ثم بين - سبحانه - قدرته على تعذيبهم تهديدا لهم حتى يخشوا بأسه أثر بيان قدرته على تنجيتهم فقال - تعالى - : { قُلْ هُوَ . . . } .
المعنى : قل يا محمد لهؤلاء الجاحدين ، إن الله - تعالى - وحده هو القادر على أن يرسل عليكم عذابا عظيما من فوقكم أى : من جهة العلو كما أرسل على قوم لوط وعلى أصحاب الفيل الحجارة ، أو من تحت أرجلكم أى من السفل كما حدث بالنسبة لفرعون وجنده من الغرق ، وبالنسبة لقارون حيث خسف به الأرض .
وقيل : من فوقكم أى من قبل سلاطينكم وأكابركم ، ومن تحت أرجلكم أى : من قبل سفلتكم وعبيدكم . وقيل : هو حبس المطر والنبات .
وتصوير العذاب بأنه آت من أعلى أو من أسفل أشد وقعا فى النفس من تصويره بأنه آت من جهة اليمين أو من جهة الشمال ، لأن الآتى من هاتين الجهتين قد يتوهم دفعه ، أما الآتى من أعلى أو من أسفل فهو عذاب قاهر مزلزل لا مقاومة له ولا ثبات معه .
وقوله { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً } أى : يخلطكم فرقا مختلفة الأهواء ، متباينة المشارب ، مضطربة الشئون ، كل فرقة تتبع إماما لها تقاتل معه غيرها ، فيزول الأمن ويعم الفساد .
و { شِيَعاً } جمع شيعة وهم الأتباع والأنصار ، وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة ، وقوله { وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } معطوف على ما قبله ، أى : يسلط بعضكم على بعض بالعذاب والقتل ، لأن من عواقب ذلك اللبس التقاتل والتصارع . وفى هاتين الجملتين تصوير مؤثر للعذاب الذى يذوقه الناس بحواسهم إذ يجعلهم - سبحانه - شيعا وأحزابا غير منعزل بعضها عن بعض ، فهى أبدا فى جدال وصراع وفى خصومة ونزاع ، وفى بلاء يصبه هذا الفريق على ذاك ، وذلك أشنع ما تصاب به الجماعة فيأكل بعضها بعضا .
ثم تختم الآية بهذا التعبير الحكيم { انظر كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيات لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ } .
أى : انظر وتدبر - أيها الرسول الكريم - أو أيها العاقل كيف ننوع الآيات والعبر والعظات بالترغيب تارة وبالترهيب أخرى لعلهم يفقهون الحق ويدركون حقيقة الأمر ، فينصرفوا عن الجحود والمكابرة ، ويكفوا عن كفرهم وعنادهم .
هذا ، وقد ساق ابن كثير عقب تفسير هذه الآية جملة من الأحاديث منها ما رواه الإمام مسلم عن سعد بن أبى وقاص أنه أقبل مع النبى صلى الله عليه وسلم ذات يوم من العالية ، حتى إذا مر بمسجد بنى معاوية دخل فركع فيه ركعتين وصلينا معه . ودعا ربه طويلا ثم انصرف إلينا فقال : سألت ربى ثلاثا فأعطانى ثنتين ومنعنى واحدة . سألت ربى أن لا يهلك أمتى بالسَّنة فأعطانيها ، وسألته أن لا يهلك أمتى بالغرق فأعطانيها ، وسألت ربى أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها " .
بعد هذا التهديد الشديد للمعاندين اتجه القرآن إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فأمره أن يصارح قومه بسوء مصيرهم إذا ما استمروا فى ضلالهم فقال :
وهنا يواجههم ببأس الله الذي قد يأخذهم بعد النجاة ! فما هي مرة وتنتهي ، ثم يفلتون من القبضة كما يتصورون :
( قل : هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم ، أو من تحت أرجلكم ، أو يلبسكم شيعا ، ويذيق بعضكم بأس بعض . انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون ) . .
وتصور العذاب الغامر من فوق ، أو النابع من تحت ، أشد وقعا في النفس من تصوره آتيا عن يمين أو شمال . فالوهم قد يخيل للإنسان أنه قد يقدر على دفع العذاب من يمين أو شمال ! أما العذاب الذي يصب عليه من فوق ، أو يأخذه من تحت ، فهو عذاب غامر قاهر مزلزل ، لا مقاومة له ولا ثبات معه ! والتعبير الموحي يتضمن هذا المؤثر القوي في حس الإنسان ووهمه ، وهو يقرر حقيقة قدرة الله على أخذ العباد بالعذاب من حيث شاء وكيف شاء .
ويضيف إلى ألوان العذاب الداخلة في قدرة الله ؛ والتي قد يأخذ العباد بها متى شاء ؛ لونا آخر بطيئا طويلا ؛ لا ينهي أمرهم كله في لحظة ولكنه يصاحبهم ويساكنهم ويعايشهم بالليل والنهار :
( أو يلبسكم شيعا ، ويذيق بعضكم بأس بعض ) . .
وهي صورة من العذاب المقيم الطويل المديد ؛ الذي يذوقونه بأيديهم ، ويجرعونه لأنفسهم ؛ إذ يجعلهم شيعا وأحزابا ، متداخلة لا يتميز بعضها عن بعض ، ولا يفاصل بعضها بعضا ، فهي أبدا في جدال وصراع ، وفي خصومة ونزاع ، وفي بلاء يصبه هذا الفريق على ذاك . .
