ثم حذرهم - سبحانه - من أهوال يوم القيامة فقال - تعالى - : { يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الجمع ذَلِكَ يَوْمُ التغابن } .
والظرف { يَوْمَ } متعلق بقوله - تعالى - قبل ذلك : { ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ } .
والمراد بيوم الجمع : يوم القيامة سمى بذلك لأنه اليوم الذى يجتمع فيه الأولون والآخرون ؟ فى مكان واحد للحساب والجزاء .
وسمى - أيضا بيوم التغابن ، لأنه اليوم الذى يغبن فيه أهل الحق أهل الباطل .
والتغابن تفاعل من الغبن بمعنى الخسران والنقص ، يقال غبن فلان فلانا إذا بخسه حقه ، بأن أخذ منه سلعة بثمن أقل من ثمنها المعتاد ، وأكثر ما يستعمل الغبن فى البيع والشراء ، وفعله من باب ضرب ، ويطلق الغبن على مطلق الخسران أى : قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء الجاحدين للبعث : لتبعثن يوم القيامة ثم لتنبؤن بما عملتم يوم القيامة يوم يجتمع الخلائق للحساب فيغبن فيه أهل الحق أهل الباطل ، ويغبن فيه المؤمنون الكافرين ، لأن أهل الإيمان ظفروا بالجنة ، وبالمقاعد التى كان سيظفر بها الكافرون لو أنهم آمنوا ، ولكن الكافرين استمروا على كفرهم فخسروا مقاعدهم فى الجنة ، ففاز بها المؤمنون .
قال القرطبى : { يَوْمُ التغابن } أى : يوم القيامة . . وسمى يوم القيامة بيوم التغابن ، لأنه غبن أهلُ الجنة أهلَ النار .
أى : أن أهل اجنة أخذوا الجنة ، وأهل النار أخذوا النار على طريق المبادلة فوقع الغبن على الكافرين لأجل مبادلتهم الخير بالشر ، والنعيم بالعذاب .
يقال : عبنت فلانا ، إذا بايعَته أو ساريتَه ، فكان النقص عليه ، والغلبة لك .
فإن قيل : فأى معاملة وقعت بينهما حتى يقع الغبن فيها ؟ قيل له : هو تمثيل الغبن فى الشراء والبيع .
وقال الآلوسى ما ملخصه : { ذَلِكَ يَوْمُ التغابن } أى يومُ غبنَ فيه أهل الجنة أهل النار ، فالتفاعلل ليس على ظاهره ، كما فى التواضع والتحامل لوقوعه من جانب واحد ، واختير للمبالغة .
وقد ورد هذا التفسير عن ابن عباس ومجاهد وقتادة . واختاره الواحدى .
وقال غير واحد : { ذَلِكَ يَوْمُ التغابن } أى : اليوم الذى غبن فيه بعض الناس بعضا ، بنزول السعداء منازل الأشقياء لو كانوا سعداء ، وبالعكس ففى الحديث الصحيح : " ما من عبد يدخل الجنة إلا أُرِى مقعده من النار - لو أساء - ليزداد شكرا ، وما من عبد يدخل النار إلا أرى مقعده من الجنة - لو أحسن ليزداد حسرة - " وهو مستعار من تغابن القوم فى التجارة ، وفيه تهكم بالأشقياء لأنهم لا يغبنون حقيقة السعداء ، بنزولهم فى منازلهم من النار .
ثم فصل - سبحانه - أحوال الناس فى هذا اليوم الهائل الشديد فقال ؛ { وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } .
أى : ومن يؤمن بالله - تعالى - إيمانا حقا ، ويعمل عملا صالحا ، يكفر الله - تعالى - عنه سيئاته التى عملها فى الدنيا بأن يزيلها من صحيفة علمه - فضلا منه - تعالى - وكرما - وفوق ذلك يدخله بفضله وإحسانه جنات تجرى من تحت ثمارها الأنهار { خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } أى : خلودا أبديا .
{ ذَلِكَ } الذى ذكرناه لكم من تكفير السيئات ، ومن دخول الجنات . . . هو { الفوز العظيم } الذى لا فوز يقاربه أو يدانيه .
وقوله : { يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ } وهو يوم القيامة ، سمي بذلك لأنه يجمع فيه الأولون والآخرون في صعيد واحد ، يسمعهم الداعي وينَفُذَهم البصر ، كما قال تعالى : { ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ } [ هود : 103 ] وقال تعالى : { قُلْ إِنَّ الأوَّلِينَ وَالآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ } [ الواقعة : 49 ، 50 ]
وقوله : { ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ } قال ابن عباس : هو اسم من أسماء يوم القيامة . وذلك أن أهل الجنة يغبنون أهل النار . وكذا قال قتادة ومجاهد .
