ثم حذرهم - سبحانه - من أهوال يوم القيامة فقال - تعالى - : { يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الجمع ذَلِكَ يَوْمُ التغابن } .
والظرف { يَوْمَ } متعلق بقوله - تعالى - قبل ذلك : { ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ } .
والمراد بيوم الجمع : يوم القيامة سمى بذلك لأنه اليوم الذى يجتمع فيه الأولون والآخرون ؟ فى مكان واحد للحساب والجزاء .
وسمى - أيضا بيوم التغابن ، لأنه اليوم الذى يغبن فيه أهل الحق أهل الباطل .
والتغابن تفاعل من الغبن بمعنى الخسران والنقص ، يقال غبن فلان فلانا إذا بخسه حقه ، بأن أخذ منه سلعة بثمن أقل من ثمنها المعتاد ، وأكثر ما يستعمل الغبن فى البيع والشراء ، وفعله من باب ضرب ، ويطلق الغبن على مطلق الخسران أى : قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء الجاحدين للبعث : لتبعثن يوم القيامة ثم لتنبؤن بما عملتم يوم القيامة يوم يجتمع الخلائق للحساب فيغبن فيه أهل الحق أهل الباطل ، ويغبن فيه المؤمنون الكافرين ، لأن أهل الإيمان ظفروا بالجنة ، وبالمقاعد التى كان سيظفر بها الكافرون لو أنهم آمنوا ، ولكن الكافرين استمروا على كفرهم فخسروا مقاعدهم فى الجنة ، ففاز بها المؤمنون .
قال القرطبى : { يَوْمُ التغابن } أى : يوم القيامة . . وسمى يوم القيامة بيوم التغابن ، لأنه غبن أهلُ الجنة أهلَ النار .
أى : أن أهل اجنة أخذوا الجنة ، وأهل النار أخذوا النار على طريق المبادلة فوقع الغبن على الكافرين لأجل مبادلتهم الخير بالشر ، والنعيم بالعذاب .
يقال : عبنت فلانا ، إذا بايعَته أو ساريتَه ، فكان النقص عليه ، والغلبة لك .
فإن قيل : فأى معاملة وقعت بينهما حتى يقع الغبن فيها ؟ قيل له : هو تمثيل الغبن فى الشراء والبيع .
وقال الآلوسى ما ملخصه : { ذَلِكَ يَوْمُ التغابن } أى يومُ غبنَ فيه أهل الجنة أهل النار ، فالتفاعلل ليس على ظاهره ، كما فى التواضع والتحامل لوقوعه من جانب واحد ، واختير للمبالغة .
وقد ورد هذا التفسير عن ابن عباس ومجاهد وقتادة . واختاره الواحدى .
وقال غير واحد : { ذَلِكَ يَوْمُ التغابن } أى : اليوم الذى غبن فيه بعض الناس بعضا ، بنزول السعداء منازل الأشقياء لو كانوا سعداء ، وبالعكس ففى الحديث الصحيح : " ما من عبد يدخل الجنة إلا أُرِى مقعده من النار - لو أساء - ليزداد شكرا ، وما من عبد يدخل النار إلا أرى مقعده من الجنة - لو أحسن ليزداد حسرة - " وهو مستعار من تغابن القوم فى التجارة ، وفيه تهكم بالأشقياء لأنهم لا يغبنون حقيقة السعداء ، بنزولهم فى منازلهم من النار .
ثم فصل - سبحانه - أحوال الناس فى هذا اليوم الهائل الشديد فقال ؛ { وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } .
أى : ومن يؤمن بالله - تعالى - إيمانا حقا ، ويعمل عملا صالحا ، يكفر الله - تعالى - عنه سيئاته التى عملها فى الدنيا بأن يزيلها من صحيفة علمه - فضلا منه - تعالى - وكرما - وفوق ذلك يدخله بفضله وإحسانه جنات تجرى من تحت ثمارها الأنهار { خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } أى : خلودا أبديا .
{ ذَلِكَ } الذى ذكرناه لكم من تكفير السيئات ، ومن دخول الجنات . . . هو { الفوز العظيم } الذى لا فوز يقاربه أو يدانيه .
وبعد هذه الدعوة يعود إلى استكمال مشهد البعث الذي أكده لهم أوثق توكيد :
( يوم يجمعكم ليوم الجمع : ذلك يوم التغابن ) . .
