التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسۡتَقِيمٗا فَٱتَّبِعُوهُۖ وَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمۡ عَن سَبِيلِهِۦۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} (153)

أما الوصية العاشرة فهى قوله - تعالى - فى الآية الثالثة من هذه الآيات : { وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } .

قرأة الجمهور بفتح همزة { أَنَّ } وتشديد النون . ومحلها مع ما فى حيزها الجر بحذف لام العلة . أى : ولأن هذا الذى وصيتكم به من الأوامر والنواهى طريقى ودينى الذى لا اعوجاج فيه ، فمن الواجب عليكم أن تتبعوه وتعملوا به .

ويحتمل أن يكون محلها مع ما فى حيزها النصب على { مَا حَرَّمَ } أى : وأتلوا عليكم أن هذا صراطى مستقيما .

وقرأ حمزة والكسائى " إن " بكسر الهمزة على الاستئناف .

وقوله { وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل } يعنى الأديان الباطلة ، والبدع والضلالات الفاسدة { فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } أى : فتفرقكم عن صراط الله المستقيم وهو دين الإسلام الذى ارتضاه لكم .

روى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود - رضى الله عنه - قال : " خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا ثم قال : هذا سبيل الله ، ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله ثم قال : هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ثم قرأ { وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً } " .

وقد أفرد - سبحانه - الصراط المستقيم وهو سبيل الله ، وجمع السبل المخالفة له لأن الحق واحد والباطل ما خالفه وهو كثير فيشمل الأديان الباطلة ، والبدع الفاسدة ، والشبهات الزائفة ، والفرق الضالة وغيرها .

ثم ختمت الآية بقوله - تعالى - { ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } أى : ذلكم المذكور من اتباع سبيله - تعالى - وترك اتباع السبل وصاكم الله به لعلكم تتقون اتباع سبل الكفر والضلالة ، وتعملون بما جاءكم به هذا الدين .

قال أبو حيان : ولما كانت الخمسة المذكورة فى الآية الأولى من الأمور الظاهرة الجلية مما يجب تعلقها وتفهمها ختمت الآية بقوله { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } ، ولما كانت الأربعة المذكورة فى الآية الثانة خافية غامضة ولا بد فيها من الاجتهاد والتفكر حتى يقف الإنسان فيها على موضع الاعتدال ختمت بقوله : { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } ولما كان الصراط المستقيم هو الجامع للتكاليف ، وأمر - سبحانه - باتباعه ونهى عن اتباع السبل المختلفة ختم ذلك بالتقوى التى هى اتقاء النار ، إذ من اتبع صراطه نجا النجاة الأبدية وحصل على السعادة السرمدية " .

وبعد : فهذه هى الوصايا العشر التى جاءت بها هذه الآيات الكريمة ، والمتأمل فيها يراها قد وضعت أساس العقيدة السليمة فى توحيد الله - تعالى - وبنت الأسرة الفاضلة على أساس الإحسان بالوالدين والرحمة بالأبناء ، وحفظت المجتمع من التصدع عن طريق تحريمها لانتهاك الأنفس والأموال والأعراض ، ثم ربطت كل ذلك بتقوى الله التى هى منبع كل خير وسبيل كل فلاح .

فأين المسلمون اليوم من هذه الوصايا ؟ إنهم لو عملوا بها لعزوا فى دنياهم ولسعدوا فى أخراهم ، فهل تراهم فاعلون ؟

اللهم خذ بيدنا إلى ما يرضيك وجنبنا مالا يرضيك .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسۡتَقِيمٗا فَٱتَّبِعُوهُۖ وَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمۡ عَن سَبِيلِهِۦۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} (153)

قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : { فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } وقوله { أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } [ الشورى : 13 ] ، ونحو هذا في القرآن ، قال : أمر الله المؤمنين بالجماعة ، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة{[11385]} ، وأخبرهم أنه إنما{[11386]} هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله ونحو هذا . قاله{[11387]} مجاهد ، وغير واحد .