ولقد عرفت البشرية في فترات كثيرة من تاريخها ذلك اللون من العذاب ، كلما انحرفت عن منهج الله وتركت لأهواء البشر ونزواتهم وشهواتهم وجهالتهم وضعفهم وقصورهم . . تصريف الحياة وفق تلك الأهواء والنزوات والشهوات والجهالة والضعف والقصور . وكلما تخبط الناس وهم يضعون أنظمة للحياة وأوضاعا وشرائع وقوانين وقيما وموازين من عند أنفسهم ؛ يتعبد بها الناس بعضعهم بعضا ؛ ويريد بعضهم أن يخضع لأنظمته وأوضاعه وشرائعه وقوانينه البعض الآخر ، والبعض الآخر يأبى ويعارض ، وأولئك يبطشون بمن يأبى ويعارض . وتتصارع رغباتهم وشهواتهم وأطماعهم وتصوراتهم . فيذوق بعضهم بأس بعض ، ويحقد بعضهم على بعض ، وينكر بعضهم بعضا ، لأنهم لا يفيئون جميعا إلى ميزان واحد ؛ يضعه لهم المعبود الذي يعنوا له كل العبيد ، حيث لا يجد أحدهم في نفسه استكبارا عن الخضوع له ، ولا يحس في نفسه صغارا حين يخضع له .
إن الفتنة الكبرى في الأرض هي أن يقوم من بين العباد من يدعي حق الألوهية عليهم ، ثم يزاول هذا الحق فعلا ! إنها الفتنة التي تجعل الناس شيعا ملتبسة ؛ لأنهم من ناحية المظهر يبدون أمة واحدة أو مجتمعا واحدا ، ولكن من ناحية الحقيقة يكون بعضهم عبيدا لبعض ؛ ويكون بعضهم في يده السلطة التي يبطش بها - لأنها غير مقيدة بشريعة من الله - ويكون بعضهم في نفسه الحقد والتربص . . ويذوق الذين يتربصون والذين يبطشون بعضهم بأس بعض ! وهم شيع ؛ ولكنها ليست متميزة ولا منفصله ولا مفاصلة ! والأرض كلها تعيش اليوم في هذا العذاب البطيء المديد !
وهذا يقودنا إلى موقف العصبة المسلمة في الأرض . وضرورة مسارعتها بالتميز من الجاهلية المحيطة بها - والجاهلية كل وضع وكل حكم وكل مجتمع لا تحكمه شريعة الله وحدها ، ولا يفرد الله سبحانه بالألوهية والحاكمية - وضرورة مفاصلتها للجاهلية من حولها ؛ باعتبار نفسها أمة متميزة من قومها الذي يؤثرون البقاء في الجاهلية ، والتقيد بأوضاعها وشرائعها وأحكامها وموازينها وقيمها .
إنه لا نجاة للعصبة المسلمة في كل أرض من أن يقع عليها هذا العذاب : ( أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض ) . . إلا بأن تنفصل هذه العصبة عقيديا وشعوريا ومنهج حياة عن أهل الجاهلية من قومها - حتى يأذن الله لها بقيام " دار إسلام " تعتصم بها - وإلا أن تشعر شعورا كاملا بأنها هي " الأمة المسلمة " وأن ما حولها ومن حولها ، ممن لم يدخلوا فيما دخلت فيه ، جاهلية وأهل جاهلية . وأن تفاصل قومها على العقيدة والمنهج ؛ وأن تطلب بعد ذلك من الله أن يفتح بينها وبين قومها بالحق وهو خير الفاتحين .
فإذا لم تفاصل هذه المفاصلة ، ولم تتميز هذا التميز ، حق عليها وعيد الله هذا . وهو أن تظل شيعة من الشيع في المجتمع ، شيعة تتلبس بغيرها من الشيع ، ولا تتبين نفسها ، ولا يتبينها الناس مما حولها . وعندئذ يصيبها ذلك العذاب المقيم المديد ؛ دون أن يدركها فتح الله الموعود !
إن موقف التميز والمفاصلة قد يكلف العصبة المسلمة تضحيات ومشقات . . غير أن هذه التضحيات والمشقات لن تكون أشد ولا أكبر من الآلام والعذاب الذي يصيبها نتيجة التباس موقفها وعدم تميزه ، ونتيجة اندغامها وتميعها في قومها والمجتمع الجاهلي من حولها . .
ومراجعة تاريخ الدعوة إلى الله على أيدي جميع رسل الله ، يعطينا اليقين الجازم بأن فتح الله ونصره ، وتحقيق وعده بغلبة رسله والذين آمنوا معهم . . لم يقع في مرة واحدة ، قبل تميز العصبة المسلمة ومفاصلتهالقومها على العقيدة وعلى منهج الحياة - أي الدين - وانفصالها بعقيدتها ودينها عن عقيدة الجاهلية ودينها - أي نظام حياتها - وأن هذه كانت هي نقطة الفصل ومفرق الطريق في الدعوات جميعا .
