التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{إِنَّكَ لَا تَهۡدِي مَنۡ أَحۡبَبۡتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهۡدِي مَن يَشَآءُۚ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُهۡتَدِينَ} (56)

ثم بين - سبحانه - بعد ذلك أن الهداية منه وحده ، ورد على أقوال المشركين ، وبين سنة من سننه فى خلقه ، كما بين أن ما عنده - سبحانه - أفضل وأبقى من شهوات الدنيا وزينتها ؛ فقال - تعالى - : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي . . . } .

المعنى : { إِنَّكَ } - أيها الرسول الكريم - { لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } أي : لا تستطيع بقدرتك الخاصة أن تهدى إلى الإيمان من تريد هدايته إليه .

{ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ } أي : ولكن الله - تعالى - وحده هو الذى يملك هداية من يشاء هدايته إلى الإيمان ؛ فهو - سبحانه - الخالق لكل شىء ، وقلوب العباد تحت تصرفه - تعالى - يهدى من يشاء منها ويضل من يشاء ؛ على حسب مشيئته وحكمته التي تخفى على الناس .

{ وَهُوَ } - سبحانه - { أَعْلَمُ بالمهتدين } أي : بالقابلين للهداية المستعدين لها .

فبلّغ - أيها الرسول الكريم - ما كلفناك به ؛ ثم اترك بعد ذلك قلوب الناس إلى خالقهم ؛ فهو - سبحانه - الذي يصرفها كيف يشاء .

قال بعض العلماء : وإن الإنسان ليقف أمام هذا الخبر مأخوذا بصرامة هذا الدين واستقامته ؛ فهذا عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكافله وحاميه والذائد عنه لا يكتب الله له الإيمان ؛ على شدة حبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وشدة حب الرسول له أن يؤمن . ذلك أنه إنما قصد إلى عصبية القرابة وحب الأبوة ؛ ولم يقصد إلى العقيدة . وقد علم الله منه ذلك فلم يقدر له ما كان يحبه له صلى الله عليه وسلم ويرجوه ؛ فأخرج هذا الأمر - أي الهداية - من خاصة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وجعله خاصا بإرادته - سبحانه - وتقديره . وما على الرسول إلا البلاغ ، وما على الداعين بعده إلا النصيحة . والقلوب بعد ذلك بين أصابع الرحمن والهدى والضلال وفق ما يعلمه من قلوب العباد ، واستعدادهم للهدى والضلال .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{إِنَّكَ لَا تَهۡدِي مَنۡ أَحۡبَبۡتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهۡدِي مَن يَشَآءُۚ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُهۡتَدِينَ} (56)

يقول تعالى لرسوله- صلوات الله وسلامه عليه- : إنك يا محمد { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } أي : ليس إليك ذلك ؛ إنما عليك البلاغ ، والله يهدي من يشاء ، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة ؛ كما قال تعالى : { ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء } [ البقرة : 272 ] ، وقال : { وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [ يوسف : 103 ] .

وهذه الآية أخص من هذا كله ؛ فإنه قال : { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } أي : هو أعلم بِمَنْ يستحق الهداية بِمَنْ يستحق الغِوَاية . وقد ثبت في الصحيحين أنها نزلت في أبي طالب عَمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وقد كان يَحوطُه وينصره ، ويقوم في صفه ، ويحبه حبًّا [ شديدا ]{[22361]} طبعيًّا لا شرعيًّا . فلما حضرته الوفاة وحان أجله ، دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان والدخول في الإسلام ، فسبق القدر فيه ، واختطف من يده ، فاستمر على ما كان عليه من الكفر . ولله الحكمة{[22362]} التامة .

قال الزهري : حدثني سعيد بن المسَيَّب عن أبيه - وهو المسيب بن حَزْن المخزومي رضي الله عنه - قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوجد عنده أبا جهل بن هشام ، وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا عم ؛ قل : لا إله إلا الله ؛ كلمة أشهد لك بها عند الله " . فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : يا أبا طالب ؛ أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ، ويعودان له بتلك المقالة ، حتى قال آخر ما قال : هو على ملة عبد المطلب . وأبى أن يقول : لا إله إلا الله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما لأستغفرن لك ما لم أنه عنك " . فأنزل الله عز وجل : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى } [ التوبة : 113 ] ، وأنزل في أبي طالب : { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } .

أخرجاه{[22363]} من حديث الزهري{[22364]} . وهكذا رواه{[22365]} مسلم في صحيحه ، والترمذي ، من حديث يزيد بن كَيْسَان ، عن أبي حازم ، عن أبي هُرَيْرَةَ قال : لما حَضَرَتْ وفاةُ أبي طالب أتاه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يا عماه ؛ قل : لا إله إلا الله ، أشهد لك بها يوم القيامة " . فقال : لولا أن تُعَيّرني{[22366]} بها قريش ، يقولون : ما حمله عليه إلا جَزَع الموت ، لأقرَرْتُ بها عينَك ؛ لا أقولها إلا لأقرَّ بها عينك . فأنزل الله : { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } . وقال الترمذي : حسن غريب{[22367]} ، لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن كيسان{[22368]} .

ورواه الإمام أحمد ، عن يحيى بن سعيد القَطَّان ، عن يزيد بن كيسان ، حدثني أبو حازم ، عن أبي هريرة ، فذكره بنحوه{[22369]} .

وهكذا قال ابن عباس ، وابن عمر ، ومجاهد ، والشعبي ، وقتادة : إنها نزلت في أبي طالب حين عَرَضَ عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يقول : " لا إله إلا الله " فأبى عليه ذلك ، وقال :{[22370]} أيْ ابن أخي ، ملةَ الأشياخ . وكان آخر ما قال : هو على ملة عبد المطلب .

وقال{[22371]} ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو سلمة ، حدثنا حماد بن سلمة ، حدثنا عبد الله بن عثمان بن خُثَيْم{[22372]} ، عن سعيد بن أبي راشد قال : كان رسول قيصر جاء{[22373]} إليَّ قال : كتب معي قيصر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابًا ، فأتيته فدفعت الكتاب ، فوضعه في حجره ، ثم قال : " مِمَّنْ الرجل ؟ " قلت : من تنوخ{[22374]} . قال : " هل لك في دين أبيك إبراهيم ؛ الحنيفية ؟ " قلت : إني رسول قوم ، وعلى دينهم حتى أرجع إليهم . فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ونظر إلى أصحابه وقال{[22375]} : { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ }{[22376]} .


[22361]:- زيادة من ت ، ف ، أ.
[22362]:- في أ : "الحجة".
[22363]:- في ت : "البخاري ومسلم".
[22364]:- صحيح البخاري برقم (1360) وصحيح مسلم برقم (24).
[22365]:- في ت : "وروى".
[22366]:- في ف : "يعيرني".
[22367]:- في ت : "رواه الترمذي وقال : حسن صحيح".
[22368]:- صحيح مسلم رقم (25) وسنن الترمذي برقم (3188).
[22369]:- المسند (2/434).
[22370]:- في أ : "وكان".
[22371]:- في ت : "وروى".
[22372]:- في ت : "بإسناده".
[22373]:- في أ : "جارا".
[22374]:- في هـ : "تيرح" والمثبت من ف ، أ.
[22375]:- في ت ، ف ، أ : "فقال".
[22376]:- رواه أحمد في المسند (3/441) من طريق حماد بن سلمة بنحوه.