التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيۡكُمۡ أَنفُسَكُمۡۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهۡتَدَيۡتُمۡۚ إِلَى ٱللَّهِ مَرۡجِعُكُمۡ جَمِيعٗا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ} (105)

وبعد أن بين - سبحانه - ما بين من التكاليف والأحكام واحلال والحرام ، وذم المقلدين لآبائهم تقليداً أعمى . وجه - سبحانه - نداء إلى المؤمنين ، أمرهم فيه بأن يلزموا أنفسهم طاعة الله ، وأنهم ليس عليهم شيء من آثام غيرهم ما داموا قد نصحوهم وأرشدوهم إلى الخير فقال - تعالى - :

{ ياأيها الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ . . . }

قوله { عَلَيْكُمْ } اسم فعل أمر بمعنى : الزموا وقوله : { أَنْفُسَكُمْ } منصوب على الإِغراء بقوله : { عَلَيْكُمْ } - والصحيح أنه في موضع جر كما كان قبل أن تنقل الكلمة أنه في موضع جر كما ان قبل أن تنقل الكلمة إلى الإغراء .

والمعنى : يأيها الذين آمنوا بالله إيمانا حقا ، الزموا العمل بطاعة الله ، بأن تؤدوا ما أمركم به ، وتنتهوا عما نهاكم عنه ، وأنتم بعد ذلك " لا يضركم من ضل إذا اهتديتم " أي : لا يضركم ضلال من ضل وغوى ، ما دمتم أنتم قد أديتم حق أنفسكم عليكم بصيانتها عما يغضب الله وأديتم حق غيركم عليكم بإرشاده ونصحه وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر . فإن أبي هذا الغير الاستجابة لكم بعد النصح والإِرشاد والأخذ على يده من الوقوع في الظلم فلا ضير عليكم في تمادية في غيه وضلاله ، فإن مصيركم ومرجعكم جميعاً إلى الله - تعالى - وحده { فَيُنَبِّئُكُمْ } يوم القيامة { بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } في الدنيا من خير أو شر ، ويجازي أهل الخير بما يستحقون من ثواب ، ويجازي أهل الشر بما يستحقون من عقاب .

هذا ، وقد يقول قائل : إن ظاهر هذه الآية قد يفهم منه بعض الناس ، أنه لا يضر المؤمنين أن يتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما داموا قد أصلحوا أنفسهم ، لأنها تقول : { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم } فهل هذا الفهم مقبول ؟

والجواب على ذلك ، أن هذا الفهم ليس مقبولا ، لأن الآية الكريمة مسوقة لتسلية المؤمنين ، ولإِدخال الطمأنينة ، على قلوبهم إذا لم يجدوا أذنا صاغية لدعوتهم .

فكأنها تقول لهم : إنكم - أيه المؤمنون - إذا قمتم بما يجب عليكم ، لا يضركم تقصير غيركم . ولا شك أن مما يجب عليهم القيام به : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، إذ لا يكون المرء مهتديا إلى الحق مع تركه لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإنما يكون مهتديا متى أصلح نفسه ودعا غيره إلى الخير والصلاح .

أي أن الهداية التي ذكرها - سبحانه - في قولهم { إِذَا اهتديتم } لا تتم إلا بإصلاح النفس ودعوة الغير إلى الخير والبر .

وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذه المعاني بقوله : كان المؤمنون تذهب أنفسهم حسرة على أهل العتو والعناد من الكفرة ، يتمنون دخولهم في الإِسلام ، فقيل لهم { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } وما كلفتم من إصلاحها والمشي بها في طرق الهدى { لاَ يَضُرُّكُمْ } الضلال عن دينكم إذا كنتم مهتدين . وليس المراد ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ فإن من تركهما مع القدرة عليهما لا يكون مهتديا ، وإنما هو بعض الضلال الذين فصلت الآية بينهم وبينه .

ويبدو أن هذه الآية الكريمة قد فهمهما بعض الناس فهما غير سليم - حتى في الصدر الأول من الإِسلام .

