ثم بين - سبحانه - حال الناس عند النفخة الأولى والثانية فقال : { وَنُفِخَ فِي الصور فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله } .
والصور : اسم للقرن الذى ينفخ فيه إسرافيل بأمر الله - تعالى - وحقيقته لا يعلمها إلا هو - سبحانه - وقوله { فَصَعِقَ } من الصعق بمعنى الموت أو بمعنى الصوت الشديد الذى يجعل الإِنسان فى حالة ذهول شديد حتى لكأنه قد فارق الحياة .
أى : ونفخ فى الصور بأمر الله - تعالى - النفخة الأولى ، فخر ميتا كل من كان حيا فى السموات أو فى الأرض .
{ إِلاَّ مَن شَآءَ الله } له الحياة من أهلهما ، قالوا : والمستثنى من الصعق جبريل وإسرافيل وميكائيل . ولم يرد حديث صحيح يعتمد عليه فى تعيين من استثناه الله - تعالى - : من ذلك ، فالأولى تفويض من استثناه الله من الصعق إلى علمه - عز وجل - .
{ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى } أى : ثم نفخ فى الصور نفخة أخرى - وهى النفخة الثانية التى يكون بعدها البعث والنشور .
{ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ } أى : فإذا بهؤلاء الذين صعقوا بعد النفخة الأولى قيام من قبورهم ، ينظرون حولهم بدهشة وحيرة ماذا يفعل بهم ، أو ينظرون على أى حال يكون مصيرهم .
فالآية الكريمة تفيد أن النفخ فى الصور يكون مرتين : المرة الأولى يكون بعدها الصعق والموت لجميع الأحياء ، والنفخة الثانية يكون بعدها البعث والنشور وإعادة الحياة مرة أخرى .
يقول تعالى مخبرا عن هول يوم القيامة ، وما يكون فيه من الآيات العظيمة والزلازل الهائلة ، فقوله : { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ } ، هذه النفخة هي الثانية ، وهي نفخة الصعق ، وهي التي يموت{[25291]} بها الأحياء من أهل السموات والأرض ، إلا من شاء الله كما هو{[25292]} مصرح{[25293]} به مفسرا في حديث الصور المشهور . ثم يقبض أرواح الباقين حتى يكون آخر من يموت ملك الموت ، وينفرد الحي القيوم الذي كان أولا وهو الباقي آخرا بالديمومة{[25294]} والبقاء ، ويقول : { لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ } [ غافر : 16 ] ثلاث مرات . ثم يجيب نفسه بنفسه فيقول : { لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } أي : الذي هو واحد وقد قهر كل شيء ، وحكم بالفناء على كل شيء . ثم يحيي أول من يحيي إسرافيل ، ويأمره أن ينفخ في الصور أخرى ، وهي النفخة الثالثة نفخة البعث ، قال تعالى : { ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ } أي : أحياء بعد ما كانوا عظاما ورفاتا ، صاروا أحياء ينظرون إلى أهوال يوم القيامة ، كما قال تعالى : { فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ } [ النازعات : 14 ، 13 ] ، وقال تعالى : { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا } [ الإسراء : 52 ] ، وقال تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ } [ الروم : 25 ] .
قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن النعمان بن سالم قال : سمعت يعقوب بن عاصم بن عروة بن مسعود قال : سمعت رجلا قال لعبد الله بن عمرو{[25295]} : إنك تقول : الساعة تقوم إلى كذا وكذا ؟ قال : لقد هممت ألا أحدثكم شيئا ، إنما قلت : سترون بعد قليل أمرا عظيما . ثم قال عبد الله بن عمرو : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يخرج الدجال في أمتي ، فيمكث فيهم أربعين - لا أدري أربعين يوما أو أربعين عاما أو أربعين شهرا أو أربعين ليلة - فيبعث الله{[25296]} عيسى ابن مريم{[25297]} ، كأنه عروة بن مسعود الثقفي ، فيظهر فيهلكه الله{[25298]} . ثم يلبث الناس بعده سنين سبعا ليس بين اثنين عداوة ، ثم يرسل الله ريحا باردة من قبل الشام ، فلا يبقى أحد في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلا قبضته ، حتى لو أن{[25299]} أحدهم كان في كبد جبل لدخلت عليه " . قال : سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ويبقى شرار الناس في خفة الطير ، وأحلام السباع ، لا يعرفون معروفا ، ولا ينكرون منكرا " . قال : " فيتمثل لهم الشيطان فيقول : ألا تستجيبون ؟ فيأمرهم بالأوثان فيعبدونها ، وهم في ذلك دارة أرزاقهم ، حسن عيشهم . ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى له ، وأول من يسمعه رجل يلوط حوضه ، فيصعق ، ثم لا يبقى أحد إلا صعق . ثم يرسل الله - أو : ينزل الله مطرا كأنه الطل - أو الظل شك نعمان - فتنبت منه أجساد الناس . ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ، ثم يقال : يا أيها الناس ، هلموا إلى ربكم : { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ } [ الصافات : 24 ] ، قال : " ثم يقال : أخرجوا بعث النار " . قال : " فيقال : كم ؟ فيقال : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين{[25300]} فيومئذ تبعث الولدان شيبا ، ويومئذ يكشف عن ساق " .
