ثم حكى القرآن أن نبيهم لم يكتف بهذه الدلائل الدالة على صلاحية طالوت للقيادة ، وإنما ساق لهم بعد ذلك من العلامات التي تشهد بحقيته بهذا المنصب ما يثبت قلوبهم ، ويزيل شكهم ويشرح نفوسهم فقال - تعالى - :
{ وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن . . . }
التابوت : " يوزن فعلوت - من التوب وهو الرجوع ، وتاؤه مزيدة لغير التأنيث كجبروت ، والمراد به صندوق التوراة وكانوا إذا حاربوا حملة جماعة منهم ويتقدمون به أمام الجيش فيكون ذلك سبب نصرهم . وكان عهدهم به قد طال فذكرهم بمآثره ترغيباً فيه وحملا على الانقياد لطالوت "
والسكينة : من السكون وهو ثبوت الشيء بعد التحرك : أو من السكن - بالتحريك - وهو كل شيء سكنت إليه النفس وهدأت .
والمعنى : وقال لهم نبيهم ليقنعهم بأن طالوت جدير بالملك { إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ } أي علامة ملكه وأنه من الله - تعالى - { أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت } أي أن يرد عليكم التابوت الذي سلب منكم { فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ } أي في إتيانه سكون لنفوسكم وطمأنينة لها أو مودع فيه ما تسكنون إليه وهو التوراة { وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ موسى وَآلُ هَارُونَ } من آثار تعتزون بها ، وترون فيها صلة بين ماضيكم وحاضركم وقوله { تَحْمِلُهُ الملائكة } حال من التابوت .
قال صاحب الكشاف : قوله : { وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ موسى وَآلُ هَارُونَ } هي رضاض الأولواح وعصا موسى وثيابه وشيء من التوراة . وكان رفعه الله - تعالى - بعد موسى - عليه السلام - فنزلت به الملائكة تحمله وهم ينظرون إليه ، فكان ذلك آية لاصطفائه لطالوت . فإن قلت : من هم ( آل موسى وآل هارون ) . قلت : الأنبياء من بني يعقوب بعدهما ، ويجوز أن يراد مما تركه موسى وهارون والآل مقحم لتفخيم شأنهما .
وقال ابن كثير : قال ابن عباس : جاءت الملائكة تحمل التابوت بين السماء والأرض حتى وضعته بين يدي طالوت والناس ينظرون .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ } أي : إن في ذلك الذي أتاكم به طالوت الآية عظيمة وعلامة ظاهرة لكم تدل على أحقية طالوت بالملك والقيادة إن كنتم مؤمنين بآيات الله وبالحق الذي جاء به أنبياؤه .
وبذلك نرى أن القرآن الكريم قد حكى لنا أن هؤلاء القوم من بني إسرائيل قد جاءهم نبيهم بأنصع الحجج ، وأوضح الأدلة ، وأثبت البراهين التي تؤيده فيما يدعوهم إليه .
يقول نبيهم لهم : إن علامة بركة ملك طالوت عليكم أن يرد الله عليكم التابوت الذي كان أخذ منكم .
{ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ } قيل : معناه فيه وقار ، وجلالة .
قال عبد الرزاق عن مَعْمَر عن قتادة { فِيهِ سَكِينَةٌ } أي : وقار . وقال الربيع : رحمة{[4234]} . وكذا روي عن العوفي عن ابن عباس وقال ابن جريج : سألت عطاء عن قوله : { فِيهِ سَكِينَةٌ [ مِنْ رَبِّكُمْ ]{[4235]} } قال : ما يعرفون من آيات الله فيسكنون{[4236]} إليه .
وقيل : السكينة طست من ذهب كانت تغسل فيه قلوب الأنبياء ، أعطاها الله موسى عليه السلام فوضع فيها الألواح . ورواه السدي عن أبي مالك عن ابن عباس .
وقال سفيان الثوري : عن سلمة بن كُهَيْل عن أبي الأحوص عن علي قال : السكينة لها وجه كوجه الإنسان ثم هي روح هفافة .
وقال ابن جرير : حدثني [ ابن ]{[4237]} المثنى حدثنا أبو داود حدثنا شعبة وحماد بن سلمة ، وأبو الأحوص كلهم عن سِماك عن{[4238]} خالد بن عرعرة عن علي قال : السكينة ريح خجوج ولها رأسان .
وقال مجاهد : لها جناحان وذنب . وقال محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه : السكينة رأس هرة ميتة إذا صرخت في التابوت بصراخ هر ، أيقنوا بالنصر وجاءهم الفتح .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا بكار بن عبد الله أنه سمع وهب بن منبه{[4239]} يقول : السكينة روح من الله تتكلم إذا اختلفوا في شيء تكلم فأخبرهم ببيان ما يريدون .
وقوله : { وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ } قال ابن جرير : أخبرنا ابن المثنى حدثنا أبو الوليد حدثنا حماد عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس في هذه الآية : { وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ } قال : عصاه ورضاض الألواح . وكذا قال قتادة والسدي والربيع بن أنس وعكرمة وزاد : والتوراة .
وقال أبو صالح { وَبَقِيَّةٌ } يعني : عصا موسى وعصا هارون ولوحين{[4240]} من التوراة والمن .
وقال عطية بن سعد : عصا موسى وعصا هارون وثياب موسى وثياب هارون ورضاض الألواح .
وقال عبد الرزاق : سألت الثوري عن قوله : { وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ } فقال : منهم من يقول قفيز من مَنٍّ ، ورضاض الألواح . ومنهم من يقول : العصا والنعلان .
وقوله : { تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ } قال ابن جريج : قال ابن عباس : جاءت الملائكة تحمل التابوت{[4241]} بين السماء والأرض حتى وضعته بين يدي طالوت ، والناس ينظرون .
وقال السدي : أصبح التابوت في دار طالوت فآمنوا بنبوة شمعون وأطاعوا طالوت .
وقال عبد الرزاق عن الثوري عن بعض أشياخه : جاءت به الملائكة تسوقه على عجلة على بقرة وقيل : على بقرتين .
وذكر غيره أن التابوت كان بأريحا{[4242]} وكان المشركون لما أخذوه وضعوه في بيت آلهتهم تحت صنمهم الكبير ، فأصبح التابوت على رأس الصنم فأنزلوه فوضعوه تحته فأصبح كذلك فسمروه تحته فأصبح الصنم مكسور القوائم ملقى بعيدا ، فعلموا أن هذا أمر من الله لا قبل لهم به فأخرجوا التابوت من بلدهم ، فوضعوه في بعض القرى{[4243]} فأصاب أهلها داء في رقابهم{[4244]} فأمرتهم جارية من سبي بني إسرائيل أن يردوه إلى بني إسرائيل حتى يخلصوا من هذا الداء ، فحملوه على بقرتين فسارتا به لا يقربه أحد إلا مات ، حتى اقتربتا من بلد بني إسرائيل فكسرتا النيرين{[4245]} ورجعتا وجاء بنو إسرائيل فأخذوه فقيل : إنه تسلمه داود عليه السلام وأنه لما قام إليهما{[4246]} حجل من فرحه بذلك . وقيل : شابان منهم فالله أعلم . وقيل : كان التابوت بقرية من قرى فلسطين يقال لها : أزدرد .
وقوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ } أي : على صدقي فيما جئتكم به من النبوة ، وفيما أمرتكم به من
طاعة طالوت : { إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } أي : بالله واليوم الآخر .
{ وَقَالَ لَهُمْ نِبِيّهُمْ إِنّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مّن رّبّكُمْ وَبَقِيّةٌ مّمّا تَرَكَ آلُ مُوسَىَ وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَةً لّكُمْ إِن كُنْتُم مّؤْمِنِينَ }
وهذا الخبر من الله تعالى ذكره عن نبيه الذي أخبر عنه دليل على أن الملأ من بني إسرائيل الذين قيل لهم هذا القول لم يقروا ببعثة الله طالوت عليهم ملكا ، إذ أخبرهم نبيهم بذلك وعرّفهم فضيلته التي فضله الله بها ولكنهم سألوه الدلالة على صدق ما قال لهم من ذلك وأخبرهم به .
فتأويل الكلام إذ كان الأمر على ما وصفنا : وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ فقالوا له : ائت بآية على ذلك إن كنت من الصادقين قال لهم نبيهم : إنّ آيَةَ مُلْكِهِ أنْ يَأتِيَكُمُ التّابُوتُ . هذه القصة وإن كانت خبرا من الله تعالى ذكره عن الملإ من بني إسرائيل ونبيهم وما كان من ابتدائهم نبيهم بما ابتدءوا به من مسألته أن يسأل الله لهم أن يبعث لهم ملكا يقاتلون معه في سبيله ، بناء عما كان منهم من تكذيبهم نبيهم بعد علمهم بنبوّته ثم إخلافهم الموعد الذي وعدوا الله ووعدوا رسوله من الجهاد في سبيل الله بالتخلف عنه حين استنهضوا الحرب من استنهضوا لحربه ، وفتح الله على القليل من الفئة مع تخذيل الكثير منهم عن ملكهم وقعودهم عن الجهاد معه فإنه تأديب لمن كان بين ظهراني مهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذراريهم وأبنائهم يهود قريظة والنضير ، وأنهم لن يعدوا في تكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم فيما أمرهم به ونهاهم عنه ، مع علمهم بصدقه ومعرفتهم بحقيقة نبوّته ، بعد ما كانوا يستنصرون الله به على أعدائهم قبل رسالته ، وقبل بعثة الله إياه إليهم وإلى غيرهم أن يكونوا كأسلافهم وأوائلهم الذين كذبوا نبيهم شمويل بن بالي ، مع علمهم بصدقه ومعرفتهم بحقيقة نبوّته ، وامتناعهم من الجهاد مع طالوت لما ابتعثه الله ملكا عليهم بعد مسألتهم نبيهم ابتعاث ملك يقاتلون معه عدوّهم ، ويجاهدون معه في سبيل ربهم ابتداء منهم بذلك نبيهم ، وبعد مراجعة نبيهم شمويل إياهم في ذلك وحضّ لأهل الإيمان بالله وبرسوله من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم على الجهاد في سبيله ، وتحذير منه لهم أن يكونوا في التخلف عن نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم عند لقائه العدوّ ومناهضته أهل الكفر بالله وبه على مثل الذي كان عليه الملأ من بني إسرائيل في تخلفهم عن ملكهم طالوت ، إذ زحف لحرب عدوّ الله جالوت ، وإيثارهم الدعة والخفض على مباشرة حرّ الجهاد ، والقتال في سبيل الله ، وشحذ منه لهم على الإقدام على مناجزة أهل الكفر به الحرب ، وترك تهيب قتالهم إن قلّ عددهم وكثر عدد أعدائهم واشتدت شوكتهم ، بقوله : قالَ الّذِينَ يَظُنّونَ أنّهُمْ مُلاقُوا اللّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بإذْنِ اللّهِ وَاللّه مَعَ الصّابِرِينَ ، وإعلام منه تعالى ذكره عباده المؤمنين به أن بيده النصر والظفر والخير والشرّ .
وأما تأويل قوله : قاَل لَهُمْ نَبيّهُمْ فإنه يعني للملأ من بني إسرائيل الذين قالوا لنبيهم : ابْعَثْ لَنا مَلِكا نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وقوله : إنّ آيَةَ مُلْكِهِ : إن علامة ملك طالوت التي سألتمونيها دلالة على صدقي في قولي : إن الله بعثه عليكم ملكا ، وإن كان من غير سبط المملكة ، أنْ يَأتِيكُمُ التّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبّكُمْ وهو التابوت الذي كانت بنو إسرائيل إذا لقوا عدوّا لهم قدموه أمامهم وزحفوا معه ، فلا يقوم لهم معه عدوّ ولا يظهر عليهم أحد ناوأهم ، حتى منعوا أمر الله وكثر اختلافهم على أنبيائهم ، فسلبهم الله إياه مرّة بعد مرّة يرده إليهم في كل ذلك ، حتى سلبهم آخر مرة فلم يردّه عليهم ولن يردّ إليهم آخر الأبد .
ثم اختلف أهل التأويل في سبب مجيء التابوت الذي جعل الله مجيئه إلى بني إسرائيل آية لصدق نبيهم شمويل على قوله : إنّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكا وهل كانت بنو إسرائيل سُلبوه قبل ذلك فردّه الله عليهم حين جعل مجيئه آية لملك طالوت ، أو لم يكونوا سلبوه قبل ذلك ولكن الله ابتدأهم به ابتداء ؟ فقال بعضهم : كان ذلك عندهم من عهد موسى وهارون يتوارثونه حتى سلبهم إياه ملوك من أهل الكفر به ، ثم ردّه الله عليهم آية لملك طالوت .