وقال مقاتل بن حيان : لا غبن أعظمُ من أن يدخل هؤلاء إلى الجنة ، ويُذْهَب بأولئك إلى النار .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التّغَابُنِ وَمَن يُؤْمِن بِاللّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفّرْ عَنْهُ سَيّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } .
يقول تعالى ذكره : والله بما تعملون خبير يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الجِمْعِ الخلائق للعرض ذلكَ يَوْمَ التّغابُنِ يقول : الجمع يوم غَبْن أهلِ الجنة أهلَ النار . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : ذَلك يَوْمُ التّغابُنِ قال : هو غبن أهل الجنة أهلَ النار .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الجَمْعِ هو يوم القيامة ، وهو يوم التغابن : يوم غَبن أهلِ الجنة أهلَ النار .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : ذلك يَوْمُ التّغابُنِ من أسماء يوم القيامة ، عظّمه وحذّره عبادَه .
وقوله : وَمَنْ يُوءْمِنْ باللّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحا يقول تعالى ذكره : ومن يصدّق بالله ويعمل بطاعته ، وينته إلى أمره ونهيه يُكَفّرْ عَنْهُ سَيّئاتِهِ يقول : يمح عنه ذنوبه وَيُدْخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْري مِنْ تَحْتِها الأنهارُ يقول : ويُدخله بساتين تجري من تحت أشجارها الأنهار .
وقوله : خالِدينَ فِيها أبَدا يقول : لابثين فيها أبدا ، لا يموتون ، ولا يخرجون منها .
وقوله : ذلكَ الفَوْزُ العَظِيمُ يقول : خلودهم في الجنات التي وصفنا النجاء العظيم .
يوم يجمعكم ظرف لتنبؤن أو مقدر باذكر وقرأ يعقوب نجمعكم ليوم الجمع لأجل ما فيه من الحساب والجزاء والجمع جمع الملائكة والثقلين ذلك يوم التغابن يغبن فيه بعضهم بعضا لنزول السعداء منازل الأشقياء لو كانوا سعداء وبالعكس مستعار من تغابن التجار واللام فيه للدلالة على أن التغابن الحقيقي هو التغابن في أمور الآخرة لعظمها ودوامها ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا أي عملا صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا وقرأ نافع وابن عامر بالنون فيهما ذلك الفوز العظيم الإشارة إلى مجموع الأمرين ولذلك جعله الفوز العظيم لأنه جامع للمصالح من دفع المضار وجلب المنافع .
والعامل في قوله { يوم يجمعكم } يحتمل أن تكون { لتنبؤن } [ التغابن : 7 ] ، ويحتمل أن تكون { خبير } ، وهو تعالى خبير في كل يوم ، ولكن يخص ذلك اليوم ، لأنه يوم تضرهم فيه خبرة الله تعالى بأمورهم ، وقرأ جمهور السبعة : «يجمعُكم » بضم العين ، وقرأ أبو عمر بسكونها ، وروي عنه أنه أشمها الضم وهذا على جواز تسكين الحركة وإن كانت لإعراب ، كما قال جرير :
فلم تعرفكم العرب . . . . . {[11139]}
وقرأ سلام ويعقوب : «نجمعُكم » بالنون وضم العين ، و : { يوم الجمع } هو يوم القيامة ، وهو { يوم التغابن } ، وذلك أن كل واحد ينبعث من قبره وهو يرجو حظاً ومنزلة ، فإذا وقع الجزاء غبن المؤمنون الكافرين لأنهم يحوزون الجنة ويحصل الكفار في النار ، نحا هذا المنحى مجاهد وغيره ، وليس هذا الفعل من التغابن من اثنين ، بل كتواضع وتحامل{[11140]} .
وقرأ نافع وابن عامر والمفضل عن عاصم : «نكفر عنه » بنون وكذلك : «ندخله » ، وهي قراءة الأعرج وأبي جعفر وشيبة والحسن بخلاف وطلحة ، وقرأ الباقون{[11141]} والأعمش وعيسى والحسن في الموضعين بالياء على معنى يكفر الله ، والأول هو نون العظمة
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يوم يجمعكم ليوم الجمع} يعني جمع أهل السماوات وجمع أهل الأرض {ذلك يوم التغابن} يعني أهل الهدى تغبن أهل الضلالة، فلا غبن أعظم منه فريق في الجنة، وفريق في السعير، {ومن يؤمن بالله} أنه واحد لا شريك له {ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا} لا يموتون و {ذلك} الثواب الذي ذكر الله تعالى هو {الفوز العظيم}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: والله بما تعملون خبير" يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الجِمْعِ "الخلائق للعرض. "ذلكَ يَوْمَ التّغابُنِ" يقول: الجمع يوم غَبْن أهلِ الجنة أهلَ النار...