انفرد بإخراجه مسلم في صحيحه{[25301]} .
وقال البخاري : حدثنا عمر بن حفص بن غياث ، حدثنا أبي ، حدثنا الأعمش قال : سمعت أبا صالح قال : سمعت أبا هريرة [ رضي الله عنه ]{[25302]} عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " بين النفختين أربعون " {[25303]} . قالوا : يا أبا هريرة ، أربعون يوما ؟ قال : أبيت ، قالوا : أربعون سنة ؟ قال : أبي ، قالوا : أربعون شهرا ؟ قال : أبيت ، ويبلى كل شيء من الإنسان إلا عَجْبُ ذنبه فيه يركب الخلق{[25304]} .
وقال أبو يعلى : حدثنا يحيى بن معين ، حدثنا أبو اليمان ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن عمر بن محمد ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن أبي هريرة [ رضي الله عنه ]{[25305]} ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " سألت جبريل ، عليه السلام ، عن هذه الآية : { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ } من الذين لم يشأ الله أن يصعقهم ؟ قال : هم الشهداء ، مقلدون أسيافهم حول عرشه ، تتلقاهم ملائكة يوم القيامة إلى المحشر بنجائب من ياقوت نمارها ألين من الحرير ، مَدُّ{[25306]} خطاها مد أبصار الرجال ، يسيرون في الجنة يقولون عند طول النزهة : انطلقوا بنا إلى ربنا ، عز وجل ، لننظر كيف يقضي بين خلقه ، يضحك إليهم إلهي ، وإذا ضحك إلى عبد في موطن فلا حساب عليه " . رجاله كلهم ثقات إلا شيخ إسماعيل بن عياش ، فإنه غير معروف والله أعلم{[25307]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَنُفِخَ فِي الصّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأرْضِ إِلاّ مَن شَآءَ اللّهُ ثُمّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىَ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ونفخ إسرافيل في القرن ، وقد بيّنا معنى الصور فيما مضى بشواهده ، وذكرنا اختلاف أهل العلم فيه ، والصواب من القول فيه بشواهده ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع .
وقوله فَصَعِقَ مَنْ فِي السّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ يقول : مات ، وذلك في النفخة الأولى ، كما :
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ وَنُفِخَ فِي الصورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السّمَوَاتِ وَمَنْ فَي الأرْضِ قال : مات .
وقوله : إلاّ مَنْ شَاءَ اللّهُ اختلف أهل التأويل في الذي عني الله بالاستثناء في هذه الاَية ، فقال بعضهم عني به جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ونُفِخَ فِي الصّورِ فَصَعِقَ مَنْ في السّمواتِ وَمَنْ فِي الأرضِ إلاّ مَنْ شاءَ اللّهُ قال جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت .
حدثني هارون بن إدريس الأصمّ ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، قال : حدثنا الفضل بن عيسى ، عن عمه يزيد الرقاشي ، عن أنس بن مالك قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : وَنُفِخَ فِي الصّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السّمَوَاتِ وَمَنْ في الأرْضِ إلاّ مَنْ شَاءَ اللّهُ فقيل : من هؤلاء الذين استثنى الله يا رسول الله ؟ قال : «جبرائيل وميكائيلَ ، ومَلكَ المَوْتِ ، فإذَا قَبَضَ أرْوَاحَ الخَلائِقِ قالَ : يا مَلَكَ المَوْتِ مَنْ بَقِي ؟ وَهُوَ أعْلَمُ قال : يَقُولُ : سُبْحانَكَ تَبَارَكْتَ رَبّي ذَا الجَلالِ والإكْرَامِ ، بَقِيَ جِبْريلُ وميكائيلُ وَمَلَكُ المَوْتِ قالَ : يَقُولُ يا مَلَك المَوْتِ خُذْ نَفْسَ مِيكائِيلَ قالَ : فَيَقَعُ كالطّوْدِ العَظِيم ، قالَ : ثُمّ يَقُولُ : يا مَلَكَ المَوْتِ مَنْ بَقِي ؟ فَيَقُول : سُبْحانَكَ رَبّي يا ذَا الجَلالِ والإكْرَامِ ، بَقِيَ جِبْريلُ وَمَلَكُ المَوْتِ ، قال : فَيَقُولُ : يا مَلَكَ المَوْتِ مُتْ ، قالَ : فَيَمُوتُ قالَ : ثُمّ يَقُولُ : يا جِبرِيلُ مَنْ بَقِيَ ؟ قالَ : فَيَقُولُ جِبْرِيلُ : سُبْحانَكَ رَبّي يا ذَا الجَلال والإكْرامِ ، بَقِي جِبْرِيلُ ، وَهُوَ مِنَ اللّهِ بالمَكانِ الّذِي هُوَ بِهِ قال : فَيَقُولُ يا جِبْريلُ لا بُدّ مِنْ مَوْتَةٍ قالَ : فَيَقَعُ ساجِدا يَخْفِقُ بِجَناحَيْهِ يَقُولُ : سُبْحانَكَ رَبّي تَبَارَكْتَ وَتَعالَيْتَ يا ذَا الجَلالِ والإكْرامِ ، أنْتَ الباقي وجِبْريلُ المَيّت الفاني : قال : ويأْخُذُ رُوحَهُ في الحلْقَةِ التي خُلِقَ مِنْها ، قالَ : فَيَقَعُ على مِيكائِيلَ أنّ فَضْلَ خَلْقِهِ على خَلْقِ مِيكائِيلَ كَفَضْلِ الطّوْدِ العَظِيمِ عَلى الظّرْبِ مِنَ الظّرابِ » .
وقال آخرون : عني بذلك الشهداء .
حدثني محمد بن المثنى ، قال : ثني وهب بن جرير ، قال : حدثنا شعبة عن عمارة ، عن ذي حجر اليحمدي ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : فَصَعِقَ مَنْ فِي السّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إلاّ مَنْ شاءَ اللّهُ قال : الشهداء ثنية الله حول العرش ، متقلدين السيوف .
وقال آخرون : عني بالاستثناء في الفزع : الشهداء ، وفي الصعق : جبريل ، وملك الموت ، وحملة العرش . ذكر من قال ذلك ، والخبر الذي جاء فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا المحاربي عبد الرحمن بن محمد ، عن إسماعيل بن رافع المدني ، عن يزيد ، عن رجل من الأنصار ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن رجل من الأنصار ، عن أبي هريرة أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يُنْفَخُ في الصّور ثَلاث نَفَخاتٍ : الأُولى : نَفْخَة الفَزَعِ ، والثّانِيَةُ : نَفْخَةُ الصّعْقِ ، والثّالِثَةُ : نَفْخَةُ الْقِيامِ لِرَبّ العالَمِينَ تَبارَكَ وَتَعالى يأْمُرُ اللّهُ إسْرَافِيلَ بالنّفْخَةِ الأُولى ، فَيَقُولُ : انْفُخْ نَفْخَةَ الفَزَعِ ، فَتَفْزَعُ أهْلُ السّمَوَاتِ وأهْلُ الأرْضِ إلاّ مَنْ شَاءَ اللّهُ » قال أبو هريرة : يا رسولَ الله ، فمن استثنىَ حين يقول : ففَزِعَ مَنْ فِي السّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إلاّ مَنْ شاءَ اللّهُ قال : «أُولَئِكَ الشّهَداءُ ، وإنّما يَصلُ الفَزَعُ إلى الأحْياءِ ، أُولَئِكَ أحْياءٌ عِنْدَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ ، وَقاهُمُ اللّهُ فَزَعَ ذلكَ اليَوْمِ وأمّنَهُمُ ، ثُمّ يَأْمُرُ اللّهُ إسْرافِيلَ بنَفْخَةِ الصّعْقِ ، فَيَقُولُ : انْفُخْ نَفْخَةَ الصّعْقِ ، فَيَصْعَقُ أهْلُ السّمَوَاتِ والأرْضِ إلاّ مَنْ شَاءَ اللّهُ فإذا هُمْ خامِدُونَ ، ثُمّ يأتي مَلَكُ المَوْتِ إلى الجَبّارِ تَبارَكَ وَتَعالى فَيَقُولُ : يا رَبّ قَدْ ماتَ أهْلُ السّمَوَاتِ والأرْضِ إلاّ مَنْ شِئْتَ ، فَيَقُولُ لَهُ وَهُوَ أعْلَمُ : فَمَنْ بَقِيَ ؟ فَيَقُولُ : بَقِيتَ أنْتَ الحَيّ الّذِي لا يَمُوتُ ، وَبَقِيَ حَمَلَةُ عَرْشِكَ ، وَبَقِيَ جِبْرِيلَ وَمِيكائِيلُ فَيَقُولُ اللّهُ لَهُ : اسْكتْ إنّي كتَبْتُ المَوْتَ على مَنْ كانَ تَحْتَ عَرْشِي ثُمّ يأتي مَلَكُ المَوْتِ فَيَقُولُ : يا رَب قَدْ ماتَ جِبْرِيلُ وَمِيكائِيلُ فَيَقولُ اللّهُ وَهُوَ أعْلَمُ : فَمَنْ بَقِيَ ؟ فَيَقولُ : بَقِيتَ أنتَ الحيّ الّذِي لا يَمُوتُ ، وَبَقِيَ حَمَلَةُ عَرْشِكَ ، وَبَقِيتُ أنا ، فَيَقُولُ اللّهُ : فَلْيَمُتْ حَمَلَةُ العَرْشِ ، فَيَمُوتُونَ وَيأْمُرُ اللّهُ تعالى العَرْشَ فَيَقْبِضُ الصّورَ . فَيَقُولُ : أيْ رَبّ قَدْ ماتَ حَمَلَةُ عَرْشِكَ فَيَقُولُ : مَنْ بَقِي ؟ وَهُوَ أعْلَمُ ، فَيَقُولُ : بَقِيت أنْتَ الحَيّ الّذِي لا يَمُوتُ وَبَقِيتُ أنا ، قال : فَيَقُولُ اللّهُ : أنْتَ مِنْ خَلقِي خَلَقْتُكَ لِمَا رأيْتُ ، فَمُتْ لا تَحْيَ ، فَيَمُوتُ » .
وهذا القول الذي رُوي في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بالصحة ، لأن الصعقة في هذا الموضع : الموت . والشهداء وإن كانوا عند الله أحياء كما أخبر الله تعالى ذكره فإنهم قد ذاقوا الموت قبل ذلك .
وإنما عني جلّ ثناؤه بالاستثناء في هذا الموضع ، الاستثناء من الذين صعقوا عند نفخة الصعق ، لا من الذين قد ماتوا قبل ذلك بزمان ودهر طويل وذلك أنه لو جاز أن يكون المراد بذلك من قد هلك ، وذاق الموت قبل وقت نفخة الصعق ، وجب أن يكون المراد بذلك من قد هلك ، فذاق الموت من قبل ذلك ، لأنه ممن لا يصعق في ذلك الوقت إذا كان الميت لا يجدّد له موت آخر في تلك الحال . وقال آخرون في ذلك ما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فَصَعِقَ مَنْ فِي السّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إلاّ مَنْ شاءَ اللّهُ قال الحسن : يستثني الله وما يدع أحدا من أهل السموات ولا أهل الأرض إلا أذاقه الموت ؟ قال قتادة : قد استثنى الله ، والله أعلم إلى ما صارت ثنيته . قال : ذُكر لنا أن نبيّ الله قال : «أتانِي مَلَكٌ فَقالَ : يا مُحَمّدُ اخْتَرْ نَبِيا مَلِكا ، أوْ نَبيّا عَبْدا فأَوْمأَ إليّ أنْ تَوَاضَعْ ، قال : نَبِيّا عَبْدا ، قال : فأُعْطيتُ خَصْلَتَيْنِ : أنْ جُعِلْتُ أوّلَ مَنْ تَنْشَقّ عَنْهُ الأرْضَ ، وأوّلَ شافِعٍ ، فَأرْفَعُ رأسِي فأجِدُ مُوسَى آخِذا بالعَرْشِ ، فاللّهُ أعْلَمُ أصَعِقَ بَعْدَ الصّعْقَةِ الأُولى أمْ لا ؟ » .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا عبدة بن سليمان ، قال : حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : قال يهودي بسوق المدينة : والذي اصطفى موسى على البشر قال : فرفع رجل من الأنصار يده ، فصكّ بها وجهه ، فقال : تقول هذا وفينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وَنُفِخَ فِي الصّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إلاّ مَنْ شاءَ اللّهُ ، ثُمّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فإذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ، فَأكُونُ أنا أوّلَ مَنْ يَرْفَعُ رأسَهُ ، فإذا مُوسَى آخِذٌ بقائمَةِ مِنْ قَوَائمِ العَرْشِ فَلا أدْرِي أرَفَعَ رأسهُ قَبْلي ، أوْ كانَ مِمّنْ استثنى الله » .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عطاء ، عن الحسن ، قال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «كأنّي أنْفُضُ رأسِي مِنَ التّرَابِ أوّلَ خارِجٍ ، فَألْتَفِتُ فَلا أرَى أحَدا إلاّ مُوسَى مُتَعَلّقا بالعَرْشِ ، فَلا أدْرَي أمِمّنِ اسْتَثْنى اللّهُ أنْ لا تُصِيبَهُ النّفْخَةُ أوْ بُعِث قَبْلِي » .