وقال في سبب ردّه عليهم ما أنا ذاكره ، وهو ما :
حدثني به المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم ، قال : ثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه ، قال : كان لعيلي الذي ربى شمويل ابنان شابان أحدثا في القربان شيئا لم يكن فيه ، كان شرط القربان الذي كانوا يشرطونه به كُلاّ بين فما أخرجا كان للكاهن الذي يستوطنه ، فجعل ابناه كلاليب ، وكانا إذا جاء النساء يصلين في القدس يتشبثان بهنّ . فبينا شمويل نائم قبل البيت الذي كان ينام فيه عيلي ، إذ سمع صوتا يقول : أشمويل فوثب إلى عيلي ، فقال : لبيك ما لك دعوتني ؟ فقال : لا ، ارجع فنم فرجع فنام ثم سمع صوتا آخر يقول : أشمويل فوثب إلى عيلي أيضا ، فقال : لبيك ما لك دعوتني ؟ فقال : لم أفعل ارجع فنم ، فإن سمعت شيئا فقل لبيك مكانك مرني فأفعل فرجع فنام ، فسمع صوتا أيضا يقول : أشمويل فقال : لبيك أنا هذا مرني أفعل قال : انطلق إلى عيلي ، فقل له : منعه حب الولد أن يزجر ابنيه أن يحدثا في قدسي وقرباني وأن يعصياني ، فلأنزعن منه الكهانة ومن ولده ، ولأهلكنه وإياهما فلما أصبح سأله عيلي ، فأخبره ، ففزع لذلك فزعا شديدا ، فسار إليهم عدوّ ممن حولهم ، فأمر ابنيه أن يخرجا بالناس فيقاتلا ذلك العدوّ فخرجا وأخرجا معهما التابوت الذي كان فيه اللوحان وعصا موسى لينصروا به . فلما تهيئوا للقتال هم وعدوّهم ، جعل عيلي يتوقع الخبر ماذا صنعوا ، فجاءه رجل يخبره وهو قاعد على كرسيه أن ابنيك قد قتلا ، وأن الناس قد انهزموا . قال : فما فعل التابوت ؟ قال : ذهب به العدوّ . قال : فشهق ووقع على قفاه من كرسيه فمات . وذهب الذين سَبُوا التابوت حتى وضعوه في بيت آلهتهم ولهم صنم يعبدونه ، فوضعوه تحت الصنم والصنم من فوقه ، فأصبح من الغد والصنم تحته وهو فوق الصنم . ثم أخذوه فوضعوه فوقه وسمروا قدميه في التابوت ، فأصبح من الغد قد تقطعت يدا الصنم ورجلاه ، وأصبح ملقى تحت التابوت فقال بعضهم لبعض : قد علمتم أن إله بني إسرائيل لا يقوم له شيء ، فأخرجوه من بيت آلهتكم فأخرجوا التابوت فوضعوه في ناحية من قريتهم ، فأخذ أهل تلك الناحية التي وضعوا فيها التابوت وجع في أعناقهم ، فقالوا : ما هذا ؟ فقالت لهم جارية كانت عندهم من سبي بني إسرائيل : لا تزالون ترون ما تكرهون ما كان هذا التابوت فيكم ، فأخرجوه من قريتكم قالوا : كذبت قالت : إن آية ذلك أن تأتوا ببقرتين لهما أولاد لم يوضع عليهما نير قط ، ثم تضعوا وراءهم العجل ، ثم تضعوا التابوت على العجل ، وتسيروهما ، وتحبسوا أولادهما فإنهما تنطلقان به مذعنتين ، حتى إذا خرجتا من أرضكم ووقعتا في أرض بني إسرائيل ، كسرتا نيرهما ، وأقبلتا إلى أولادهما ففعلوا ذلك فلما خرجتا من أرضهم ووقعتا في أدنى أرض بني إسرائيل ، كسرتا نيرهما ، وأقبلتا إلى أولادهما ، ووضعتاه في خربة فيها حضار من بني إسرائيل . ففزع إليه بنو إسرائيل وأقبلوا إليه ، فجعل لا يدنو منه أحد إلا مات ، فقال لهم نبيهم شمويل : اعترضوا ، فمن آنس من نفسه قوّة فليدن منه فعرضوا عليه الناس ، فلم يقدر أحد يدنو منه ، إلا رجلان من بني إسرائيل أذن لهما بأن يحملاه إلى بيت أمهما ، وهي أرملة ، فكان في بيت أمهما حتى ملك طالوت ، فصلح أمر بني إسرائيل مع شمويل .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه ، قال : قال شمويل لبني إسرائيل لما قالوا له : أنّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنا وَنحْنُ أحَقّ بالمُلْكِ مِنْهُ ولَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ المَالِ قالَ إنّ اللّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العِلْمِ والجِسْمِ وإن آية ملكه : وإن تمليكه من قِبَل الله أن يأتيكم التابوت ، فيرد عليكم الذي فيه من السكينة ، وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون ، وهو الذي كنتم تهزمون به من لقيكم من العدو ، وتظهرون به عليه قالوا : فإن جاءنا التابوت ، فقد رضينا وسلمنا . وكان العدوّ الذين أصابوا التابوت أسفل من الجبل ، جبل إيليا ، فيما بينهم وبين مصر ، وكانوا أصحاب أوثان ، وكان فيهم جالوت ، وكان جالوت رجلاً قد أعطي بسطة في الجسم وقوّة في البطش وشدّة في الحرب ، مذكورا بذلك في الناس . وكان التابوت حين استبي قد جعل في قرية من قرى فلسطين ، يقال لها : أُرُدُنّ ، فكانوا قد جعلوا التابوت في كنيسة فيها أصنامهم . فلما كان من أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم ما كان من وعد بني إسرائيل أن التابوت سيأتيهم ، جعلت أصنامهم تصبح في الكنيسة منكسة على رءوسها ، وبعث الله على أهل تلك القرية فأرا ، تثبت الفأرة الرجل فيصبح ميتا قد أكلت ما في جوفه من دبره . قالوا : تعلمون والله لقد أصابكم بلاء ما أصاب أمة من الأمم قبلكم ، وما نعلمه أصابنا إلا مذ كان هذا التابوت بين أظهرنا ، مع أنكم قد رأيتم أصنامكم تصبح كل غداة منكسة شيء لم يكن يصنع بها حتى كان هذا التابوت معها ، فأخرجوه من بين أظهركم فدعوا بعجلة فحملوا عليها التابوت ، ثم علقوها بثورين ، ثم ضربوا على جنوبهما ، وخرجت الملائكة بالثورين تسوقهما ، فلم يمرّ التابوت بشيء من الأرض إلا كان قُدْسا ، فلم يرعهم إلا التابوت على عجلة يجرّها الثوران ، حتى وقف على بني إسرائيل ، فكبروا وحمدوا الله ، وجدّوا في حربهم واستوثقوا على طالوت .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : لما قال لهم نبيهم : إن الله اصطفى طالوت عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم ، أبوا أن يسلموا له الرياسة حتى قال لهم : إنّ آيَةَ مُلْكِهِ أنْ يَأتِيَكُمُ التّابُوتُ فِيِه سَكِينَةٌ مِنْ رَبّكُمْ فقال لهم : أرأيتم إن جاءكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة . وكان موسى حين ألقى الألواح تكسرت ، ورفع منها ، فنزل ، فجمع ما بقي ، فجعله في ذلك التابوت .
