التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغۡلُولَةٌۚ غُلَّتۡ أَيۡدِيهِمۡ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْۘ بَلۡ يَدَاهُ مَبۡسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيۡفَ يَشَآءُۚ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرٗا مِّنۡهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ طُغۡيَٰنٗا وَكُفۡرٗاۚ وَأَلۡقَيۡنَا بَيۡنَهُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ كُلَّمَآ أَوۡقَدُواْ نَارٗا لِّلۡحَرۡبِ أَطۡفَأَهَا ٱللَّهُۚ وَيَسۡعَوۡنَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَسَادٗاۚ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِينَ} (64)

ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك لونا آخر من سوء معتقد اليهود ، وخبث طويتهم ، وسوء أدبهم مع الله - تعالى - فقال :

{ وَقَالَتِ اليهود يَدُ الله مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ . . . }

قال ابن عباس : قال رجل من اليهود يقال له شاس بن قيس : يا محمد إن ربك بخيل لا ينفق . فأنزل الله هذه الآية .

وقد أضاف - سبحانه - المقالة إلى اليهود جميعا ، لأنهم لم ينكروا على القائل ما قاله ورضوا به .

وقال عكرمة : إنما قال هذا فنحاص بن عازوراء وأصحابه . فقد كانت لهم أموال فلما كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم قل ما لهم ، فقالوا ما قالوا .

وقيل : إنهم لما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم في فقر وقلة مال وسمعوا { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً } قالوا : إن إله محمد بخيل .

وقوله - تعالى - حكاية عنهم : { وَقَالَتِ اليهود يَدُ الله مَغْلُولَةٌ } إخبار من الهل عن جراءة اليهود عليه - سبحانه - وسوء أدبهم معه ، وتوبيخ لهم على جحودهم نعمه التي لا تحصى .

وأرادوا بقولهم : { يَدُ الله مَغْلُولَةٌ } : أنه - سبحانه - بخيل عليهم ، ممسك خيره عنهم ، مانع فضله عن أن يصل إلهم ، حابس عطاءه عن الاتساع لهم ، كالمغلولة يده الذي لا يقدر أن يبسطها بعطاء ولا بذل معروف .

وأصل الغل - كما يقول الراغب - تدرع الشيء وتوسطه ، ومنه الغلل للماء الجاري بين الشجر . والغل مختص بما يقيد به الشخص فيجعل الأعضاء وسطه ، وجمعه أغلال .

وليس المراد باليد هنا الجارحة المعروفة بهذا الاسم ، لأن الله - تعالى - منزه عن مشابهة الحوادث . وإنما غل اليد وبسطها مجاز مشهور عن التقتير والعطاء .

والسبب فيه أن اليد آلة لأكثر الأعمال ، لا سيما في دفع المال وإنفاقه . فأطلقوا اسم السبب على المسبب ، وأسندوا الجود والبخل إلى اليد والكف فقيل للجواد فياض اليد ، مبسوط الكف ، وقيل للبخيل : مقبوض اليد ، كز الكف .

وقد وضح هذا المعنى صاحب الكشاف بقوله : " غل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود " ومنه قوله - تعالى - { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط } ولا يقصد من يتكلم به إثبات يد ولا غل ولا بسط . ولا فرق عنده بين هذا الكلام وبين ما وقع مجازا عنه ، لأنهما كلامان معتقبان على حقيقة واحدة ، حتى إنه يستعمله في ملك لا يعطي عطاء قد ولا يمنعه إلا بإشارته من غير استعمال يد وقبضها وبسطها . ولو أعطى الأقطع إلى المنكب عطاء جزيلا لقالوا : ما أبسط يده بالنوال ، لأن بسط اليد وقبضها عبارتان معاقبتان البخل والجود .

وقد استعملوها حيث لا تصح اليد كقول القائل :

جاد الحمى بسط اليدين بوابل . . . شكرت نداه تلاعه ووهاده

ويقال : بسط اليأس كفيه في صدري ، فجعلت لليأس الذي هو من المعاني لا من الأعيان كفين .

وقد علق صاحب الانتصاف على قول صاحب الكشاف " غل اليد وبسطها مجاز " فقال : والنكتة في استعمال هذا المجاز تصوير الحقيقة المعنوية بصورة حسية تلزمها غالبا ، وهي بسط اليد للجود وقبضها للبخل ، ولا شيء أثبت من الصور الحسية في الذهن ، فلما كان الجود والبخل معنيين لا يدركان بالحس .

عبر عنهما بلازمهما لفائدة الإِيضاح والانتقال من المعنويات إلى المحسوسات .

وقوله : { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُوا } دعاء عليهم بالشح المرير والبخل الشنيع بأن يخلق - سبحانه - فيهم الشح الذي يجعلهم منبوذين من الناس ومن ثم كان اليهود أبخل خلق الله ، وحكم عليهم بالطرد من رحمة الله - تعالى - بسبب سوء أدبهم معه - سبحانه - وجحودهم لنعمه .