قال القرطبي : روى أبو داود والترمذي وغيرهما عن قيس بن أبي حازم قال : خطبنا أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - فقال : أيها الناس - إنكم تقرءون هذه الآية وتتأولونها على غير تأويلها { ياأيها الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه ، أوشك أن يعمهم الله بعذاب من عنده " .

وروى أبو داود والترمذي وغيرهما عن أبي أمية الشعباني قال : أتيت أبا ثعلبه الخشني فقلت له : كيف تصنع بهذه الآية ؟ فقال : أية آية ؟ قلت : قوله - تعالى - { ياأيها الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُم } قال : أما والله لقد سألت عنها خبيرا . سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " ائتمروا كل ذي رأي برأيه ، فعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العامة ، فإن من ورائكم أياماً الصبر فيهن مثل القبض على الجمر للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم " .

وفي رواية قيل يا رسول الله ! " أجر خمسين منا أو منهم ؟ قال : " بل أجر خمسين منكم " " .

وأخرج ابن جرير عن جبير بن نفير قال : " كنت في حلقة فيها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وإني لأصغر القوم ؛ فتذاكروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . فقلت أنا : أليس الله يقول : { ياأيها الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُم } فأقبلوا على بلسان واحد وقالوا : تنزع آية من القرآن لا تعرفها . ولا تدري ما تأويلها - حتى تمنيت أني لم أكن تكلمت - ثم أقبلوا يتحدثون ، فلما حضر قيامهم قالوا : إنك غلام حدث السن وإنك نزعت آية لا تدري ما هي ، وعسى أن تدرك ذلك الزمان ، إذا رأيت شحا مطاعاً ، وهوى متبعا ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بنفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديت " .

والخلاصة أن الآية الكريمة لا ترخص في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنها - كما قال الحاكم - لو استدل بها على وجوبهما لكان أولى ، لأن قوله { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُم } معناه : الزموا أن تصلحوا أنفسكم باتباع الدلائل من كتاب الله وسنة روله والعقليات المؤيدة بها ، ودعوة الإِخوان إلى ذلك ، بإقامة الحجج ودفع الشبه ، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ولا تقصروا في ذلك .

ونقل الفخر الرازي عن عبد الله بن المبارك أنه قال : هذه أوكد آية في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإنه - سبحانه - قال { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُم } يعني عليكم أهل دينكم ولا يضركم من ضل من الكفار . وهذا كقوله فاقتلوا أنفسكم ، يعني أهل دينكم فقوله { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُم } يعني بأن يعظ بعضكم بعضاً . ويرغب بعضكم بعضاً في الخيرات وينفره عن القبائح والسيئات .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيۡكُمۡ أَنفُسَكُمۡۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهۡتَدَيۡتُمۡۚ إِلَى ٱللَّهِ مَرۡجِعُكُمۡ جَمِيعٗا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ} (105)

فإذا انتهى من تقرير حال الذين كفروا وقولهم التفت إلى " الذين آمنوًا يقرر لهم انفصالهم وتميزهم ؛ ويبين لهم تكاليفهم وواجبهم ؛ ويحدد لهم موقفهم ممن سواهم ؛ ويكلهم إلى حساب الله وجزائه لا إلى أي مغنم في هذه الأرض أو مأرب .

( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم ، لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ، إلى الله مرجعكم جميعا ، فينبئكم بما كنتم تعملون ) . .

إنه التميز والمفاصلة بينهم وبين من عداهم . ثم إنه التضامن والتواصي فيما بينهم بوصفهم أمة واحدة . ( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم )

أنتم وحدة منفصلون عمن سواكم ، متضامنون متكافلون فيما بينكم . فعليكم أنفسكم . . عليكم أنفسكم فزكوها وطهروها ؛ وعليكم جماعتكم فالتزموها وراعوها ؛ ولا عليكم أن يضل غيركم إذا أنتم اهتديتم . فأنتم وحدة منفصلة عمن عداكم ؛ وأنتم أمة متضامنة فيما بينها بعضكم أولياء بعض ، ولا ولاء لكم ولا ارتباط بسواكم .

إن هذه الآية الواحدة تقرر مبادى ء أساسية في طبيعة الأمة المسلمة ، وفي طبيعة علاقاتها بالأمم الأخرى .