وقال الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا الأسود بن عامر : شاذان ، حدثنا أبو بكر - هو ابن عياش - عن عاصم - هو ابن أبي النجود - عن أبي وائل ، عن عبد الله - هو ابن مسعود ، رضي الله عنه - قال : خَطَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خطًا بيده ، ثم قال : " هذا سَبِيل الله مستقيما " . وخط على يمينه وشماله ، ثم قال : " هذه السُّبُل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه " . ثم قرأ : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ }

وكذا رواه الحاكم ، عن الأصم ، عن أحمد بن عبد الجبار ، عن أبي بكر بن عياش ، به . وقال : صحيح [ الإسناد ]{[11388]} ولم يخرجاه{[11389]} .

وهكذا رواه أبو جعفر الرازي ، وورقاء وعمرو بن أبي قيس ، عن عاصم ، عن أبي وائل شقيق ابن سلمة ، عن ابن مسعود به مرفوعا نحوه .

وكذا رواه يزيد بن هارون ومُسدَّد والنسائي ، عن يحيى بن حبيب بن عربي - وابن حِبَّان ، من حديث ابن وَهْب - أربعتهم عن حماد بن زيد ، عن عاصم ، عن أبي وائل ، عن ابن مسعود ، به .

وكذا رواه ابن جرير ، عن المثنى ، عن الحِمَّاني ، عن حماد بن زيد ، به .

ورواه الحاكم عن أبي بكر بن إسحاق ، عن إسماعيل بن إسحاق القاضي ، عن سليمان بن حرب ، عن حماد بن زيد ، به كذلك . وقال : صحيح ولم يخرجاه{[11390]} .

وقد روى هذا الحديث النسائي والحاكم ، من حديث أحمد بن عبد الله بن يونس ، عن أبي بكر ابن عياش ، عن عاصم ، عن زِرٍّ ، عن عبد الله بن مسعود . به مرفوعا{[11391]} .

وكذا رواه الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه من حديث يحيى الحماني ، عن أبي بكر بن عياش ، عن عاصم ، عن زِرٍّ ، به .

فقد صححه الحاكم كما رأيت من الطريقين ، ولعل هذا الحديث عند عاصم بن أبي النجود ، عن زر ، وعن أبي وائل شقيق بن سلمة كلاهما عن ابن مسعود ، به ، والله أعلم .

قال الحاكم : وشاهد هذا الحديث حديث الشعبي عن جابر ، من وجه غير معتمد{[11392]} .

يشير إلى الحديث الذي قال الإمام أحمد ، وعبد بن حميد جميعا - واللفظ لأحمد : حدثنا عبد الله بن محمد - وهو أبو بكر بن أبي شيبة - أنبأنا أبو خالد الأحمر ، عن مجالد ، عن الشعبي ، عن جابر قال : كنا جلوسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فخط خطًا هكذا أمامه ، فقال : " هذا سبيل الله " . وخطين عن يمينه ، وخطين عن شماله ، وقال : " هذه سبيل{[11393]} الشيطان " . ثم وضع يده في الخط الأوسط ، ثم تلا هذه الآية : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }

ورواه ابن ماجه في كتاب السنة من سننه ، والبزار عن أبي سعيد بن عبد الله بن سعيد ، عن أبي خالد الأحمر ، به{[11394]} .

قلت : ورواه الحافظ ابن مَرْدُوَيه من طريقين ، عن أبي سعيد الكندي ، حدثنا أبو خالد ، عن مجالد ، عن الشعبي ، عن جابر قال : خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطًا ، وخط عن يمينه خطًّا ، وخط عن يساره خطا ، ووضع يده على الخط الأوسط{[11395]} وتلا هذه الآية : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ }{[11396]} .

ولكن العمدة على حديث ابن مسعود ، مع ما فيه من الاختلاف إن كان مؤثرًا ، وقد روي موقوفا عليه .

وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، حدثنا محمد بن ثور ، عن مَعْمَر ، عن أبَان ؛ أن رجلا قال لابن مسعود : ما الصراط المستقيم ؟ قال : تركنا محمد صلى الله عليه وسلم في أدناه ، وطرفه في الجنة ، وعن يمينه جَوَادّ ، وعن يساره جَوَادّ ، وثمّ رجال يدعون من مر بهم . فمن أخذ في تلك الجوادّ انتهت به إلى النار ، ومن أخذ على الصراط انتهى به إلى الجنة . ثم قرأ ابن مسعود : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } الآية{[11397]} .

وقال ابن مَرْدُوَيه : حدثنا أبو عمرو ، حدثنا محمد بن عبد الوهاب ، حدثنا آدم ، حدثنا إسماعيل ابن عَيَّاش ، حدثنا أبان بن عياش ، عن مسلم بن أبي عمران ، عن عبد الله بن عمر : سأل عبد الله عن الصراط المستقيم ، فقال [ له ]{[11398]} ابن مسعود : تركنا محمد صلى الله عليه وسلم في أدناه ، وطرفه في الجنة ، وذكر تمام الحديث كما تقدم ، والله أعلم .

وقد روي من حديث النوّاس بن سمْعان نحوه ، قال الإمام أحمد : حدثنا الحسن بن سَوَّار أبو العلاء ، حدثنا لَيْث - يعني ابن سعد - عن معاوية بن صالح ؛ أن عبد الرحمن بن جُبَيْر بن نفير حدثه ، عن أبيه ، عن النواس بن سمعان ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ضرب الله مثلا صِراطًا مستقيمًا ، وعن جَنْبتَي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة ، وعلى الأبواب ستور مرخاة ، وعلى باب الصراط داع يقول : أيها{[11399]} الناس ، ادخلوا الصراط المستقيم جميعا ، ولا تتفرجوا{[11400]} وداع يدعو من جوف{[11401]} الصراط ، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال : ويحك . لا تفتحه ، فإنك إن تفتحه تلجه ، فالصراط الإسلام ، والسوران حدود الله ، والأبواب المفتحة محارم الله ، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله ، والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم " .

ورواه الترمذي والنسائي ، عن{[11402]} علي بن حُجْر - زاد النسائي - وعمرو بن عثمان ، كلاهما عن بَقِيَّة بن الوليد ، عن بَحير بن سعد ، عن خالد بن مَعْدان ، عن جُبَير بن نفير ، عن النوّاس بن سمْعان ، به{[11403]} . وقال الترمذي : حسن غريب .

وقوله : { فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ [ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ] }{[11404]} إنما وحد [ سبحانه ]{[11405]} سَبيله لأن{[11406]} الحق واحد ؛ ولهذا جمع لتفرقها وتشعبها ، كما قال تعالى : { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ البقرة : 257 ] .

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سِنَان الواسطي ، حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا سفيان بن حسين ، عن الزهري ، عن أبي إدريس الخولاني ، عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أيكم يبايعني على هذه{[11407]} الآيات الثلاث ؟ " . ثم تلا { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } حتى فرغ من ثلاث الآيات ، ثم قال : " ومن وَفَّى بهن أجره على الله ، ومن انتقص منهن شيئا أدركه{[11408]} الله في الدنيا كانت عقوبته ، ومن أخَّرَه إلى الآخرة كان أمره إلى الله إن شاء أخذه ، وإن شاء عفا عنه " {[11409]} .