وهذه الجملة تعليم من الله لنا بأن ندعو على من فسدت قلوبهم ، وأساءوا الأدب مع خالقهم ورازقهم ، فقالوا في شأنه ما هو منزه عنه - { وتعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً } قال الآلوسي ما ملخصه : ويجوز أن يكون المراد بغل الأيدي الحقيقة ، بأن يغلو في الدنيا أسارى - وفي الآخرة معذبين في أغلال جهنم . ومناسبة هذا لما قبله حينئذ من حيث اللفظ فقد فيكون تجنيسا . وقيل من حيث اللفظ وملاحظة أصل المجاز كما تقوله : سبني سب الله دابره أي قطعه ، لأن السب أصله القطع .

وقوله : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } معطوف على مقدر يقتضيه المقام ، وتكذيب لهم فيما قالوه من باطل .

والمعنى : كلا - أيها اليهود - ليس الأمر كما زعمتم من قول باطل ، بل هو - سبحانه - الواسع الفضل ، الجزيل العطاء ، الذي ما من شيء إلا عنده خزائنه .

فبسط اليد هنا كناية عن الجواد والفضل والإِنعام منه - سبحانه - على خلقه .

وعبر بالمثنى فقال : { بَلْ يَدَاهُ } للإِشارة إلى كثرة الفيض والإِنعام ، لأن الجواد السخي إذا أراد أن يبالغ في العطاء أعطى بكلتا يديه .

قال ابن كثير قوله : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } أي : بل هو الواسع الفضل . الذي ما يخلقه من نعمة فمنه وحده لا شريك له . كما قال : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } والآيات في هذا كثيرة .

وقد روى الإِمام أحمد والشيخان عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة - أي لا ينقصها الإِنفاق - سحاء - أي مليئة - الليل والنهار . أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض ، فإنه لم يغض ما في يمينه . وكان عرشه على الماء ، وفي يده الأخرى الفيض - أو القبض - يرفع ويخفض وقال : يقول الله - تعالى - : أنفق أنفق عليك " .

وقوله : { يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ } جملة مستأنفة واردة لتأكيد كمال جوده ، والدلالة على أنه على مقتضى حكمته ومشيئته فهو - سبحانه - يبسط الرزق لمن يشاء أن يبسطه له ويقبضه عمن يشاء أن يقبضه عنه ، وقبضه الرزق عمن يشاء من خلقه لا ينافي سعة كرمه ، لأنه يعطي ويمنع على حسب مشيئته التي أقام بها نظام خلقه .

ثم بين - سبحانه - موقفهم الجحودي مما أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم فقال : { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً } .

أي : إن ما أنزلنا عليك يا محمد من قرآن كريم ، وما أطلعناك عليه من خفى أمور هؤلاء اليهود ، ومن أحوال سلفهم كل ذلك ليزيدن الكثيرين منهم كفرا على كفرهم ، وطغيانا على طغيانهم ، وذلك لأنهم قوم أكل الحقد قلوبهم ، واستولى الحسد على نفوسهم .

وإذا كان ما أنزلناه إليك يا محمد فيه الشفاء لنفوس المؤمنين ، فإنه بالنسبة لهؤلاء اليهود يزيديهم بغيا وظلما وكفرا .

قال - تعالى - : { وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَاراً } فالجملة الكريمة بيان لموقف اليهود الجحودي من الآيات التي أنزلها الله على رسوله صلى الله عليه وسلم وهي في الوقت ذاته تسلية له صلى الله عليه وسلم عما يلقاه منهم .

وقد أكد - سبحانه - هذه الجملة بالقسم المطوي ، وباللام الموطئة له ، ونون التوكيد الثقيلة لكي ينتفي الرجاء في إيمانهم ، وليعاملهم النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه على أساس مكنون نفوسهم الخبيثة ، وقلوبهم المريضة بالحسد والخداع .

وقوله { كثيراً } هو المفعول الأول لقوله { وليزيدن } وفاعله ما الموصولة في قوله { ما أنزل } وقوله { طغيانا } هو المفعول الثاني .

ثم زاد - سبحانه - في تسلية رسوله صلى الله عليه وسلم فأصدر حكمه فيهم بدوام العداوة والبغضاء بين طوائفهم وفرقهم فقال : { وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضآء إلى يَوْمِ القيامة } فالضمير في قوله { بينهم } يعود إلى فرق اليهود المختلفة من فريسيين وصدوقيين وقرائين ، وكتبة وغير ذلك من فرقهم المتعددة .

وقيل : الضمير يعود إلى طائفتي اليهود والنصارى .

والأول أرجح لأن الحديث في هذه الآية عن اليهود الذين وصفوا الله - تعالى - بما هو منزه عنه .

والعداوة والبغضاء يرى بعضهم أنهما اسمان لمعنى واحد .

ويرى آخرون أن معناهما مختلف . فالعداوة معناها المناوأة الظاهرة ، والبغضاء هي الكراهية التي تكون في القلب . فهما معنيان متغايران وإن كانا متلازمين أحيانا . فلا عداوة من غير بغضاء ، ولكن قد يفترقان فتوجد البغضاء من غير إعلان للعداوة .

قال أبو حيان : والعداوة أخص من البغضاء لأن كل عدو مبغض وقد يبغض من ليس بعدو . وقال ابن عطية : وكأن العداوة شيء يشهد ، يكون عنه عمل وحرب ، والبغضاء لا تتجاوز النفوس .

والمعنى : وألقينا بين طوائف اليهود المتعددة العداوة الدائمة ، والبغضاء المستمرة ، فأنت تراهم كلمتهم مختلفة ، وقلوبهم شتى وكل فرقة منهم تلصق النقائص بالأخرى ، وهم على هذه الحال إلى يوم القيامة .