فأما أنه يوم الجمع فلأن جميع الخلائق في جميع الأجيال تبعث فيه ، كما يحضره الملائكة وعددهم لا يعلمه إلا الله . ولكن قد يقربه إلى التصور ما جاء في حديث رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] - عن أبي ذر رضي الله عنه - قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " إني أرى ما لا ترون ، وأسمع ما لا تسمعون . أطت السماء وحق لها أن تيط ، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وفيه ملك واضع جبهته لله تعالى ساجدا . والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ، ولبكيتم كثيرا ، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش ، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى . لوددت أني شجرة تعضد " . .
والسماء التي ليس فيها موضع أربع أصابع إلا وفيه ملك . هي هذا الاتساع الهائل الذي لا يعرف له البشر حدودا . والذي تبدو فيه شمس كشمسنا ذرة كالهباءة الطائرة في الفضاء ! فهل هذا يقرب شيئا للتصور البشري عن عدد الملائكة ? إنهم من بين الجمع في يوم الجمع !
وفي مشهد من هذا الجمع يكون التغابن ! والتغابن مفاعلة من الغبن . وهو تصوير لما يقع من فوز المؤمنين بالنعيم ؛ وحرمان الكافرين من كل شيء منه ثم صيرورتهم إلى الجحيم . فهما نصيبان متباعدان . وكأنما كان هناك سباق للفوز بكل شيء ، وليغبن كل فريق مسابقه ! ففاز فيه المؤمنون وهزم فيه الكافرون ! فهو تغابن بهذا المعنى المصور المتحرك ! يفسره ما بعده :
( ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا . ذلك الفوز العظيم . والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير ) . .
والعامل في قوله { يوم يجمعكم } يحتمل أن تكون { لتنبؤن } [ التغابن : 7 ] ، ويحتمل أن تكون { خبير } ، وهو تعالى خبير في كل يوم ، ولكن يخص ذلك اليوم ، لأنه يوم تضرهم فيه خبرة الله تعالى بأمورهم ، وقرأ جمهور السبعة : «يجمعُكم » بضم العين ، وقرأ أبو عمر بسكونها ، وروي عنه أنه أشمها الضم وهذا على جواز تسكين الحركة وإن كانت لإعراب ، كما قال جرير :
فلم تعرفكم العرب . . . . . {[11139]}
وقرأ سلام ويعقوب : «نجمعُكم » بالنون وضم العين ، و : { يوم الجمع } هو يوم القيامة ، وهو { يوم التغابن } ، وذلك أن كل واحد ينبعث من قبره وهو يرجو حظاً ومنزلة ، فإذا وقع الجزاء غبن المؤمنون الكافرين لأنهم يحوزون الجنة ويحصل الكفار في النار ، نحا هذا المنحى مجاهد وغيره ، وليس هذا الفعل من التغابن من اثنين ، بل كتواضع وتحامل{[11140]} .
وقرأ نافع وابن عامر والمفضل عن عاصم : «نكفر عنه » بنون وكذلك : «ندخله » ، وهي قراءة الأعرج وأبي جعفر وشيبة والحسن بخلاف وطلحة ، وقرأ الباقون{[11141]} والأعمش وعيسى والحسن في الموضعين بالياء على معنى يكفر الله ، والأول هو نون العظمة
{ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ الجمع } .
متعلقٌ بفعل { لتنبؤن بما عملتم } [ التغابن : 7 ] الذي هو كناية عن « تُجَازوْنَ » على تكذيبكم بالبعث فيكون من تمام ما أُمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقوله لهم ابتداء من قوله تعالى : { قل بلى وربي لتبعثن } [ التغابن : 7 ] .
والضمير المستتر في { يجمعكم } عائد إلى اسم الجلالة في قوله : { والله بما تعملون خبير } [ التغابن : 8 ] .
ومعنى { يجمعكم } يجمع المخاطبين والأمم من الناس كلهم ، قال تعالى : { هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين } [ المرسلات : 38 ] .
ويجوز أن يراد الجمع الذي في قوله تعالى : { أيحسب الإِنسان أن لن نجمع عظامه } [ القيامة : 3 ] ، وهذا زيادة تحقيق للبعث الذي أنكروه .
واللام في { ليوم الجمع } يجوز أن يكون للتعليل ، أي يجمعكم لأجل اليوم المعروف بالجمع المخصوص . وهو الذي لأجل جمع الناس ، أي يبعثكم لأجل أن يجمع الناس كلهم للحساب ، فمعنى { الجمع } هذا غيرُ معنى الذي في { يجمعكم } . فليس هذا من تعليل الشيء بنفسه بل هو من قبيل التجنيس .
