التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ ٱلدُّنۡيَا فَعِندَ ٱللَّهِ ثَوَابُ ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ سَمِيعَۢا بَصِيرٗا} (134)

ثم حرض - سبحانه - الناس على أن يقصدوا بعملهم وجه الله ، وأن يجعلوا مقصدهم الأعظم الفوز بنعيم الآخرة فقال - تعالى - : { مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدنيا فَعِندَ الله ثَوَابُ الدنيا والآخرة وَكَانَ الله سَمِيعاً بَصِيراً } .

والمراد بثواب الدنيا : خيراتها التى تعود على طالبها بالنفع الدنيوى .

والمراد بثواب الآخرة : الجزاء الحسن الذى أعده الله - تعالى - لعباده الصالحين .

والمعنى : من كان يريد ثواب الدنيا كالمجاهد يريد بجهاده الغنيمة والمنافع الدنيوية ، فأخبره وأعلمه يا محمد أن عند الله ثواب الدنيا والآخرة . فلماذا قصر الطلب على المنافع الدنيوية مع أن ثواب الآخرة أجزل وأبقى ؟ وهلا اقتدى بمن قالوا فى دعائهم : { رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة حَسَنَةً } وجزاء الشرط محذوف بتقدير الإِعلام والإِخبار . أى : من كان يريد ثواب الدنيا فأعلمه وأخبره أن عند الله ثواب الدارين فماله لا يطلب ذلك أو يطلب الأشرف وهو ثواب الآخرة فإن من جاهد - مثلا - جهادا خالصا لم تفته المنافع الدنيوية ، وله بجانب ذلك فى الآخرة ما هو أنفع وأعظم وأبقى . فقد روى الإِمام أحد عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من كان همة الآخرة جمع الله - تعالى شمله ، وجعل غناه فى قلبه ، وأتته الدنيا وهى راغمة ، ومن كانت نيته الدنيا فرق الله عليه ضيعته ، وجعل فقره بين عينه ، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له " .

ويرى صاحب البحر المحيط أن جواب الشرط محذوف لدلالة المعنى عليه فقد قال : والذى يظهر أن جواب الشرط محذوف لدلالة المعنى عليه . والتقدير : من كان يريد ثواب الدنيا فلا يقصر عليه وليطلب الثوابين فعند الله ثواب الدنيا والآخرة .

ثم قال : وقال الراغب وقوله { فَعِندَ الله ثَوَابُ الدنيا والآخرة } تبكيت للإِنسان حيث اقتصر على أحد السؤالين مع كون المسئول مالكا للثوابين ، وحث على أن يطلب منه - تعالى - ما هو أكمل وأفضل من مطلوبه . فمن طلب خسيسا مع أنه يمكنه أن يطلب نفيسا فهو دنئ الهمة . وقيل : الآية وعيد للمنافقين الذين لا يريدون بالجهاد غير الغنيمة .

وما عبر عنه صاحب البحر المحيط بقوله : وقيل : الآية وعيد للمافقين ، قد رجحه ابن جرير واختاره فقد قال ما ملخصه : قوله { مَّن كَانَ يُرِيدُ } أى : ممن أظهر الإِيمان من أهل النفاق .

{ ثَوَابَ الدنيا } يعنى عرض الدنيا { فَعِندَ الله ثَوَابُ الدنيا والآخرة } يعنى : أن جزاءه فى الدنيا منها هو ما يصيب ما المغنم . وأما ثوابه فى الآخرة فنار جهنم .

والذى نراه أولى أن الآية الكريمة تخاطب الناس عامة ، فتبين لهم ا ، خير الدنيا بيد الله وخير الآخرة أيضا بيد الله ، فإن اتقوه نالوا الخيرين ، وتبههم إلى أن من الواجب عليهم الآ يشغلهم طلب خير الدنيا عن طلب خير الآخرة .

بل عليهم أن يقدموا ثواب الآخرة على ثواب الدنيا . عملا بقوله - تعالى - فى آية أخرى : { وابتغ فِيمَآ آتَاكَ الله الدار الآخرة وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدنيا } ولا نرى مقتضيا لتخصيص الآية بالمافقين كما - يرى ابن جرير - رحمه الله .

وقوله - تعالى - { وَكَانَ الله سَمِيعاً بَصِيراً } تذييل قصد به حض الناس على الإِخلاص فى أقوالهم وأعمالهم .

أى : وكان الله - تعالى - سميعا لكل ما يجهر به الناس ويسرونه ، بصيرا بأحوالهم الظاهرة والخفية ، وسيجازيهم بما يستحقونه من ثواب أو عقاب ، { يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ }

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ ٱلدُّنۡيَا فَعِندَ ٱللَّهِ ثَوَابُ ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ سَمِيعَۢا بَصِيرٗا} (134)

وقوله : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ } أي : يا من ليس{[8457]} هَمُّه إلا الدنيا ، اعلم أن عند الله ثواب الدنيا والآخرة ، وإذا سألته من هذه وهذه أعطاك وأغناك وأقناك ، كما قال تعالى : { فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ . أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا [ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ]{[8458]} } [ البقرة : 200 - 202 ] ، وقال تعالى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نزدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ [ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ]{[8459]} } [ الشورى : 20 ] ، وقال تعالى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا . وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا . كُلا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا . انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ [ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا ]{[8460]} } [ الإسراء : 18 - 21 ] .

وقد زعم ابن جرير أن المعنى في هذه الآية : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا } أي : من المنافقين الذين أظهروا الإيمان لأجل ذلك ، { فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا } وهو ما حصل لهم من المغانم وغيرها مع المسلمين . وقوله : { وَالآخِرَةِ } أي : وعند الله{[8461]} ثواب الآخرة ، وهو ما ادخره لهم من العقوبة في نار جهنم . وجعلها كقوله : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا [ نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا ]{[8462]} وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ . أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ هود : 15 ، 16 ] .

