التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَإِذۡ صَرَفۡنَآ إِلَيۡكَ نَفَرٗا مِّنَ ٱلۡجِنِّ يَسۡتَمِعُونَ ٱلۡقُرۡءَانَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوٓاْ أَنصِتُواْۖ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوۡاْ إِلَىٰ قَوۡمِهِم مُّنذِرِينَ} (29)

وبعد هذا التذكير والوعيد للكافرين ، بيَّن - سبحانه - جانبا من مظاهر تكريمه لنبيه - صلى الله عليه وسلم - حيث أرسل له نفرا من الجن ، يستمعون القرآن ، ويؤمنون به ، فقال - تعالى - : { وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً . . . فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } .

قال القرطبى ما ملخصه : قوله - تعالى - : { وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجن . . . } هذا توبيخ لمشركى قريش . أى : أن الجن سمعوا القرآن فآمنا به وعلموا أنه من عند الله ، وأنتم معرضون مصرون على الكفر .

قال المفسرون : لما مات أبو طالب ، خرج النبى - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف ، يلتمس من أهلها النصرة ، ويدعوهم إلى الإِيمان . . أغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويضحكون به . .

فانصرف - صلى الله عليه وسلم - عنهم ، حتى إذا كان ببطن نخلة - وهو موضع بين مكة والطائف - قام يصلى من الليل ، فمر به نفر من جن نصيبين - وهو موضع قرب الشام - فاستمعوا إليه وقالوا : أنصتوا .

وهناك روايات أخرى كثيرة فى عدد هؤلاء الجن ، وفى الأماكن التى التقوا فيها مع النبى - صلى الله عليه وسلم - عليهم ، وفيمن كان مع النبى - صلى الله عليه وسلم - خلال التقائه بهم . .

ويبدو لنا من مجموع هذه الروايات أن لقاء النبى - صلى الله عليه وسلم - بالجن قد تعدد ، وأن هذه الآيات تحكى لقاء معينا ، وسورة الجن تحكى لقاء آخر .

قال الآلوسى : وقد أخرج الطبرانى فى الأوسط ، وابن مردويه عن الحبر ، أى : عن ابن عباس أنه قال : صرفت الجن إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرتين .

وذكر الخفاجى أنه قد دلت الأحاديث ، على أن وفادة الجن كانت ست مرات ، ويجمع بذلك اختلاف الروايات فى عددهم ، وفى غير ذلك .

و " النفر " على المشهور - ما بين الثلاة والعشرة من الرجال وهو مأخوذ من النفير ، لأن الرجل إذا حزبه أمر نفر بعض الناس الذين يهتمون بأمره لإِغاثته .

والمعنى : واذكر - أيها الرسول الكريم - لقومك ، وقت أن صرفنا إليك ، ووجهنا نحوك ، نفراً من الجن ، يستمعون القرآن منك .

{ فَلَمَّا حَضَرُوهُ } أى : فحين حضروا القرى ، عند تلاوة منك ، أو فحين حضروا مجلسك { قالوا } على سبيل التناصح - { أَنصِتُواْ } أى : قالوا بعضهم لبعض : اسكتوا لأجل أن نستمع إلى هذا القرآن ، وهذا يدل على سمو أدبهم وحرصهم على تلقى العلم .

{ فَلَمَّا قُضِيَ } أى : فحين انتهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - من قراءته .

{ وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ } أى : انصروفوا إلى قومهم ليخوفوهم من عذاب الله - تعالى - إذا ما عصموه أو خالفوا أمره - سبحانه - .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَإِذۡ صَرَفۡنَآ إِلَيۡكَ نَفَرٗا مِّنَ ٱلۡجِنِّ يَسۡتَمِعُونَ ٱلۡقُرۡءَانَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوٓاْ أَنصِتُواْۖ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوۡاْ إِلَىٰ قَوۡمِهِم مُّنذِرِينَ} (29)

قال الإمام أحمد : حدثنا سفيان ، حدثنا عمرو : سمعت عكرمة ، عن الزبير : { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ } قال : بنخلة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العشاء الآخرة ، { كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا } [ الجن : 19 ] ، قال سفيان : اللبد : بعضهم على بعض ، كاللبد بعضه على بعض {[26466]} .

تفرد به أحمد ، وسيأتي من رواية ابن جرير ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أنهم سبعة من جن نَصِيبين .

وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا أبو عوانة( ح ) - وقال{[26467]} الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه " دلائل النبوة " : أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان ، أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار ، حدثنا إسماعيل القاضي ، أخبرنا مسدد ، حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير {[26468]} ، عن ابن عباس قال : ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم ، انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء ، وأرسلت عليهم الشهب ، فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا : ما لكم ؟ فقالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء ، وأرسلت علينا الشهب . قالوا : ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث ، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها وانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء . فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها يبتغون ما هذا الذي حال بينهم وبين خبر السماء ، فانصرف أولئك النفر الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو بنخلة عامدا إلى سوق عكاظ ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر ، فلما سمعوا القرآن استمعوا له ، فقالوا : هذا - والله - الذي حال بينكم وبين خبر السماء ، فهنالك حين رجعوا إلى قومهم ، قالوا : يا قومنا ، إنا سمعنا قرآنا عجبا ، يهدي إلى الرشد فآمنا به ، ولن نشرك بربنا أحدا ، وأنزل الله على نبيه {[26469]} : { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ } [ الجن : 1 ] ، وإنما أوحي إليه قول الجن .

رواه البخاري عن مُسَدَّد بنحوه ، وأخرجه مسلم عن شيبان بن فروخ ، عن أبي عوانة ، به . ورواه الترمذي والنسائي في التفسير ، من حديث أبي عوانة{[26470]} .

وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا أبو أحمد ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن جبير {[26471]} ، عن ابن عباس ، قال : كان الجن يستمعون{[26472]} الوحي ، فيسمعون الكلمة فيزيدون فيها عشرا ، فيكون ما سمعوا حقًا وما زادوا باطلا وكانت النجوم لا يرمى بها قبل ذلك ، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحدهم لا يأتي مقعده إلا رمي بشهاب يحرق ما أصاب ، فشكوا ذلك إلى إبليس فقال : ما هذا إلا من أمر قد حدث . فبث جنوده ، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يصلي بين جبلي نخلة ، فأتوه فأخبروه ، فقال : هذا الحدث الذي حدث في الأرض .

ورواه الترمذي والنسائي في كتابي التفسير من سننيهما ، من حديث إسرائيل به{[26473]} وقال الترمذي : حسن صحيح .

وهكذا رواه أيوب عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس . وكذا رواه العوفي ، عن ابن عباس أيضا ، بمثل هذا السياق بطوله ، وهكذا قال الحسن البصري : إنه ، عليه السلام ، ما شعر بأمرهم حتى أنزل الله عليه بخبرهم .

وذكر محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن رومان ، عن محمد بن كعب القرظي قصة خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ودعائه إياهم إلى الله عز وجل ، وإبائهم عليه . فذكر القصة بطولها ، وأورد ذلك الدعاء الحسن : " اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي " إلى آخره . قال : فلما انصرف عنهم بات بنخلة ، فقرأ تلك الليلة من القرآن فاستمعه الجن من أهل نصيبين{[26474]} .

وهذا صحيح ، ولكن قوله : " إن الجن كان استماعهم تلك الليلة " . فيه نظر ؛ لأن الجن كان استماعهم في ابتداء الإيحاء ، كما دل عليه حديث ابن عباس المذكور ، وخروجه ، عليه السلام ، إلى الطائف كان بعد موت عمه ، وذلك قبل الهجرة بسنة أو سنتين ، كما قرره ابن إسحاق وغيره [ والله أعلم ]{[26475]} .