وطريق هذه الدعوة واحد . ولن يكون في شأنها إلا ما كان على عهود رسل الله جميعا ، صلوات الله عليهم وسلامه :
هذا إخبار يتضمن الوعيد ، والأظهر من نسق الآيات أن هذا الخطاب للكفار الذين تقدم ذكرهم وهو مذهب الطبري ، وقال أبيّ بن كعب وأبو العالية وجماعة معهما : هي للمؤمنين وهم المراد ، قال أبي بن كعب : هي أربع خلال وكلهن عذاب وكلهن واقع قبل يوم القيامة فمضت اثنتان بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين سنة ، ثم لبسوا شيعاً وأذيق بعضهم بأس بعض ، واثنتان واقعتان لا محالة الخسف والرجم ، وقال الحسن بن أبي الحسن : بعضها للكفار وبعضها للمؤمنين بعث العذاب من فوق وتحت للكفار وسائرها للمؤمنين ، وهذا الاختلاف إنما هو بحسب ما يظهر من أن الآية تتناول معانيها المشركين والمؤمنين ، وروي من حديث جابر وخالد الخزاعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت { أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم } قال أعوذ بوجهك فلما نزلت { أو من تحت أرجلكم } قال : أعوذ بوجهك فلما نزلت { أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض } قال هذه أهون أو هذه أيسر{[4952]} ، فاحتج بهذا من قال إنها نزلت في المؤمنين ، وقال الطبري : وغير ممتنع أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم تعوذ لأمته من هذه الأشياء التي توعد بها الكفار ، وهون الثالثة لأنها بالمعنى هي التي دعا بها فمنع حسب حديث الموطأ وغيره ، وقد قال ابن مسعود : إنها أسوأ الثلاث ، وهذا عندي على جهة الإغلاظ في الموعظة ، والحق أنها أيسرها كما قال عليه السلام ، و { من فوقكم ومن تحت أرجلكم } لفظ عام للمنطبقين على الإنسان وقال السدي عن أبي مالك { من فوقكم } الرجم { ومن تحت أرجلكم } الخسف وقاله سعيد بن جبير ومجاهد ، وقال ابن عباس رضي الله عنه : { من فوقكم } ولاة الجور { ومن تحت أرجلكم } سفلة السوء وخدمة السوء .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذه كلها أمثلة لا أنها هي المقصود ، إذ هذه وغيرها من القحوط والغرق وغير ذلك داخل في عموم اللفظ و { يلبسكم } على قراءة الستة معناه يخلطكم شيعاً فرقاً بتشيع بعضها لبعض ، واللبس :الخلط ، وقال المفسرون هو افتراق الأهواء والقتال بين الأمة ، وقرأ أبو عبد الله المدني «يُلبسكم » بضم الياء من ألبس ، فهوعلى هذه استعارة من اللباس ، فالمعنى أو يلبسكم الفتنة شيعاً و { شيعاً } منصوب على الحال وقد قال الشاعر [ النابغة الجعدي ] : [ المتقارب ]
لبِسْت أُناساً فأفْنَيْتهم . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[4953]}
فهذه عبارة عن الخلطة والمقاساة ، والبأس القتل وما أشبهه من المكاره ، { ويذيق } استعارة إذ هي من أجل حواس الاختبار ، وهي استعارة مستعملة في كثير من كلام العرب وفي القرآن ، وقرأ الأعمش «ونذيق » بنون الجماعة ، وهي نون العظمة في جهة الله عز وجل ، وتقول أذقت فلاناً العلقم تريد كراهية شيء صنعته به ونحو هذا ، وفي قوله تعالى { انظر كيف نصرف } الآية ، استرجاع لهم وإن كان لفظها لفظ تعجيب للنبي صلى الله عليه وسلم فمضمنها أن هذه الآيات والدلائل إنما هي لاستصرافهم عن طريق غيهم ، و «الفقه » الفهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم}: الحصب بالحجارة كما فعل بقوم لوط، فلا يبقى منكم أحد. {أو من تحت أرجلكم}: الخسف كما فعل بقارون ومن معه. {أو يلبسكم شيعا}: فرقا أحزابا أهواء مختلفة كفعله بالأمم الخالية، {ويذيق بعضكم بأس بعض}: يقتل بعضكم بعضا، فلا يبقى منكم أحد إلا قليل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم وهو يجر رداءه، وذلك بالليل، وهو يقول:"لئن أرسل الله على أمتي عذابا من فوقهم ليهلكنهم، أو من تحت أرجلهم، فلا يبقى منهم أحد"، فقام صلى الله عليه وسلم فصلى ودعا ربه أن يكشف ذلك عنهم، فأعطاه الله اثنتين الحصب والخسف، كشفهما عن أمته، ومنعه اثنتين الفرقة والقتل، فقال: "أعوذ بعفوك من عقابك، وأعوذ بمعافاتك من غضبك، وأعوذ بك منك، جل وجهك، لا أبلغ مدحتك والثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك". قال: فجاءه جبريل، عليه السلام، فقال: إن الله قد استجاب لك وكشف عن أمتك اثنتين ومنعوا اثنتين، {انظر} يا محمد {كيف نصرف الآيات}: العلامات في أمور شتى من ألوان العذاب، {لعلهم}: لكي، {يفقهون} عن الله فيخافوه ويوحدوه.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قل لهؤلاء العادلين بربهم غيره من الأصنام والأوثان يا محمد: إن الذي ينجيكم من ظلمات البرّ والبحر ومن كلّ كرب ثم تعودون للإشراك به، "وهو القادر على أن يرسل عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم"، لشرككم به وادّعائكم معه إلها آخر غيره وكفرانكم نعمه مع إسباغه عليكم آلاءه ومننه.