ولا شك أن هذه الآية معناها ظاهر ، وأما تفسيره الآية الأولى بهذا ففيه نظر ؛ فإن قوله { فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ } ظاهر في حضور الخير في الدنيا والآخرة ، أي : بيده هذا وهذا ، فلا يقْتَصِرَنَّ قاصر الهمة على السعي للدنيا فقط ، بل لتكن همته سامية إلى نيل المطالب العالية في الدنيا والآخرة ، فإن مرجع ذلك كله إلى الذي بيده الضر والنفع ، وهو الله الذي لا إله إلا هو ، الذي قد قسم السعادة والشقاوة في الدنيا والآخرة بين الناس ، وعدل بينهم فيما علمه فيهم ، ممن يستحق هذا ، وممن يستحق{[8463]} هذا ؛ ولهذا قال : { وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا }


[8457]:في د، ر: "وليس له".
[8458]:زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".
[8459]:زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".
[8460]:زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".
[8461]:في د، ر، أ: "أي وعنده".
[8462]:زيادة من ر، أ.
[8463]:في أ: "وعدل بينهم بمن يستحق هذا ومن يستحق هذا".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ ٱلدُّنۡيَا فَعِندَ ٱللَّهِ ثَوَابُ ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ سَمِيعَۢا بَصِيرٗا} (134)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ مّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدّنْيَا فَعِندَ اللّهِ ثَوَابُ الدّنْيَا وَالاَخِرَةِ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعاً بَصِيراً } . .

يعني بذلك جلّ ثناؤه : { مَنْ كانَ يُرِيدُ } ممن أظهر الإيمان لمحمد صلى الله عليه وسلم من أهل النفاق الذين يستبطنون الكفر وهم مع ذلك يظهرون الإيمان . { ثَوَابَ الدّنيْا } يعني : عرض الدنيا ، بإظهار ما أظهر من الإيمان بلسانه . { فَعِنْدَ اللّهِ ثَوَابُ الدّنيْا } يعني : جزاؤه في الدنيا منها وثوابه فيها ، هو ما يصيب من المغنم إذا شهد مع النبيّ مشهدا ، وأمنه على نفسه وذرّيته وماله ، وما أشبه ذلك . وأما ثوابه في الاَخرة فنار جهنم . فمعنى الاَية : من كان من العاملين في الدنيا من المنافقين يريد بعمله ثواب الدنيا وجزاءها من عمله ، فإن الله مجازيه جزاءه في الدنيا من الدنيا ، وجزاءه في الاَخرة من العقاب والنكال وذلك أن الله قادر على ذلك كله ، وهو مالك جميعه ، كما قال في الاَية الأخرى : { مَنْ كانَ يُرِيدُ الحَياةَ الدّنيْا وَزِينَتَها نُوَفّ إلَيْهِمْ أعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الاَخِرَة إلاّ النّارُ وَحبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ } . وإنما عنى بذلك جلّ ثناؤه الذين سعوا في أمر بني أبيرق ، والذين وصفهم في قوله : { وَلا تُجادِلْ عَنِ الّذِينَ يَخْتانُونَ أنْفُسَهُمْ إنّ اللّهَ لا يُحِبّ مَنْ كانَ خَوّانا أثِيما يَسْتَخْفُونَ مِنَ النّاس وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إذْ يُبَيّنُونَ ما لا يَرْضَى مِنَ القَوْل مِنَ القَوْلِ } ومن كان من نظرائهم في أفعالهم ونفاقهم .

وقوله : { كانَ اللّهُ سَمِيعا بَصِيرا } يعني : وكان الله سميعا لما يقول هؤلاء المنافقون الذين يريدون ثواب الدنيا بأعمالهم ، وإظهارهم للمؤمنين ما يظهرون لهم إذا لقوا المؤمنين وقولهم لهم آمنا . { بَصِيرا } : يعني : وكان ذا بصر بهم وبما هم عليه منطوون للمؤمنين فيما يكتمونه ولا يبدونه لهم من الغشّ والغلّ الذي في صدورهم .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ ٱلدُّنۡيَا فَعِندَ ٱللَّهِ ثَوَابُ ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ سَمِيعَۢا بَصِيرٗا} (134)

{ من كان يريد ثواب الدنيا } كالمجاهد يجاهد للغنيمة . { فعند الله ثواب الدنيا والآخرة } فما له يطلب أخسهما فليطلبهما كمن يقول : { ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة } ، أو ليطلب الأشرف منهما ، فإن من جاهد خالصا لله سبحانه وتعالى لم تخطئه الغنيمة وله في الآخرة ، ما هي في جنبه كلا شيء ، أو فعند الله ثواب الدارين فيعطي كلا ما يريده كقوله تعالى : { من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه } الآية { وكان الله سميعا بصيرا } عالما بالأغراض فيجازي كلا بحسب قصده .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ ٱلدُّنۡيَا فَعِندَ ٱللَّهِ ثَوَابُ ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ سَمِيعَۢا بَصِيرٗا} (134)

أي : من كان لا مراد له إلا في ثواب الدنيا ولا يعتقد أن ثم سواه ، فليس هو كما ظن ، بل عند الله تعالى ثواب الدارين ، فمن قصد الآخرة أعطاه الله من ثواب الدنيا وأعطاه قصده ، ومن قصد الدنيا فقط أعطاه من الدنيا ما قدر له وكان له في الآخرة العذاب ، والله تعالى «سميع » للأقوال ، «بصير » بالأعمال والنيات .