وقال أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، حدثنا سفيان ، عن عاصم ، عن زر{[26476]} ، عن عبد الله بن مسعود قال : هبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة ، فلما سمعوه قالوا : أنصتوا . قال {[26477]} صه ، وكانوا تسعة{[26478]} أحدهم زوبعة ، فأنزل الله عز وجل : { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ } إلى : { ضَلالٍ مُبِينٍ } {[26479]} .

فهذا مع الأول من رواية ابن عباس يقتضي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشعر بحضورهم في هذه المرة وإنما استمعوا قراءته ، ثم رجعوا إلى قومهم ثم بعد ذلك وفدوا إليه أرسالا قوما بعد قوم ، وفوجا بعد فوج ، كما سيأتي بذلك الأخبار في موضعها والآثار ، مما سنوردها {[26480]} هاهنا إن شاء الله تعالى وبه الثقة .

فأما ما رواه البخاري ومسلم جميعا ، عن أبي قدامة عبيد الله بن سعيد السرخسي ، عن أبي أسامة حماد بن أسامة ، عن مسعر بن كدام ، عن معن بن عبد الرحمن قال : سمعت أبي قال : سألت مسروقا : من آذن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة استمعوا القرآن ؟ فقال : حدثني أبوك - يعني ابن مسعود {[26481]} - أنه آذنته بهم شجرة{[26482]} - فيحتمل أن يكون هذا في المرة الأولى ، ويكون إثباتا مقدما على نفي ابن عباس ، ويحتمل أن يكون هذا في بعض المرات المتأخرات ، والله أعلم . ويحتمل أن يكون في الأولى ولكن لم يشعر بهم حال استماعهم حتى آذنته بهم الشجرة ، أي : أعلمته باستماعهم ، والله أعلم .

قال الحافظ البيهقي : وهذا الذي حكاه ابن عباس رضي الله عنهما{[26483]} ، إنما هو في أول ما سمعت{[26484]} الجن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمت حاله ، وفي ذلك الوقت لم يقرأ عليهم ولم يرهم ، ثم بعد ذلك أتاه داعي الجن فقرأ عليهم القرآن ، ودعاهم إلى الله ، عز وجل ، كما رواه عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه{[26485]} .

ذكر الرواية عنه بذلك :

قال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، حدثنا داود عن الشعبي - وابن أبي زائدة ، أخبرنا داود ، عن الشعبي{[26486]} - عن علقمة قال : قلت لعبد الله بن مسعود : هل صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن منكم أحد ؟ فقال : ما صحبه منا أحد ، ولكنا فقدناه ذات ليلة بمكة ، فقلنا : اغتيل ؟ استطير ؟ ما فعل ؟ قال : فبتنا بشر ليلة بات بها قوم ، فلما كان في وجه الصبح - أو قال : في السحر - إذا نحن به يجيء من قبل حراء ، فقلنا : يا رسول الله - فذكروا له الذي كانوا فيه - فقال : " إنه أتاني داعي الجن ، فأتيتهم فقرأت عليهم " . قال : فانطلق ، فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم - قال : وقال الشعبي : سألوه الزاد - قال عامر : سألوه بمكة ، وكانوا من جن الجزيرة ، فقال : " كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما كان عليه لحما ، وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم - قال - فلا تستنجوا بهما ، فإنهما زاد إخوانكم من الجن " .

وهكذا رواه مسلم في صحيحه ، عن علي بن حجر ، عن إسماعيل بن علية ، به نحوه{[26487]} .

وقال مسلم أيضا : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا عبد الأعلى ، حدثنا داود - وهو ابن أبي هند - عن عامر قال : سألت علقمة : هل كان ابن مسعود ، رضي الله عنه ، شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ؟ قال : فقال علقمة : أنا سألت ابن مسعود ؛ فقلت : هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ؟ قال : لا ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب ، فقلنا : استطير ؟ اغتيل ؟ قال : فبتنا بشر ليلة بات بها قوم ، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء ، قال : فقلنا : يا رسول الله ، فقدناك فطلبناك فلم نجدك ، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم . فقال : " أتاني داعي الجن ، فذهبت معهم ، فقرأت عليهم القرآن " . قال : فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم ، وسألوه الزاد فقال : " كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما ، وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم " . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فلا تستنجوا بهما ، فإنهما طعام إخوانكم " {[26488]} .

طريق أخرى عن ابن مسعود : قال أبو جعفر بن جرير : حدثني أحمد بن عبد الرحمن ، حدثني عمي ، حدثني يونس ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ؛ أن بن مسعود قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " بت الليلة أقرأ على الجن ربعا {[26489]} بالحجون " {[26490]} .

طريق أخرى : فيها أنه كان معه ليلة الجن ، قال ابن جرير رحمه الله : حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ، حدثنا عمي عبد الله بن وهب ، أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، عن أبي عثمان بن سنة الخزاعي - وكان من أهل الشام {[26491]} - أن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه وهو بمكة : " من أحب منكم أن يحضر أمر الجن الليلة فليفعل " . فلم يحضر منهم أحد غيري ، قال : فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة خط لي برجله خطا ، ثم أمرني أن أجلس فيه ، ثم انطلق حتى قام ، فافتتح القرآن فغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه ، حتى ما أسمع صوته ، ثم طفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب ذاهبين ، حتى بقي منهم رهط ، ففرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الفجر ، فانطلق فتبرز ، ثم أتاني فقال : " ما فعل الرهط ؟ " فقلت : هم أولئك يا رسول الله ، فأعطاهم عظما وروثا زادا ، ثم نهى أن يستطيب أحد بروث أو عظم .

ورواه ابن جرير عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، عن أبي زرعة وهب الله بن راشد ، عن يونس بن يزيد الأيلي ، به {[26492]} .

ورواه البيهقي في الدلائل ، من حديث عبد الله بن صالح - كاتب الليث - عن الليث ، عن يونس به {[26493]} .

وقد روى إسحاق بن راهويه ، عن جرير ، عن قابوس بن أبي ظبيان ، عن أبيه ، عن ابن مسعود ، فذكر نحو ما تقدم {[26494]} .

ورواه الحافظ أبو نعيم ، من طريق موسى بن عبيدة ، عن سعيد بن الحارث ، عن أبي المعلى {[26495]} ، عن ابن مسعود فذكر نحوه أيضا{[26496]} .

طريق أخرى : قال أبو نعيم : حدثنا أبو بكر بن مالك ، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثني أبي قال : حدثنا عفان وعكرمة قالا حدثنا معتمر قال : قال أبي : حدثني أبو تميمة ، عن عمرو - ولعله قد يكون قال : البكالي - يحدثه عمرو ، عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، قال : استتبعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فانطلقنا حتى أتينا مكان كذا وكذا ، فخط لي خطا فقال : " كن بين ظهر هذه لا تخرج منها ؛ فإنك إن خرجت منها هلكت " فذكر الحديث بطوله وفيه غرابة شديدة {[26497]} .

طريق أخرى : قال ابن جرير : حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن يحيى بن أبي كثير {[26498]} ، عن عبد الله بن عمرو بن غيلان الثقفي ؛ أنه قال لابن مسعود : حدثت أنك كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة وفد الجن ؟ قال : أجل . قال : فكيف كان ؟ فذكر الحديث كله ، وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم خط عليه خطا ، وقال : " لا تبرح منها " فذكر مثل العَجَاجة السوداء غشيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذعر ثلاث مرات ، حتى إذا كان قريبا من الصبح ، أتاني النبي{[26499]} صلى الله عليه وسلم فقال : " أنمت ؟ " فقلت : لا والله ، ولقد هممت مرارا أن أستغيث بالناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك ، تقول : " اجلسوا " فقال : " لو خرجت لم آمن أن يخطفك {[26500]} بعضهم " . ثم قال : " هل رأيت شيئا ؟ " فقلت : نعم رأيت رجالا سودًا مستشعرين {[26501]} ثيابا بياضا . قال : " أولئك جن نصيبين سألوني المتاع - والمتاع : الزاد - فمتعتهم بكل عظم حائل ، أو بعرة أو روثة " - فقلت : يا رسول الله ، وما يغني ذلك عنهم ؟ فقال : " إنهم لا يجدون عظما إلا وجدوا عليه لحمه يوم أكل ، ولا روثا إلا وجدوا فيها حبها يوم أكلت ، فلا يستنقين أحد منكم إذا خرج من الخلاء بعظم ولا بعرة ولا روثة " {[26502]} .