[11385]:في أ: "والتفرقة".
[11386]:في م: "لما".
[11387]:في أ: "قال".
[11388]:زيادة من م.
[11389]:المسند (1/465) والمستدرك (2/318).
[11390]:النسائي في السنن الكبرى برقم (11174) وتفسير الطبري (12/230) والمستدرك (2/318).
[11391]:النسائي في السنن الكبرى برقم (11175) والمستدرك (2/239).
[11392]:المستدرك (2/318).
[11393]:في م، أ: "سبل".
[11394]:المسند (3/397) وسنن ابن ماجة برقم (11) وقال البوصيري في الزوائد (1/45): "هذا إسناد فيه مقال من أجل مجالد بن سعيد".
[11395]:في د، م: "الأسود".
[11396]:وفي إسناده مجالد بن سعيد فيه كلام.
[11397]:تفسير الطبري (12/230).
[11398]:زيادة من م.
[11399]:في د، م: "يأيها".
[11400]:في د: "ولا تفرقوا"، وفي م، أ: "ولا تفرجوا".
[11401]:في أ: "من فوق".
[11402]:في أ: "من حديث".
[11403]:المسند (2/182) وسنن الترمذي برقم (2859) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11233).
[11404]:زيادة من أ.
[11405]:زيادة من م.
[11406]:في أ: "لأنه".
[11407]:في م: "هؤلاء".
[11408]:في أ: "فأدركه".
[11409]:ورواه الحاكم في المستدرك (2/318) من طريق يزيد بن هارون به.
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسۡتَقِيمٗا فَٱتَّبِعُوهُۖ وَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمۡ عَن سَبِيلِهِۦۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} (153)

{ وأن هذا صراطي مستقيما } الإشارة فيه إلى ما ذكر في السورة فإنها بأسرها في إثبات التوحيد والنبوة وبيان الشريعة . وقرأ حمزة والكسائي { إن } بالكسر على الاستئناف ، وابن عامر ويعقوب بالفتح والتخفيف . وقرأ الباقون بها مشددة بتقدير اللام على أنه علة لقوله . { فاتبعوه } وقرأ ابن عامر { صراطي } بفتح الياء ، وقرئ " وهذا صراطي " " وهذا صراط ربكم " " وهذا صراط ربك " { ولا تتبعوا السبل } الأديان المختلفة أو الطرق التابعة للهوى ، فإن مقتضى الحجة واحد ومقتضى الهوى متعدد لاختلاف الطبائع والعادات . { فتفرق بكم } فتفرقكم وتزيلكم . { عن سبيله } الذي هو اتباع الوحي واقتفاء البرهان . { ذلكم } الاتباع . { وصاكم به لعلكم تتقون } الضلال والتفرق عن الحق .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسۡتَقِيمٗا فَٱتَّبِعُوهُۖ وَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمۡ عَن سَبِيلِهِۦۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} (153)

الواو عاطفة على جملة : { ألاَّ تشركوا به شيئاً } [ الأنعام : 151 ] لتماثل المعطوفات في أغراض الخطاب وترتيبه ، وفي تخلّل التّذييلات التي عَقِبت تلك الأغراض بقوله : { لعلّكم تعقلون } [ الأنعام : 151 ] { لعلّكم تذّكرون } [ الأنعام : 152 ] { لعلّكم تتّقون } وهذا كلام جامع لاتباع ما يجيء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من الوحي في القرآن .

وقرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وأبو جعفر : { أنّ } بفتح الهمزة وتشديد النّون .

وعن الفراء والكسائي أنَّه معطوف على : { ما حَرّم ربُّكم } [ الأنعام : 151 ] ، فهو في موضع نصب بفعل : { أتْلُ } والتّقدير : وأتْلُ عليكم أنّ هذا صراطي مستقيماً .

وعن أبي عليّ الفارسي : أنّ قيَاس قول سيبويه أنْ تحمل ( أنّ ) ، أي تُعلَّق على قوله : { فاتبعوه } ، والتّقدير : ولأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتَّبعوه ، على قياس قول سيبويه في قوله تعالى : { لإيلاف قريش } [ قريش : 1 ] . وقال في قوله تعالى : { وأنّ المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً } [ الجن : 18 ] المعنى : ولأنّ المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً اهـ .

ف { أنّ } مدخولة للام التّعليل محذوفة على ما هو المعروف من حذفها مع ( أنّ ) و ( أنْ ) . وتقدير النّظم : واتَّبعوا صراطي لأنَّه صراط مستقيم ، فوقع تحويل في النّظم بتقدير التّعليل على الفعل الذي حقّه أن يكون معطوفاً ، فصار التّعليل معطوفاً لتقديمه ليفيد تقديمه تفرّع المعلّل وتسبّبه ، فيكون التّعليل بمنزلة الشّرط بسبب هذا التّقديم ، كأنَّه قيل : لمّا كان هذا صراطي مستقيماً فاتَّبعوه .

وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف : { وإنّ } بكسر الهمزة وتشديد النّون فلا تحويل في نظم الكلام ، ويكون قوله : { فاتبعوه } تفريعاً على إثبات الخبر بأنّ صراطه مسقيم . وقرأ ابن عامر ، ويعقوب : « وأنْ » بفتح الهمزة وسكون النّون على أنَّها مخفّفة من الثّقيلة واسمها ضمير شأن مُقدر والجملة بعده خبره ، والأحسن تخريجها بكون { أنْ } تفسيرية معطوفة على : { ألاَّ تشركوا } [ الأنعام : 151 ] . ووجه إعادة { أنْ } اختلاف أسلوب الكلام عمّا قبله .

والإشارة إلى الإسلام : أي وأنّ الإسلام صراطي ؛ فالإشارة إلى حاضر في أذهان المخاطبين من أثر تكرّر نزول القرآن وسماع أقوال الرّسول عليه الصّلاة والسّلام ، بحيث عرفه النّاس وتبيّنوه ، فنزلّ منزلة المشاهد ، فاستعمل فيه اسم الإشارة الموضوع لتعيين ذات بطريق المشاهدة مع الإشارة ، ويجوز أن تكون الإشارة إلى جميع التّشريعات والمَواعظ التي تقدّمت في هذه السّورة ، لأنَّها صارت كالشّيء الحاضر المشاهد ، كقوله تعالى : { ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك } [ آل عمران : 44 ] .

والصّراط : الطّريق الجادة الواسعة ، وقد مَرّ في قوله تعالى : { اهدنا الصّراط المستقيم } [ الفاتحة : 6 ] والمراد الإسلام كما دلّ عليه قوله في آخر السّورة : { قل إنَّنِي هداني ربِّي إلى صراط مستقيم ديناً قيّماً } [ الأنعام : 161 ] لأنّ المقصود منها تحصيل الصّلاح في الدّنيا والآخرة فشبّهت بالطّريق الموصل السّائر فيه إلى غرضه ومقصده .

ولمّا شبّه الإسلام بالصّراط وجعل كالشّيء المشاهد صار كالطّريق الواضحة البيّنة فادّعي أنَّه مستقيم ، أي لا اعوجاج فيه لأنّ الطّريق المستقيم أيسر سلوكاً على السائر وأسرع وصولاً به .

والياء المضاف إليها ( صراط ) تعود على الله ، كما بيّنه قوله : { وإنَّك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله } [ الشورى : 52 ، 53 ] على إحدى طريقتين في حكاية القول إذا كان في المقول ضمير القائل أو ضمير الآمر بالقول ، كما تقدّم عند قوله تعالى : { ما قلت لهم إلاّ ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربِّي وربّكم } في سورة العقود ( 117 ) ، وقد عدل عن طريقة الغيبة ، التي جرى عليها الكلام من قوله : { ما حرم ربكم } [ الأنعام : 151 ] لِغرض الإيماء إلى عصمة هذا الصّراط من الزلل ، لأنّ كونه صراط الله يكفي في إفادة أنَّه موصل إلى النّجاح ، فلذلك صحّ تفريع الأمر باتِّباعه على مجرّد كونه صراط الله . ويجوز عود الياء إلى النّبيء المأمور بالقول ، إلاّ أنّ هذا يستدعي بناء التّفريع بالأمر باتّباعه على ادّعاء أنَّه واضح الاستقامة ، وإلاّ فإنّ كونه طريق النّبيء لا يقتضي تسبّب الأمر باتَّباعه عنه بالنّسبة إلى المخاطبين المكذّبين .

وقوله : { مستقيماً } حال من اسم الإشارة ، وحسَّن وقوعه حالاً أنّ الإشارة بنيت على ادّعاء أنَّه مشاهد ، فيقتضي أنَّه مستحضر في الذّهن بمجمل كلياته وما جرّبوه منه وعرفوه ، وأنّ ذلك يريهم أنَّه في حال الاستقامة كأنَّه أمر محسوس ، ولذلك كثر مجيء الحال من اسم الإشارة نحو : { وهذا بعلي شيخاً } [ هود : 72 ] ولم يأتوا به خبراً .