ويجوز أن يكون اللام بمعنى ( في ) على نحو ما قيل في قوله تعالى : { لا يجليها لوقتها إلا هو } [ الأعراف : 187 ] ، وقوله : { يا ليتني قدمت لحياتي } [ الفجر : 24 ] وقول العرب : مضى لسبيله ، أي في طريقه وهو طريق الموت .
والأحسن عندي أن يكون اللام للتوقيت ، وهي التي بمعنى ( عند ) كالتي في قولهم : كُتب لكَذا مَضِينَ مثلاً ، وقوله تعالى : { أقم الصلاة لدلوك الشمس } [ الإسراء : 78 ] . وهو استعمال يدل على شدة الاقتراب ولذلك فسروه بمعنى ( عند ) ، ويفيد هنا : أنهم مجموعون في الأجل المعين دون تأخير ردّاً على قولهم : { لن يبعثوا } [ التغابن : 7 ] ، فيتعلق قوله : { ليوم الجمع } بفعل { يجمعكم } .
ف« يوم الجمع » هو يوم الحشر . وفي الحديث " يجمع الله الأولين والآخرين " الخ . جعل هذا المركب الإِضافي لقباً ليوم الحشر ، قال تعالى : { وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير } [ الشورى : 7 ] .
وقرأ الجمهور { يجمعكم } بياء الغائب . وقرأه يعقوب بنون العظمة .
اعتراض بين جملة { ثم لتنبؤن بما عملتم } [ التغابن : 7 ] بمتعلقها وبين جملة { ومن يؤمن بالله ويعمل صالحاً نكفر عنه سيئاته } اعتراضاً يفيد تهويل هذا اليوم تعريضاً بوعيد المشركين بالخسارة في ذلك اليوم : أي بسوء المنقلب .
والإِتيان باسم الإِشارة في مقام الضمير لقصد الاهتمام بهذا اليوم بتمييزه أكمل تمييز مع ما يفيده اسم إشارة البعيد من علوّ المرتبة على نحو ما تقدم في قوله : { ذلك الكتاب } في سورة [ البقرة : 2 ] .
و{ التغابن } : مصدر غابَنه من باب المفاعلة الدالة على حصول الفعل من جانبين أو أكثر .
وحقيقة صيغة المفاعلة أن تدل على حصول الفعل الواحد من فاعلين فأكثر على وجه المشاركة في ذلك الفعل .
والغبن أن يعطى البائع ثمَناً لمبيعه دون حَقِّ قيمته التي يعوَّض بها مثلُه .
فالغبن يؤول إلى خسارة البائع في بيعه ، فلذلك يطلق الغبن على مطلق الخسران مجازاً مرسلاً كما في قول الأعشى :
لا يقبَلُ الرَشْوَة في حُكمه *** ولا يبالي غَبن الخَاسر
فليست مادة التغابن في قوله : { يوم التغابن } مستعملة في حقيقتها إذ لا تعارض حتى يكون فيه غبن بل هو مستعمل في معنى الخسران على وجه المجاز المرسل .
وأما صيغة التفاعل فحملها جمهور المفسرين على حقيقتها من حصول الفعل من جانبين ففسروها بأن أهل الجنة غبنوا أهل النار إذ أهل الجنة أخذوا الجنة وأهل جهنم أخذوا جهنم قاله مجاهد وقتادة والحسن . فحمل القرطبي وغيره كلام هؤلاء الأيمة على أن التغابن تمثيل لحال الفريقين بحال مُتَبايَعَيْن أخذ أحدهما الثمن الوافيَ ، وأخذ الآخر الثمنَ المغبون ، يعني وقوله عقبه { ومن يؤمن بالله ويعمل صالحاً نكفر عنه سيئاته } ، إلى قوله : { وبئس المصير } قرينة على المراد من الجانبين وعلى كلا المعنيين يكون قوله : { ومن يؤمن بالله ويعمل صالحاً } إلى قوله : { وبئس المصير } تفصيلاً للفريقين ، فيكون في الآية مجاز وتشبيه وتمثيل ، فالمجاز في مادة الغبن ، والتمثيل في صيغة التغابن ، وهو تشبيه مركب بمنزلة التشبيه البليغ إذ التقدير : ذلك يوم مِثْل التغَابن .