قال ابن جريج : أخبرني يعلى بن مسلم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، أنه لم يبق من الألواح إلا سدسها . قال : وكانت العمالقة قد سبت ذلك التابوت ، والعمالقة فرقة من عاد كانوا بأريحاء فجاءت الملائكة بالتابوت تحمله بين السماء والأرض ، وهم ينظرون إلى التابوت حتى وضعته عند طالوت ، فلما رأوا ذلك قالوا : نعم فسلموا له وملكوه . قال : وكان الأنبياء إذا حضروا قتالاً قدّموا التابوت بين يديهم ويقولون : إن آدم نزل بذلك التابوت وبالركن . وبلغني أن التابوت وعصا موسى في بحيرة طبرية ، وأنهما يخرجان قبل يوم القيامة .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول : إن أرميا لما خرّب بيت المقدس وحرق الكتب ، وقف في ناحية الجبل ، فقال : أنّى يُحْيِى هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها فأماتَهُ اللّهُ مِائَةَ عامٍ ثم ردّ الله من ردّ من بني إسرائيل على رأس سبعين سنة من حين أماته ، يعمرونها ثلاثين سنة تمام المائة فلما ذهبت المائة ردّ الله إليه روحه وقد عمرت ، فهي على حالتها الأولى فلما أراد أن يردّ عليهم التابوت ، أوحى الله إلى نبيّ من أنبيائهم ، إما دانيال وإما غيره ، إن كنتم تريدون أن يرفع عنكم المرض ، فأخرجوا عنكم هذا التابوت قالوا : بآية ماذا ؟ قال : بآية أنكم تأتون ببقرتين صعبتين لم تعملا عملاً قط ، فإذا نظرتا إليه وضعتا أعناقهم للنير حتى يشدّ عليهما ، ثم يشدّ التابوت على عجل ، ثم يعلق على البقرتين ، ثم تخليان فتسيران حيث يريد الله أن يبلغهما ففعلوا ذلك . ووكل الله بهما أربعة من الملائكة يسوقونهما . فسارت البقرتان سيرا سريعا ، حتى إذا بلغتا طرف القدس كسرتا نيرهما ، وقطعتا حبالهما ، وذهبتا ، فنزل إليهما داود ومن معه . فلما رأى داود التابوت ، حجل إليه فرحا به فقلنا لوهب : ما حَجَل إليه ؟ قال : شبيه بالرقص فقالت له امرأته : لقد خففت حتى كاد الناس يمقتونك لما صنعت ، قال : أتبطئيني عن طاعة ربي ؟ لا تكونين لي زوجة بعد هذا ففارقها .
وقال آخرون : بل التابوت الذي جعله الله آية لملك طالوت كان في البرية ، وكان موسى صلى الله عليه وسلم خلفه عند فتاه يوشع ، فحملته الملائكة حتى وضعته في دار طالوت . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : إنّ آيَةَ مُلْكِهِ أنْ يَأتِيكُمُ التّابُوتَ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبّكُمْ . . . الآية . كان موسى تركه عند فتاه يوشع بن نون وهو بالبرية ، وأقبلت به الملائكة تحمله حتى وضعته في دار طالوت ، فأصبح في داره .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : إنّ آيَةَ مُلْكِهِ أنْ يَأتِيكُمُ التّابُوتَ . . . الآية ، قال : كان موسى فيما ذكر لنا ترك التابوت عند فتاه يوشع بن نون وهو في البرية ، فذكر لنا أن الملائكة حملته من البرية حتى وضعته في دار طالوت ، فأصبح التابوت في داره .
وأولى القولين في ذلك بالصواب ، ما قاله ابن عباس ووهب بن منبه من أن التابوت كان عند عدوّ لبني إسرائيل كان سلبهموه ، وذلك أن الله تعالى ذكره قال مخبرا عن نبيه في ذلك الزمان قوله لقومه من بني إسرائيل : إنّ آيَةَ مُلْكِهِ أنْ يَأتِيكُمُ التّابُوتَ والألف واللام لا تدخلان في مثل هذا من الأسماء إلا في معروف عند المتخاطبين به ، وقد عرفه المخِبر والمخبرَ . فقد علم بذلك أن معنى الكلام : أن آية ملكه أن يأتيكم التابوت الذي قد عرفتموه الذي كنتم تستنصرون به ، فيه سكينة من ربكم . ولو كان ذلك تابوتا من التوابيت غير معلوم عندهم قدره ومبلغ نفعه قبل ذلك لقيل : إن آية ملكه أن يأتيكم تابوت فيه سكينة من ربكم .
فإن ظن ذو غفلة أنهم كانوا قد عرفوا ذلك التابوت وقدر نفعه وما فيه وهو عند موسى ويوشع ، فإن ذلك ما لا يخفى خطؤه وذلك أنه لم يبلغنا أن موسى لاقى عدوا قط بالتابوت ، ولا فتاه يوشع ، بل الذي يعرف من أمر موسى وأمر فرعون ما قصّ الله من شأنهما ، وكذلك أمره وأمر الجبارين . وأما فتاه يوشع ، فإن الذين قالوا هذه المقالة زعموا أن يوشع خلفه في التيه حتى ردّ عليهم حين ملك طالوت ، فإن كان الأمر على ما وصفوه ، فأيّ الأحوال للتابوت الحال التي عرفوه فيها ، فجاز أن يقال : إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت الذي قد عرفتموه ، وعرفتم أمره ؟ ففي فساد هذا القول بالذي ذكرنا أبين الدلالة على صحة القول الاَخر ، إذ لا قول في ذلك لأهل التأويل غيرهما .
وكانت صفة التابوت فيما بلغنا كما :
حدثنا محمد بن عسكر والحسن بن يحيى ، قالا : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا بكار بن عبد الله ، قال : سألنا وهب بن منبه عن تابوت موسى ما كان ؟ قال : كان نحوا من ثلاثة أذرع في ذراعين .
القول في تأويل قوله تعالى : فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبّكُمْ .
يعني تعالى ذكره بقوله : فِيهِ في التابوت سَكِينَةٌ مِنْ رَبّكُمْ .
واختلف أهل التأويل في معنى السكينة ، فقال بعضهم : هي ريح هفافة لها وجه كوجه الإنسان . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عمران بن موسى ، قال : حدثنا عبد الوارث بن سعيد ، قال : حدثنا محمد بن جحادة ، عن سلمة بن كهيل ، عن أبي وائل ، عن عليّ بن أبي طالب ، قال : السكينة : ريح هفافة لها وجه كوجه الإنسان .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا سفيان ، وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا سفيان ، عن سلمة بن كهيل ، عن أبي الأحوص ، عن عليّ ، السكينة لها وجه كوجه الإنسان ، ثم هي ريح هفافة .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، عن العوّام بن حوشب ، عن سلمة بن كهيل ، عن عليّ بن أبي طالب في قوله : فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبّكُمْ قال : ريحٌ هفافة لها صورة . وقال يعقوب في حديثه : لها وجه ، وقال ابن المثنى : كوجه الإنسان .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن سلمة بن كهيل ، قال : قال علي : السكينة لها وجه كوجه الإنسان ، وهي ريح هفافة .
حدثنا هناد بن السريّ ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك بن حرب ، عن خالد بن عرعرة ، قال : قال علي : السكينة : ريح خجوج ، ولها رأسان .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن سماك ، قال : سمعت خالد بن عُرعرة يحدّث عن عليّ ، نحوه .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا شعبة ، وحماد بن سلمة ، وأبو الأحوص ، كلهم عن سماك ، عن خالد بن عرعرة ، عن عليّ ، نحوه .
وقال آخرون : لها رأس كرأس الهرّة وجناحان . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تعالى : فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبّكُمْ قال : أقبلت السكينة . . . وجبريل مع إبراهيم من الشام قال ابن أبي نجيح : سمعت مجاهدا يقول : السكينة لها رأس كرأس الهرّة وجناحان .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، نحوه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : السكينة لها جناحان وذنب .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : لها جناحان وذنب مثل ذنب الهرّة .