وقوله : ثُمّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فإذَا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ يقول تعالى ذكره : ثم نُفخ في الصور نفخة أخرى والهاء التي في «فيه » من ذكر الصور ، كما :
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ثُمّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى قال : في الصور ، وهي نفخة البعث .
وذُكر أن بين النفختين أربعين سنة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما بَينَ النّفْخَتَيْنِ أرْبَعُونَ » قالوا : يا أبا هريرة أربعون يوما ؟ قال : أبَيْتُ قالوا : أربعون شهرا ؟ قال : أبيت قالوا : أربعون سنة ؟ قال : أبيت «ثُمّ يُنَزّلُ اللّهُ مِن السّماءِ ماءً فَتَنْبِتُونَ كما يَنْبُتُ البَقْلُ ، قالَ : وَلَيسَ مِنَ الإنْسانِ شَيْءٌ إلاّ يَبْلَى ، إلاّ عَظْما وَاحِدا ، وَهُوَ عَجْبُ الذّنبِ ، وَمِنْهُ يُرَكّبُ الخَلْقُ يَوْمَ القِيامَةِ » .
حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا البلخي بن إياس ، قال : سمعت عكرمة يقول في قوله فَصَعِقَ مَنْ فِي السّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ . . . الاَية ، قال : الأولى من الدنيا ، والأخيرة من الاَخرة .
حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ثُمّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فإذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ قال نبيّ الله : «بَينَ النّفْخَتَيْنِ أرْبَعُونَ » قال أصحابه : فما سألناه عن ذلك ، ولا زادنا على ذلك ، غير أنهم كانوا يرون من رأيهم أنها أربعون سنة . وذُكر لنا أنه يبعث في تلك الأربعين مطر يقال له مطر الحياة ، حتى تطيب الأرض وتهتزّ ، وتنبت أجساد الناس نباتَ البقل ، ثم ينفخ فيه الثانية فإذا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ قال : ذُكر لنا أن معاذ بن جبل ، سأل نبيّ الله صلى الله عليه وسلم : كيف يُبعث المؤمنون يوم القيامة ؟ قال ؟ «يُبْعَثُونَ جُرْدا مُرْدا مُكَحّلينَ بني ثَلاثِينَ سَنَةً » .
وقوله : فإذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ يقول : فإذا من صعق عند النفخة التي قبلها وغيرهم من جميع خلق الله الذين كانوا أمواتا قبل ذلك قيام من قبورهم وأماكنهم من الأرض أحياء كهيئتهم قبل مماتهم ينظرون أمر الله فيهم ، كما :
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ فإذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُون قال : حين يبعثون .
{ ونفخ في الصور } يعني المرة الأولى . { فصعق من في السموات ومن في الأرض } خر ميتا أو مغشيا عليه . { إلا من شاء الله } قيل جبريل ومكائيل وإسرافيل فإنهم يموتون بعد . وقيل حملة العرش . { ثم نفخ فيه أخرى } نفخة أخرى وهي تدل على أن المراد بالأولى ونفخ في الصور نفخة واحدة كما صرح به في مواضع ، وأخرى تحتمل النصب والرفع . { فإذا هم قيام } قائمون من قبورهم أو متوقفون ، وقرئ بالنصب على أن الخبر { ينظرون } وهو حال من ضميره والمعنى : يقلبون أبصارهم في الجوانب كالمبهوتين أو ينتظرون ما يفعل بهم .