إن الأمة المسلمة هي حزب الله . ومن عداها من الأمم فهم حزب الشيطان . ومن ثم لا يقوم بينها وبين الأمم الأخرى ولاء ولا تضامن ، لأنه لا اشتراك في عقيدة ؛ ومن ثم لا اشتراك في هدف أو وسيلة ؛ ولا اشتراك في تبعة أو جزاء .

وعلى الأمة المسلمة أن تتضامن فيما بينها ؛ وأن تتناصح وتتواصى ، وأن تهتدي بهدي الله الذي جعل منها أمة مستقلة منفصلة عن الأمم غيرها . . ثم لا يضيرها بعد ذلك شيئا أن يضل الناس حولها ما دامت هي قائمة على الهدى .

ولكن ليس معنى هذا أن تتخلى الأمة المسلمة عن تكاليفها في دعوة الناس كلهم إلى الهدى . والهدى هو دينها هي وشريعتها ونظامها . فإذا هي أقامت نظامها في الأرض بقي عليها أن تدعو الناس كافة ، وأن تحاول هدايتهم ، وبقي عليها أن تباشر القوامة على الناس كافة لتقيم العدل بينهم ؛ ولتحول بينهم وبين الضلال والجاهلية التي منها أخرجتهم . .

إن كون الأمة المسلمة مسؤولة عن نفسها أمام الله لا يضيرها من ضل إذا اهتدت ، لا يعني أنها غير محاسبة على التقصير في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما بينها أولا ، ثم في الأرض جميعا . وأول المعروف الإسلام لله وتحكيم شريعته ؛ وأول المنكر الجاهلية والاعتداء على سلطان الله وشريعته . وحكم الجاهلية هو حكم الطاغوت ، والطاغوت هو كل سلطان غير سلطان الله وحكمه . . والأمة المسلمة قوامة على نفسها أولا ؛ وعلى البشرية كلها أخيرا .

وليس الغرض من بيان حدود التبعة في الآية كما فهم بعضهم قديما - وكما يمكن أن يفهم بعضهم حديثا - أن المؤمن الفرد غير مكلف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - إذا اهتدى هو بذاته - ولا أن الأمة المسلمة غير مكلفة إقامة شريعة الله في الأرض - إذا هي اهتدت بذاتها - وضل الناس من حولها .

إن هذه الآية لا تسقط عن الفرد ولا عن الأمة التبعة في كفاح الشر ، ومقاومة الضلال ومحاربة الطغيان - وأطغى الطغيان الاعتداء على ألوهية الله واغتصاب سلطانه وتعبيد الناس لشريعة غير شريعته ، وهو المنكر الذي لا ينفع الفرد ولا ينفع الأمة أن تهتدي وهذا المنكر قائم .

ولقد روى أصحاب السنن أن أبا بكر - رضي الله عنه - قام فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية : يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم . . وإنكم تضعونها على غير موضعها وإني سمعت رسول الله [ ص ] يقول : " إن الناس إذا رأوا المنكر ، ولا يغيرونه ، يوشك الله عز وجل أن يعمهم بعقابه " .

وهكذا صحح الخليفة الأول - رضوان الله عليه - ما ترامى إلى وهم بعض الناس في زمانه من هذه الآية الكريمة . ونحن اليوم أحوج إلى هذا التصحيح ، لأن القيام بتكاليف التغيير للمنكر قد صارت أشق . فما أيسر ما يلجأ الضعاف إلى تأويل هذه الآية على النحو الذي يعفيهم من تعب الجهاد ومشاقه ، ويريحهم من عنت الجهاد وبلائه !

وكلا والله ! إن هذا الدين لا يقوم إلا بجهد وجهاد . ولا يصلح إلا بعمل وكفاح . ولا بد لهذا الدين من أهل يبذلون جهدهم لرد الناس إليه ، ولإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ، ولتقرير ألوهيةالله في الأرض ، ولرد المغتصبين لسلطان الله عما اغتصبوه من هذا السلطان ، ولإقامة شريعة الله في حياة الناس ، وإقامة الناس عليها . . لا بد من جهد . بالحسنى حين يكون الضالون أفرادا ضالين ، يحتاجون إلى الإرشاد والإنارة . وبالقوة حين تكون القوة الباغية في طريق الناس هي التي تصدهم عن الهدى ؛ وتعطل دين الله أن يوجد ، وتعوق شريعة الله أن تقوم .