وقال آخرون : بل هي رأس هرّة ميتة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن وهب بن منبه ، عن بعض أهل العلم من بني إسرائيل ، قال : السكينة رأس هرّة ميتة كانت إذا صرخت في التابوت بصراخ هرّ أيقنوا بالنصر وجاءهم الفتح .
وقال آخرون : إنما هي طست من ذهب من الجنة كان يغسل فيه قلوب الأنبياء . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا الحكم بن ظهير ، عن السدي ، عن أبي مالك ، عن ابن عباس : فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبّكُمْ قال : طست من ذهب من الجنة ، كان يغسل فيه قلوب الأنبياء .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبّكُمْ السكينة : طست من ذهب يغسل فيها قلوب الأنبياء ، أعطاها الله موسى ، وفيها وضع الألواح وكانت الألواح فيما بلغنا من درّ وياقوت وزبرجد .
وقال آخرون : السكينة : روح من الله يتكلم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا بكار بن عبد الله ، قال : سألنا وهب بن منبه ، فقلنا له : السكينة ؟ قال : روح من الله يتكلم إذا اختلفوا في شيء تكلم ، فأخبرهم ببيان ما يريدون .
حدثنا محمد بن عسكر ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : حدثنا بكار بن عبد الله أنه سمع وهب بن منبه فذكر نحوه .
وقال آخرون : السكينة : ما يعرفون من الاَيات فيسكنون إليه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : سألت عطاء بن أبي رباح عن قوله : فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبّكُمْ . . . الآية . قال : أما السكينة : فما تعرفون من الاَيات تسكنون إليها .
وقال آخرون : السكينة : الرحمة . ذكر من قال ذلك :
حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبّكُمْ أي رحمة من ربكم .
وقال آخرون : السكينة : هي الوقار . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبّكُمْ أي وقار .
وأولى هذه الأقوال بالحقّ في معنى السكينة ، ما قاله عطاء بن أبي رباح من الشيء تسكن إليه النفوس من الاَيات التي تعرفونها . وذلك أن السكينة في كلام العرب الفعيلة من قول القائل : سكن فلان إلى كذا وكذا : إذا اطمأنّ إليه وهدأت عنده نفسه ، فهو يسكن سكونا وسكينة ، مثل قولك : عزم فلان هذا الأمر عزما وعزيمة ، وقضى الحاكم بين القوم قضاء وقضية ، ومنه قول الشاعر :
لِلّهِ قَبْرٌ غالَهَا ماذَا يُجِذْ *** نُ لَقَدْ أجَنّ سَكِينَةً ووَقَارَا
وإذا كان معنى السكينة ما وصفت ، فجائز أن يكون ذلك على ما قاله عليّ بن أبي طالب على ما روينا عنه ، وجائز أن يكون ذلك على ما قاله مجاهد على ما حكينا عنه ، وجائز أن يكون ما قاله وهب بن منبه ، وما قاله السدي لأن كل ذلك آيات كافيات تسكن إليهنّ النّفوس وتثلج بهنّ الصدور . وإذا كان معنى السكينة ما وصفنا ، فقد اتضح أن الآية التي كانت في التابوت التي كانت النفوس تسكن إليها لمعرفتها بصحة أمرها إنما هي مسماة بالفعل ، وهي غيره لدلالة الكلام عليه .
القول في تأويل قوله تعالى : وَبَقِيّةٌ مِمّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وآلُ هارُونَ .
يعني تعالى ذكره بقوله : وَبَقِيّةٌالشيء الباقي من قول القائل : قد بقي من هذا الأمر بقية ، وهي فعلية منه ، نظير السكينة من سكن . وقوله : مِمّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وآلُ هارُونَ يعني به : من تركة آل موسى ، وآل هارون .
واختلف أهل التأويل في البقية التي كانت بقيت من تركتهم ، فقال بعضهم : كانت تلك البقية عصا موسى ، ورضاض الألواح . ذكر من قال ذلك :
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا داود ، عن عكرمة ، قال : أحسبه عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية : وَبَقِيّةٌ مِمّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وآلُ هارُونَ قال : رضاض الألواح .
حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال : حدثنا بشر ، قال : حدثنا داود ، عن عكرمة ، قال داود : وأحسبه عن ابن عباس ، مثله .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو الوليد ، قال : حدثنا حماد ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في هذه الآية : وَبَقِيّةٌ مِمّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وآلُ هارُونَ قال : عصا موسى ورضاض الألواح .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَبَقِيّةٌ مِمّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وآلُ هارُونَ قال : فكان في التابوت عصا موسى ورضاض الألواح ، فيما ذكر لنا .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : وَبَقِيّةٌ مِمّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وآلُ هارُونَ قال : البقية : عصا موسى ورضاض الألواح .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : وَبَقِيّةٌ مِمّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وآلُ هارُونَ أما البقية فإنها عصا موسى ورضاضة الألواح .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : وَبَقِيّةٌ مِمّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وآلُ هارُونَ عصا موسى ، وأمور من التوراة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الوهاب الثقفي ، عن خالد الحذاء ، عن عكرمة في هذه الآية : وَبَقِيّةٌ مِمّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وآلُ هارُونَ قال : التوراة ، ورضاض الألواح ، والعصا . قال إسحاق : قال وكيع : ورضاضه : كِسَرُه .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن خالد ، عن عكرمة في قوله : وَبَقِيّةٌ مِمّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وآلُ هارُونَ قال : رضاض الألواح .
وقال آخرون : بل تلك البقية : عصا موسى ، وعصا هارون ، وشيء من الألواح . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا جابر بن نوح ، عن إسماعيل ، عن ابن أبي خالد ، عن أبي صالح : أنْ يَأتِيَكُمُ التّابُوتُ فِيِه سَكِينَةٌ مِنْ رَبّكُمْ وَبَقِيّةٌ مِمّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وآلُ هارُونَ قال : كان فيه عصا موسى ، وعصا هارون ، ولوحان من التوراة ، والمن .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت أبي ، عن عطية بن سعد في قوله : وَبَقِيّةٌ مِمّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وآلُ هارُونَ قال : عصا موسى ، وعصا هارون ، وثياب موسى ، وثياب هارون ، ورضاض الألواح .
وقال آخرون : بل هي العصا والنعلان . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : سألت الثوري عن قوله : وَبَقِيّةٌ مِمّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وآلُ هارُونَ قال : منهم من يقول : البقية : قفيز من منّ ورضاض الألواح . ومنهم من يقول : العصا والنعلان .
وقال آخرون : بل كان ذلك العصا وحدها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا بكار بن عبد الله ، قال : قلنا لوهب بن منبه : ما كان فيه ؟ يعني في التابوت . قال : كان فيه عصا موسى والسكينة .
وقال آخرون : بل كان ذلك رضاض الألواح وما تكسر منها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال ابن عباس في قوله : وَبَقِيّةٌ مِمّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وآلُ هارُونَ قال : كان موسى حين ألقى الألواح تكسرت ورفع منها ، فجعل الباقي في ذلك التابوت .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : سألت عطاء بن أبي رباح عن قوله : وَبَقِيّةٌ مِمّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وآلُ هارُونَ العلم والتوراة .