وحمل قليل من المفسرين ( وهو ما فسر إليه كلام الراغب في مفرداته ) وصرح ابن عطية صيغَة التفاعل على معنى الكثرة وشدة الفعل ( كما في قولنا : عافاك الله وتبارك الله ) فتكون استعارة ، أي خسارة للكافرين إذ هم مناط الإِنذار . وهذا في معنى قوله تعالى : { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم } في سورة [ البقرة : 16 ] ، وقوله : { يأيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم } الآية في سورة [ الصف : 10 ] .
فصيغة التفاعل مستعملة مجازاً في كثرة حصول الغبن تشبيهاً للكثرة بفعل من يحصل من متعدد .
والكلام تهديد للمشركين بسوء حالتهم في يوم الجمع ، إذ المعنى : ذلك يوم غبنكم الكثير الشديد بقرينة قوله قبله { فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا } [ التغابن : 8 ] . والغابن لهم هو الله تعالى .
ولولا قصد ذلك لما اقتصر على أن ذلك يوم تغابن فإن فيه ربحاً عظيماً للمؤمنين بالله ورسوله والقرآن ، فوزان هذا القصر وزان قوله : { فما ربحت تجارتهم } [ البقرة : 16 ] وقول النبي صلى الله عليه وسلم{[426]}
« إنما المُفلس الذي يفلس يوم القيامة » .
وأفاد تعريف جزأي جملة { ذلك يوم التغابن } قصرَ المسند على المسند إليه أي قصر جنس يوم التغابن على يوم الجمعة المشار إليه باسم الإِشارة ، وهو من قبيل قصر الصفة على الموصوف قصراً ادعائياً ، أي ذلك يوم الغبن لا أيام أسواقكم ولا غيرُها ، فإن عدم أهمية غبن الناس في الدنيا جعل غبن الدنيا كالعدم وجعل يوم القيامة منحصراً فيه جنس الغبن .
وأما لام التعريف في قوله : { التغابن } فهي لام الجنس ، ومن هذا المعنى قوله تعالى : { قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة }
[ الزمر : 15 ] . وقوله في ضده { يرجون تجارة لن تبور } [ فاطر : 29 ] . هذا هو المتعين في تفسير هذه الآية وأكثر المفسرين مرّ بها مَرّاً . ولم يحتلب منها دَرّاً . وها أنا ذَا كددت ثمادي ، فعَسَى أن يقع للناظر كوقْع القراححِ من الصادي ، والله الهادي .
{ ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا نكفر عنه سيئاته وندخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم } .
معطوفة على جملة { فآمنوا بالله ورسوله } معطوفة على جملة { فآمنوا بالله ورسوله } [ التغابن : 8 ] وهو تفصيل لما أجمل في قوله : { والله بما تعملون خبير } [ التغابن : 8 ] الذي هو تذييل .
و { مَن } شرطية والفعل بعدها مستقبل ، أي من يؤمن من المشركين بعد هذه الموعظة نكفر عنه ما فرط من سيئاته .
والمراد بالسيئات : الكفر وما سبقه من الأعمال الفاسدة .
وتكفير السيئات : العفو عن المؤاخذة بها وهو مصدر كفّر مبالغة في كفَر . وغلب استعماله في العفو عما سلف من السيّئات وأصله : استعارة الستر للإِزالة مثل الغفران أيضاً .
وانتصب { صالحاً } على الصفة لمصدر وهو مفعول مطلق محذوف تقديره : عملاً صالحاً .
وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر { نكفر } و { ندخله } بنون العظمة على الالتفات من الغيبة إلى التكلم لأن مقام الوعد مقام إقبال فناسبه ضمير التكلم .
وقرأهما الباقون بياء الغيبة على مقتضى الظاهر لأن ضمير الجلالة يؤذن بعناية الله بهذا الفريق . وجملة { ذلك الفوز العظيم } تذييل .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يوم يجمعكم ليوم الجمع} يعني جمع أهل السماوات وجمع أهل الأرض {ذلك يوم التغابن} يعني أهل الهدى تغبن أهل الضلالة، فلا غبن أعظم منه فريق في الجنة، وفريق في السعير، {ومن يؤمن بالله} أنه واحد لا شريك له {ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا} لا يموتون و {ذلك} الثواب الذي ذكر الله تعالى هو {الفوز العظيم}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: والله بما تعملون خبير" يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الجِمْعِ "الخلائق للعرض. "ذلكَ يَوْمَ التّغابُنِ" يقول: الجمع يوم غَبْن أهلِ الجنة أهلَ النار...