طريق أخرى : قال الحافظ أبو بكر البيهقي : أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي وأبو نصر بن قتادة قالا أخبرنا أبو محمد يحيى بن منصور القاضي ، حدثنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم البُوشَنْجي ، حدثنا روح بن صلاح ، حدثنا موسى بن علي بن رباح ، عن أبيه ، عن عبد الله بن مسعود قال : استتبعني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " إن نفرا من الجن - خمسة عشر بني إخوة وبني عم - يأتونني الليلة ، فأقرأ عليهم القرآن " ، فانطلقت معه إلى المكان الذي أراد ، فخط لي خطا وأجلسني فيه ، وقال لي : " لا تخرج من هذا " . فبت فيه حتى أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم مع السحر في يده عظم حائل وروثة حُمَمة فقال لي : " إذا ذهبت إلى الخلاء فلا تستنج بشيء من هؤلاء " . قال : فلما أصبحت قلت : لأعلمن علمي حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ، فذهبت فرأيت موضع مبرك{[26503]} ستين بعيرا{[26504]} .

طريق أخرى : قال البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، أخبرنا أبو العباس الأصم ، حدثنا العباس محمد الدُّوري ، حدثنا عثمان بن عمر {[26505]} ، عن المستمر بن الريان ، عن أبي الجوزاء ، عن عبد الله بن مسعود قال : انطلقت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ، حتى أتى الحجون ، فخط لي خطًا ، ثم تقدم إليهم فازدحموا عليه ، فقال سيد لهم يقال له : " وردان " : أنا أرحلهم عنك . فقال : إني لن يجيرني من الله أحد {[26506]} .

طريق أخرى : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا سفيان ، عن أبي فزارة العبسي ، حدثنا أبو زيد - مولى عمرو بن حريث - عن ابن مسعود قال : لما كان ليلة الجن قال لي النبي صلى الله عليه وسلم : " أمعك ماء ؟ " قلت : ليس معي ماء ، ولكن معي إداوة فيها نبيذ . فقال النبي : " تمرة طيبة وماء طهور " فتوضأ .

ورواه أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه ، من حديث أبي زيد ، به {[26507]} .

طريق أخرى : قال أحمد : حدثنا يحيى بن إسحاق ، أخبرنا ابن لهيعة ، عن قيس بن الحجاج ، عن حنش الصنعاني ، عن ابن عباس ، عن عبد الله بن مسعود ؛ أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ، فقال رسول الله : " يا عبد الله ، أمعك ماء ؟ " قال : معي نبيذ في إداوة ، فقال {[26508]} اصبب علي " . فتوضأ ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " يا عبد الله شراب وطهور " {[26509]} .

تفرد به أحمد من هذا الوجه ، وقد أورده الدارقطني من طريق آخر ، عن ابن مسعود ، [ به ]{[26510]} {[26511]} .

طريق أخرى : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرني أبي عن ميناء ، عن عبد الله قال : كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة وفد الجن ، فلما انصرف تنفس ، فقلت : ما شأنك ؟ قال : " نعيت إلي نفسي يا ابن مسعود " .

هكذا رأيته في المسند مختصرا {[26512]} ، وقد رواه الحافظ أبو نعيم في كتابه " دلائل النبوة " ، فقال : حدثنا سليمان بن أحمد بن أيوب ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم - وحدثنا أبو بكر بن مالك ، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثنا أبي قالا حدثنا عبد الرزاق ، عن أبيه ، عن ميناء ، عن ابن مسعود قال : كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة وفد الجن ، فتنفس ، فقلت : ما لك يا رسول الله ؟ قال : " نعيت إلي نفسي يا ابن مسعود " . قلت : استخلف . قال : " من ؟ " قلت : أبا بكر . فسكت {[26513]} ، ثم مضى ساعة فتنفس ، فقلت : ما شأنك بأبي أنت وأمي يا رسول الله ؟ قال : " نعيت إلي نفسي يا ابن مسعود " . قلت : استخلف . قال : " من ؟ " قلت : عمر [ بن الخطاب ]{[26514]} . فسكت ، ثم مضى ساعة ، ثم تنفس فقلت : ما شأنك ؟ قال : " نعيت إلي نفسي " . قلت : فاستخلف . قال صلى الله عليه وسلم : " من ؟ " قلت : علي بن أبي طالب . قال صلى الله عليه وسلم : " أما والذي نفسي بيده ، لئن أطاعوه ليدخلن الجنة أجمعين أكتعين . {[26515]} .

وهو حديث غريب جدًّا ، وأحرى به ألا يكون محفوظا ، وبتقدير صحته فالظاهر أن هذا بعد وفودهم إليه بالمدينة على ما سنورده ، فإن في ذلك الوقت في آخر الأمر لما فتحت مكة ، ودخل الناس والجان أيضا في دين الله أفواجا ، نزلت سورة {[26516]} { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ . وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا . فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } ، وهي السورة التي نعيت نفسه الكريمة فيها إليه ، كما قد نص على ذلك ابن عباس ، ووافقه عمر بن الخطاب عليه ، وقد ورد في ذلك حديث سنورده عند تفسيرها ، والله أعلم . وقد رواه أبو نعيم أيضا ، عن الطبراني ، عن محمد بن عبد الله الحضرمي ، عن علي بن الحسين بن أبي بردة ، عن يحيى بن سعيد{[26517]} الأسلمي ، عن حرب بن صَبِيح ، عن سعيد بن مسلمة ، عن أبي مرة الصنعاني ، عن أبي عبد الله الجدلي ، عن ابن مسعود ، فذكره وذكر فيه قصة الاستخلاف {[26518]} ، وهذا إسناد غريب ، وسياق عجيب .

طريق أخرى : قال الإمام أحمد : حدثنا أبو سعيد ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن أبي رافع ، عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم {[26519]} خط حوله ، فكان أحدهم {[26520]} مثل سواد النحل ، وقال لي : " لا تبرح مكانك " ، فأقرأهم كتاب الله " ، فلما رأى الزُّط قال : كأنهم هؤلاء . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أمعك ماء ؟ " قلت : لا . قال : " أمعك نبيذ ؟ " قلت : نعم . فتوضأ به {[26521]} .

طريق أخرى مرسلة : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو عبد الله الظهراني{[26522]} ، أخبرنا حفص بن عمر العدني ، حدثنا الحكم بن أبان ، عن عكرمة في قوله تعالى : { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ } قال : هم اثنا عشر ألفا جاؤوا من جزيرة الموصل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن مسعود : " أنظرني حتى آتيك " ، وخط عليه خطا ، وقال : " لا تبرح حتى آتيك " . فلما خشيهم ابن مسعود كاد أن يذهب ، فذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يبرح ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " لو ذهبت ما التقينا إلى يوم القيامة " {[26523]} .

طريق أخرى مرسلة أيضا : قال سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة في قوله تعالى : { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ } قال : ذكر لنا أنهم صرفوا إليه من نِينَوَى ، وأن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : " إني أمرت أن أقرأ على الجن فأيكم يتبعني ؟ " فأطرقوا ، ثم استتبعهم فأطرقوا ، ثم استتبعهم الثالثة فقال رجل : يا رسول الله ، إن ذاك لذو ندبة فأتبعه ابن مسعود أخو هذيل ، قال : فدخل النبي صلى الله عليه وسلم شعبا يقال له : " شعب الحجون " ، وخط عليه ، وخط على ابن مسعود ليثبته بذلك ، قال : فجعلت أهال وأرى أمثال النسور تمشي في دفوفها ، وسمعت لغطا شديدا ، حتى خفت على نبي الله صلى الله عليه وسلم ، ثم تلا القرآن ، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت : يا رسول الله ، ما اللغط الذي سمعت ؟ قال : " اختصموا في قتيل ، فقضي بينهم بالحق " . رواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم {[26524]} .

