع التعليل لجملة { وأحصوا العدة } [ الطلاق : 1 ] فإن العِدة من الأشياء فلما أمر الله بإحصاء أمرها عَلّل ذلك بأن تقدير مدة العدة جعله الله ، فلا يسوغ التهاون فيه .
ولهذا موقع التذييل لجملة { وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه } [ الطلاق : 1 ] ، أي الذي وضع تلك الحدود قد جعل لكل شيء قدراً لا يعدوه كما جعل الحدود .
ولها موقع التعليل لجملة { فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف } ، لأن المعنى إذا بلغن القَدْر الذي جعله الله لمدة العدة فقد حصل المقصد الشرعي الذي أشار إليه قوله تعالى : { لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً } [ الطلاق : 1 ] فالمعنى : فإن لم يُحدث الله أمر المراجعة فقد رفق بكم وحطّ عنكم امتداد العدة .
ولها موقع التعليل لجملة { وأقيموا الشهادة لله } فإن الله جعل الشهادة قدراً لرفع النزاع .
فهذه الجملة جُزء آية وهي تحتوي على حقائق من الحكمة .
ومعنى { لكل شيء } لكل موجود ، أي لكل حادث فالشيء الموجود سواء كان ذاتاً أو معنى من المعاني قال تعالى : { وكل شيء فعلوه في الزبر } [ القمر : 52 ] . فعموم قوله : { لكل شيء } صريح في أن ما وعد الله به يَجعل له حين تكوينه قَدْراً .
قال الراغب في « مفرداته » : وذلك أن فعل الله ضربان : ضرب أوجده بالفعل ، ومعنى إيجاده بالفعل أنه أبدعه كاملاً دفعة لا تعتريه الزيادة والنقصان إلى أن يشاء أن يغنيه أو يبدله كالسماوات وما فيها . ومنها ما جعل أصوله موجودة بالفعل وأجزاءَه بالصلاحية وقدَّره على وجه لا يتأتى منه غير ما قدره فيه كتقديره في النواة أن ينبت منها النخل دون أن ينبت منها تفاح أو زيتون .
وتقديره نطفة الإِنسان لأن يكون منها إنسان دون حيوان آخر . فتقدير الله على وجهين : أحدهما بالحُكم منه أن يَكون كذا أو لا يكون ، كذا إما على سبيل الوجوب وإما على سبيل الإِمكان . وعلى ذلك قوله : { قد جعل الله لكل شيء قدراً } . والثاني بإعطاء القدرة عليه ، وعلى ذلك قوله : { فقدرنا فنعم القادرون } [ المرسلات : 23 ] أو يكون من قبيل قوله : { قد جعل الله لكل شيء قدراً } اه .
والقَدْر : مصدر قَدَره المتعدي إلى مفعول بتخفيف الدال الذي معناه وَضع فيه بمقدار كمية ذاتيةً أو معنوية تُجعل على حسب ما يتحمله المفعول . فقَدر كلّ مفعولٍ لفعل قَدَرَ ما تتحمله طاقته واستطاعتُه من أعمال ، أو تتحمله مساحته من أشياء أو يتحمله وَعْيه لما يَكُدُّ به ذهنه من مدارك وأفهام . ومن فروع هذا المعنى ما في قوله تعالى : { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } في سورة [ البقرة : 286 ] . وقوله هنا : { لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها } [ الطلاق : 7 ] .
ومن جزئيات معنى القَدْر ما يسمى التقدير : مصدر قَدَّر المضاعف إذا جَعَل شيئاً أو أشياء على مقدار معين مناسب لما جُعل لأجله كقوله تعالى : { وقدر في السرد } في سورة [ سبأ : 11 ]
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله:"وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ "يقول: ويسبب له أسباب الرزق من حيث لا يشعر، ولا يعلم...
وقوله: "وَمَنْ يَتَوَكّلْ على اللّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ" يقول تعالى ذكره: ومن يتق الله في أموره، ويفوّضها إليه فهو كافيه.
وقوله: "إنّ اللّهَ بالِغُ أمْرِهِ" منقطع عن قوله "وَمَنْ يَتَوَكّلْ على اللّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ". ومعنى ذلك: إن الله بالغ أمره بكل حال توكل عليه العبد أو لم يتوكل عليه... عن مسروق "وَمَنْ يَتَوَكّلْ على اللّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إنّ اللّهَ بالِغُ أمْرِهِ" توكل عليه أو لم يتوكل عليه، غير أن المتوكل يُكَفّرْ عنه سيئاته، ويُعْظِم له أجرا...