وقال آخرون : بل ذلك الجهاد في سبيل الله . ذكر من قال ذلك :
حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد الله بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَبَقِيّةٌ مِمّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وآلُ هارُونَ يعني بالبقية : القتال في سبيل الله ، وبذلك قاتلوا مع طالوت ، وبذلك أمروا .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبر عن التابوت الذي جعله آية لصدق قول نبيه صلى الله عليه وسلم لأمته : إنّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكا أن فيه سكينة منه ، وبقية مما تركه آل موسى وآل هارون . وجائز أن يكون تلك البقية : العصا ، وكسر الألواح والتوراة ، أو بعضها والنعلين ، والثياب ، والجهاد في سبيل الله وجائز أن يكون بعض ذلك . وذلك أمر لا يدرك علمه من جهة الاستخراج ، ولا اللغة ، ولا يدرك علم ذلك إلا بخبر يوجب عنه العلم ، ولا خبر عند أهل الإسلام في ذلك للصفة التي وصفنا . وإذ كان كذلك ، فغير جائز فيه تصويب قول وتضعيف آخر غيره ، إذ كان جائزا فيه ما قلنا من القول .
القول في تأويل قوله تعالى : تَحْمِلُهُ المَلائِكَةُ .
اختلف أهل التأويل في صفة حمل الملائكة ذلك التابوت ، فقال بعضهم : معنى ذلك : تحمله بين السماء والأرض حتى تضعه بين أظهرهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : جاءت الملائكة بالتابوت تحمله بين السماء والأرض وهم ينظرون إليه ، حتى وضعته عند طالوت .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : لما قال لهم : يعني النبيّ لبني إسرائيل : واللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ قالوا : فمن لنا بأن الله هو آتاه هذا ، ما هو إلا لهواك فيه ؟ قال : إن كنتم قد كذبتموني واتهمتموني فإنّ آيَةَ مُلْكِهِ أنْ يَأتِيَكُمُ التّابُوتُ فِيِه سَكِينَةٌ مِنْ رَبّكُمْ الآية . قال : فنزلت الملائكة بالتابوت نهارا ينظرون إليه عيانا ، حتى وضعوه بين أظهرهم ، فأقرّوا غير راضين ، وخرجوا ساخطين . وقرأ حتى بلغ : واللّهُ مَع الصّابِرِينَ .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : لما قال لهم نبيهم : إنّ اللّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً في العِلْمِ والجِسْمِ قالوا : فإن كنت صادقا ، فأتنا بآية أن هذا ملك قالَ إنّ آيَةَ مُلْكِهِ أنْ يَأتِيَكُمُ التّابُوتُ فِيِه سَكِينَةٌ مِنْ رَبّكُمْ وَبَقِيّةٌ مِمّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وآلُ هارُونَ تَحْمِلُهِ المَلائِكَةُ وأصبح التابوت وما فيه في دار طالوت ، فآمنوا بنبوّة شمعون ، وسلموا ملك طالوت .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : تَحْمِلُهُ المَلائِكَةُ قال : تحمله حتى تضعه في بيت طالوت .
وقال آخرون : معنى ذلك : تسوق الملائكة الدوابّ التي تحمله . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن بعض أشياخه ، قال : تحمله الملائكة على عجلة ، على بقرة .
4حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول : وكل بالبقرتين اللتين سارتا بالتابوت أربعة من الملائكة يسوقونهما ، فسارت البقرتان بهما سيرا سريعا حتى إذا بلغتا طرف القدس ذهبتا .
وأولى القولين في ذلك بالصواب ، قول من قال : حملت التابوت الملائكة حتى وضعته في دار طالوت بين أظهر بني إسرائيل وذلك أن الله تعالى ذكره قال : تَحْمِلُهُ المَلائِكَةُ ولم يقل : تأتي به الملائكة وما جرّته البقر على عجل . وإن كانت الملائكة هي سائقتها ، فهي غير حاملته ، لأن الحمل المعروف هو مباشرة الحامل بنفسه حمل ما حمل ، فأما ما حمله على غيره وإن كان جائزا في اللغة أن يقال في حمله بمعنى معونته الحامل ، أو بأن حمله كان عن سببه ، فليس سبيله سبيل ما باشر حمله بنفسه في تعارف الناس إياه بينهم وتوجيه تأويل القرآن إلى الأشهر من اللغات أولى من توجيهه إلى أن لا يكون الأشهر ما وجد إلى ذلك سبيل .
القول في تأويل قوله تعالى : إنّ في ذَلِكَ لاَيَةً لَكُمْ إنْ كنْتُمْ مُؤْمِنِينَ .
يعني تعالى ذكره بذلك أن نبيه أشمويل قال لبني إسرائيل : إن في مجيئكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون ، حاملته الملائكة ، لاَيَةً لَكُمْ يعني لعلامة لكم ودلالة أيها الناس على صدقي فيما أخبرتكم أن الله بعث لكم طالوت ملكا إن كنتم قد كذبتموني فيما أخبرتكم به من تمليك الله إياه عليكم واتهمتموني في خبري إياكم بذلك إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يعني بذلك : إن كنتم مصدقيّ عند مجيء الآية التي سألتمونيها على صدقي فيما أخبرتكم به من أمر طالوت وملكه .
وإنما قلنا ذلك معناه لأن القوم قد كانوا كفروا بالله في تكذيبهم نبيهم ، وردّهم عليه قوله : إنّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكا بقولهم : أنّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنا وَنحْنُ أحَقّ بالمُلْكِ مِنْهُ وفي مسألتهم إياه الآية على صدقه . فإن كان ذلك منهم كفرا ، فغير جائز أن يقال لهم وهم كفار لكم في مجيء التابوت آية إن كنتم من أهل الإيمان بالله ورسوله وليسوا من أهل الإيمان بالله ولا برسوله ، ولكن الأمر في ذلك على ما وصفنا من معناه ، لأنهم سألوا الآية على صدق خبره إياهم ليقرّوا بصدقه ، فقال لهم في مجيء التابوت على ما وصفه لهم آية لكم إن كنتم عند مجيئه كذلك مصدقيّ بما قلت لكم وأخبرتكم به .
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ( 248 )
وأما قول النبي لهم : { إن آية ملكه } فإن الطبري ذهب إلى أن بني إسرائيل تعنتوا وقالوا لنبيهم : وما آية ملك طالوت ؟ وذلك على جهة سؤال الدلالة على صدقه في قوله إن الله قد بعث .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : ويحتمل أن نبيهم قال لهم ذلك على جهة التغبيط والتنبيه على هذه النعمة التي قرنها الله بملك طالوت وجعلها آية له دون أن تعن بنو إسرائيل لتكذيب نبيهم ، وهذا عندي أظهر( {[2383]} ) من لفظ الآية ، وتأويل الطبري أشبه بأخلاق بني إسرائيل الذميمة ، فإنهم أهل تكذيب وتعنت واعوجاج ، وقد حكى الطبري معناه( {[2384]} ) عن ابن عباس وابن زيد والسدي .