وقوله: "وَمَنْ يُؤمِنْ باللّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحا" يقول تعالى ذكره: ومن يصدّق بالله ويعمل بطاعته، وينته إلى أمره ونهيه "يُكَفّرْ عَنْهُ سَيّئاتِهِ" يقول: يمح عنه ذنوبه "وَيُدْخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْري مِنْ تَحْتِها الأنهارُ" يقول: ويُدخله بساتين تجري من تحت أشجارها الأنهار.
وقوله: "خالِدينَ فِيها أبَدا" يقول: لابثين فيها أبدا، لا يموتون، ولا يخرجون منها.
وقوله: "ذلكَ الفَوْزُ العَظِيمُ" يقول: خلودهم في الجنات التي وصفنا النجاء العظيم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
التغابن عندنا يجوز أن يكون معناه أن أهل الكفر يغبنون في أهلهم وأموالهم في الآخرة، لأنهم كانوا يتعاونون بهم في الدنيا، فحسبوا أنهم يكونون كذلك في الآخرة، فإذا لم يجدوا، وصار بعضهم يلعن بعضا، غبنوا ما كانوا يأملون منهم...
ويحتمل أنه إنما سماه يوم التغابن لأن الدنيا جعلت أسواقا، والأحوال التي تكون لهم رؤوس الأموال، والأعمال التي يعملون فيها، ويكتسبون، تجارة... فإذا كانت الدنيا متجرة، والآخرة هي التي تقسم فيها الأرباح، ففي ذلك يقع الربح والخسران، ويظهر الغبن والفضل والنقصان والزيادة، والله أعلم. وسماه يوم التغابن لما يظهر لهم في ذلك أنهم خسروا، أو ربحوا، فلا يظهر لهم ذلك في الدنيا. ثم بين العمل الذي يربح عليه والعمل الذي يخسر به والتجارة التي يوصل بها إلى الأرباح والتي يلحق بها الخسران، وهو ما قال: {ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار} الآية، وقال: {والذين كفرا وكذبوا بآياتنا} الآية [التغابن: 10]...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} وهو تفاعل من الغبن وهو فوت الحظ والمراد، وقد ورد في تفسير التغابن عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ما أخبرنا الحسن بن محمّد قال: حدّثنا موسى بن محمد بن علي قال: حدّثنا عبد اللّه بن محمد بن سنان قال: حدّثنا كثير بن يحيى قال: حدّثنا أَبُو آمنة بن معلّى الثقفي قال: حدّثنا سعيد بن أبي سعيد المنقري عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: "ما من عبد مؤمن يدخل الجنّة إلاّ أُري مقعده من النّار لو أساء ليزداد شكراً، وما من عبد يدخل النّار إلاّ أُري مقعده من الجنّة لو أحسن ليزداد حسرة". قال المفسّرون: من غبن أهله منازله في الجنّة فيظهر يومئذ غبن كلّ كافر ببركة الإيمان، وغبن كلّ مؤمن بتقصيره في الإحسان وتضييعه الأيّام...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
(ذلك يوم التغابن) والتغابن هو التفاوت في أخذ الشيء بدون القيمة، والذين أخذوا الدنيا بالآخرة بهذه الصفة في أنهم أخذوا الشيء بدون القيمة، فقد غبنوا أنفسهم بأخذ النعيم المنقطع بالدائم وأغبنهم الذين اشتروا الآخرة بترك الدنيا المنقطع إليها من هؤلاء الذين تغابنوا عليها... (ذلك الفوز العظيم) أي النجاح الذي ليس وراءه شيء من عظمه...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
المطيعُ – يومئذٍ ِ- في غبن لأنه لم يستكثر من الطاعة، والعاصي في غبن لأنه استكثر من الزلَّة...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
التغابن: مستعار من تغابن القوم في التجارة؛ وهو أن يغبن بعضهم بعضاً، لنزول السعداء منازل الأشقياء التي كانوا ينزلونها لو كانوا سعداء، ونزول الأشقياء منازل السعداء التي كانوا ينزلونها لو كانوا أشقياء. وفيه تهكم بالأشقياء؛ لأنّ نزولهم ليس بغبن...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
المسألة الْأُولَى: قَالَ عُلَمَاءُ التَّفْسِيرِ: إنَّ الْمُرَادَ بِهِ غَبْنُ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَهْلَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. الْمَعْنَى أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ أَخَذُوا الْجَنَّةَ، وَأَخَذَ أَهْلُ النَّارِ النَّارَ عَلَى طَرِيقِ الْمُبَادَلَةِ، فَوَقَعَ الْغَبْنُ، لِأَجْلِ مُبَادَلَتِهِم الْخَيْرَ بِالشَّرِّ، وَالْجَيِّدَ بِالرَّدِيءِ، وَالنَّعِيمَ بِالْعَذَابِ، عَلَى مَنْ أَخَذَ الْأَشَدَّ وَحَصَلَ عَلَى الْأَدْنَى. فَإِنْ قِيلَ: فَأَيُّ مُعَامَلَةٍ وَقَعَتْ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَقَعَ الْغَبْنُ فِيهَا؟ قُلْنَا وَهِيَ:
المسألة الثَّانِيَةُ: إنَّمَا هَذَا مَثَلٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ الْخَلْقَ مُنْقَسِمِينَ عَلَى دَارَيْنِ: دُنْيَا، وَآخِرَةٍ...