وقوله: "قَدْ جَعَلَ اللّهُ لِكُلّ شَيْءٍ قَدْرا" يقول تعالى ذكره: قد جعل الله لكلّ شيء من الطلاق والعدّة وغير ذلك حدّا وأجلاً وقدرا يُنتهى إليه...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
جاز أن يكون المعنى من قوله: {ومن يتق الله} في ما بين له من الحدود، فلم يضيعه {يجعل له مخرجا} في ما لم يبين له وفي ما اشتبه من الحد، أو يجوز أن يكون المعنى من قوله تعالى: {ومن يتق الله} أي جاهد في ما أمره، ونهاه {يجعل له مخرجا} في أن يهديه، ويبين له السبيل...
أو يجوز أن يكون قوله: {ومن يتق الله} يعني يتق عقابه {يجعل له مخرجا} من الشدة في الدنيا ومن سكرات الموت وغمراته ومن شدائد الآخرة وأهوالها. ويجوز أن يكون قوله: {ومن يتق الله} في مكاسبه {يجعل له مخرجا} من الشبه والحرمات، فيسلم منها. ويجوز أن يكون قوله: {ومن يتق الله} في ما بين له من الحدود في هذه الآيات المتقدمة، فحفظها في صحبة النساء على ما أمر به {يجعل له مخرجا} مما أهمه من ناحيتهن {ويرزقه من حيث لا يحتسب}. يجوز أن يكون هذا في ما بيّن له من الحدود إذا حفظها أن يرزقه ما وصفنا من المرأة والمال. ويجوز أن يكون هذا في جميع الأمور من المكاتبة والتجارات لأن التجار يظنون أنهم إنما يرزقون الفضل والربح لما يدخلون فيها من الشبه والحرمات وأنها إذا نفيت من تجارتهم تلك الشبه والحرمات رزقهم من حيث لم يحتسبوا...
{ومن يتوكل على الله فهو حسبه} يجوز أن يكون معناه: أي من يعتمده في كل نائبة، ويفوض إليه كل نازلة. والوكيل، هو الموكول إليه الأمور. وقيل: الوكيل، هو الحافظ، فكأنه قال: ومن يعتمد على الله في ما نابه كفى به وكيلا موكولا إليه أمره، وكفى به حافظا وناصرا ومعينا. وقوله تعالى: {إن الله بالغ أمره} أي في ما أخبر من حكمه ووعده ووعيده أن ينزل بهم...
{قد جعل الله لكل شيء قدرا} قال الحسن: {لكل شيء} من أعمال العباد {قدرا} ثوابا في الآخرة. والوجه عندنا {قد جعل الله لكل شيء} مما كان، ويكون إلى يوم القيامة من حسن وقبيح في الحكمة {قدرا}. ألا ترى إلى أفعال العباد أنها كيف تخرج عن تدبيرهم من زمان ومكان ونحو ذلك ليعلم أن الله تعالى، هو الذي قدّر ذلك المكان والزمان والفعل حتى خرج هذا العبد عن تقريره، الذي قدّره...
ثم ليس في قوله تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا} له تخصيص، أي من لا يتّقه يرزقه من حيث لا يحتسب، لأنه قد نرى في الشاهد من يرزقه من حيث لا يحتسب، اتقاه، أو لم يتقه. فثبت أن فائدة التخصيص ليست تعني غير المقصود، ولكن فائدة تخصيص المتلقي بالذكر، هي أنه يرزقه من حيث يطيب له، ولا يلام عليه، وليس ذلك في غير المتقي...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
(ويرزقه من حيث لا يحتسب) أي من حيث لا يتوقعه ولا يظنه (ومن يتوكل على الله) أي من أسند أمره إلى الله ووثق بحكمه وسكن إلى رحمته (فهو حسبه) أي كافيه جميع ذلك (إن الله بالغ أمره) أي يبلغ ما يريد ويشاء من أمره وتدبيره (قد جعل الله لكل شيء قدرا) أي قدر الله لكل شيء مقدارا وأجلا، لا زيادة فيه ولا نقصان.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}. لم يقل: ومَنْ يتوكل على الله فتوكُّلُه حَسْبُه، بل قال: {فَهُوَ حَسْبُهُ}؛ أي فاللَّهُ حَسْبُه أي كافيه. {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً}. إذا سَبَقَ له شيءٌ من التقدير فلا محالةَ يكون، وبتَوَكُّله لا يتغير المقدور ولا يستأخر، ولكنَّ التوكَّل بنيانه على أنْ يكون العبدُ مُرَوَّحَ القلب غيرَ كارهٍ... وهذا من أَجَلِّ النِّعم...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
وقوله تعالى: (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) أي: يثق بالله ويفوض أمره إليه: ويقال: التوكل على الله هو الرضا بقضائه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَيَرْزُقْهُ} من وجه لا يخطره بباله ولا يحتسبه إن أوفى المهر وأدى الحقوق والنفقات وقل ماله.