واختلف المفسرون في كيفية إتيان { التابوت } وكيف كان بدء أمره ، فقال وهب بن منبه : كان التابوت عند بني إسرائيل يغلبون به من قاتلهم حتى عصوا فغلبوا على التابوت ، وصار التابوت عند القوم الذين غلبوا ، فوضعوه في كنيسة لهم فيها أصنام ، فكانت الأصنام تصبح منكسة ، فجعلوه في قرية قوم فأصاب أولئك القوم أوجاع في أعناقهم ، وقيل : جعل في مخرأة قوم فكانوا يصيبهم الناسور ، فلما عظم بلاؤهم كيف كان( {[2385]} ) ، قالوا : ما هذا إلا لهذا التابوت فلنرده إلى بلاد بني إسرائيل ، فأخذوا عجلة فجعلوا التابوت عليها وربطوها ببقرتين فأرسلوهما في الأرض نحو بلاد بني إسرائيل ، فبعث الله ملائكة تسوق البقرتين حتى دخلتا به على بني إسرائيل ، وهم في أمر طالوت ، فأيقنوا بالنصر ، وهذا( {[2386]} ) هو حمل الملائكة للتابوت في هذه الرواية . وقال قتادة والربيع : بل كان هذا التابوت مما تركه موسى عند يوشع بن نون ، فجعله يوشع في البرية ، ومرت عليه الدهور حتى جاء وقت طالوت . وكان أمر التابوت مشهوراً عندهم في تركة موسى ، فجعل الله الإتيان به آية لملك طالوت ، وبعث الله ملائكة حملته إلى بني إسرائيل ، فيروى أنهم رأوا التابوت في الهواء يأتي حتى نزل بينهم ، وروي أن الملائكة جاءت به تحمله حتى جعلته في دار طالوت ، فاستوسقت( {[2387]} ) بنو إسرائيل عند ذلك على طالوت ، وقال وهب بن منبه : كان قدر التابوت نحواً من ثلاثة أذرع في ذراعين ، وقرأ زيد بن ثابت «التابوه » ، وهي لغته ، والناس على قراءته بالتاء .
قال القاضي أبو محمد : وكثر الرواة في قصص( {[2388]} ) التابوت وصورة حمله بما لم أر لإثباته وجهاً للين إسناده .
{ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : السكينة ريح هفافة( {[2389]} ) لها وجه كوجه الإنسان ، وروي عنه أنه قال : هي ريح خجوج ولها رأسان ، وقال مجاهد : السكينة لها رأس كرأس الهرة وجناحان وذنب ، وقال أقبلت السكينة والصرد وجبريل مع إبراهيم من الشام . وقال وهب بن منبه عن بعض علماء بني إسرائيل : السكينة رأس هرة ميتة كانت إذا صرخت في التابوت بصراخ الهر أيقنوا بالنصر . وقال ابن عباس : السكينة طست من ذهب من الجنة كان يغسل فيه قلوب الأنبياء ، وقاله السدي . وقال وهب بن منبه : السكينة روح من الله يتكلم إذا اختلفوا في شيء أخبرهم ببيان ما يريدون . وقال عطاء بن أبي رباح : السكينة ما يعرفون من الآيات فيسكنون إليها . وقال الربيع بن أنس : { سكينة من ربكم } أي رحمة من ربكم ، وقال قتادة : { سكينة من ربكم } أي وقار لكم من ربكم .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : والصحيح أن التابوت كانت فيه أشياء فاضلة من بقايا الأنبياء وآثارهم ، فكانت النفوس تسكن إلى ذلك وتأنس به وتقوى ، فالمعهود أن الله ينصر الحق والأمور الفاضلة عنده( {[2390]} ) ، والسكينة على هذا فعيلة مأخوذة من السكون ، كما يقال عزم عزيمة وقطع قطيعة .
واختلف المفسرون في البقية ما هي ؟ : فقال ابن عباس : هي عصا موسى ورضاض( {[2391]} ) الألواح ، وقال الربيع : هي عصا موسى وأمور من التوراة . وقال عكرمة : هي التوراة والعصا ورضاض الألواح .
قال القاضي أبو محمد : ومعنى هذا ما روي من أن موسى عليه السلام لما جاء قومه بالألواح فوجدهم قد عبدوا العجل القى الألواح غضباً فتكسرت . فنزع منها ما بقي صحيحاً وأخذ رضاض ما تكسر فجعل في التابوت . وقال أبو صالح : البقية عصا موسى وعصا هارون ولوحان من التوراة والمن . وقال عطية بن سعد : هي عصا موسى وعصا هارون وثيابهما ورضاض الألواح . وقال الثوري : من الناس من يقول البقية قفيز منّ ورضاض الألواح .
ومنهم من يقول : العصا والنعلان . وقال الضحّاك : البقية الجهاد وقتال الأعداء .
قال القاضي أبو محمد : أي الأمر بذلك في التابوت ، إما أنه مكتوب فيه ، وإما أن نفس الإتيان به هو كالأمر بذلك ، وأسند الترك إلى آل موسى وهارون من حيث كان الأمر مندرجاً من قوم إلى قوم( {[2392]} ) ، وكلهم آل لموسى وهارون ، وآل الرجل قرابته وأتباعه ، وقال ابن عباس والسدي وابن زيد : حمل الملائكة هو سوقها التابوت دون شيء يحمله سواها حتى وضعته بين يدي بني إسرائيل وهم ينظرون إليه بين السماء والأرض ، وقال وهب بن منبه والثوري عن بعض أشياخهم ، حملها إياه هو سوقها الثورين أو البقرتين اللتين جرتا العجلة به ، ثم قرر تعالى أن مجيء التابوت آية لهم إن كانوا ممن يؤمن ويبصر بعين حقيقة .
أراد نبيئهم أن يتحداهم بمعجزة تدل على أن الله تعالى اختار لهم شاوول ملكاً ، فجعل لهم آية تدل على ذلك وهي أن يأتيهم التابوت ، أي تابوت العهد ، بعد أن كان في يد الفلسطينيين كما تقدم ، وهذا إشارة إلى قصة تيسير الله تعالى إرجاع التابوت إلى بني إسرائيل بدون قتال ، وذلك أن الفلسطينيين أرجعوا التابوت إلى بني إسرائيل في قصة ذكرت في سفر صمويل ، حاصلها أن التابوت بقي سبعة أشهر في بلاد فلسطين موضوعاً في بيت صنمهم داجون ورأى الفلسطينيون آيات من سقوط صنمهم على وجهه ، وانكسار يديه ورأسه ، وإصابتهم بالبواسير في أشدود وتخومها ، وسلطت عليهم الجرذان تفسد الزروع ، فلما رأوا ذلك استشاروا الكهنة ، فأشاروا عليهم بإلهام من الله بإرجاعه إلى إسرائيل لأن إله إسرائيل قد غضب لتابوته وأن يرجعوه مصحوباً بهدية : صورة خمس بواسير من ذهب ، وصورة خمس فيران من ذهب ، على عدد مدن الفلسطينيين العظيمة : أشدود ، وغزة ، واشقلون ، وجت ، وعفرون . ويوضع التابوت على عجلة جديدة تجرها بقرتان ومعه صندوق به التماثيل الذهبية ، ويطلقون البقرتين تذهبان بإلهام إلى أرض إسرائيل ، ففعلوا واهتدت البقرتان إلى أن بلغ التابوت والصندوق إلى يد اللاويين في تخم بيت شمس ، هكذا وقع في سفر صمويل غير أن ظاهر سياقه أن رجوع التابوت إليهم كان قبل تمليك شاوول ، وصريح القرآن يخالف ذلك ، ويمكن تأويل كلام السفر بما يوافق هذا بأن تحمل الحوادث على غير ترتيبها في الذكر ، وهو كثير في كتابهم . والذي يظهر لي أن الفلسطينيين لما علموا اتحاد الإسرائيليين تحت ملك علموا أنهم ما أجمعوا أمرهم إلاّ لقصد أخذ الثأر من أعدائهم وتخليص تابوت العهد من أيديهم ، فدبروا أن يظهروا إرجاع التابوت بسبب آيات شاهدوها ، ظناً منهم أن حدة بني إسرائيل تفل إذا أرجع إليهم التابوت بالكيفية المذكورة آنفاً ، ولا يمكن أن يكون هذا الرعب حصل لهم قبل تمليك شاول ، وابتداء ظهور الانتصار به .