وبعد ذلك - لا قبله - تسقط التبعة عن الذين آمنوا ، وينال الضالون جزاءهم من الله حين يرجع هؤلاء وهؤلاء إليه :

( إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون ) .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيۡكُمۡ أَنفُسَكُمۡۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهۡتَدَيۡتُمۡۚ إِلَى ٱللَّهِ مَرۡجِعُكُمۡ جَمِيعٗا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ} (105)

يقول تعالى آمرًا عباده المؤمنين أن يصلحوا أنفسهم ويفعلوا الخير بجهدهم وطاقتهم ، ومخبرًا لهم أنه من أصلح أمره لا يضره فساد من فسد من الناس ، سواء كان قريبًا منه أو بعيدًا .

قال العَوْفي عن ابن عباس عند تفسر هذه الآية : يقول تعالى : إذا ما العبد أطاعني فيما أمرته به من الحلال والحرام{[10476]} فلا يضره من ضل بعده ، إذا عمل بما أمرته به .

وكذا{[10477]} روى الوالبي عنه . وهكذا قال مُقَاتِل بن حَيان . فقوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } نصب على الإغراء { لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي : فيجازي{[10478]} كل عامل بعمله ، إن خيرًا فخير ، وإن شرًّا فشر .

وليس في الآية مسْتَدلٌّ{[10479]} على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، إذا كان فعل ذلك ممكنًا ، وقد قال الإمام أحمد{[10480]} رحمه الله :

حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا زُهَيْر - يعني ابن معاوية - حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، حدثنا قَيْس قال : قام أبو بكر ، رضي الله عنه ، فحمد الله وأثنى عليه ، وقال : أيها{[10481]} الناس ، إنكم تقرؤون هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } إلى آخر الآية ، وإنكم تضعونها على غير موضعها ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه أوشك الله ، عز وجل ، أن يَعُمَّهُمْ بعِقَابه " . قال : وسمعت أبا بكر يقول : يا أيها الناس ، إياكم والكَذِب ، فإن الكذب مجانب{[10482]} الإيمان .

وقد روى هذا الحديث أصحاب السنن الأربعة ، وابن حِبَّان في صحيحه ، وغيرهم{[10483]} من طرق كثيرة عن جماعة كثيرة ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، به متصلا مرفوعًا ، ومنهم من رواه عنه به موقوفًا على الصديق{[10484]} وقد رجح رفعه الدارقطني وغيره{[10485]} وذكرنا طرقه والكلام عليه مطولا في مسند الصديق ، رضي الله عنه .

وقال أبو عيسى الترمذي : حدثنا سعيد بن يعقوب الطَالَقَاني ، وحدثنا عبد الله بن المبارك ، حدثنا عتبة بن أبي حكيم ، حدثنا عمرو بن جارية{[10486]} اللخمي ، عن أبي أمية الشَّعْباني{[10487]} قال : أتيت أبا ثعلبة الخُشَنِي فقلت له : كيف تصنع في هذه الآية ؟ فقال : أيَّة آية ؟ قلت : قوله [ تعالى ]{[10488]} { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } فقال : أما والله لقد سألت عنها خبيرًا ، سألتُ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " بل ائتمروا بالمعروف ، وتناهوا عن المنكر ، حتى إذا رأيت شُحّا مُطاعًا ، وهَوًى مُتَّبعًا ، ودنيا مُؤْثَرة ، وإعجابَ كل ذي رأي برأيه ، فعليك بخاصّة نفسك ، ودع العوام ، فإن من ورائكم أيامًا الصبر فيهن مثل القَبْضِ على الجَمْرِ ، للعامل فيهن مثلُ أجر خمسين رجلا يعملون كعملكم " - قال عبد الله بن المبارك : وزاد غير عتبة : قيل يا رسول الله ، أجر خمسين رجلا منهم أو منا ؟ قال : " بل أجر خمسين منكم " .