والسُبُل : الطّرق ، ووقوعها هنا في مقابلة الصّراط المستقيم يدلّ على صفة محذوفة ، أي السّبل المتفرّقة غير المستقيمة ، وهي التي يسمّونها : بُنيات الطّريق ، وهي طرق تتشعّب من السبيل الجادّة ذاهبة ، يسلكها بعض المارّه فرادى إلى بيوتهم أو مراعيهم فلا تبلغ إلى بلد ولا إلى حَيّ ، ولا يستطيع السّيرَ فيها إلاّ مَن عَقَلها واعتادها ، فلذلك سبب عن النّهي قوله : { فتفرق بكم عن سبيله } ، أي فإنَّها طرق متفرّقة فهي تجعل سالكها متفرّقاً عن السّبيل الجادّة ، وليس ذلك لأنّ السّبيل اسم للطّريق الضيقة غير الموصّلة ، فإنّ السّبيل يرادف الصّراط ألا ترى إلى قوله : { قل هذه سبيلي } [ يوسف : 108 ] ، بل لأنّ المقابلة والإخبار عنها بالتَّفرق دلّ على أنّ المراد سبُل خاصّة موصوفة بغير الاستقامة .

والباء في قوله : { بكم } للمصاحبة : أي فتتفرّق السّبل مصاحبة لكم ، أي تتفرّقون مع تفرّقها ، وهذه المصاحبة المجازية تجعل الباء بمنزلة همزة التّعدية كما قاله النّحاة ، في نحو : ذَهَبْتُ بزيد ، أنَّه بمعنى أذهبته ، فيكون المعنى فتُفَرّقَكُم عن سبيله ، أي لا تلاقون سبيلَه .

والضّمير المضاف إليه في : { سبيله } يعود إلى الله تعالى بقرينة المقام ، فإذا كان ضمير المتكلّم في قوله : { صراطي } عائداً لله كان في ضمير { سبيله } التفاتاً عن سبيلي .

روى النّسائي في « سننه » ، وأحمد ، والدارمي في « مسنديهما » ، والحاكم في « المستدرك » ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : خطّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً خطّاً ثمّ قال : " هذا سبيل الله ، ثم خطّ خطوطاً عن يمينه وعن شماله ( أي عن يمين الخطّ المخطوط أوّلاً وعن شماله ) ثمّ قال : « هذه سُبُل على كلّ سبيل منها شيطانٌ يدعو إليها " ثمّ قرأ : { وأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتَّبعوه ولا تتَّبعوا السّبل فتَتَفَرّق بكم عن سبيله } . وروى أحمد ، وابن ماجة ، وابن مردويه ، عن جابر بن عبد الله قال : " كنّا عند النّبيء صلى الله عليه وسلم فخطّ خطّاً وخَطّ خطَّين عن يمينه وخَطّ خطيَّن عن يساره ثمّ وضع يده في الخطّ الأوْسط ( أي الذي بين الخطوط الأخرى ) فقال : هذه سبيل الله ، ثم تَلاَ هذه الآية : { وأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرّق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون } وما وقع في الرّواية الأولى ( وخَطّ خطوطاً ) هو باعتبار مجموع ما على اليمين والشّمال " وهذا رسمه على سبيل التّقريب :

وقوله : { ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون } تذييل تكرير لمِثْليه السّابقين ، فالإشارة ب { ذلكمْ } إلى الصّراط ، والوصاية به معناها الوصاية بما يحتوي عليه .

وجعل الرّجاء للتّقوى لأنّ هذه السّبيل تحتوي على ترك المحرّمات ، وتزيد بما تحتوي عليه من فعل الصّالحات ، فإذا اتَّبعها السّالك فقد صار من المتّقين أي الذين اتَّصفوا بالتَّقوى بمعناها الشّرعي كقوله تعالى : { هدى للمتّقين } [ البقرة : 2 ] .