وقوله: "وَمَنْ يُؤمِنْ باللّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحا" يقول تعالى ذكره: ومن يصدّق بالله ويعمل بطاعته، وينته إلى أمره ونهيه "يُكَفّرْ عَنْهُ سَيّئاتِهِ" يقول: يمح عنه ذنوبه "وَيُدْخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْري مِنْ تَحْتِها الأنهارُ" يقول: ويُدخله بساتين تجري من تحت أشجارها الأنهار.
وقوله: "خالِدينَ فِيها أبَدا" يقول: لابثين فيها أبدا، لا يموتون، ولا يخرجون منها.
وقوله: "ذلكَ الفَوْزُ العَظِيمُ" يقول: خلودهم في الجنات التي وصفنا النجاء العظيم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
التغابن عندنا يجوز أن يكون معناه أن أهل الكفر يغبنون في أهلهم وأموالهم في الآخرة، لأنهم كانوا يتعاونون بهم في الدنيا، فحسبوا أنهم يكونون كذلك في الآخرة، فإذا لم يجدوا، وصار بعضهم يلعن بعضا، غبنوا ما كانوا يأملون منهم...
ويحتمل أنه إنما سماه يوم التغابن لأن الدنيا جعلت أسواقا، والأحوال التي تكون لهم رؤوس الأموال، والأعمال التي يعملون فيها، ويكتسبون، تجارة... فإذا كانت الدنيا متجرة، والآخرة هي التي تقسم فيها الأرباح، ففي ذلك يقع الربح والخسران، ويظهر الغبن والفضل والنقصان والزيادة، والله أعلم. وسماه يوم التغابن لما يظهر لهم في ذلك أنهم خسروا، أو ربحوا، فلا يظهر لهم ذلك في الدنيا. ثم بين العمل الذي يربح عليه والعمل الذي يخسر به والتجارة التي يوصل بها إلى الأرباح والتي يلحق بها الخسران، وهو ما قال: {ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار} الآية، وقال: {والذين كفرا وكذبوا بآياتنا} الآية [التغابن: 10]...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} وهو تفاعل من الغبن وهو فوت الحظ والمراد، وقد ورد في تفسير التغابن عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ما أخبرنا الحسن بن محمّد قال: حدّثنا موسى بن محمد بن علي قال: حدّثنا عبد اللّه بن محمد بن سنان قال: حدّثنا كثير بن يحيى قال: حدّثنا أَبُو آمنة بن معلّى الثقفي قال: حدّثنا سعيد بن أبي سعيد المنقري عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: "ما من عبد مؤمن يدخل الجنّة إلاّ أُري مقعده من النّار لو أساء ليزداد شكراً، وما من عبد يدخل النّار إلاّ أُري مقعده من الجنّة لو أحسن ليزداد حسرة". قال المفسّرون: من غبن أهله منازله في الجنّة فيظهر يومئذ غبن كلّ كافر ببركة الإيمان، وغبن كلّ مؤمن بتقصيره في الإحسان وتضييعه الأيّام...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
(ذلك يوم التغابن) والتغابن هو التفاوت في أخذ الشيء بدون القيمة، والذين أخذوا الدنيا بالآخرة بهذه الصفة في أنهم أخذوا الشيء بدون القيمة، فقد غبنوا أنفسهم بأخذ النعيم المنقطع بالدائم وأغبنهم الذين اشتروا الآخرة بترك الدنيا المنقطع إليها من هؤلاء الذين تغابنوا عليها... (ذلك الفوز العظيم) أي النجاح الذي ليس وراءه شيء من عظمه...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
المطيعُ – يومئذٍ ِ- في غبن لأنه لم يستكثر من الطاعة، والعاصي في غبن لأنه استكثر من الزلَّة...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
التغابن: مستعار من تغابن القوم في التجارة؛ وهو أن يغبن بعضهم بعضاً، لنزول السعداء منازل الأشقياء التي كانوا ينزلونها لو كانوا سعداء، ونزول الأشقياء منازل السعداء التي كانوا ينزلونها لو كانوا أشقياء. وفيه تهكم بالأشقياء؛ لأنّ نزولهم ليس بغبن...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
المسألة الْأُولَى: قَالَ عُلَمَاءُ التَّفْسِيرِ: إنَّ الْمُرَادَ بِهِ غَبْنُ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَهْلَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. الْمَعْنَى أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ أَخَذُوا الْجَنَّةَ، وَأَخَذَ أَهْلُ النَّارِ النَّارَ عَلَى طَرِيقِ الْمُبَادَلَةِ، فَوَقَعَ الْغَبْنُ، لِأَجْلِ مُبَادَلَتِهِم الْخَيْرَ بِالشَّرِّ، وَالْجَيِّدَ بِالرَّدِيءِ، وَالنَّعِيمَ بِالْعَذَابِ، عَلَى مَنْ أَخَذَ الْأَشَدَّ وَحَصَلَ عَلَى الْأَدْنَى. فَإِنْ قِيلَ: فَأَيُّ مُعَامَلَةٍ وَقَعَتْ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَقَعَ الْغَبْنُ فِيهَا؟ قُلْنَا وَهِيَ:
المسألة الثَّانِيَةُ: إنَّمَا هَذَا مَثَلٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ الْخَلْقَ مُنْقَسِمِينَ عَلَى دَارَيْنِ: دُنْيَا، وَآخِرَةٍ...