ثم قال{[10489]} الترمذي : هذا حديث حسن غريب صحيح . وكذا رواه أبو داود من طريق ابن المبارك ورواه ابن ماجه ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن عتبة بن أبي حكيم . {[10490]}

وقال عبد الرزاق : أنبأنا مَعْمَر ، عن الحسن أن ابن مسعود سأله رجل عن قوله{[10491]} { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } فقال : إن هذا ليس بزمانها ، إنها اليوم{[10492]} مقبولة . ولكنه قد أوشك أن يأتي زمانها ، تأمرون فيصنع بكم كذا وكذا - أو قال : فلا يقبل منكم - فحينئذ { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ }

ورواه أبو جعفر الرازي ، عن الربيع عن أبي العالية ، عن ابن مسعود في قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } الآية ، قال : كانوا عند عبد الله بن مسعود جلوسًا ، فكان بين رجلين بعض ما يكون بين الناس ، حتى قام كل واحد منهما إلى صاحبه ، فقال رجل من جلساء عبد الله : ألا أقوم فآمرهما بالمعروف وأنهاهما عن المنكر ؟ فقال آخر إلى جنبه : عليك بنفسك ، فإن الله يقول : { [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ]{[10493]} عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } الآية . قال : فسمعها{[10494]} ابن مسعود فقال : مَهْ ، لم يجئ تأويل هذه بعد{[10495]} إن القرآن أنزل حيث أنزل{[10496]} ومنه آي قد مضى تأويلهن قبل أن ينزلن ، ومنه آي قد وقع تأويلهن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومنه آي قد وقع تأويلهن بعد النبي صلى الله عليه وسلم بيسير ، ومنه آي يقع تأويلهن بعد اليوم ، ومنه آي تأويلهن عند الساعة على ما ذكر من الساعة ، ومنه آي يقع تأويلهن يوم الحساب على ما ذكر من الحساب والجنة والنار . فما دامت قلوبكم واحدة ، وأهواؤكم واحدة ولم تلْبَسوا شِيعًا ، ولم يَذُق بعضكم بأس بعض فأمروا وانهوا . فإذا اختلفت القلوب والأهواء ، وألبسْتُم شيعًا ، وذاق بعضكم بأس بعض فامرؤ ونفسه ، عند ذلك جاءنا تأويل هذه الآية . رواه ابن جرير . {[10497]}

وقال ابن جرير : حدثنا الحسن بن عَرفة ، حدثنا شبابة بن سَوّار ، حدثنا الربيع بن صُبَيْح ، عن سفيان بن عقال قال : قيل لابن عمر : لو جلست في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه ، فإن الله قال : { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } ؟ فقال ابن عمر : إنها ليست لي ولا لأصحابي أن{[10498]} رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ألا فليبلّغ الشاهد الغائب " . فكنا نحن الشهود وأنتم الغُيّب ، ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا ، إن قالوا لم يقبل منهم . {[10499]}

وقال أيضًا : حدثنا محمد بن بَشَّار ، حدثنا محمد بن جعفر وأبو عاصم قالا حدثنا عَوْف ، عن سوَّار بن شَبِيب قال : كنت عند ابن عمر ، إذ أتاه{[10500]} رجل جَليد في العين ، شديد اللسان ، فقال : يا أبا عبد الرحمن ، نفر ستة كلهم قد قرأ القرآن فأسرع فيه ، وكلهم مجتهد لا يألو{[10501]} وكلهم بغيض إليه أن يأتي دَناءة ، وهم في ذلك يشهد بعضهم على بعض بالشرك . فقال رجل من القوم : وأيّ دناءة تريد أكثرَ من أن يشهد بعضهم على بعض بالشرك ؟

فقال الرجل : إني لست إياك أسأل ، إنما أسأل الشيخ . فأعاد على عبد الله الحديث ، فقال عبد الله : لعلك ترى ، لا أبالك ، أني سآمرك أن تذهب فتقتلهم ! عظْهم وانههم ، فإن عصوك فعليك نَفْسك{[10502]} فإن الله ، عز وجل يقول : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } الآية .