وقد اختلف أهل التأويل في معنى العذاب الذي توعد الله به هؤلاء القوم أن يبعثه عليهم من فوقهم أو من تحت أرجلهم؛ فقال بعضهم: أما العذاب الذي توعدهم به أن يبعثه عليه من فوقهم: فالرجم. وأما الذي توعدهم أن يبعثه عليهم من تحتهم: فالخسف.
وقال آخرون: عَنَى بالعذاب "من فوقكم": أئمة السوء. "أو من تحت أرجلكم": الخَدَمَ وسفلةَ الناس. [عن] ابن عباس كان يقول في هذه: "قُلْ هُوَ القَادِرُ على أنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابا مِنْ فَوْقِكُمْ أوْ مِنْ تَحْتِ أرْجُلِكُمْ": فأما العذاب من فوقكم: فأئمة السوء. وأما العذاب من تحت أرجلكم: فخدم السوء.
وأولى التأويلين في ذلك بالصواب عندي قول من قال: عنى بالعذاب من فوقهم الرجم أو الطوفان وما أشبه ذلك مما ينزل عليهم من فوق رءوسهم، ومن تحت أرجلهم: الخسف وما أشبهه. وذلك أن المعروف في كلام العرب من معنى «فوق» و «تحت» الأرجل، هو ذلك دون غيره، وإن كان لما رُوي عن ابن عباس في ذلك وجه صحيح، غير أن الكلام إذا تنوزع في تأويله، فحمله على الأغلب الأشهر من معناه أحقّ وأولى من غيره ما لم يأت حجة مانعة من ذلك يجب التسليم لها.
"أوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بأْسَ بَعْضٍ": أو يخلطكم شيعا: فرقا، واحدتها شيعة، وأما قوله: "يَلْبِسَكُمْ "فهو من قولك: لَبَسْتُ عليه الأمر، إذا خلطت، فأنا ألبِسُه. وإنما قلت إن ذلك كذلك، لأنه لا خلاف بين القرّاء في ذلك بكسر الباء، ففي ذلك دليل بَيّنٌ على أنه من لَبَسَ يَلْبِسُ، وذلك هو معنى الخلط. وإنما عنى بذلك: أو يخلطكم أهواء مختلفة وأحزابا مفترقة.
وأما قوله: "وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بأْسَ بَعْضٍ" فإنه يعني: بقتل بعضكم بيد بعض، والعرب تقول للرجل ينال بسلاح فيقتله به: قد أذاق فلان فلانا الموت وأذاقه بأسه. وأصل ذلك من ذوق الطعام وهو يطعمه، ثم استعمل ذلك في كلّ ما وصل إلى الرجل من لذّة وحلاوة أو مرارة ومكروه وألم.
عن ابن عباس: "وَيُذِيقَ بَعْضَكمْ بَأْسَ بَعْضٍ" قال: يسلط بعضكم على بعض بالقتل والعذاب.
ثم اختلف أهل التأويل فيمن عُني بهذه الآية؛
فقال بعضهم: عُني بها المسلمون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وفيهم نزلت. حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: "قُلْ هُوَ القادِرُ على أنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابا..."، ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ذات يوم الصبح فأطالها، فقال له بعض أهله: يا نبيّ الله لقد صليت صلاة ما كنت تصليها قال: «إنّها صَلاة رَغْبَةٍ وَرَهْبَةٍ، وإنّي سألْتُ ربّي فِيها ثَلاثا: سألْتُه أنْ لا يُسَلّط على أمّتي عَدوّا مِنْ غيرِهِمْ فَيُهْلِكَهُمْ فَأعْطانِيها، وسألْتُهُ أنْ لا يُسَلّطَ على أُمّتِي السّنَةَ فأعْطانِيها، وسألْتُهُ أنْ لا يَلْبِسَهُمْ شِيَعا وَلاَ يُذِيقَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، فَمَنَعنِيها»، ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «لا تَزَال طائفَةٌ مِنْ أمّتِي يُقاتِلُونَ على الحَقّ ظاهرَينَ لا يَضُرّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حتى يَأتِيَ أمْرَ اللّهِ».
حدثنا أحمد بن الوليد القرشيّ وسعيد بن الربيع الرازي، قالا: حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو، سمع جابرا يقول: لما أنزل الله تعالى على النبي صلى الله عليه وسلم: "قُلْ هُوَ القادِرُ على أنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابا مِنْ فَوْقِكُمْ أوْ مِنْ تَحْتِ أرْجُلِكُمْ" قال: «أعُوذ بِوَجْهِكَ»، "أوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعا وَيُذِيقَ بَعْضَكمْ بَأْسَ بَعْضٍ" قال: «هَاتَانِ أيْسَرٌ»، أو «أهْوَنُ».
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن جابر، قال: لما نزلت: "قُلْ هُوَ القادِرُ على أنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابا مِنْ فَوْقِكُمْ أوْ مِنْ تَحْتِ أرْجُلِكُمْ" قال: «نَعُوذ بِكَ، نَعُوذ بِكَ» أوْ يَلْبِسَكُمْ شِيعا قال: «هُوَ أهْوَنٌ».