وما أظهره اليهود في هذا العصر من تعاون وتساند جعلهم ينشئون دولة لهم بفلسطين ، هو أمر مؤقت ، فإن هذه الدولة لن تستمر طويلا ، بل ستعود إلى أهلها المسلمين متى صدقوا في جهادهم واتبعوا تعاليم دينهم .

قال الفخر الرازي : واعلم أن اتصال هذه الآية بما قبلها ، هو أنه - تعالى - بين أن هؤلاء اليهود إنما ينكرون نبوته صلى الله عليه وسلم بعد ظهورالدلائل على صحتها ، لأجل الحسد . ولأجل حب الجاه والمال . ثم إنه - تعالى - بين أنهم لما رجحوا الدنيا على الآخرة ، لا جرم أنه - تعالى - كما حرمهم سعادة الدين ، فكذلك حرمهم سعادة الدنيا ، لأن كل فريق منهم بقي مصرا على مذهبه ومقالته . . فصار ذلك سببا لوقوع الخصومة الشديدة بين فرقهم وطوائفهم . وانتهى الأمر فيه إلى أن بعضهم يكفر بعضا . ويحارب بعضهم بعضاً .

فإن قلت : فهذا المعنى حاصل أيضاً بين فرق المسلمين فكيف يمكن جعله عيبا على الكتابين حتى يذموا عليه ؟

قلنا : بدعة التفرق التي حصلت في المسلمين إنما حدثت بعد عصر النبوة وعصر الصحابة والتابعين . أما في الصدر الأول فلم يكن شيء من ذلك حاصلا بينهم فحسن جعل ذلك عيباً على الكتابين في ذلك العصر الذي نزل فيه القرآن .

وقوله : { كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله } أي : كلما أرادوا حرب الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وهيأوا الأسباب لذلك وحاولوا تفريق كلمتهم وإثارة العداوة بينهم . كلما فعلوا ذلك أفسد الله عليهم خطتهم ، وأحبط مكرهم ، وألقى الرعب في قلوبهم .

والتعبير بهذه الجملة الكريمة جاء على وفق ما جرى عليه العرب من أنهم كانوا إذا أرادوا حرباً بالإِغارة على غيرهم أوقدوا ناراً يسمونها نار الحرب .

والتعبير هنا لذلك على سبيل المجاز إذ عبر - سبحانه - عن إثارة الحروب بإيقاد نارها . باعتبارها أن الحروب في ذاتها وبما تشتمل عليه من مذابح بشرية تشبه النار المستعمرة في أخطارها ومصائبها .

وقوله : { وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً والله لاَ يُحِبُّ المفسدين } تذييل مقرر لما قبله من الصفات الذميمة التي دمغ الله - تعالى - بها اليهود .

أي : أن حال هؤلاء اليهود أنهم يجتهدون في الكيد للاسلام وأهله وأنهم يسعون سعيا حثيثاً للافساد في الأرض عن طريق إثارة الفتن ، وإيقاظ الأحقاد بين الناس . والله - تعالى - لا يحب المفسدين بل يبغضهم ويمقتهم ، لإِيثارهم الضلالة على الهدى ، والشر على الخير .

وبهذا نرى الآية الكريمة قد ردت على اليهود في نسبتهم البخل إلى الله - تعالى - وبينت أنه - سبحانه - هو الواسع الفضل ، الجزيل العطاء وكشفت عن جوانب من رذائلهم وعنادهم وأوضحت أنه - سبحانه - يبغضهم لأنهم يفسدون في الأرض ولايصلحون .

ولقد بسطنا القول في مظاهر فسادهم في الأرض في غير هذا الموطن فارجع إليه إن شئت .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغۡلُولَةٌۚ غُلَّتۡ أَيۡدِيهِمۡ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْۘ بَلۡ يَدَاهُ مَبۡسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيۡفَ يَشَآءُۚ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرٗا مِّنۡهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ طُغۡيَٰنٗا وَكُفۡرٗاۚ وَأَلۡقَيۡنَا بَيۡنَهُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ كُلَّمَآ أَوۡقَدُواْ نَارٗا لِّلۡحَرۡبِ أَطۡفَأَهَا ٱللَّهُۚ وَيَسۡعَوۡنَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَسَادٗاۚ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِينَ} (64)

يخبر تعالى عن اليهود - عليهم لعائن الله المتتابعة{[10038]} إلى يوم القيامة - بأنهم وصفوا الله ، عز وجل وتعالى عن قولهم علوًا كبيرًا ، بأنه بخيل . كما وصفوه بأنه فقير وهم أغنياء ، وعبروا عن البخل بقولهم : { يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ }

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو عبد الله الطهراني ، حدثنا حفص بن عمر العَدَنِيّ ، حدثنا الحكم بن أبان ، عن عِكْرِمَة قال : قال ابن عباس : { مَغْلُولَةٌ } أي : بخيلة .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ } قال : لا يعنون بذلك أن يد الله موثقة{[10039]} ولكن يقولون : بخيل أمسك ما عنده ، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا .

وكذا روي عن عِكْرِمَة ، وقتادة ، والسُّدِّي ، ومجاهد ، والضحاك وقرأ : { وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا } [ الإسراء : 29 ] . يعني : أنه ينهى{[10040]} عن البخل وعن التبذير ، وهو الزيادة في الإنفاق في غير محله ، وعبَّر عن البخل بقوله : { وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ } .

وهذا هو الذي أراد هؤلاء اليهود عليهم لعائن الله . وقد قال عكرمة : إنها نزلت في فنْحاص اليهودي ، عليه لعنة الله . وقد تقدم أنه الذي قال : { إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ } [ آل عمران : 181 ] فضربه أبو بكر الصديق ، رضي الله عنه .

وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن سعيد أو عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال رجل من اليهود ، يقال له : شاس{[10041]} بن قيس : إن ربك بخيل لا ينفق ، فأنزل الله : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ }

وقد رد الله ، عز وجل ، عليهم ما قالوه ، وقابلهم فيما اختلقوه وافتروه وائتفكوه ، فقال : { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا } وهكذا{[10042]} وقع لهم ، فإن عندهم من البخل والحسد والجبن والذلة{[10043]} أمر عظيم ، كما قال تعالى : { أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا{[10044]} ] } [ النساء : 53 - 55 ] وقال تعالى : { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ [ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاس{[10045]} ] } الآية [ آل عمران : 112 ] .

ثم قال تعالى : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ } أي : بل هو الواسع الفضل ، الجزيل العطاء ، الذي ما من شيء إلا عنده خزائنه ، وهو الذي ما بخلقه من نعمة فمنه وحده لا شريك له ، الذي خلق لنا كل شيء مما نحتاج إليه ، في ليلنا ونهارنا ، وحضرنا وسفرنا ، وفي جميع أحوالنا ، كما قال [ تعالى ]{[10046]} { وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } الآية [ إبراهيم : 34 ] . والآيات في هذا كثيرة ، وقد قال الإمام أحمد بن حنبل :

حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن همام بن مُنَبه قال : هذا ما حدثنا أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن يمين الله مَلأى لا يَغِيضُها نفقة ، سَحَّاء الليل والنهار ، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض ، فإنه لم يَغِض ما في يمينه " قال : " وعرشه على الماء ، وفي يده الأخرى القبْض ، يرفع ويخفض " : قال : قال الله تعالى : " أنفق أنفق عليك " أخرجاه في الصحيحين ، البخاري في " التوحيد " عن علي بن المديني ، ومسلم فيه ، عن محمد بن رافع ، وكلاهما{[10047]} عن عبد الرزاق ، به . {[10048]}

وقوله : { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا } أي : يكون ما أتاك الله يا محمد من النعمة نقمة في حق أعدائك من اليهود وأشباههم ، فكما يزداد به المؤمنون تصديقًا وعملا صالحًا وعلمًا نافعًا ، يزداد به الكفرة الحاسدون لك ولأمتك { طُغْيَانًا } وهو : المبالغة والمجاوزة للحد في الأشياء { وَكُفْرًا } أي : تكذيبا ، كما قال تعالى : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } [ فصلت : 44 ] وقال تعالى : { وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا } [ الإسراء : 82 ] .

وقوله : { وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } يعني : أنه لا تجتمع قلوبهم ، بل العداوة واقعة بين فِرقهم بعضهم في بعض دائمًا لأنهم لا يجتمعون على حق ، وقد خالفوك وكذبوك .

وقال إبراهيم النَّخَعي : { وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ } قال : الخصومات والجدال في الدين . رواه ابن أبي حاتم .

وقوله : { كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ } أي : كلما عقدوا أسبابًا يكيدونك بها ، وكلما أبرموا أمورًا يحاربونك بها يبطلها الله ويرد كيدهم عليهم ، ويحيق مكرهم السيئ بهم .

{ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ } أي : من سجيتهم أنهم دائمًا يسعوْن في الإفساد في الأرض ، والله لا يحب من هذه صفته .


[10038]:في أ: التابعة".
[10039]:في ر: "منفقة".
[10040]:في أ: "نهى".
[10041]:في أ: "النباس".
[10042]:في أ: "هكذا".
[10043]:في أ: "المذلة".
[10044]:زيادة من ر، أ.
[10045]:زيادة من ر، أ.
[10046]:زيادة من ر.
[10047]:في ر، أ: "كلاهما".
[10048]:المسند (2/313) وصحيح البخاري برقم (7419) وصحيح مسلم برقم (993).
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغۡلُولَةٌۚ غُلَّتۡ أَيۡدِيهِمۡ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْۘ بَلۡ يَدَاهُ مَبۡسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيۡفَ يَشَآءُۚ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرٗا مِّنۡهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ طُغۡيَٰنٗا وَكُفۡرٗاۚ وَأَلۡقَيۡنَا بَيۡنَهُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ كُلَّمَآ أَوۡقَدُواْ نَارٗا لِّلۡحَرۡبِ أَطۡفَأَهَا ٱللَّهُۚ وَيَسۡعَوۡنَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَسَادٗاۚ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِينَ} (64)