فهذه الطرق كلها تدل {[26525]} على أنه صلى الله عليه وسلم ذهب إلى الجن قصدا ، فتلا عليهم القرآن ، ودعاهم إلى الله ، عز وجل ، وشرع الله لهم على لسانه ما هم محتاجون إليه في ذلك الوقت . وقد يحتمل أن أول مرة سمعوه يقرأ القرآن [ و ] {[26526]} لم يشعر بهم ، كما قاله ابن عباس ، رضي الله عنهما{[26527]} ، ثم بعد ذلك وفدوا إليه كما رواه ابن مسعود . وأما ابن مسعود فإنه لم يكن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حال مخاطبته الجن ودعائه إياهم ، وإنما كان بعيدا منه ، ولم يخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم أحد سواه ، ومع هذا لم يشهد حال المخاطبة ، هذه طريقة البيهقي .

وقد يحتمل أن يكون أول مرة خرج إليهم لم يكن معه ابن مسعود ولا غيره ، كما هو ظاهر سياق الرواية الأولى من طريق الإمام أحمد ، وهي عند مسلم . ثم بعد ذلك خرج معه ليلة أخرى ، والله أعلم ، كما روى ابن أبي حاتم في تفسير : { قُلْ أُوحِيَ } ، من حديث ابن جريج قال : قال عبد العزيز بن عمر : أما الجن الذين لقوه بنخلة فجن نينوى ، وأما الجن الذين لقوه بمكة فجن نصيبين ، وتأوله البيهقي على أنه يقول : " فبتنا بشر ليلة بات بها قوم " ، على غير ابن مسعود ممن لم يعلم بخروجه صلى الله عليه وسلم إلى الجن ، وهو محتمل على بعد ، والله أعلم .

وقد قال الحافظ أبو بكر البيهقي : أخبرنا أبو عمرو محمد بن عبد الله{[26528]} الأديب ، أخبرنا أبو بكر الإسماعيلي ، أخبرنا الحسن بن سفيان ، حدثني سويد بن سعيد ، حدثنا عمرو بن يحيى ، عن جده سعيد بن عمرو ، قال{[26529]} كان أبو هريرة يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم بإداوة لوضوئه وحاجته ، فأدركه يوما فقال : " من هذا ؟ " قال : أنا أبو هريرة قال : " ائتني بأحجار أستنج بها ، ولا تأتني بعظم ولا روثة " . فأتيته بأحجار في ثوبي ، فوضعتها إلى جنبه حتى إذا فرغ وقام اتبعته ، فقلت : يا رسول الله ، ما بال العظم والروثة {[26530]} ؟ قال : " أتاني وفد جن نصيبين ، فسألوني الزاد ، فدعوت الله لهم ألا يمروا بعظم ولا بروثة إلا وجدوه طعاما " {[26531]} .

أخرجه البخاري في صحيحه ، عن موسى بن إسماعيل ، عن عمرو بن يحيى ، بإسناده قريبا منه {[26532]} فهذا يدل مع ما تقدم على أنهم وفدوا عليه بعد ذلك . وسنذكر ما يدل على تكرار ذلك .

وقد روي عن ابن عباس غير ما ذكر{[26533]} عنه أولا من وجه جيد ، فقال ابن جرير :

حدثنا أبو كريب ، حدثنا عبد الحميد الحماني ، حدثنا النضر بن عربي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ } الآية ، [ قال ] {[26534]} كانوا سبعة نفر من أهل نصيبين فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلا إلى قومهم{[26535]} .

فهذا يدل على أنه قد روى القصتين .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا سويد بن عبد العزيز ، حدثنا رجل سماه ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ } الآية ، قال : كانوا سبعة نفر ، ثلاثة من أهل حران ، وأربعة من أهل نصيبين ، وكانت أسماؤهم حيى وحسى ومسى ، وشاصر وناصر ، والأرد وإبيان والأحقم .

وذكر أبو حمزة الثمالي أن هذا الحي من الجن كان يقال لهم : بنو الشيصبان ، وكانوا أكثر الجن عددا وأشرفهم نسبا ، وهم كانوا عامة جنود إبليس .

وقال سفيان الثوري ، عن عاصم ، عن ذَرّ ، عن ابن مسعود : كانوا تسعة ، أحدهم زوبعة ، أتوه من أصل نخلة .

وتقدم عنه أنهم كانوا خمسة عشر ، وفي رواية : أنهم كانوا على ستين راحلة ، وتقدم عنه أن اسم سيدهم وردان ، وقيل : كانوا ثلاثمائة ، وتقدم عن عكرمة أنهم كانوا اثني عشر ألفا ، فلعل هذا الاختلاف دليل على تكرر وفادتهم عليه صلوات الله وسلامه عليه ، ومما يدل على ذلك ما قاله{[26536]} البخاري في صحيحه :

حدثنا يحيى بن سليمان ، حدثني ابن وهب ، حدثني عمر - هو ابن محمد - أن سالما حدثه ، عن عبد الله بن عمر قال : ما سمعت عمر يقول لشيء قط : " إني لأظنه كذا " إلا كان كما يظن ، بينما عمر بن الخطاب جالس إذ مر به رجل جميل ، فقال : لقد أخطأ ظني - أو : إن هذا على دينه في الجاهلية - أو لقد كان كاهنهم - علي بالرجل ، فدعى له {[26537]} ، فقال له ذلك ، فقال : ما رأيت كاليوم استقبل له رجل مسلم . قال : فإني أعزم عليك إلا ما أخبرتني . قال : كنت كاهنهم في الجاهلية . قال : فما أعجب ما جاءتك به جِنِيَّتُك . قال : بينما أنا يوما في السوق جاءتني أعرف فيها الفزع ، فقالت :

ألم تَرْ الجِنَّ وإبْلاسَهَا *** ويَأسَها من بعد إنْكَاسِها

ولُحوقَها بالقلاص وَأَحْلاسها

قال عمر : صدق ، بينما أنا نائم عند آلهتهم ، إذ جاء رجل بعجل فذبحه ، فصرخ به صارخ ، لم أسمع صارخا قط أشد صوتا منه يقول : يا جليح ، أمر نجيح ، رجل فصيح يقول : " لا إله إلا الله " فوثب {[26538]} القوم ، فقلت : لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا ؟ ثم نادى يا جليح ، أمر نجيح ، رجل فصيح يقول : " لا إله إلا الله " . فقمت ، فما نشبنا أن قيل : هذا نبي .

هذا سياق البخاري{[26539]} ، وقد رواه البيهقي من حديث ابن وهب ، بنحوه ، ثم قال : " وظاهر هذه الرواية يوهم أن عمر بنفسه سمع الصارخ يصرخ من العجل الذي ذبح ، وكذلك هو صريح {[26540]} في رواية ضعيفة عن عمر في إسلامه ، وسائر الروايات تدل على أن هذا الكاهن هو الذي أخبر بذلك عن رؤيته وسماعه ، والله أعلم " {[26541]} .

وهذا الذي قاله البيهقي هو المتجه ، وهذا الرجل هو سواد بن قارب ، وقد ذكرت هذا {[26542]} مستقصى في سيرة عمر ، رضي الله عنه ، فمن أراده فليأخذه من ثَمَّ ، ولله الحمد [ والمنة ]{[26543]} .

قال البيهقي : " حديث سواد بن قارب ، ويشبه أن يكون هذا هو الكاهن الذي لم يذكر اسمه في الحديث الصحيح " .

أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب المفسر من أصل سماعه ، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار الأصبهاني ، قراءة عليه ، حدثنا أبو جعفر أحمد بن موسى الحمار الكوفي بالكوفة ، حدثنا زياد بن يزيد بن بادويه أبو بكر القصري ، حدثنا محمد بن نواس الكوفي ، حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن أبي إسحاق ، عن البراء [ رضي الله عنه ]{[26544]} قال : بينما عمر بن الخطاب يخطب الناس على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ قال : أيها الناس ، أفيكم سواد بن قارب ؟ قال : فلم يجبه أحد تلك السنة ، فلما كانت السنة المقبلة قال : أيها الناس ، أفيكم سواد بن قارب ؟ قال : فقلت : يا أمير المؤمنين ، وما سواد بن قارب ؟ قال : فقال له عمر : إن سواد بن قارب كان بَدءُ إسلامه شيئا عجيبا ، قال : فبينا نحن كذلك إذ طلع سواد بن قارب ، قال : فقال له عمر : يا سواد حدثنا ببدء إسلامك ، كيف كان ؟ قال سواد : فإني كنت نازلا بالهند ، وكان لي رَئِيّ من الجن ، قال : فبينا أنا ذات ليلة نائم ، إذ جاءني في منامي ذلك . قال : قم فافهم واعقل إن كنت تعقل ، قد بعث رسول من لؤي بن غالب ، ثم أنشأ يقول :

عَجِبتُ للجنِّ وأنْجَاسِها{[26545]} *** وشَدّها العيسَ بأحْلاسهَا

تَهْوي إلى مَكةَ تَبْغي الهُدَى*** مَا مُؤمنو الجِنِّ كَأرْجَاسهَا

فَانْهَض إلى الصَّفْوةِ من هَاشمٍ***واسْمُ بعينَيْك إلى رَاسِهَا

قال : ثم أنبهني فأفزعني ، وقال : يا سواد بن قارب ، إن الله بعث نبيًا فانهض إليه تهتد وترشد . فلما كان من الليلة الثانية أتاني فأنبهني ، ثم أنشأ يقول كذلك :

عَجِبتُ للجنِّ وَتَطْلابِها***وَشَدهَا العِيسَ بأقْتَابِهَا

تَهْوي إلى مَكّةَ تَبْغي الهُدَى*** ليسَ قُداماها كَأذْنَابِها

فانهض إلى الصّفْوةِ من هَاشمٍ*** واسْمُ بعَيْنَيك إلى نَابِها{[26546]}

فلما كان في الليلة الثالثة أتاني فأنبهني ، ثم قال :

عَجِبتُ للجِنّ وَتَخْبارها*** وَشَدَّها العِيسَ بأكْوَارهَا

تَهْوي إلى مَكَّةَ تَبْغِي الهُدَى*** لَيْسَ ذَوُو الشَّر كَأخْيَارهَا

فَانْهَضْ إلى الصَّفْوةِ من هَاشمٍ*** مَا مُؤمِنو الجِنِّ كَكُفَّارهَا

قال : فلما سمعته تكرر ليلة بعد ليلة ، وقع في قلبي حب الإسلام من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله ، قال : فانطلقت إلى رحلي فشددته على راحلتي ، فما حللت [ عليه ] {[26547]} نسعة ولا عقدت أخرى حتى أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا هو بالمدينة - يعني مكة - والناس عليه كعرف الفرس ، فلما رآني النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مرحبا بك يا سواد بن قارب ، قد علمنا ما جاء بك " . قال : قلت : يا رسول الله ، قد قلت شعرا ، فاسمعه مني . قال سواد : فقلت :

أتَانِي رئيَّ بعد لُيَلٍ وهَجْعةٍ*** وَلم يَكُ فيما قَدْ بَلوَتُ بكَاذبِ

ثَلاثٍ لَيَال قَولُه كُلَّ لَيْلَة : *** أتاك رسول{[26548]} من لُؤيّ بن غَالبِ

فَشَمَّرتُ عن سَاقي الإزَارَ ووسطت*** بي الدَّعلب الوَجْنَاءُ عند السَّبَاسبِ . . .

فَأشْهَدُ أنّ اللهَ لا شَيء غَيْرهُ*** وَأَنّكَ مَأْمُونٌ عَلَى كُِّل غَائبِ

وأَنَّك أَدْنَى المُرْسَلِينَ شَفَاعَة*** إلى اللهِ يا ابنَ الأكرَمينَ الأطايبِ

فَمُرنَا بمَا يَأتِيكَ يا خَيرَ مُرْسل{[26549]} *** وإنْ كَانَ فِيمَا جَاءَ شَيبُ الذّوَائبِ

وَكُنْ لي شَفِيعا يَومَ لا ذُو شَفَاعةٍ*** سِوَاك بِمغْنٍ عن سَوَاد بن قَاربِ

قال : فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه ، وقال لي : " أفلحت يا سواد " : فقال له عمر : هل يأتيك رئيك الآن ؟ فقال : منذ قرأت القرآن لم يأتني ، ونعم العوض كتاب الله من الجن{[26550]} .

ثم أسنده البيهقي من وجهين آخرين{[26551]} . ومما يدل على وفادتهم إليه ، عليه السلام {[26552]} ، بعد ما هاجر إلى المدينة ، الحديث الذي رواه الحافظ أبو نعيم في كتاب " دلائل النبوة " [ فقال ] {[26553]} :

حدثنا سليمان بن أحمد ، حدثنا محمد بن عبدة المصيصي ، حدثنا أبو تَوْبَة الربيع بن نافع ، حدثنا معاوية بن سلام ، عن زيد بن أسلم : أنه سمع أبا سلام يقول : حدثني من حدثه عمرو بن غيلان الثقفي قال : أتيت عبد الله بن مسعود فقلت له : حدثت أنك كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة وفد الجن ؟ قال : أجل قلت : حدثني كيف كان شأنه ؟ فقال : إن أهل الصفة أخذ كل رجل منهم رجل{[26554]} يعشيه ، وتركت فلم يأخذني أحد منهم ، فمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " من هذا ؟ " فقلت : أنا ابن مسعود . فقال : " ما أخذك أحد يعشيك ؟ " فقلت : لا . قال : " فانطلق لعلي أجد لك شيئا " . قال : فانطلقنا حتى أتى حجرة أم سلمة فتركني {[26555]} ودخل إلى أهله ، ثم خرجت الجارية فقالت : يا ابن مسعود ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجد لك عشاء ، فارجع إلى مضجعك . قال : فرجعت إلى المسجد ، فجمعت حصباء المسجد فتوسدته ، والتففت بثوبي ، فلم ألبث إلا قليلا حتى جاءت الجارية ، فقالت :

جب رسول الله {[26556]} . فاتبعتها وأنا أرجو العشاء ، حتى إذا بلغت مقامي ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده عسيب من نخل ، فعرض به على صدري فقال : " أتنطلق أنت معي{[26557]} حيث انطلقت ؟ " قلت : ما شاء الله . فأعادها علي ثلاث مرات ، كل ذلك أقول : ما شاء الله . فانطلق وانطلقت معه ، حتى أتينا بقيع الغرقد ، فخط بعصاه خطا ، ثم قال : " اجلس فيها ، ولا تبرج حتى آتيك " . ثم انطلق يمشي وأنا أنظر إليه خلال النخل ، حتى إذا كان من حيث لا أراه ثارت {[26558]} العَجَاجة السوداء ، ففرقت فقلت : ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإني أظن أن {[26559]} هوازن مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلوه ، فأسعى إلى البيوت ، فأستغيث الناس . فذكرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصاني : أن لا أبرح مكاني الذي أنا فيه ، فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرعهم بعصاه ويقول : " اجلسوا " . فجلسوا حتى كاد ينشق عمود الصبح ، ثم ثاروا وذهبوا ، فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أنمت بعدي ؟ " فقلت : لا {[26560]} ، ولقد فزعت الفزعة الأولى ، حتى رأيت أن آتي البيوت فأستغيث الناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك ، وكنت أظنها هوازن ، مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلوه . فقال : " لو أنك خرجت من هذه الحلقة ما آمنهم{[26561]} عليك أن يختطفك بعضهم ، فهل رأيت من شيء منهم ؟ " فقلت : رأيت رجالا سودا مستشعرين {[26562]} بثياب بيض ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أولئك وفد جن نصيبين ، أتوني فسألوني الزاد والمتاع ، فمتعتهم بكل عظم حائل أو روثة أو بعرة " . قلت : وما يغني عنهم ذلك ؟ قال : " إنهم لا يجدون عظما إلا وجدوا عليه لحمه الذي كان عليه يوم أكل ، ولا روثة إلا وجدوا فيها حبها الذي كان فيها يوم أكلت ، فلا يستنقي أحد منكم بعظم ولا بعرة {[26563]} " {[26564]} .