حدثني محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور عن معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث، عن أبي أسماء الرّحبيّ، عن شدّاد بن أوس يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «إنّ اللّهَ زَوَى ليَ الأرْضَ حتى رأيْتُ مَشارِقَها ومَغَارِبَها، وَإنّ مُلْكَ أُمّتي سَيَبْلُغَ ما زُوِيَ لي مِنْها، وإنّي أُعْطِيتُ الكَنْزَيْنِ الأحْمَرَ والأبْيَضَ، وإنّي سألْتُ رَبي أنْ لا يُهْلَكَ قَوْمي بِسَنَةٍ عامّةٍ وأنْ لا يَلْبَسَهُمْ شِيَعا وَلا يُذِيقَ بَعْضَهُمْ بأْسَ بَعْضٍ، فقال: يا محمد، إنّي إذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فإنّهُ لا يُرَدّ، وإنّي أعْطَيْتُكَ لأُمّتِكَ أنْ لا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ عامّةٍ وَلا أُسَلّطَ عَلَيْهمْ عَدُوّا مِمّنْ سِوَاهُمْ فَيُهْلِكَهُمْ بِعامّةِ حتى يَكُونَ بَعْضُهُم يُهْلِكُ بَعْضا وبَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضا وبَعْضُهُمْ يَسْبِي بَعْضا»، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنّي أخافُ على أُمّتِي الأئمّةَ المُضلّينَ، فإذا وُضِعَ السّيُفُ فِي أُمّتِي لَمْ يُرْفَعْ عَنْهُمْ إلى يَوْمِ القِيامَةِ».
وقال آخرون: عُنى ببعضها أهل الشرك وببعضها أهل الإسلام عن الحسن، في قوله: "قُل هُوَ القَادِرُ على أن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابا مِن فَوقِكُم أو مِن تَحْتِ أرْجُلِكُمْ" قال: هذا للمشركين، "أو يَلْبِسَكُم شِيَعا ويُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ" قال: هذا للمسلمين.
والصواب من القول عندي أن يقال: إن الله تعالى توعده بهذه الآية أهل الشرك به من عبدة الأوثان وإياهم خاطب بها، لأنها بين إخبارهم عنهم وخطاب لهم، وذلك أنها تتلو قوله: "قُلْ يُنَجّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ البَرّ والبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرّعا وَخُفْيَةً لَئِنْ أنجانا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنّ مِنَ الشّاكِرِينَ قُلِ اللّهُ يُنْجّيكُمْ مِنُها وَمِنْ كُلّ كَرْبٍ ثُمّ أنْتُمْ تُشْرِكُونَ" ويتلوها قوله: "وكَذّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الحَقّ" وغير جائز أن يكون المؤمنون كانوا به مكذّبين. فإذا كان غير جائز أن يكون ذلك كذلك، وكانت هذه الآية بين هاتين الآيتين، كان بينا أن ذلك وعيد لمن تقدّم وصف الله إياه بالشرك وتأخر الخبر عنه بالتكذيب، لا لمن لم يجر له ذكر غير أن ذلك وإن كان كذلك فإنه قد عمّ وعيده بذلك كل من سلك سبيلهم من أهل الخلاف على الله وعلى رسوله والتكذيب بآيات الله من هذه وغيرها. وأما الأخبار التي رُوِيت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سألْتُ رَبي ثَلاثا، فأعْطَانِي اثْنَتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً فجائز أن هذه الآية نزلت في ذلك الوقت وعيدا لمن ذكرت من المشركين ومن كان على منهاجهم من المخالفين ربهم، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه أن يعيذ أمته مما ابتلى به الأمم الذين استوجبوا من الله تعالى بمعصيتهم إياه هذه العقوبات فأعاذهم بدعائه إياه ورغبته إياه من المعاصي التي يستحقون بها من هذه الخلال الأربع من العقوبات أغلظها، ولم يعذبهم من ذلك ما يستحقون به اثنتين منها. وأما الذين تأوّلوا أنه عني بجميع ما في هذه الآية هذه الأمة، فإني أراهم تأوّلوا أن في هذه الأمة من سيأتي من معاصي الله وركوب ما يسخط الله نحو الذي ركب من قبلهم من الأمم السالفة من خلافه والكفر به، فيحلّ بهم مثل الذي حلّ بمن قبلهم من الثلاث والنّقِمات وكذلك قال أبو العالية ومن قال بقوله: جاء منهنّ اثنتان بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سَيَكُونُ فِي هَذِهِ الأُمّةِ خَسْفٌ وَمَسْخٌ وَقَذْفٌ» وأنّ قَوْما مِنْ أُمّتِهِ سَيَبِيتُونَ على لَهْوٍ وَلَعِبٍ ثُمّ يُصْبِحُونَ قِرَدَةً وَخَنازِيرَ وذلك إذا كان، فلا شكّ أنه نظير الذي في الأمم الذين عتوا على ربهم في التكذيب وجحدوا آياته.
"انْظُرْ كَيْفَ نُصَرّف الآيات لَعَلّهُم يَفْقَهُونَ": يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: انظر يا محمد بعين قلبك إلى ترديدنا حججنا على هؤلاء المكذّبين بربهم الجاحدين نعمه وتصريفناها فيهم. "لَعَلّهُمْ يَفْقَهُونَ": ليفقهوا ذلك ويعتبروه، فيذكروا ويزدجروا عما هم عليه مقيمون مما يسخطه الله منهم من عبادة الأوثان والأصنام، والتكذيب بكتاب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
إذا أراد الله هلاك قومٍ أمر البلاء حتى يحيط بهم سرادقه كما يحيط بالكفار غداً إذا أدركتهم العقوبة، وخرج بعضهم على بعض؛ حتى يتبرأ التابع من المتبوع، والمتبوع من التابع.
{وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ}؛ لا طعمَ أردأ للإنسان من طعم الإنسان: إن شِئْتَ من الولاية والمحبة، وإن شئت في العداوة والبغضة؛ فَمَنْ مُنِي بالبغضة مع أشكاله تنغَّصَ عليه عَيْشُه في الدنيا، ومَنْ مُنِيَ بمحبة أمثاله تكدَّر عليه حالُه مع المولى، ومن صانَه عن الخلق فهو المحفوظ
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذا إخبار يتضمن الوعيد، والأظهر من نسق الآيات أن هذا الخطاب للكفار الذين تقدم ذكرهم...
وفي قوله تعالى {انظر كيف نصرف} الآية، استرجاع لهم وإن كان لفظها لفظ تعجيب للنبي صلى الله عليه وسلم فمضمنها أن هذه الآيات والدلائل إنما هي لاستصرافهم عن طريق غيهم، و «الفقه» الفهم.
المسألة الأولى: اعلم أن هذا نوع آخر من دلائل التوحيد وهو ممزوج بنوع من التخويف فبين كونه تعالى قادرا على إيصال العذاب إليهم من هذه الطرق المختلفة، وأما إرسال العذاب عليهم تارة من فوقهم، وتارة من تحت أرجلهم ففيه قولان: الأول: حمل اللفظ على حقيقته فنقول: العذاب النازل عليهم من فوق مثل المطر النازل عليهم من فوق، كما في قصة نوح والصاعقة النازلة عليهم من فوق. وكذا الصيحة النازلة عليهم من فوق. كما حصب قوم لوط، وكما رمى أصحاب الفيل، وأما العذاب الذي ظهر من تحت أرجلهم. فمثل الرجفة، ومثل خسف قارون. وقيل: هو حبس المطر والنبات وبالجملة فهذه الآية تتناول جميع أنواع العذاب التي يمكن نزولها من فوق، وظهورها من أسفل.
القول الثاني: أن يحمل هذا اللفظ على مجازه. قال ابن عباس: في رواية عن عكرمة عذابا من فوقكم أي من الأمراء، ومن تحت أرجلكم من العبيد والسفلة. أما قوله: {أو يلبسكم شيعا} فاعلم أن الشيع جمع الشيعة، وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة والجمع شيع وأشياع. قال تعالى: {كما فعل بأشياعهم من قبل} وأصله من الشيع وهو التبع، ومعنى الشيعة الذين يتبع بعضهم بعضا. قال الزجاج قوله: {يلبسكم شيعا} يخلط أمركم خلط اضطراب لا خلط اتفاق، فيجعلكم فرقا ولا تكونون فرقة واحدة، فإذا كنتم مختلفين قاتل بعضكم بعضا وهو معنى قوله: {ويذيق بعضكم بأس بعض} عن ابن عباس رضي الله عنهما: لما نزل جبريل عليه السلام بهذه الآية شق ذلك على الرسول عليه الصلاة والسلام وقال: «ما بقاء أمتي إن عوملوا بذلك» فقال له جبريل: إنما أنا عبد مثلك فادع ربك لأمتك، فسأل ربه أن لا يفعل بهم ذلك. فقال جبريل: إن الله قد أمنهم من خصلتين أن لا يبعث عليهم عذابا من فوقهم كما بعثه على قوم نوح ولوط، ولا من تحت أرجلهم كما خسف بقارون ولم يجرهم من أن يلبسهم شيعا بالأهواء المختلفة ويذيق بعضهم بأس بعض بالسيف. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أمتي ستفترق على ثنتين وسبعين فرقة الناجية فرقة) وفي رواية أخرى كلهم في الجنة إلا الزنادقة.
