التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَٱللَّهُ فَضَّلَ بَعۡضَكُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖ فِي ٱلرِّزۡقِۚ فَمَا ٱلَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزۡقِهِمۡ عَلَىٰ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُهُمۡ فَهُمۡ فِيهِ سَوَآءٌۚ أَفَبِنِعۡمَةِ ٱللَّهِ يَجۡحَدُونَ} (71)

ثم انتقلت السورة الكريمة من الحديث عن خلق الإِنسان ، وتقلبه فى أطوار عمره ، إلى الحديث عن التفاوت بين الناس في أرزاقهم ، فقال - تعالى - : { والله فَضَّلَ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ فِي الرزق . . . } فجعل منكم الغني والفقير ، والمالك والمملوك ، والقوي والضعيف ، وغير ذلك من ألوان التفاوت بين الناس ، لحكمة هو يعلمها - سبحانه - .

ثم بين - سبحانه - موقف المفضلين في الرزق من غيرهم فقال : { فَمَا الذين فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ على مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ . . } ، أي : فليس الذين فضلهم الله - تعالى - في الرزق على غيرهم { برادي } ، أي : بمانحي وباذلي { رزقهم } ، الذي رزقهم الله إياه على مماليكهم ، أو خدمهم الذين هم إخوة لهم في الإنسانية . { فهم } ، أي : الأغنياء الذين فضلوا في الرزق ومماليكهم وخدمهم ، { فيه } ، أي : في هذا الرزق { سواء } ، من حيث إني أنا الرازق للجميع .

فالجملة الكريمة يجوز أن تكون دعوة من الله - تعالى - للذين فضلوا على غيرهم في الرزق ، بأن ينفقوا على مماليكهم وخدمهم ؛ لأن ما ينفقونه عليهم هو رزق أجراه الله للفقراء على أيدي الأغنياء . وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله عند تفسير الآية : أي : جعلكم متفاوتين في الرزق ، فرزقكم أفضل مما رزق مماليككم وهم بشر مثلكم ، وإخوانكم ، فكان ينبغي أن تردوا فضل ما رزقتموه عليهم ، حتى تتساووا في الملبس والمطعم ، " كما يحكى عن أبي ذر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إنما هم إخوانكم ، فاكسوهم مما تلبسون ، وأطعموهم مما تطعمون " . فما رؤي عبده بعد ذلك إلا ورداؤه رداؤه ، وإزاره إزاره ، من غير تفاوت " .

ويجوز أن تكون الآية الكريمة توبيخا للذين يشركون مع الله - تعالى - آلهة أخرى في العبادة . فيكون المعنى : لقد فضل الله - تعالى - بعضكم على بعض في الرزق - أيها الناس - ، ومع ذلك فالمشاهد الغالب بينهم ، أن الأغنياء لا يردون أموالهم على خدمهم وعبيدهم ، بحيث يتساوون معهم في الرزق ، وإذا ردوا عليهم شيئا ، فإنما هو شيء قليل يسير ، يدل على بخلهم وحرصهم . . مع أني أنا الرازق للجميع .

وإلى هذا المعنى أشار ابن كثير بقوله عند تفسيره للآية : " يبين - تعالى - للمشركين جهلهم وكفرهم فيما زعموه لله من شركاء ، وهم يعترفون بأنهم عبيد له ، كما كانوا يقولون في تلبيتهم في حجهم : لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك ، فقال - تعالى - منكرا عليهم : أنتم لاترضون أن تساووا عبيدكم فيما رزقناكم ، فكيف يرضى هو تعالى - بمساواة عبيد له في الإلهية والتعظيم ، كما قال - تعالى - في آية أخرى : { ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ . . } . وقال العوفي : عن ابن عباس في هذه الآية يقول : لم يكونوا ليشركوا عبيدهم في أموالهم ونسائهم ، فكيف يشركون معي عبيدي في سلطاني . . " .

وهذا المعنى الثاني هو الأقرب إلى سياق آيات السورة الكريمة ؛ لأن السورة الكريمة مكية ، ومن أهدافها الأساسية دعوة الناس إلى إخلاص العبادة لله - عز وجل - ، ونبذ الإِشراك والمشركين ، وإقامة الأدلة المتنوعة على بطلان كل عبادة لغير الله - تعالى - .

ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ } . والاستفهام هنا ؛ للتوبيخ والتقريع ، والفاء معطوفة على مقدر ، أي : أيشركون به - سبحانه - فيجحدون نعمه ، وينكرونها ، ويغمطونها حقها ، مع أنه - تعالى - هو الذي وهبهم هذه النعم ، وهو الذي منحهم ما منحهم من أرزاق ؟ ! ! .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَٱللَّهُ فَضَّلَ بَعۡضَكُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖ فِي ٱلرِّزۡقِۚ فَمَا ٱلَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزۡقِهِمۡ عَلَىٰ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُهُمۡ فَهُمۡ فِيهِ سَوَآءٌۚ أَفَبِنِعۡمَةِ ٱللَّهِ يَجۡحَدُونَ} (71)

يبين تعالى للمشركين جهلهم وكفرهم فيما زعموه{[16565]} لله من الشركاء ، وهم يعترفون{[16566]} أنها عبيد له ، كما كانوا يقولون في تلبياتهم في حجهم : " لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك " . فقال تعالى منكرا عليهم : إنكم{[16567]} لا ترضون أن تساووا عبيدكم فيما رزقناكم ، فكيف يرضى هو تعالى بمساواة عبيده له في الإلهية والتعظيم ، كما قال في الآية الأخرى : { ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ }{[16568]} الآية [ الروم : 28 ] .

قال العوفي ، عن ابن عباس في هذه الآية : يقول : لم يكونوا ليشركوا عبيدهم في أموالهم ونسائهم ، فكيف يشركون عبيدي معي في سلطاني ؟ ! ، فذلك قوله : { أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } .

وقال في الرواية الأخرى ، عنه : فكيف ترضون لي مالا ترضون{[16569]} لأنفسكم .

وقال مجاهد في هذه الآية : هذا مثل الآلهة الباطلة{[16570]} .

وقال قتادة : هذا مثل ضربه الله ، فهل منكم من أحد شارك{[16571]} مملوكه في زوجته وفي فراشه ، فتعدلون بالله خلقه وعباده ؟ فإن لم ترض لنفسك هذا ، فالله{[16572]} أحق أن ينزه منك .

وقوله : { أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } ، أي : أنهم جعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا ، فجحدوا نعمته{[16573]} ، وأشركوا معه غيره .

وعن الحسن البصري قال : كتب عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، هذه الرسالة إلى أبي موسى الأشعري : واقنع برزقك من الدنيا ، فإن الرحمن فَضَّل بعض عباده على بعض في الرزق ، بل{[16574]} يبتلي به كلا ، فيبتلي من بَسَط له ، كيف شُكره لله ، وأداؤه الحق الذي افترض عليه فيما رزقه وخوله ؟ رواه ابن أبي حاتم .


[16565]:في ت، ف: "يزعمون".
[16566]:في ت، ف، أ: "يعرفون".
[16567]:في ت، ف، أ: "أنتم".
[16568]:في ت: "فيما".
[16569]:في ت: "ترضوه".
[16570]:في ت، ف، أ: "الباطل".
[16571]:في ف: "يشارك".
[16572]:في ف: "فإن الله".
[16573]:في ف، أ: "بنعمة الله".
[16574]:في ت، ف، أ: "بلاء".