وقال أيضًا : حدثني أحمد بن المقدام ، حدثنا المعتَمِر بن سليمان ، سمعت أبي ، حدثنا قتادة ، عن أبي مازن قال : انطلقت على عهد عثمان إلى المدينة ، فإذا قوم من المسلمين جلوس ، فقرأ أحدهم هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ } فقال أكْبَرهم{[10503]} لم يجئ تأويل هذه الآية اليوم .

وقال : حدثنا القاسم ، حدثنا الحُسَين ، حدثنا ابن فضالة ، عن معاوية بن صالح ، عن جُبَير بن نُفير قال : كنت في حلقة فيها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإني لأصغرُ القوم ، فتذاكروا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فقلت أنا : أليس الله يقول في كتابه : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } ؟ فأقبلوا عليّ بلسان واحد وقالوا : تنزع آية من القرآن ولا تعرفها ، ولا تدري ما تأويلها ! ! حتى تمنّيت{[10504]} أني لم أكن تكلمتُ ، وأقبلوا يتحدثون ، فلما حضر قيامهم قالوا : إنك غلام حَدَثُ{[10505]} السن ، وإنك نزعت بآية ولا تدري ما هي ؟ وعسى أن تدرك ذلك الزمان ، إذا رأيت شُحًّا مطاعًا ، وهَوًى متبعًا ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، فعليك بنفسك ، لا يضرك من ضل إذا اهتديت . {[10506]}

وقال ابن جرير : حدثنا علي بن سَهْل ، حدثنا ضَمْرَة بن ربيعة قال : تلا الحسن هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } فقال الحسن : الحمد لله بها ، والحمد لله عليها ، ما كان مؤمن فيما مضى ، ولا مؤمن فيما بقي ، إلا وإلى جانبه منافق يكره عمله .

وقال سعيد بن المسيب : إذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر ، فلا يضرك من ضل إذا اهتديت .

رواه ابن جرير ، وكذا روي من طريق سفيان الثوري ، عن أبي العُمَيْس ، عن أبي البَخْتَري ، عن حذيفة مثله ، وكذا قال غير واحد من السلف .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن خالد الدمشقي ، حدثنا الوليد ، حدثنا ابن لَهِيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن كعب في قوله : { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } قال : إذا هدمت كنيسة دمشق ، فجعلت مسجدًا ، وظهر لبس العَصْب ، فحينئذ تأويل هذه الآية .


[10476]:في د: "ونهيته عنه".
[10477]:في د: "وهكذا".
[10478]:في د: "ليجازي".
[10479]:في د: "وليس فيها دليل".
[10480]:في د: "قال أحمد".
[10481]:في د: "يا أيها".
[10482]:في د: "يجانب".
[10483]:المسند (1/5) وسنن أبي داود برقم (4338) وسنن الترمذي برقم (2168) وسنن النسائي الكبرى برقم (11157) وسنن ابن ماجة برقم (4005).
[10484]:رواه أبو يعلى في المسند (1/118) من طريق شعبة، عن الحكم، عن قيس بن أبي حازم به موقوفًا.
[10485]:العلل للدارقطني (1/253).
[10486]:في د: "ابن الحارث".
[10487]:في د: "الشعثاني".
[10488]:زيادة من د.
[10489]:في د: "فقال".
[10490]:سنن الترمذي برقم (3058) وسنن أبي داود برقم (4341) وسنن ابن ماجة برقم (4014) وتفسير الطبري (11/145).
[10491]:في د: "سئل عن قوله".
[10492]:في د: "ليس زمانها اليوم".
[10493]:زيادة من د.
[10494]:في د: "فردها".
[10495]:في د: "تأويلها".
[10496]:في د: "نزل".
[10497]:تفسير الطبري (11/143).
[10498]:في د: "لأن".
[10499]:تفسير الطبري (11/139).
[10500]:في د: "فأتاه".
[10501]:في د: "ولا يألو".
[10502]:في د: "بنفسك".
[10503]:في د: "أكثرهم".
[10504]:في د: "فتمنيت".
[10505]:في د: "حديث".
[10506]:تفسير الطبري (11/142).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيۡكُمۡ أَنفُسَكُمۡۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهۡتَدَيۡتُمۡۚ إِلَى ٱللَّهِ مَرۡجِعُكُمۡ جَمِيعٗا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ} (105)