فَرِيقٌ لِلْجَنَّةِ، وَفَرِيقٌ لِلنَّارِ، وَمَنَازِلُ الْكُلِّ مَوْضُوعَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَالنَّارِ؛ فَإِنْ سَبَقَ التَّوْفِيقُ حَصَلَ الْعَبْدُ من أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَكَانَ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنْ سَبَقَ الْخِذْلَانُ عَلَى الْعَبْدِ الْآخَرِ فَيَكُونُ من أَهْلِ النَّارِ، فَيَحْصُلُ الْمُوَفَّقُ عَلَى مَنْزِلِ الْمَخْذُولِ، وَيَحْصُلُ لِلْمَخْذُولِ مَنْزِلُ الْمُوَفَّقِ فِي النَّارِ، فَكَأَنَّهُ وَقَعَ التَّبَادُلُ، فَحَصَلَ التَّغَابُنُ. وَالْأَمْثَالُ مَوْضُوعَةٌ لِلْبَيَانِ فِي حُكْمِ الْقُرْآنِ وَاللُّغَةِ؛ وَذَلِكَ كُلُّهُ مَجْمُوعٌ من نَشْرِ الْآثَارِ. وَقَدْ جَاءَتْ مُتَفَرِّقَةً فِي هَذَا الْكِتَابِ وَغَيْرِهِ...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ} الذي يجمع فيه الناس ليوم الفصل، {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} الذي يفكر فيه كل فرد بأن الفرصة التي منحها الله له في الدنيا، في ما أعطاه من عمر وهيّأه له من إمكاناتٍ، كانت تحمل في داخلها الكثير مما كان يمكنه الحصول على نتائجه في الآخرة، بالمستوى الذي يعتبر فيه نفسه مغبوناً، إذا قارنها بالنتائج الحاضرة التي حصل عليها الآن، سواء أكانت نتائج إيجابية لأنه كان قادراً على أن يحصل على الأفضل منها، أم كانت نتائج سلبية لأنه كان متمكناً من الحصول على النتائج الإيجابية بدرجاتها المتفاوتة، فتكون المسألة أن الجميع لم يقدّروا الفرصة التي فاتت حق قدرها، تماماً كمن باع سلعته بأقل من ثمنها، حيث يعتبر مغبوناً. وفسره البعض بأن اعتبر التغابن بين أهل الضلال: متبوعيهم وتابعيهم، فالمتبوعون وهم المستكبرون يغبنون تابعيهم وهم الضعفاء، حيث يأمرونهم بأخذ الدنيا وترك الآخرة، فيضلون، والتابعون يغبنون المتبوعين حيث يعينونهم في استكبارهم باتباعهم فيضلون، فكل من الفريقين غابن لغيره ومغبون من غيره.
ولعل الأساس في هذا الوجه هو ملاحظة صيغة التفاعل في كلمة التغابن، ولكن الظاهر أنها لم ترد بهذا المعنى، لأن الظاهر أنّ المخاطب به كل فردٍ ممن يجمعهم الله، حيث يواجه الناس مواقعهم في يوم القيامة، فيحس كل إنسان بأنه مغبون في ما حصل عليه، لأن من الممكن أن يكون حظه أكبر...
{وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ} على أساس القاعدة الشرعية القرآنية: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السيِّئَاتِ} [هود: 114]، فيرفع الله عن الإنسان سيئاته ببركة حسناته، {وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً} وهو الجزاء الكبير على استقامته في خط الإيمان والعمل الصالح. {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} الذي يمثّل العنوان الكبير للنتيجة الطيبة التي يحصل عليها المؤمنون الصالحون، في مواجهة الخسارة التي تحصل للكافرين،