والتابوت اسم عجمي معرب فوزنه فاعول ، وهذا الوزن قليل في الأسماء العربية ، فيدل على أن ما كان على وزنه إنما هو معرب مثل ناقوس وناموس ، واستظهر الزمخشري أن وزنه فعلول بتحريك العين لقلة الأسماء التي فاؤها ولامها حرفان متحدان : مثل سلس وقلق ، ومن أجل هذا أثبته الجوهري في مادة توب لا في تبت .
والتابوت بمعنى الصندوق المستطيل : وهو صندوق أمر موسى عليه السلام بصنعه صنعه بصلئيل الملهم في صناعة الذهب والفضة والنحاس ونجارة الخشب ، فصنعه من خشب السنط وهو شجرة من صنف القرظ وجعل طوله ذراعين ونصفاً وعرضه ذراعاً ونصفاً وارتفاعه ذراعاً ونصفاً ، وغشاه بذهب من داخل ومن خارج ، وصنع له إكليلاً من ذهب ، وسبك له أربع حلق من ذهب على قوائمه الأربع ، وجعل له عصوين من خشب مغشاتين بذهب لتدخل في الحلقات لحمل التابوت ، وجعل غطاءه من ذهب ، وجعل على طريق الغطاء صورة تخيل بها اثنين من الملائكة من ذهب باسطين أجنحتهما فوق الغطاء ، وأمر الله موسى أن يضع في هذا التابوت لوحي الشهادة اللذين أعطاه الله إياهما وهي الألواح التي ذكرها الله في قوله :
{ ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح } [ الأعراف : 154 ] .
والسكينة فعيلة بمعنى الاطمئنان والهدوء ، وفي حديث السعي إلى الصلاة « عليكم بالسكينة » وذلك أن من بركة التابوت أنه إذا كان بينهم في حرب أو سلم كانت نفوسهم واثقة بحسن المنقلب ، وفيه أيضاً كتب موسى عليه السلام ، وهي مما تسكن لرؤيتها نفوس الأمة وتطمئن لأحكامها ، فالظرفية على الأول مجازية ، وعلى الثاني حقيقية ، وورد في حديث أسيد بن حضير إطلاق السكينة على شيء شبه الغمام ينزل من السماء عند قراءة القرآن ، فلعلها ملائكة يسمون بالسكينة .
والبقية في الأصل ما يفضل من شيء بعد انقضاء معظمه ، وقد بينت هنا بأنها مما ترك آل موسى وآل هارون ، وهي بقايا من آثار الألواح ، ومن الثياب التي ألبسها موسى أخاه هارون ، حين جعله الكاهن لبني إسرائيل ، والحافظ لأمور الدين ، وشعائر العبادة قيل : ومن ذلك عصا موسى . ويجوز أن تكون البقية مجازاً عن النفيس من الأشياء ؛ لأن الناس إنما يحافظون ، على النفائس فتبقى كما قال النابغة :
بَقِيَّةٌ قدْر من قُدور تُوُورِثَتْ *** لآل الجُلاح كابرا بعد كابر
وقد فسر بهذا المعنى قول رويشد الطائي :
إنْ تُذنبوا ثم تأتيني بقيتكم *** فما عليَّ بذنب منكمُ فَوْت
أي تأتيني الجماعة الذين ترجعون إليهم في مهامكم ، وقريب منه إطلاق التليد على القديم من المال الموروث .
والمراد من آل موسى وآل هارون أهل بيتهما من أبناء هارون ؛ فإنهم عصبة موسى ؛ لأن موسى لم يترك أولاداً ، أو ما تركه آلهما هو آثارهما ، فيئول إلى معنى ما ترك موسى وهارون وآلهما ، أو أراد مما ترك موسى وهارون فلفظ آل مقحم كما في قوله { ادخلوا آل فرعون أشد العذاب } [ غافر : 46 ] .
وهارون هو أخو موسى عليهما السلام وهو هارون بن عمران من سبط لاوي ولد قبل أن يأمر فرعون بقتل أطفال بني إسرائيل وهو أكبر من موسى ، ولما كلم الله موسى بالرسالة أعلمه بأنه سيشرك معه أخاه هارون فيكون كالوزير له ، وأوحى إلى هارون أيضاً ، وكان موسى هو الرسول الأعظم ، وكان معظم وحي الله إلى هارون على لسان موسى ، وقد جعل الله هارون أول كاهن لبني إسرائيل لما أقام لهم خدمة خيمة العبادة ، وجعل الكهانة في نسله ، فهم يختصون بأحكام لا تشاركهم فيها بقية الأمة ، منها تحريم الخمر على الكاهن ، ومات هارون سنة ثمان أو سبع وخمسين وأربعمائة وألف قبل المسيح ، في جبل هور على تخوم أرض أدوم في مدة التيه في السنة الثالثة من الخروج من مصر .
وقوله : { تحمله الملائكة } حال من ( التابوت ) ، والحمل هنا هو الترحيل كما في قوله تعالى : { قلت لا أجد ما أحملكم عليه } [ التوبة : 92 ] لأن الراحلة تحمل راكبها ؛ ولذلك تسمى حمولة وفي حديث غزوة خيبر : « وكانت الحمر حمولتهم » وقال النابغة :
* يُخَال به راعي الحَمُولة طَائرا *
فمعنى حمل الملائكة التابوت هو تسييرهم بإذن الله البقرتين السائرتين بالعجلة التي عليها التابوت إلى محلة بني إسرائيل ، من غير أن يسبق لهما إلف بالسير إلى تلك الجهة ، هذا هو الملاقى لما في كتب بني إسرائيل .
وقوله : { إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين } الإشارة إلى جميع الحالة أي في رجوع التابوت من يد أعدائكم إليكم ، بدون قتال ، وفيما يشتمل عليه التابوت من آثار موسى عليه السلام ، وفي مجيئه من غير سائق ولا إلف سابق .