تذييل جرى على مناسبة في الانتقال فإنّه لما ذكر مكابرة المشركين وإعراضهم عن دعوة الخير عقّبه بتعليم المسلمين حدود انتهاء المناظرة والمجادلة إذا ظهرت المكابرة ، وعذر المسلمين بكفاية قيامهم بما افترض الله عليهم من الدعوة إلى الخير ، فأعلمهم هنا أن ليس تحصيل أثر الدعاء على الخير بمسؤولين عنه ، بل على الداعي بذل جهده وما عليه إذا لم يصغ المدعوّ إلى الدعوة ، كما قال تعالى : { إنّك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء } [ القصص : 56 ] .

و { عليكم } اسم فعل بمعنى الزَموا ، وذلك أنّ أصله أن يقال : عليك أن تفعل كذا ، فتكون جملة من خبر مقدّم ومبتدأ مؤخّر ، وتكون ( على ) دالّة على استعلاء مجازي ، كأنّهم جعلوا فعل كذا معتلياً على المخاطب ومتمكّناً منه تأكيداً لمعنى الوجوب فلمّا كثر في كلامهم قالوا : عليك كذا ، فركّبوا الجملة من مجرور خبر واسم ذات مبتدأ بتقدير : عليك فعل كذا ، لأنّ تلك الذات لا توصف بالعلوّ على المخاطب ، أي التمكّن ، فالكلام على تقدير . وذلك كتعلّق التحريم والتحليل بالذوات في قوله : { حرّمت عليكم الميتة } [ المائدة : 3 ] ، وقوله { أحلّت لكم بهيمة الأنعام } [ المائدة : 1 ] ، ومن ذلك ما روي { عليكم الدعاء وعليّ الإجابة } ومنه قولهم : عليّ أليّة ، وعليّ نذر . ثم كثر الاستعمال فعاملوا ( على ) معاملة فعل الأمر فجعلوها بمعنى أمر المخاطب بالملازمة ونصبوا الاسم بعدها على المفعولية . وشاع ذلك في كلامهم فسمّاها النحاة اسم فعل لأنّها جعلت كالاسم لمعنى أمر مخصوص ، فكأنّك عمدت إلى فعل ( الزم ) فسميّته ( عَلَى ) وأبرزت مَا مَعه من ضمير فألصقته ب ( عَلى ) في صورة الضمير الذي اعتيد أن يتّصل بها ، وهو ضمير الجرّ فيقال : عليك وعليكما وعليكم . ولذلك لا يسند إلى ضمائر الغيبة لأنّ الغائب لا يؤمر بصيغة الأمر بل يؤمر بواسطة لام الأمر .

فقوله تعالى : { عليكم أنفسكم } هو بنصب { أنفسكم } أي الزموا أنفسكم ، أي احرصوا على أنفسكم . والمقام يبيّن المحروص عليه ، وهو ملازمة الاهتداء بقرينة قوله : { إذا اهتديتم } ، وهو يشعر بالإعراض عن الغير وقد بيّنه بقوله : { لاَ يضرّكم من ضلّ } .

فجملة { لا يضرّكم من ضلّ } تتنزّل من التي قبلها منزلة البيان فلذلك فصلت ، لأنّ أمرهم بملازمة أنفسهم مقصود منه دفع ما اعتراهم من الغمّ والأسف على عدم قبول الضالّين للاهتداء ، وخشية أن يكون ذلك لتقصير في دعوتهم ، فقيل لهم : عليكم أنفسكم ، أي اشتغلوا بإكمال اهتدائكم ، ففعل { يضرّكم } مرفوع .

وقوله : { إذا اهتديتم } ظرف يتضمّن معنى الشرط يتعلّق ب { يضرّكم } . وقد شمل الاهتداء جميع ما أمرهم به الله تعالى . ومن جملة ذلك دعوة الناس إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فلو قصروا في الدعوة إلى الخير والاحتجاج له وسكتوا عن المنكر لضرّهم من ضلّ لأنّ إثم ضلاله محمول عليهم .