{قَدْراً} تقديراً وتوقيتاً. وهذا بيان لوجوب التوكل على الله، وتفويض الأمر إليه؛ لأنه إذا علم أنّ كل شيء من الرزق ونحوه لا يكون إلا بتقديره وتوقيته: لم يبق إلا التسليم للقدر والتوكل.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{ومن يتوكل على الله فهو حسبه}، الآيات كلها عظة لجميع الناس، والحسب: الكافي المرضي، وقال ابن مسعود هذه أكثر الآيات حضّاً على التفويض، ....
... {إن الله بالغ أمره} بيان وحض على التوكل،... أي لا بد من نفوذ أمر الله توكلت أيها المرء أو لم تتوكل قاله مسروق. فإن توكلت كفاك وتعجلت الراحة والبركة، وإن لم تتوكل وكلك إلى عجزك وتسخطك، وأمره في الوجهين نافذ،...
لطيفة: وهي أن التقوى في رعاية أحوال النساء مفتقرة إلى المال، فقال تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا} وقريب من هذا قوله: {إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله}...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(ومن يتوكل على الله فهو حسبه، إن الله بالغ أمره)...
.فالله بالغ أمره. فما قدر وقع، وما شاء كان؛ فالتوكل عليه توكل على قدرة القادر، وقوة القاهر. الفعال لما يريد. البالغ ما يشاء. والنص عام. والمقصود به هو إنشاء التصور الإيماني الصحيح في القلب، بالنسبة لإرادة الله وقدره.. ولكن وروده هنا بمناسبة أحكام الطلاق له إيحاؤه في هذا المجال وأثره. (قد جعل الله لكل شيء قدرا).. فكل شيء مقدر بمقداره، وبزمانه، وبمكانه، وبملابساته، وبنتائجه وأسبابه. وليس شيء مصادفة، وليس شيء جزافا. في هذا الكون كله ....
...ولكن ذكر هذه الحقيقة الكلية هنا يربط بها ما قدره الله عن الطلاق وفترته، والعدة ووقتها، والشهادة وإقامتها. ويطبع هذه الأحكام بطابع السنة الإلهية النافذة...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{من حيث لا يحتسب} احتراس لئلا يتوهَّم أحد أن طرق الرزق معطلة عليه فيستبعد ذلك فيمسك عن مراجعة المطلقة لأنه لا يستقبل مالاً ينفق منه، فأعلمه الله أن هذا الرزق لطف من الله والله أعلم كيف يهيئ له أسباباً غير مرتقبة...
{وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ الله بالغ أمره}. تكملة للتي قبلها فإن تقوى الله سبب تفريج الكُرَب والخَلاص من المضائق، وملاحظةُ المسلم ذلك ويقينُه بأن الله يدفع عنه ما يخطر بباله من الخواطر الشيطانية التي تثبطه عن التقوى يحقق وعد الله إياه بأن يجعل له مخرجاً ويرزقَه من حيث لا يحتسب...
وجملة {إن الله بالغ أمره} في موضع العلة لجملة {ومن يتوكل على الله فهو حسبه}، أي لا تستبعدوا وقوع ما وعدكم الله حين ترون أسباب ذلك مفقودة فإن الله إذا وعد وعداً فقد أراده وإذا أراد الله أمراً يسَّر أسبابه...
{قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شيء قدرا}. لهذه الجملة موقع تتجلى فيه صورة من صور إعجاز القرآن في ترتيب مواقع الجمل بعضها بعد بعض كما نبهت عليه في مواقع سلفت. فهذه الجملة لها موْقع الاستئناف البياني ناشئ عما اشتملت عليه جمل {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً}، إلى قوله: {إن الله بالغ أمره} لأن استعداد السامعين لليقين بما تضمنته تلك الجمل متفاوت فقد يستبعد بعض السامعين تحقق الوعد لأمثاله بما تضمنته تلك الجمل بعرضها على ارتباك أحْواله، أو يتردد يقينه فيقول: أين أنا من تحصيل هذا، حين يُتبع نظره فيرى بَوْنا عن حصول الموعود بسبب انعدام وسائله لديه فيتملكه اليأس. فهذا الاستئناف البياني وقع عقب الوعد تذكيراً بأن الله علم مواعيده وهيأ لها مقادير حصولها لأنه جعل لكل شيء قدراً...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} فإذا ضاق به رزقه، وأغلقت عنه مداخله ومخارجه من خلال الوسائل التي يملكها في ساحته العملية، فإن عليه أن لا يستغرق في حدود هذه الوسائل، بل يفكر بطريقةٍ إيمانيةٍ...
{وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} لأنه الذي يملك الأمر كله، فهو يملك الناس كلهم، والحياة كلها، ويملك ما يملكه الآخرون...
فلا يمنعه من تنفيذ إرادته مانع في الأرض ولا في السماء، {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} [الطلاق: 3]...
وقد نلاحظ في وقفةٍ تأمليةٍ أمام هذه الآية أنها تؤكد للإنسان المؤمن عدة نقاطٍ في حركة حياته:
الشعور الدائم بأنّ الله لا يخذله في ما يواجهه من صعوبات الحياة...
أن يبقى الإنسان مشدوداً إلى مسألة الرزق على أساس أن أمره بيد الله، فإذا أغلق عنه باب، فهناك أكثر من باب مفتوح في علم الله...
الثقة بالله في وعده، من خلال الإيمان بأنه بالغ أمره، وبأنه الكافي لمن توكّل عليه، ولا كافي غيره...
الإحساس بأن الحياة في انتصاراتها وهزائمها وفي أفراحها وأحزانها لا تتحرك في أجواء الفوضى، بل تخضع لنظامٍ كونيٍّ متوازنٍ، يضع كل شيءٍ في موضعه، ويقدر لكل حدثٍ قدره...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(ويرزقه من حيث لا يحتسب) ولا يتصوّر تحصيله. (ومن يتوكّل على الله فهو حسبه) وسيكفيه ما يهمّه من أموره. (إنّ الله بالغ أمره) لأنّ الله عزّ وجلّ قادر مطلق، وأمره نافذ في كلّ شيء وتخضع جميع الكائنات لمشيئته وإرادته... ولهذا يحذّر النساء والرجال والشهود أن لا يخافوا قول الحقّ، ويحثّهم على الاعتماد عليه واللجوء إليه في تيسير الصعوبات، لأنّه قد تعهّد بأن ييسّر للمتّقين أمرهم، ويجعل لهم مخرجاً ويرزقهم من حيث لا يحتسبون. لقد تعهّد الله أن لا يترك من توكّل عليه يتخبّط في حيرته، وإنّه لقادر على الوفاء بهذا التعهّد. ورغم أنّ هذه الآيات نزلت بشأن الطلاق والأحكام المتعلّقة به، لكنّها تحتوي مفاهيم واسعة ومعاني عظيمة تشمل جميع المجالات التي يعاهد الله بها المتّقين، ويبعث في نفوسهم الأمل بأنّه سيشملهم بلطفه ورعايته، فينجيهم من المآزق، ويرشدهم إلى الصواب، ويفتح أمامهم الآفاق الرحبة، ويرفع عنهم مشاكل الحياة وصعوباتها، ويبدّد الغيوم السوداء التي تلبّد سماء سعادتهم. وفي إشارة لطيفة إلى النظام العامّ الذي يحكم التكوين والتشريع، يقول تعالى: (قد جعل الله لكلّ شيء قدراً) فكلّ هذه الأحكام والأوامر التي فرضها الله في شأن الطلاق، إنّما كانت ضمن حساب دقيق ومقاييس عامّة شاملة لا يغيب عنها شيء. وهكذا يجب أن يلتزم الناس في جميع المشاكل التي تنتاب حياتهم وليس فقط في مسألة الطلاق بالموازين والأحكام الشرعية، وأن يواجهوا تلك الأمور بالتقوى والصبر وطلب التوفيق من الله، لا أن يطلقوا ألسنتهم بالشكوى وارتكاب الذنوب، وما إلى ذلك ويتوسّلون بالطرق غير المشروعة لحلّ مشاكلهم...