المسألة الثانية: ظاهر قوله: {أو يلبسكم شيعا} هو أنه تعالى يحملهم على الأهواء المختلفة والمذاهب المتنافية. وظاهر أن الحق منها ليس إلا الواحد، وما سواه فهو باطل فهذا يقتضي أنه تعالى قد يحمل المكلف على الاعتقاد الباطل وقوله: {ويذيق بعضكم بأس بعض} لا شك أن أكثرها ظلم ومعصية، فهذا يدل على كونه تعالى خالقا للخير والشر، أجاب الخصم عنه بأن الآية تدل على أن الله تعالى قادر عليه وعندنا الله قادر على القبيح. إنما النزاع في أنه تعالى هل يفعل ذلك أم لا؟
والجواب: أن وجه التمسك بالآية شيء آخر فإنه قال: {هو القادر} على ذلك وهذا يفيد الحصر فوجب أن يكون غير الله غير قادر على ذلك وهذا الاختلاف بين الناس حاصل وثبت بمقتضى الحصر المذكور أن لا يكون ذلك صادرا عن غير الله فوجب أن يكون صادرا عن الله وذلك يفيد المطلوب.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
والمعنى: قل أيها الرسول لقومك ومن وراءهم من الكافرين بنعم الله، الذين يشركون به سواه، ولا يشكرون له ما من به من النعم وأسداه، ومن الذين يتنكبون سنن الله، ويختلفون في الكتاب بعد أن هداهم به الله: هو الله القادر على أن يثير ويرسل عليكم عذابا تجهلون كنهه فيصبه عليكم من فوقكم، أو يثيره من تحت أرجلكم، أو يلبسكم ويخلطكم فرقا وشيعا، مختلفين على أهواء شتى، كل فرقة منكم تشايع إماما في الدين، أو تتعصب لملك أو رئيس، ويذيق بعضكم بأس بعض، وهو ما عنده من الشدة والمكروه في السلم والحرب،... ولمادة (ش ي ع) ثلاث معاني أصلية في اللغة أحدها: الانتشار والتفرق، ومنه شاع وأشاع الأخبار وطارت نفسه شعاعا. ثانيها: الاتباع والدعوة إليه، ومن الأول تشييع المسافر وتشييع الجنازة، ومن الثاني قولهم أشاع بالإبل أي دعاها إذا استأخر بعضها ليتبع بعضها بعضا. ثالثها: التقوية والتهييج، ومنه قولهم شيع النار إذا ألقى عليها حطبا يذكيها به، والشياع (بالفتح والكسر) ما تضرم به النار، وكل هذه المعاني ظاهرة في الشيع والأحزاب المتفرقة بالخلاف في الدين أو السياسة. وفسر ابن عباس الشيع بالأهواء المختلفة أي أصحابها. ولما كان لفظ العذاب في الآية نكرة جاز حمله على كل عذاب يأتي من فوق الرؤوس ومن تحت الأرجل أو من رؤساء الناس أو من تحتهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وتصور العذاب الغامر من فوق، أو النابع من تحت، أشد وقعا في النفس من تصوره آتيا عن يمين أو شمال. فالوهم قد يخيل للإنسان أنه قد يقدر على دفع العذاب من يمين أو شمال! أما العذاب الذي يصب عليه من فوق، أو يأخذه من تحت، فهو عذاب غامر قاهر مزلزل، لا مقاومة له ولا ثبات معه! والتعبير الموحي يتضمن هذا المؤثر القوي في حس الإنسان ووهمه، وهو يقرر حقيقة قدرة الله على أخذ العباد بالعذاب من حيث شاء وكيف شاء. ويضيف إلى ألوان العذاب الداخلة في قدرة الله؛ والتي قد يأخذ العباد بها متى شاء؛ لونا آخر بطيئا طويلا؛ لا ينهي أمرهم كله في لحظة ولكنه يصاحبهم ويساكنهم ويعايشهم بالليل والنهار: (أو يلبسكم شيعا، ويذيق بعضكم بأس بعض).. وهي صورة من العذاب المقيم الطويل المديد؛ الذي يذوقونه بأيديهم، ويجرعونه لأنفسهم؛ إذ يجعلهم شيعا وأحزابا، متداخلة لا يتميز بعضها عن بعض، ولا يفاصل بعضها بعضا، فهي أبدا في جدال وصراع، وفي خصومة ونزاع، وفي بلاء يصبه هذا الفريق على ذاك.. إن الفتنة الكبرى في الأرض هي أن يقوم من بين العباد من يدعي حق الألوهية عليهم، ثم يزاول هذا الحق فعلا! إنها الفتنة التي تجعل الناس شيعا ملتبسة؛ لأنهم من ناحية المظهر يبدون أمة واحدة أو مجتمعا واحدا، ولكن من ناحية الحقيقة يكون بعضهم عبيدا لبعض؛ ويكون بعضهم في يده السلطة التي يبطش بها -لأنها غير مقيدة بشريعة من الله- ويكون بعضهم في نفسه الحقد والتربص.. ويذوق الذين يتربصون والذين يبطشون بعضهم بأس بعض! وهم شيع؛ ولكنها ليست متميزة ولا منفصله ولا مفاصلة! والأرض كلها تعيش اليوم في هذا العذاب البطيء المديد!
{أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض} (من الآية 65 سورة الأنعام). والمقصود بلبس الأمر أي خلطه بصورة لا يتبينها الرائي. و (شيعا) هي جمع (شيعة). والشيعة هم: المتعاونون على أمر ولو كان باطلا، ويجمعهم عليه كلمة واحدة وحركة واحدة وغاية واحدة. والمقصود بقول الحق: {أو يلبسكم شيعا} أي أن كل جماعة منكم تتفرق ويكون لكل منهم أمير، وتختلط الأمور بين الاختلافات المذهبية التي تختفي وراء الأهواء، وبذلك يذيق الله الناس بأس بعضهم بعضا. ولماذا كل ذلك؟ لأن الناس مادامت قد انفرطت عن منهج الله نجد الحق يترك بعضهم لبعض ويتولى كل قوم إذاقة غيرهم العذاب. القاعدة أنه لا يوجد صراع بين حقين؛ لأنه لا يوجد في الأمر الواحد إلا حق واحد. ولا يطول أبدا الصراع بين الحق والباطل؛ لأن الباطل زهوق وزائل. ولكن الصراع إنما يطول بين باطلين؛ لأن أحدهما ليس أولى من الآخر بأن ينصره الله.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
في الآيات السابقة التي تتضمن بيان التوحيد الفطري تتجلى محبّة الله لعباده، وحنوه عليهم عند الشّدائد والصعاب، واستجابته لدعواتهم.