انتقال من إجمال عظمة القدرة يوم القيامة إلى تفصيلها لما فيه من تهويل وتمثيل لمجموع الأحوال يومئذٍ مما ينذر الكافر ويبشر المؤمن ويذكر بإقامة العدل والحق ، ثم تمثيل إزجاء المشركين إلى جهنم وسوق المؤمنين إلى الجنة .
فالجملة من عطف القصة على القصة ، ومناسبة العطف ظاهرة ، وعبر بالماضي في قوله : { ونُفِخَ } وقوله : فَصَعِقَ مجازاً لأنه محقق الوقوع مثل قوله : { أتى أمر اللَّه } [ النحل : 1 ] ، ويجوز أن تكون الواو للحال بتقدير ( قد ) أي والحال قد نفخ في الصور ، فتكون صيغة الماضي في فعلي ( نفخ وصَعق ) مستعملة في حقيقتها . وابتدئت الجملة بحديث النفخ في الصور إذ هو ميقات يوم القيامة وما يتقدمه من موت كل حي على وجه الأرض . وتكرر ذكره في القرآن والسنة .
والصور : بوق ينادى به البعيد المتفرق مثل الجيش ، ومثل النداء للصلاة فقد كان اليهود ينادون به : للصلاة الجامعة ، كما جاء في حديث بدء الأذان في الإسلام . والمراد به هنا نداء الخلق لحضور الحشر أحيائِهم وأَمواتِهم ، وتقدم عند قوله : { يوم ينفخ في الصور } في الأنعام ( 73 ) . وهو علامة لأمر التكوين ، فالأحياء يصعقون فيموتون ( كما يموت المفزوع ) بالنفخة الأولى ، والأموات يصعقون اضطراباً تدبّ بسببه فيهم الحياة فيكونون مستعدين لقبول الحياة ، فإذا نفخت النفخة الثانية حلّت الأرواح في الأجساد المخلوقة لهم على مثال ما بَلي من أجسادهم التي بليت ، أو حلّتْ الأرواح في الأجساد التي لم تزل باقية غير بالية كأجساد الذين صعقوا عند النفخة الأولى ، ويجوز أن يكون بين النفختين زمن تبلَى فيه جميع الأجساد .
والاستثناء من اسم الموصول الأول ، أي إلا مَن أراد الله عدم صعقه وهم الملائكة والأرواح ، وتقدم في سورة النمل ( 87 ) { ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض } .
و { ثم } تؤذن بتراخي الرتبة لأنها عاطفة جملة ، ويجوز أن تفيد مع ذلك المهلَةَ المناسبة لما بين النفختين . و { أُخْرى } صفة لمحذوف ، أي نفخة أخرى ، وهي نفخة مُخالفٌ تأثيرُها لتأثير النفخة الأولى ، لأن الأولى نفخة إهلاك وصعق ، والثانية نفخة إحياء وذلك باختلاف الصوتين أو باختلاف أمرَيْ التكوين . وإنما ذكرت النفخة الثانية في هذه الآية ولم تذكر في قوله في سورة النمل ( 87 ) { ويوم ينفخ ( 1 ) في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء اللَّه وكل أتوه داخرين } لأن تلك في غرض الموعظة بفناء الدنيا وهذه الآية في غرض عظمة شأن الله في يوم القيامة ، وكذلك وصف النفخة بالواحدة في سورة الحاقة ( 13 ، 15 ) { فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة فيومئذ وقعت الواقعة } وذكرت هنا نفختان .
وضمير { هُم } عائد على { من في السموات ومن في الأرض } فيما بقي من مفهومه بعد التخصيص ب { إلا مَن شاء الله } وهم الذين صعقوا صعق ممات وصَعْق اضطراب يهيأ لقبول الحياة عند النفخة .
و { إذا } للمفاجأة للتنبيه على سرعة حلول الحياة فيهم وقيامهم إثره و { قيام } جمع قائم .
وجملة { يَنظُرُونَ } حال . والنظرُ : الإِبصار ، وفائدة هذه الحال الدلالة على أنهم حَيُوا حياة كاملة لا غشاوة معها على أبصارهم ، أي لا دهش فيها كما في قوله تعالى : { فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم ينظرون } في سورة الصافات ( 19 ) ، أو أريد أنهم ينظرون نظر المقلّب بصره الباحث . ويجوز أن يكون من النظرة ، أو الانتظار .