وهذا إسناد غريب جدًا {[26565]} ، ولكن فيه رجل مبهم لم يسم [ والله أعلم ]{[26566]} ، وقد روى الحافظ أبو نعيم من حديث بقية بن الوليد ، حدثني نمير بن زيد القنبر{[26567]} ، حدثنا أبي ، حدثنا قحافة بن ربيعة ، حدثني الزبير بن العوام قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح في مسجد المدينة ، فلما انصرف قال : " أيكم يتبعني إلى وفد الجن الليلة ؟ " فأسكت القوم ثلاثا ، فمر بي فأخذ بيدي ، فجعلت أمشي معه حتى حبست عنا جبال المدينة كلها ، وأفضينا إلى أرض براز ، فإذا برجال طوال كأنهم الرماح ، مستشعرين{[26568]} بثيابهم من بين أرجلهم ، فلما رأيتهم غشيتني رعدة شديدة ، ثم ذكر نحو حديث ابن مسعود المتقدم{[26569]} ، وهذا حديث غريب ، والله أعلم .

ومما يتعلق بوفود الجن ما رواه الحافظ أبو نعيم : حدثنا أبو محمد بن حيان ، حدثنا أبو الطيب أحمد بن روح ، حدثنا يعقوب الدَّوْرَقي ، حدثنا الوليد بن بكير التميمي ، حدثنا حصين بن عمر{[26570]} ، أخبرني عبيد المُكتب ، عن إبراهيم قال : خرج نفر من أصحاب عبد الله {[26571]} يريدون الحج ، حتى إذا كانوا في بعض الطريق ، إذا هم بحية تنثني{[26572]} على الطريق أبيض ، ينفخ منه ريح المسك ، فقلت لأصحابي : امضوا ، فلست ببارح حتى أنظر إلى ما يصير إليه أمر هذه الحية . قال : فما لبثت أن ماتت ، فعمدت إلى خرقة بيضاء فلففتها فيها ، ثم نحيتها عن الطريق فدفنتها ، وأدركت أصحابي في المتعشى . قال : فوالله إنا لقعود إذ أقبل{[26573]} أربع نسوة من قبل المغرب ، فقالت واحدة منهن : أيكم دفن عمرًا ؟ قلنا : ومن عمرو ، قالت : أيكم دفن الحية ؟ قال : قلت : أنا . قالت : أما والله لقد دفنت صواما قواما ، يأمر بما أنزل الله ، ولقد آمن بنبيكم ، وسمع صفته من{[26574]} السماء قبل أن يبعث بأربعمائة عام . قال الرجل فحمدنا {[26575]} الله ، ثم قضينا حجتنا {[26576]} ، ثم مررت بعمر بن الخطاب في المدينة ، فأنبأته بأمر الحية ، فقال : صدقت ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لقد آمن بي قبل أن أبعث بأربعمائة سنة " {[26577]} .

وهذا حديث غريب جدا ، والله أعلم .

قال أبو نعيم : وقد روى الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن الشعبي ، عن رجل من ثقيف ، بنحوه . وروى عبد الله بن أحمد والِّظهراني ، عن صفوان بن المعطل - هو الذي نزل ودفن تلك الحية من بين الصحابة - وأنهم قالوا : أما إنه آخر التسعة موتا الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمعون القرآن{[26578]} .

وروى أبو نعيم من حديث الليث بن سعد ، عن عبد العزيز بن أبي سلمة الماجِشُون ، عن عمه {[26579]} ، عن معاذ بن عُبَيْد الله{[26580]} بن معمر قال : كنت جالسا عند عثمان بن عفان ، فجاء رجل فقال : يا أمير المؤمنين ، إني كنت بفلاة من الأرض ، فذكر أنه رأى ثعبانين{[26581]} اقتتلا ثم قتل أحدهما الآخر ، قال : فذهبت إلى المعترك ، فوجدت حيات كثيرة مقتولة ، وإذ ينفح من بعضها ريح المسك ، فجعلت أشمُّها واحدة واحدة ، حتى وجدت ذلك من حية صفراء رقيقة ، فلففتها في عمامتي ودفنتها . فبينا أنا أمشي إذ ناداني{[26582]} مناد : يا عبد الله ، لقد هُدِيتَ ! هذان حيان{[26583]} من الجن بنو أشعيبان وبنو أقيش التقوا ، فكان من القتلى ما رأيت ، واستشهد الذي دفنته ، وكان من الذين سمعوا الوحي من رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : فقال عثمان لذلك الرجل : إن كنت صادقا فقد رأيت عجبا ، وإن كنت كاذبا فعليك كذبك {[26584]} .

فقوله تعالى : { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ } أي : طائفة من الجن ، { يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا } أي : استمعوا{[26585]} وهذا أدب منهم .

وقد قال الحافظ البيهقي : حدثنا الإمام أبو الطيب سهل بن محمد بن سليمان ، أخبرنا أبو الحسن محمد بن عبد الله الدقاق ، حدثنا محمد بن إبراهيم البُوشَنْجي ، حدثنا هِشام بن عمار الدمشقي ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن زهير بن محمد ، عن محمد بن المُنْكَدِر ، عن جابر بن عبد الله قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة " الرحمن " حتى ختمها ، ثم قال : " ما لي أراكم سكوتا ، لَلْجِنّ كانوا أحسن منكم ردًا ، ما قرأت عليهم هذه الآية من مرة : { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } إلا قالوا : ولا بشيء من آلائك - أو نعمك - ربنا نكذب ، فلك الحمد " .

ورواه الترمذي في التفسير ، عن أبي مسلم عبد الرحمن بن واقد ، عن الوليد بن مسلم به{[26586]} . قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه ، فقرأ عليهم سورة الرحمن ، فذكره ، ثم قال الترمذي : " غريب لا نعرفه إلا من حديث الوليد ، عن زهير " كذا قال . وقد رواه البيهقي من حديث مروان بن محمد الطاطري ، عن زهير بن محمد ، به مثله{[26587]} {[26588]} .

وقوله : { فَلَمَّا قُضِيَ } أي : فرغ . كقوله : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ } [ الجمعة : 10 ] ، { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ } [ فصلت : 12 ] ، { فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ } [ البقرة : 200 ] { وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ } أي : رجعوا إلى قومهم فأنذروهم ما سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كقوله : { لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } [ التوبة : 122 ] .

وقد استدل بهذه الآية على أنه في الجن نُذُرٌ ، وليس فيهم رسل : ولا شك أن الجن لم يبعث الله منهم رسولا ؛ لقوله : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } [ يوسف : 109 ] ، وقال { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ } [ الفرقان : 20 ] ، وقال عن إبراهيم الخليل : { وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ } [ العنكبوت : 27 ] .