وفي هذه الآية تركيز على التهديد بعذاب الله وعقابه، من أجل إِكمال طرق التربية والتهذيب، أي أنّ الله وهو أرحم الراحمين وملجأ اللاجئين، قهار منتقم مقابل الطغاة العصاة، ففي هذه الآية يؤمر الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بتهديد المجرمين بثلاثة أنواع من العقاب: عذاب من فوق، وعذاب من تحت، وعقاب يتمثل في اختلاف الكلمة والحرب وإِراقة الدماء: (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض).
وفي الختام تقول الآية: (انظُر كيف نصرف الآيات لعلّهم يفقهون)، أي انظر كيف نوضح لهم المعالم والدلائل على أمل أن يفهموا الحقائق ويعودوا إِلى الله.
هنا أيضاً لابدّ من الإِشارة إِلى بعض النقاط:
-هنالك اختلاف بين المفسّرين بشأن المقصود من العذاب من فوق ومن تحت، ويظهر أنّ لهاتين الكلمتين معاني واسعة، فهما تشملان الجهتين الماديتين من السماء ومن الأرض كالصواعق والأمطار الغزيرة والعواصف المدمّرة التي يأتي من فوق، والزلازل والانشقاقات الأرضية المدمرة وفيضانات الأنهار والبحار من تحت.
كذلك تشمل الآلام والمصائب التي ينزلها بعض الحكام والطبقات المتسلطة في المجتمع على رؤوس الشعوب، وكذلك الآلام والعذاب الذي يسببه بعض الموظّفين الذين لا يعرفون واجبهم للناس ممّا قد لا يقل عما يسببه الحكام والطّبقات العليا من المجتمع.
وكذلك يحتمل أن تشمل أسلحة الحرب المخيفة في عصرنا التي تبيد حياة البشر بشكل وحشي من الأرض والجو، وتحيل المدن خلال مدّة قصيرة إِلى ركام وأنقاض عن طريق القصف الجوي والهجوم الارضي وزرع الألغام والغواصات المدمّرة داخل البحار.
- «يلبسكم» من «اللبس» بفتح اللام بمعنى الاختلاط والامتزاج، لا من «اللبس» بضم اللام بمعنى ارتداء الملابس، وعلى ذلك يكون معنى الآية: إِنّه قادر على أن يجعل منكم جماعات مختلفة تختلط بعض ببعض.
يستنتج من هذا التعبير أنّ مسألة اختلاف الكلمة والتفرق في المجتمع لا تقل خطورتها عن العذاب السماوي والصواعق والزلازل، وهو في الحقيقة كذلك، بل قد يكون الخراب الناشئ من اختلاف الكلمة والتفرق أحياناً أشد وطأة ودماراً من الزلازل والصواعق، كثيراً ما نلاحظ أنّ دولا عامرة يصيبها الفناء بسبب النفاق والتفرقة، وهذه الكلمة تحذير لجميع مسلمي العالم!
هنالك أيضاً احتمال آخر في تفسير هذه الآية، وهو -أنّ الله قد أشار إِلى جانب العذاب السماوي والأرضي إِلى لونين آخرين من العذاب: أحدهما: اختلاف العقيدة والفكر (وهو في الواقع مثل العذاب النازل من فوق)، والآخر: هو الاختلاف في العمل والسلوك الاجتماعي الذي يؤدي إِلى الحروب وإِراقة الدماء (وهو أشبه بالعذاب الآتي من تحت).
وعليه، فالآية تشير إِلى أربعة ألوان من العذاب الطبيعي، ولونين من العذاب الاجتماعي.
- لابدّ من الانتباه إِلى أن قوله تعالى: (أو يلبسكم شيعاً)، لا يعني أنّ الله يبتلي الناس بدون مبرر بالنفاق والاختلاف، بل إِنّ ذلك نتيجة سوء أعمالهم وغرورهم وأنانياتهم، والانغماس في منافعهم الشخصية، ممّا يثير روح النفاق والتفرقة بينهم، وما نسبة ذلك إِلى الله إِلاّ لأنّه جعل تلك الآثار من نتائج تلك الأعمال.
-على الرّغم من أنّ الخطاب في هذه الآية موجه إِلى المشركين وعبدة الأصنام، فإنّنا نستنتج أنّ المجتمع المشرك والمنحرف عن طريق التوحيد وعبادة الله، يصاب بظلم الطبقات العليا، وظلم الطبقات الدنيا المتهاونة في واجباتها، كما تقع البشرية بين براثن الاختلاف العقائدية والمخاصمات الدموية في المجتمع، كما هو حال المجتمعات المعاصرة التي تعبد أوثان الصناعة والثروة، فهي رهين مصائب لا فكاك لها من مخالبها.
بعض الشعوب المسلمة تتحدث عن التوحيد وعبادة الله بأقوالها، ولكنّها بأفعالها مشركة تعبد الأصنام. إن مصائر شعوب كهذه لا يختلف عن مصائر المشركين. وقد يكون حديث الإِمام الباقر (عليه السلام): «كل هذا في أهل القبلة» إِشارة إِلى هذا الاختلاف بين المسلمين، فعندما ينحرف المسلمون عن طريق التوحيد، تأخذ الأنانية وحبّ الذات مكان الأُخوة الإِسلامية، وتتغلب المصالح الشخصية على المصلحة العامّة، ولا يفكر الفرد إِلاّ بنفسه وينسى الناس أوامر الله ونواهيه، فيحيق بهم ما أحاق بأُولئك.