فَرِيقٌ لِلْجَنَّةِ، وَفَرِيقٌ لِلنَّارِ، وَمَنَازِلُ الْكُلِّ مَوْضُوعَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَالنَّارِ؛ فَإِنْ سَبَقَ التَّوْفِيقُ حَصَلَ الْعَبْدُ من أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَكَانَ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنْ سَبَقَ الْخِذْلَانُ عَلَى الْعَبْدِ الْآخَرِ فَيَكُونُ من أَهْلِ النَّارِ، فَيَحْصُلُ الْمُوَفَّقُ عَلَى مَنْزِلِ الْمَخْذُولِ، وَيَحْصُلُ لِلْمَخْذُولِ مَنْزِلُ الْمُوَفَّقِ فِي النَّارِ، فَكَأَنَّهُ وَقَعَ التَّبَادُلُ، فَحَصَلَ التَّغَابُنُ. وَالْأَمْثَالُ مَوْضُوعَةٌ لِلْبَيَانِ فِي حُكْمِ الْقُرْآنِ وَاللُّغَةِ؛ وَذَلِكَ كُلُّهُ مَجْمُوعٌ من نَشْرِ الْآثَارِ. وَقَدْ جَاءَتْ مُتَفَرِّقَةً فِي هَذَا الْكِتَابِ وَغَيْرِهِ...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ} الذي يجمع فيه الناس ليوم الفصل، {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} الذي يفكر فيه كل فرد بأن الفرصة التي منحها الله له في الدنيا، في ما أعطاه من عمر وهيّأه له من إمكاناتٍ، كانت تحمل في داخلها الكثير مما كان يمكنه الحصول على نتائجه في الآخرة، بالمستوى الذي يعتبر فيه نفسه مغبوناً، إذا قارنها بالنتائج الحاضرة التي حصل عليها الآن، سواء أكانت نتائج إيجابية لأنه كان قادراً على أن يحصل على الأفضل منها، أم كانت نتائج سلبية لأنه كان متمكناً من الحصول على النتائج الإيجابية بدرجاتها المتفاوتة، فتكون المسألة أن الجميع لم يقدّروا الفرصة التي فاتت حق قدرها، تماماً كمن باع سلعته بأقل من ثمنها، حيث يعتبر مغبوناً. وفسره البعض بأن اعتبر التغابن بين أهل الضلال: متبوعيهم وتابعيهم، فالمتبوعون وهم المستكبرون يغبنون تابعيهم وهم الضعفاء، حيث يأمرونهم بأخذ الدنيا وترك الآخرة، فيضلون، والتابعون يغبنون المتبوعين حيث يعينونهم في استكبارهم باتباعهم فيضلون، فكل من الفريقين غابن لغيره ومغبون من غيره.
ولعل الأساس في هذا الوجه هو ملاحظة صيغة التفاعل في كلمة التغابن، ولكن الظاهر أنها لم ترد بهذا المعنى، لأن الظاهر أنّ المخاطب به كل فردٍ ممن يجمعهم الله، حيث يواجه الناس مواقعهم في يوم القيامة، فيحس كل إنسان بأنه مغبون في ما حصل عليه، لأن من الممكن أن يكون حظه أكبر...
{وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ} على أساس القاعدة الشرعية القرآنية: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السيِّئَاتِ} [هود: 114]، فيرفع الله عن الإنسان سيئاته ببركة حسناته، {وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً} وهو الجزاء الكبير على استقامته في خط الإيمان والعمل الصالح. {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} الذي يمثّل العنوان الكبير للنتيجة الطيبة التي يحصل عليها المؤمنون الصالحون، في مواجهة الخسارة التي تحصل للكافرين،