وقوله تعالى : { وقالت اليهود } إلى قوله { لا يحب المفسدين } هذه الآية تعديد كبيرة من أقوالهم وكفرهم أي فمن يقول هذه العظيمة فلا يستنكر عليه أن ينافق عليك يا محمد ويسعى في رد أمر الله الذي أوحاه إليك ، وقال ابن عباس وجماعة من المتأولين معنى قولهم التبخيل ، وذلك أنهم لحقتهم َسَنة وجهد فقالوا هذه العبارة يعنون بها أن الله بخل عليهم بالرزق والتوسعة ، وهذا المعنى يشبه ما في قوله تعالى : { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك }{[4606]} فإنما المراد لا تبخل ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : مثل البخيل والمتصدق ، الحديث{[4607]} وذكر الطبري والنقاش أن هذه الآية نزلت في فنحاص اليهودي وأنه قالها ، وقال الحسن بن أبي الحسن قوله : { يد الله مغلولة } إنما يريدون عن عذابهم فهي على هذا في معنى قولهم { نحن أبناء الله وأحباؤه } [ المائدة : 18 ] وقال السدي أرادوا بذلك أن يده مغلولة حتى يرد علينا ملكنا .

قال القاضي أبو محمد : فكأنهم عنوا أن قوته تعالى نقصت حتى غلبوا ملكهم ، وظاهر مذهب اليهود لعنهم الله في هذه المقالة التجسيم ، وكذلك يعطي كثير من أقوالهم ، وقوله تعالى : { غلت أيديهم } دعاء عليهم ، ويحتمل أن يكون خبراً ، ويصح على كلا الاحتمالين أن يكون ذلك في الدنيا وأن يراد به الآخرة ، وإذا كان خبراً عن الدنيا فالمعنى غلت أيديهم عن الخير والإنفاق في سبيل الله ونحوه ، وإذا كان خبراً عن الآخرة فالمعنى غلت في نار جهنم أي حتم هذا عليهم ونفذ به القضاء كما حتمت عليهم اللعنة بقولهم هذا وبما جرى مجراه ، وقرأ أبو السمال «ولعْنوا » بسكون العين ، وذلك قصد للتخفيف لا سيما هنا الهبوط من ضمة إلى كسرة ، وقوله تعالى : { بل يداه مبسوطتان } العقيدة في هذا المعنى نفي التشبيه عن الله تعالى وأنه ليس بجسم ولا له جارحة ولا يشبه ولا يكيف ولا يتحيز في جهة كالجواهر ولا تحله الحوادث تعالى عما يقول المبطلون .

ثم اختلف العلماء فيما ينبغي أن يعتقد في قوله تعالى : { بل يداه } وفي قوله : { بيدي }{[4608]} و { عملت أيدينا }{[4609]} و { يد الله فوق أيديهم }{[4610]} و { لتصنع على عيني }{[4611]} و { تجري بأعيننا }{[4612]} و { اصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا }{[4613]} { وكل شيء هالك إلا وجهه }{[4614]} ونحو هذا ، فقال فريق من العلماء منهم الشعبي وابن المسيب وسفيان يؤمن بهذه الأشياء وتقرأ كما نصها الله ولا يعن لتفسيرها ولا يشقق النظر فيها{[4615]} .

قال القاضي أبو محمد : وهذا قول يضطرب لأن القائلين به يجمعون على أنها ليست على ظاهرها في كلام العرب فإذا فعلوا هذا فقد نظروا وصار السكون عن الأمر هذا مما يوهم العوام ويتيه الجهلة .

وقال جمهور الأمة : بل تفسر هذه الأمور على قوانين اللغة ومجاز الاستعارة وغير ذلك من أفانين كلام العرب . فقالوا في العين والأعين إنها عبارة عن العلم والإدراك ، كما يقال فلان من فلان بمرأى ومسمع ، إذا كان يعني بأموره وإن كان غائباً عنه ، وقالوا في الوجه إنه عبارة عن الذات وصفاتها ، وقالوا في اليد واليدين والأيدي إنها تأتي مرة بمعنى القدرة كما تقول العرب لا يد لي بكذا ، ومرة بمعنى النعمة كما يقال لفلان عند فلان يد ، وتكون بمعنى الملك كما يقال يد فلان على أرضه ، وهذه المعاني إذا وردت عن الله تبارك وتعالى عبر عنها باليد أو الأيدي أو اليدين استعمالاً لفصاحة العرب ولما في ذلك من الإيجاز ، وهذا مذهب أبي المعالي والحذاق ، وقال قوم من العلماء منهم القاضي ابن الطيب : هذه كلها صفات زائدة على الذات ثابتة لله دون أن يكون في ذلك تشبيه ولا تحديد ، وذكر هذا الطبري وغيره ، وقال ابن عباس في هذه الآية ، { يداه } نعمتاه ، ثم اختلفت عبارة الناس في تعيين النعمتين فقيل نعمة الدنيا ونعمة الآخرة ، وقيل النعمة الظاهرة والنعمة الباطنة ، وقيل نعمة المطر ونعمة النبات .