فكل نبي بعثه الله بعد إبراهيم فمن ذريته وسلالته ، فأما قوله تعالى في [ سورة ]{[26589]} الأنعام : { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ } [ الأنعام : 130 ] ، فالمراد من مجموع الجنسين ، فيصدق على أحدهما وهو الإنس ، كقوله : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ } [ الرحمن : 22 ] أي : أحدهما .


[26466]:- (1) المسند (1/167).
[26467]:(2) في م: "الحافظ الشهير".
[26468]:- (3) في ت: "وروى الإمام أحمد بإسناده".
[26469]:- (4) في ت، م، أ: "نبيه صلى الله عليه وسلم".
[26470]:- (1) المسند (1/252)، ودلائل النبوة للبيهقي (2/225).
[26471]:- (2) في ت: "وروى الإمام أحمد بإسناده".
[26472]:- (3) في ت، م: "فيستمعون".
[26473]:- (4) صحيح البخاري برقم (773) وصحيح مسلم برقم (449)، وسنن الترمذي برقم (3323)، والنسائي في السنن الكبرى برقم (1164).
[26474]:- (5) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/419).
[26475]:- (6) زيادة من ت.
[26476]:- (7) في ت: "وروى أبو بكر بن أبي شيبة بسنده".
[26477]:- (8) في ت، م: "قالوا".
[26478]:- (9) في أ: "سبعة".
[26479]:- (10) ورواه الحاكم في المستدرك (2/456) من طريق أبي بكر بن أبي شيبة به، وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي.
[26480]:- (1) في ت: "نوردها".
[26481]:- (2) في ت: "ابن مسعود رضي الله عنه".
[26482]:- (3) صحيح البخاري برقم (3859) وصحيح مسلم برقم (450).
[26483]:- (4) في م، أ: "عنه".
[26484]:- (5) في أ: "ما استمعت".
[26485]:- (6) دلائل النبوة للبيهقي (2/227).
[26486]:- (7) في ت: "فروى الإمام أحمد بسنده".
[26487]:- (8) المسند (1/436)، وصحيح مسلم برقم (450).
[26488]:- (1) صحيح مسلم برقم (450).
[26489]:- (2) في م: "وقفا"، وفي أ: "رفعا".
[26490]:- (3) تفسير الطبري (26/21) ورواه أحمد في المسند (1/416) من طريق يونس عن الزهري، به.
[26491]:- (4) في ت: "روى مسلم وروى ابن جرير بسنده".
[26492]:- (5) تفسير الطبري (26/21).
[26493]:- (6) دلائل النبوة للبيهقي (2/330)، ورواه الحاكم في المستدرك (2/503) من طريق عبد الله بن صالح به، قال الذهبي: "هو صحيح عند جماعة".
[26494]:- (7) وفي إسناده قابوس بن أبي ظبيان، ضعفه أبو حاتم والنسائي وأحمد، وقال ابن حبان: "ينفرد عن أبيه بما لا أصل له، فربما رفع المرسل وأسند الموقوف".
[26495]:- (1) في أ: "إسماعيل".
[26496]:- (2) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (10/80) من طريق موسى بن عبيدة الربذي، به.
[26497]:- (3) لم أجده في دلائل النبوة وهو في المسند للإمام أحمد (1/399).
[26498]:- (4) في ت: "روى ابن جرير بسنده".
[26499]:- (5) في م: "رسول الله".
[26500]:- (6) في أ: "يختطفك".
[26501]:- (7) في ت، أ: "مستثفرين".
[26502]:- (8) تفسير الطبري (26/21).
[26503]:- (9) في أ: "منزل".
[26504]:- (10) دلائل النبوة للبيهقي (2/231).
[26505]:- (1) في أ: "عن عمر".
[26506]:- (2) دلائل النبوة للبيهقي (2/231).
[26507]:- (3) المسند (1/449)، وسنن أبي داود برقم (84) وسنن الترمذي برقم (88) وسنن ابن ماجه برقم (384).
[26508]:- (4) في م: "قال".
[26509]:- (5) المسند (1/398) وقد تفرد به ابن لهيعة، وهو ضعيف.
[26510]:- (6) زيادة من م.
[26511]:- (7) سنن الدارقطني (1/77) من طريق داود بن أبي هند عن عامر بن علقمة بن قيس. قال: قلت لعبد الله بن مسعود: أشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد منكم ليلة أتاه داعي الجن؟ قال: لا، قال الدارقطني: "هذا الصحيح عن ابن مسعود".
[26512]:- (8) المسند (1/449).
[26513]:- (9) في ت، م: "أبو بكر. قال: فسكت".
[26514]:- (10) زيادة من م.
[26515]:- (11) المعجم الكبير للطبراني (10/82) وفيه ميناء بن أبي ميناء، كذاب.
[26516]:- (1) في ت: "سورة النصر".
[26517]:- (2) في أ: "يعلى".
[26518]:- (3) المعجم الكبير للطبراني (10/81) وفي إسناده يحيى الأسلمي وهو ضعيف.
[26519]:- (4) في م، أ: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن".
[26520]:- (5) في أ: "فكان يجيء أحدهم".
[26521]:- (6) المسند (1/455).
[26522]:- (7) في م: "الطبراني".
[26523]:- (8) وفي إسناده الحكم بن أبان، وهو ضعيف.
[26524]:- (9) تفسير الطبري (26/20).
[26525]:- (1) في ت: "فهذه الأحاديث التي ذكرناها كلها تدل".
[26526]:- (2) زيادة من ت.
[26527]:- (3) في ت، أ: "عنه".
[26528]:- (4) في أ: "عبد الوهاب".
[26529]:- (5) في ت: "وقال الحافظ أبو بكر البيهقي بسنده".
[26530]:- (6) في ت: "الروث".
[26531]:- (7) دلائل النبوة للبيهقي (2/233).
[26532]:- (8) صحيح البخاري برقم (3860).
[26533]:- (9) في أ: "ما روي".
[26534]:- (10) زيادة من أ.
[26535]:- (11) تفسير الطبري (26/22).
[26536]:- (1) في م: "ما رواه".
[26537]:- (2) في ت، م، أ: "فدعي فجيء به له".
[26538]:- (3) في م، أ: "قال: فوثب".
[26539]:- (4) صحيح البخاري برقم (3866).
[26540]:- (5) في ت، م، أ: "صريحا" وهو خطأ.
[26541]:- (1) دلائل النبوة للبيهقي 02/245).
[26542]:- (2) في ت: "ذلك".
[26543]:- (3) زيادة من أ.
[26544]:- (4) زيادة من ت.
[26545]:- (5) في أ: "وأجناسها".
[26546]:- (6) في أ: "يابها".
[26547]:- (1) زيادة من أ.
[26548]:- (2) في ت، م: "نبي".
[26549]:- (3) في ت: "من مشى".
[26550]:- (4) دلائل النبوة للبيهقي (1/248).
[26551]:- (5) دلائل النبوة للبيهقي (1/252).
[26552]:- (6) في أ: "على الإسلام".
[26553]:- (7) زيادة من أ.
[26554]:- (8) في ت، أ: "رجلا" وهو خطأ.
[26555]:- (9) في أ: "فتركني قائما".
[26556]:- (1) في ت: "رسول الله صلى الله عليه وسلم".
[26557]:- (2) في ت، م: "انطلق معي"، وفي أ: "انطلق أنت معي".
[26558]:- (3) في ت، م، أ: "ثارت مثل العجاجة".
[26559]:- (4) في ت، م، أ: "هذه".
[26560]:- (5) في أ: "لا والله".
[26561]:- (6) في ت، م: "ما أمنت" وفي أ: "ما آمن".
[26562]:- (7) في ت، أ: "مستثفرين".
[26563]:- (8) في ت: "ولا روثة".
[26564]:- (9) لم أجده في دلائل النبوة المطبوعة لأبي نعيم.
[26565]:- (10) في تن أ: "وهذا سياق غريب".
[26566]:- (11) زيادة من ت، أ.
[26567]:- (12) في ت، أ: "حدثني بهز بن يزيد الليثي".
[26568]:- (13) في ت، أ: "مستثفرين".
[26569]:- (14) لم أجده في دلائل النبوة المطبوعة لأبي نعيم.
[26570]:- (15) في م: "عمير".
[26571]:- (1) في م: "عبيد الله".
[26572]:- (2) في أ: "تمشي".
[26573]:- (3) في ت، م: "جاء".
[26574]:- (4) في ت: "في".
[26575]:- (5) في أ: "فحمدت".
[26576]:- (6) في ت، م، أ: "حجنا".
[26577]:- (7) دلائل النبوة لأبي نعيم (ص306).
[26578]:- (8) لم أجده في دلائل النبوة المطبوعة لأبي نعيم.
[26579]:- (9) في ت: "وروى أبو نعيم بإسناده".
[26580]:- (10) في ت، م، أ: "عبد الله".
[26581]:- (11) في ت، أ، م: "إعصارين".
[26582]:- (12) في أ: "هذا جان".
[26583]:- (13) في ت، م: "نادى".
[26584]:- (14) دلائل النبوة لأبي نعيم (ص305).
[26585]:- (1) في ت، م: "استمعوه".
[26586]:- (2) دلائل النبوة للبيهقي (1/232) وسنن الترمذي برقم (3291).
[26587]:- (3) في ت: "بمعناه".
[26588]:- (4) دلائل النبوة للبيهقي (1/232).
[26589]:- (5) زيادة من ت.
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَإِذۡ صَرَفۡنَآ إِلَيۡكَ نَفَرٗا مِّنَ ٱلۡجِنِّ يَسۡتَمِعُونَ ٱلۡقُرۡءَانَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوٓاْ أَنصِتُواْۖ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوۡاْ إِلَىٰ قَوۡمِهِم مُّنذِرِينَ} (29)

{ وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن } أملناهم إليك والنفر دون العشرة وجمعه أنفار . { يستمعون القرآن } حال محمولة على المعنى . { فلما حضروه } أي القرآن أو الرسول . { قالوا أنصتوا } قالوا بعضهم لبعض اسكتوا لنسمعه . { فلما قضي } أتم وفرغ من قراءته ، وقرئ على بناء الفاعل وهو ضمير الرسول عليع الصلاة والسلام . { ولوا إلى قومهم منذرين } أي منذرين إياهم بما سمعوا . روي أنهم وافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي النخلة عند منصرفه من الطائف يقرأ في تهجده .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَإِذۡ صَرَفۡنَآ إِلَيۡكَ نَفَرٗا مِّنَ ٱلۡجِنِّ يَسۡتَمِعُونَ ٱلۡقُرۡءَانَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوٓاْ أَنصِتُواْۖ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوۡاْ إِلَىٰ قَوۡمِهِم مُّنذِرِينَ} (29)

هذا تأييد للنبيء صلى الله عليه وسلم بأن سخر الله الجن للإيمان به وبالقرآن فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدّقاً عند الثقلين ومعظَّماً في العالَمَيْن وذلك ما لم يحصل لرسول قبله .

والمقصود من نزول القرآن بخبر الجن توبيخ المشركين بأن الجن وهم من عالم آخر عَلِموا القرآن وأيقنوا بأنه من عند الله والمشركون وهم من عالم الإنس ومن جنس الرسول صلى الله عليه وسلم المبعوث بالقرآن وممن يتكلم بلغة القرآن لم يزالوا في ريب منه وتكذيب وإصرار ، فهذا موعظة للمشركين بطريق المضادة لأحوالهم بعد أن جرت موعظتهم بحال مماثليهم في الكفر من جنسهم . ومناسبة ذكر إيمان الجن ما تقدم من قوله تعالى : { أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين } [ الأحقاف : 18 ] .

فالجملة معطوفة على جملة { واذكر أخا عاد } [ الأحقاف : 21 ] عطف القصة على القصة ويتعلق قوله هنا { إذْ صرفنا } بفعل يدل عليه قوله : { واذكر أخا عاد } والتقدير : واذكر إذ صرفنا إليك نفراً من الجن . وأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بذكر هذا للمشركين وإن كانوا لا يصدقونه لتسجيل بلوغ ذلك إليهم لينتفع به من يهتدي ولتكتب تبعته على الذين لا يهتدون .

وليس في هذه الآية ما يقتضي أن الله أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الجن واختلف المفسرون لِهذه الآية في أن الجن حضروا بعلم من النبي صلى الله عليه وسلم أو بدون علمه . ففي « جامع الترمذي » عن ابن عباس قال : « ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم ، انطلق رسول الله في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ فلما كانوا بنخْلة ، اسم موضع وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر وكان نفر من الجن فيه فلما سمعوا القرآن رجعوا إلى قومهم ، فقالوا : إنا سمعنا قرآناً عجباً » . وفي « الصحيح » عن ابن مسعود « افتقدْنا النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة وهو بمكة فقلنا ما فَعل به اغتيل أو واستطيرَ فبتنا بشرِّ ليلة حتى إذا أصبحنا إذا نحن به من قِبَل حِراء فقال " أتاني دَاعي الجن فأتيتهم فقرأت عليهم القرآن "

وأيًّا مَّا كان فهذا الحادث خارق عادة وهو معجزة للنبيء صلى الله عليه وسلم وقد تقدم قوله تعالى : { يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي } في سورة الأنعام ( 130 ) .

والصرف : البعث . والنفر : عدد من الناس دون العشرين . وإطلاقه على الجن لتنزيلهم منزلة الإنس وبيانه بقوله : { من الجن } .

وجملة { يستمعون القرآن } في موضع الحال من الجن وحيث كانت الحال قيداً لعاملها وهو { صرفنا } كان التقدير : يستمعون منك إذا حضروا لديك فصار ذلك مؤديا مؤدَّى المفعول لأجله .

فالمعنى : صرفناهم إليك ليستمعوا القرآن .

وضمير { حضروه } عائد إلى القرآن ، وتعدية فعل حضروا إلى ضمير القرآن تعدية مجازية لأنهم إنما حضروا قارىء القرآن وهو الرسول صلى الله عليه وسلم و { أنصتوا } أمر بتوجيه الأسماع إلى الكلام اهتماماً به لئلا يفوت منه شيء . وفي حديث جابر بن عبد الله في حجة الوداع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : « استنصت الناس » ، أي قبل أن يبدأ في خطبته .

وفي الحديث : " إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنْصِت والإمام يخطب فقد لغوت " ، أي قالوا كلُّهم : أنصتوا ، كل واحد يقولها للبقية حرصاً على الوعي فنطق بها جميعهم .

و { قُضِي } مِبني للنائب . والضمير للقرآن بتقدير مضاف ، أي قضيت قراءته ، أي انتهى النبي صلى الله عليه وسلم من القراءة حين حضروا وبانتهائه من القراءة تمّ مراد الله من صرف الجن ليستمعوا القرآن ف ( ولَّوا ) ، أي انصرفوا من مكان الاستماع ورجعوا إلى حيث يكون جنسهم وهو المعبر عنه ب { قومهم } على طريقة المجاز ، نزل منزلة الإنس لأجل هذه الحالة الشبيهة بحالة الناس ، فإطلاق القوم على أمة الجن نظير إطلاق النفر على الفريق من الجن المصروف إلى سماع القرآن .

والمنذر : المخبر بخبر مخيف .

ومعنى { ولوا إلى قومهم منذرين } رجعوا إلى بني جنسهم بعد أن كانوا في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم يتسمعون القرآن فأبلغوهم ما سمعوا من القرآن مما فيه التخويف من بأس الله تعالى لمن لا يؤمن بالقرآن . والتبشير لمن عمِل بما جاء به القرآن . ولا شك أن الله يسّر لهم حضورهم لقراءة سورة جامعة لما جاء به القرآن كفاتحة الكتاب وسورة الإخلاص .