فلا يتوهّم من هذه الآية أنّها رخصة للمسلمين في ترك الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لأنّ جميع ذلك واجب بأدلّة طفحت بها الشريعة . فكان ذلك داخلاً في شرط { إذا اهتديتم } . ولما في قوله { عليكم أنفسكم } من الإشعار بالإعراض عن فريق آخر وهو المبيّين بِ { من ضلّ } ، ولما في قوله { إذا اهتديتم } من خفاء تفاريع أنواع الاهتداء ؛ عرض لبعض الناس قديماً في هذه الآية فشكّوا في أن يكون مُفادها الترخيص في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وقد حدث ذلك الظنّ في عهد النبي صلى الله عليه وسلم .

أخرج الترمذي عن أبي أمية الشعباني أنّه قال : سألت عنها أبا ثعلبة الخشني ، فقال لي : سألتَ عنها خبيراً ، سألتُ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " بل ائتمروا بالمعروف وتناهَوا عن المنكر حتّى إذا رأيت شحّاً مُطَاعَاً وهوى مُتَّبعاً وَدنْيَا مُؤثرَة وإعجابَ كلّ ذي رأي برأيه فعليك بخاصّة نفسك ودَعَ العوّام " وَحَدَثَ في زَمَن أبي بكر : أخرَجَ أصحابُ « السنن » أنّ أبا بكر الصديق بلغه أنّ بعض الناس تأوّل الآية بسقوط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : { يأيّها الناس إنّكم تَقْرَأونَ هذه الآية { يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضرّكم من ضلّ إذا اهتديتم } وإنّكم تضعونها على غير موضعها وإنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إنّ الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيّرونه يوشك الله أن يعمّهم بعقابه ، وإنّ الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمّهم الله بعذاب من عنده . وعن ابن مسعود أنّه قرئت عنده هذه الآية فقال : إنّ هذا ليس بزمانها إنّها اليوم مقبولة ( أي النصيحة ) ولكن يوشك أن يأتي زمان تأمرون فلا يُقبل منكم فحينئذٍ عليكم أنفسكم ( يريد أن لا يجب عليهم قتال لتقبل نصيحتهم ) . وعنه أيضاً : إذا اختلفت القلوب وألبستم شيعاً وذاق بعضكم بأس بعض فامرُؤ ونفسه . وعن عبد الله بن عمر أنه قال : إنّها ( أي هذه الآية ) ليست لي ولا لأصحابي لأنّ رسول الله قال : " ألا ليبلّغ الشاهد الغائب " فكنّا نحن الشهود وأنتم الغيّب ، ولكن هذه الآية لأقوام يجيؤون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم .

فماصْدقُ هذه الآية هو مَاصْدقُ قول النبي صلى الله عليه وسلم في تغيير المنكر : " من رأى منكم منكراً فليغيِّره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان " فإنّ معنى الاستطاعة التمكّن من التغيير دون ضُرّ يلحقه أو يلحق عموم الناس كالفتنة . فالآية تفيد الإعراض عن ذلك إذا تحقّق عدم الجدوى بعد الشروع في ذلك ، ويلحق بذلك إذا ظهرت المكابرة وعدم الانتصاح كما دلّ عليه حديث أبي ثعلبة الخشني ، وكذلك إذا خيف حصول الضرّ للداعي بدون جدوى ، كما دلّ عليه كلام ابن مسعود المذكور آنفاً .

وقوله : { إلى الله مرجعكم جميعاً } عذر للمهتدي ونذارة للضالّ . وقدّم المجرور للاهتمام بمتعلّق هذا الرجوع وإلقاء المهابة في نفوس السامعين ، وأكّد ضمير المخاطبين بقوله : { جميعاً } للتنصيص على العموم وأن ليس الكلام على التغليب . والمراد بالإنباء بما كانوا يعملون الكناية عن إظهار أثر ذلك من الثواب للمهتدي الداعي إلى الخير ، والعذاب للضالّ المعرض عن الدعوة .

والمرجع مصدر ميمي لا محالة ، بدليل تعديته ب { إلى } ، وهو ممّا جاء من المصادر الميمية بكسر العين على القليل ، لأنّ المشهود في الميمي مِن يَفعِل بكسر العين أن يكون مفتوح العين .