قال القاضي أبو محمد : والظاهر أن قوله تعالى : { بل يداه مبسوطتان } عبارة عن إنعامه على الجملة وعبر عنه بيدين جرياً على طريقة العرب في قولهم فلان ينفق بكلتا يديه ومنه قول الشاعر وهو الأعشى :

يداك يدا مجد فكفٌّ مفيدة *** وكفٌّ إذا ما ضنَّ بالمال تنفق{[4616]}

ويؤيد أن اليدين هنا بمعنى الإنعام قرينة الإنفاق ، قال أبو عمرو الداني : وقرأ أبو عبد الله «بل يداه بسطتان » يقال يد بسطة أي مطلقة ، وروي عنه «بسطان » ، وقوله تعالى : { وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً } إعلام لمحمد صلى الله عليه وسلم بأن هؤلاء اليهود من العتو والبعد عن الحق بحيث إذا سمعوا هذه الأسرار التي لهم والأقوال التي لا يعلمها غيرهم تنزل عليك ، طغوا وكفروا ، وكان عليهم أن يؤمنوا{[4617]} إذ يعلمون أنك لا تعرفها إلا من قبل الله ، لكنهم من العتو بحيث يزيدهم ذلك طغياناً ، وخص تعالى ذكر الكثير إذ فيهم من آمن بالله ومن لا يطغى كل الطغيان .

وقوله تعالى : { وألقينا بينهم العداوة والبغضاء } معطوف على قوله { وقالت اليهود } فهي قصص يعطف بعضها على بعض ، و { العداوة } أخص من { البغضاء } لأن كل عدو فهو يبغض ، وقد يبغض من ليس بعدو ، وكأن العدواة شيء مشتهر يكون عنه عمل وحرب ، والبغضاء قد لا تجاوز النفوس ، وقد ألقى الله الأمرين على بني إسرائيل ، وقوله تعالى : { كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله } استعارة بليغة تنبىء عن فض جموعهم وتشتيت آرائهم وتفريق كلمتهم ، والآية تحتمل أن تكون إخباراً عن حال أسلافهم أي منذ عصوا وعتوا وهد الله ملكهم رماهم بهذه الأمور ، فهم لا ترتفع لهم راية إلى يوم القيامة ولا يقاتلون جميعاً إلا في قرى محصنة ، هذا قول الربيع والسدي وغيرهما . وقال مجاهد : معنى الآية كلما أوقدوا ناراً لحرب محمد أطفأها الله ، فالآية على هذا تبشير لمحمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وإشارة إلى حاضريه من اليهود ، وقوله تعالى : { ويسعون } معنى السعي في هذه الآية العمل والفعل ، وقد يجيء السعي بمعنى الانتقال على القدم ، وذلك كقوله تعالى : { فاسعوا إلى ذكر الله }{[4618]} وإن كان مالك رحمه الله قد قال في الموطأ : إن السعي في قوله : { فاسعوا إلى ذكر الله } إنه العمل والفعل ، ولكن غيره من أهل العلم جعله على الأقدام وهو الظاهر بقرينة ضيق الوقت وبالتعدية ب «إلى » ، ويؤيده قراءة عمر بن الخطاب «فامضوا إلى ذكر الله » وقوله تعالى : { والله لا يحب المفسدين } أي لا يظهر عليهم من أفعاله في الدنيا والآخرة ما يقتضي المحبة .


[4606]:- من الآية (29) من سورة (الإسراء).
[4607]:- رواه البخاري ومسلم وغيرهما، ولفظة: (مثل البخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد، من ثديهما إلى تراقيهما، فأما المنفق فلا ينفق إلا سبغت على جلده حتى تخفي بنانه وتطفو أثره، وأما البخيل فلا يريد أن ينفق إلا لزقت كل حلقة مكانها فهو يوسعها فلا تتسع)، والحديث مروي عن أبي هريرة، ورمز له في "الجامع الصغير" بأنه صحيح.
[4608]:- من قوله تعالى في الآية (75) من سورة (ص): {قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي}.
[4609]:- من قوله تعالى في الآية (71) من سورة (يسن): {أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون}.
[4610]:- من قوله تعالى في الآية (10) من سورة (الفتح): {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم}.
[4611]:- من قوله تعالى في الآية (39) من سورة (طه): {وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني}.
[4612]:- من قوله تعالى في الآية (14) من سورة (القمر): {تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر}.
[4613]:- من قوله تعالى في الآية (48) من سورة (الطور): {واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا وسبح بحمد ربك حين تقوم}.
[4614]:- من قوله تعالى في الآية (88) من سورة (القصص):{كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون}.
[4615]:- يقال: أعننت بعنّة: إذا تعرضت لشيء لا أعرفه، والرجل المُعن هو الذي يدخل فيما لا يعنيه. والتشقيق مبالغة في الشق، وشقّق الكلام: وسّعه وبيّنه وولّد بعضه من بعض، وفي حديث البيعة: (تشقيق الكلام عليكم شديد).
[4616]:- هذا البيت من قصيدته التي يمدح بها المحلق بن خنثم بن شداد بن ربيعة، ومطلعها: أرقت وما هذا السهاد المؤرق وما بي من سقم وما بي معشق ونص البيت في الديوان هكذا: يداك يدا صدق فكف مفيدة وأخرى إذا ما ضنّ بالزّاد تنفق
[4617]:- يريد: وكان المفروض أن يؤمنوا، يقال: ما َنْولك أن تفعل كذا، أي: لا ينبغي لك، وفي الحديث: (ما نول امرئ مسلم أن يقول غير الصواب).
[4618]:- من الآية (9) من سورة (الجمعة).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغۡلُولَةٌۚ غُلَّتۡ أَيۡدِيهِمۡ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْۘ بَلۡ يَدَاهُ مَبۡسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيۡفَ يَشَآءُۚ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرٗا مِّنۡهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ طُغۡيَٰنٗا وَكُفۡرٗاۚ وَأَلۡقَيۡنَا بَيۡنَهُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ كُلَّمَآ أَوۡقَدُواْ نَارٗا لِّلۡحَرۡبِ أَطۡفَأَهَا ٱللَّهُۚ وَيَسۡعَوۡنَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَسَادٗاۚ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِينَ} (64)

{ وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء } .

عطف على جملة { وإذا جاؤوكم قالوا آمنّا } [ المائدة : 61 ] ، فإنّه لمّا كان أولئك من اليهود والمنافقين انتقل إلى سوء معتقدهم وخبث طويتهم ليظهر فرط التنافي بين معتقدهم ومعتقد أهل الإسلام ، وهذا قول اليهود الصرحاء غير المنافقين فلذلك أسند إلى اسم ( اليهود ) .

ومعنى { يد الله مغلولة } الوصف بالبخل في العطاء لأنّ العرب يجعلون العطاء معبَّراً عنه باليد ، ويجعلون بَسْط اليد استعارة للبذل والكرم ، ويجعلون ضدّ البسط استعارة للبخل فيقولون : أمسك يدَه وقبَض يده ، ولم نسمع منهم : غَلّ يدَه ، إلاّ في القرآن كما هنا ، وقوله : { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عُنقك } في سورة الإسراء ( 29 ) ، وهي استعارة قويّة لأنّ مغلول اليد لا يستطيع بسطها في أقلّ الأزمان ، فلا جرم أن تكون استعارة لأشدّ البخل والشحّ .

واليهودُ أهل إيمان ودين فلا يجوز في دينهم وصف الله تعالى بصفات الذمّ . فقولهم هذا : إمّا أن يكون جرى مجرى التهكّم بالمسلمين إلزاماً لهذا القول الفاسد لهم ، كما روي أنّهم قالوا ذلك لمّا كان المسلمون في أوّل زمن الهجرة في شدّة ، وفَرَض الرسول عليهم الصدقات ، وربّما استعان باليهود في الديات . وكما روي أنّهم قالوه لمّا نزل قوله تعالى : { من ذا الّذي يُقرض الله قرضاً حسناً } [ البقرة : 245 ] فقالوا : إنّ ربّ محمّد فقير وبخيل . وقد حكي عنهم نظيره في قوله تعالى : { لقد سمع الله قول الّذين قالوا إنّ الله فقير ونحن أغنياء } [ البقرة : 181 ] . ويؤيّد هذا قوله عقبهُ { وليزيدنّ كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربّك طغياناً وكفراً } . وإمّا أن يكونوا قالوه في حالة غضب ويأس ؛ فقد روي في سبب نزولها أنّ اليهود نزلت بهم شدّة وأصابتهم مجاعة وجَهد ، فقال فنحاص بن عَازُورا هذه المقالة ، فإمّا تلقَّفُوها منه على عادة جهل العامّة ، وإمّا نسب قول حبرهم إلى جميعهم لأنّهم يقلّدونه ويقتدون به .

وقد ذمّهم الله تعالى على كلا التقديرين ، إذ الأول استخفاف بالإسلام وبدينهم أيضاً ، إذ يجب تنزيه الله تعالى عن هذه المقالات ، ولو كانت على نيّة إلزام الخصم ، والثّاني ظاهر ما فيه من العجرفة والتأفّف من تصرّف الله ، فقابل الله قولهم بالدّعاء عليهم . وذلك ذمّ على طريقة العَرب .

وجملة { غُلَّت أيديهم } معترضة بين جملة { وقالت اليهود } وبين جملة { بل يداه مبسوطتان } . وهي إنشاء سبّ لهم . وأخذ لهم من الغُلّ المجازي مُقابِلُه الغلّ الحقيقي في الدعاء على طريقة العرب في انتزاع الدعاء من لفظ سببه أو نحوه ، كقول النّبيء صلى الله عليه وسلم « عُصَيَّةُ عَصت الله ورسوله ، وأسلم سَلَّمها الله ، وغِفَار غَفر الله لها »

وجملة { ولعنوا بما قالوا } يجوز أن تكون إنشاء دعاء عليهم ، ويجوز أن تكون إخباراً بأنّ الله لعنهم لأجل قولهم هذا ، نظير ما في قوله تعالى : { وإن يَدْعون إلاّ شيطاناً مريداً لعنه الله } في سورة النّساء ( 117 ، 118 ) .

وقوله : { بل يداه مبسوطتان } نقض لكلامهم وإثبات سعة فضله تعالى . وبسط اليدين تمثيل للعطاء ، وهو يتضمّن تشبيه الإنعام بأشياء تعطى باليدين .

وذكر اليد هنا بطريقة التثنية لزيادة المبالغة في الجُود ، وإلاّ فاليَدُ في حال الاستعارة للجود أو للبُخل لا يقصد منها مفرد ولا عدد ، فالتثنية مستعملة في مطلق التّكرير ، كقوله تعالى : { ثُم ارجع البصر كرّتين } [ الملك : 4 ] ، وقولهم : « لبّيك وسعديك » . وقال الشّاعر ( أنشده في « الكشاف » ولم يعْزه هو ولا شارحوه ) :

جَادَ الْحِمَى بَسِطُ اليدَيْن بوابلٍ *** شكرَتْ نَدَاه تلاعُه ووهَاده

وجملة { ينفق كيف يشاء } بيان لاستعارة { يداه مبسوطتان } . و { كيف } اسم دالّ على الحالة وهو مبني في محلّ نصب على الحال . وفي قوله : { كيف يشاء } زيادة إشارة إلى أن تقتيره الرزق على بعض عبيده لمصلحة ، مثل العقاب على كفران النعمة ، قال تعالى : { ولو بَسط الله الرزق لعباده لبَغَوا في الأرض } [ الشورى : 27 ] .

{ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طغيانا وَكُفْراً } .

عطف على جملة { وقالت اليهود يد الله مغلولة } . وقع معترضاً بين الردّ عليهم بجملة { بل يداه مبسوطتان } وبين جملة { وألقيْنا بينهم العداوة والبغضاء } ، وهذا بيان للسبب الّذي بعثهم على تلك المقالة الشنيعة ، أي أعماهم الحسد فزادهم طغياناً وكفراً ، وفي هذا إعداد للرسول عليه الصلاة والسلام لأخذ الحذر منهم ، وتسلية له بأنّ فَرط حنقهم هو الّذي أنطقهم بذلك القول الفظيع .

{ وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضآء إلى يَوْمِ القيامة } .

عطف على جملة { ولعنوا بما قالوا } عطفَ الخبر على الإنشاء على أحد الوجهين فيه . وفي هذا الخبر الإيماء إلى أنّ الله عاقبهم في الدّنيا على بغضهم المسلمين بأن ألقَى البغضاء بين بعضهم وبعض ، فهو جزاء من جنس العمل ، وهو تسلية للرّسول صلى الله عليه وسلم أن لا يهمّه أمر عداوتهم له ، فإنّ البغضاء سجيتهم حتّى بين أقوامهم وأنّ هذا الوصف دائم لهم شأنَ الأوصاف الّتي عمي أصحابها عن مداواتها بالتخلّق الحسن . وتقدّم القول في نظيره آنفاً .

{ كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله وَيَسْعَوْنَ فِى الارض فَسَاداً والله لاَ يُحِبُّ المفسدين } .

تركيب { أوقدوا ناراً للحرب أطفاها الله } تمثيل ، شُبّه به حال التهيّؤ للحرب والاستعداد لها والحَزَامةِ في أمرها ، بحال من يُوقد النّار لحاجة بها فتنطفىء ، فإنّه شاعت استعارات معاني التسعير والحَمْي والنّار ونحوها للحرب ، ومنه حَمِيَ الوَطيس ، وفلان مِسْعَرُ حرب ، ومِحَشّ حرب ، فقوله : { أوقدوا ناراً للحرب } كذلك ، ولا نارَ في الحقيقة ، إذ لم يُؤْثر عن العرب أنّ لهم ناراً تختصّ بالحرب تُعَدّ في نِيرَان العرب الّتي يُوقِدُونها لأغراض . وقد وهم من ظنّها حقيقة ، ونبَّه المحقّقون على وهمه .

وشبّه حال انحلال عزمهم أو انهزامُهم وسرعةُ ارتدادهم عنها ، وإحجامُهم عن مصابحة أعدائهم ، بحال من انطفأت ناره الّتي أوقدها .

ومن بداعة هذا التمثيل أنّه صالحٌ لأن يعتبر فيه جَمْعُه وتفريقه ، بأن يُجعل تمثيلاً واحداً لِحالة مجموعة أو تمثيلين لحالتين ، وقبول التمثيل للتفريق أتمّ بلاغة . والمعنى أنّهم لا يلتئم لهم أمر حرب ولا يستطيعون نكاية عدوّ ، ولو حاربوا أو حُوربوا انهزموا ، فيكون معنى الآية على هذا كقوله : { ضُرِبت عليهم الذلّة أينَما ثُقِفوا } [ آل عمران : 112 ] .

وأمّا ما يروى أنّ مَعَدّا كلّها لمّا حاربوا مذبح يوم ( خَزَازَى ) ، وسيادتُهم لِتغلب وقائدُهم كُليب ، أمر كليب أن يوقدوا ناراً على جبل خَزَازَى ليهتدي بها الجيش لكثرته ، وجعلوا العلامة بينهم أنّهم إذا دهمتهم جيوش مذحج أوقدوا نارين على ( خَزَازَى ) ، فلمّا دهمتهم مَذحج أوقدوا النّار فتجمّعت مَعدّ كلّها إلى ساحة القتال وانهزمت مَذحج . وهذا الّذي أشار إليه عمرو بن كلثوم بقوله :

وَنَحْنُ غداة أوقِدَ في خَزازَى *** رَفَدْنَا فَوْقَ رفْد الرافِدِينَا

فتلك شعار خاصّ تواضعوا عليه يومئذٍ فلا يعدّ عادة في جميع الحروب . وحيث لا تعْرف نار للحرب تعيّن الحَمْل على التمثيل ، ولذلك أجمع عليه المفسّرون في هذه الآية فليس الكلامُ بحقيقة ولا كناية .

وقوله : { ويسعون في الأرض فساداً } القولُ فيه كالقول في نظيره المتقدّم آنفاً عند قوله تعالى : { إنّما جزاء الّذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً } [ المائدة : 33 ] .