وبعد أن أمر الله المؤمنين بالإِنفاق في وجوه الخير ، وذكرهم بأهوال يوم القيامة ، أتبع ذلك بآية كريمة اشتملت على تمجيده - سبحانه - فبينت كمال سلطانه ، وشمول علمه . وسابغ نعمه على خلقه . استمع إلى القرآن وهو يصف لك الخالق - عز وجل - بأكمل الصفات وأعظمها فيقول :
{ الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم . . . }
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ( 255 )
قال بعضهم : هذه آية الكرسي أفضل آية من القرآن . ومعنى الفضل أن الثواب على قراءتها أكثر من على غيرها من الآيات . هذا هو التحقيق في تفضيل بعض آيات القرآن على بعض . وإنما كانت أفضل لأنها جمعت من أحكام الألوهية وصفات الإِله الثبوتية والسلبية ما لم تجمعه آية أخرى . جاء في الحديث الشريف عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لكل شيء سنام وإن سنام القرآن البقرة ، وفيها آية هي سيدة القرآن - أي أفضله - وهي آية الكرسي " .
وقد اشتملت هذه الآية الكريمة على عشر جمل فيها ما فيها من صفات الله الجليلة - ونعوته السامية . أما الجملة الأولى والثانية فتتمثل في قوله - تعالى - : { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم } .
ولفظ الجلالة { الله } يقول العلماء : إن أصله إله دخلت عليه أداة التعريف " أل " وحذفت الهمزة فصارت الكلمة الله . قال القرطبي : قوله { الله } هذا الاسم أكبر أسمائه - تعالى - وأجمعها ، حتى قال بعضهم إنه اسم الله الأعظم ولم يتسم به غيره ، ولذلك لم يثن ولم يجمع ، فالله اسم الموجود الحق الجامع لصفات الألوهية ، المنعوت بنعوت الربوبية المنفرد بالوجود الحقيقي ، لا إله إلا هو - سبحانه - " .
ولفظ { إله } قالوا إنه من إله فلان يأله أي عبد . فالإِله على هذا المعنى هو المعبود ، وقيل هو من أله أي تحير . . وذلك أن العبد إذا تفكر في صفاته - سبحانه - تحير فيها ؛ ولذا قيل : " تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله " .
و { الحي } أي الباقي الذي له الحياة الدائمة التي لا فناء لها . لم تحدث له الحياة بعد الموت ، ولا يعتريه الموت بعد الحياة ، وسائر الأحياء سواه يعتريهم الموت والفناء .
و { القيوم } أي : الدائم القيام بتدبير أمر الخلق وحفظهم ، والمعطى لهم ما به قوامهم . وهو مبالغة في القيام . وأصله قيووم - بوزن فيعول - من قام بالأمر إذا حفظه ودبره .
والمعنى : الله - عز وجل - هو الإِله الحق المتفرد بالألوهية التي لا يشاركه فيها سواه ، وهو المعبود بحق وكل معبود سواه فهو باطل ، وهو ذو الحياة الكاملة ، وهو الدائم القيام بتدبير شئون الخلق وحياطتهم ورعايتهم وإحيائهم وإماتتهم .
والجملة الثالثة قوله - تعالى - : { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } وهي جملة سلبية مؤكدة للوصف الإِيجابي السابق ، فإن قيامه على كل نفس ما كسبت ، وعلى تدبير شئون خلقه يقتضي ألا تعرض له غفلة ، ولأن السنة والنوم من صفات الحوادث وهو - سبحانه - مخالف لها .
والسنة : الفتور الذي يكون في أول النوم مع بقاء الشعور والإِدراك .
ويقال له غفورة . يقال : وسن الرجل يوسن وسناً وسنة فهو وسن ووسنان إذا نعس والمراد أنه - سبحانه - لا يغفل عن تدبير أمر خلقه أبداً ، ولا يحجب علمه شيء حجباً قصيراً أو طويلاً ، ولا يدركه ما يدرك الأجسام من الفتور أو النعاس ، أو النوم .
وتقديم السنة على النوم يفيد المبالغة من حيث إن نفي السنة يدل على نفي النوم بالأولى ، فنفيه ثانياً صريحاً يفيد المبالغة لأن عطف الخاص على العام يفيد المبالغة ولأن عطف الخاص على العام يفيد التوكيد أي لا تأخذه سنة فضلا عن أن يأخذه نوم . وفي قوله : { لاَ تَأْخُذُهُ } دلالة على أن للنوم قوة قاهرة تأخذ الحيوان أخذاً وتقهر الكثير من أجناس المخلوقات قهراً ، ولكنه - سبحانه - وهو القاهر فوق عباده - منزه عن ذلك ، ومبرأ من أن يعتريه ما يعتري الحوادث .
وقوله - سبحانه - في الجملة الرابعة : { لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } تقرير لانفراده بالأولوهية إذ جميع الموجودات مخلوقاته ، وتعليل لا تصافه بالقيومية ، لأن من كانت جميع الموجودات ملكا له فهو حقيق بأن يكون قائما بتدبير أمرها .
والمراد بما فيهما ما هو أعم من أجزائهما الداخلة فيهما ومن الأمور الخارجة عنهما المتمكنة فيهما من العقلاء وغيرهم . فالجملة الكريمة تفيد الملكية المطلقة لرب العالمين لكل ما في هذا الوجود من شمس وقمر وحيوان ونبات وجماد وغير ذلك من المخلوقات . وصدرت الجملة بالجار والمجرور " له " لإفادة القصر أي ملك السموات والأرض له وحده ليس لأحد سواه شيء معه .
والاستفهام في قوله في الجملة الخامسة { مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } للنفي والإِنكار أي : لا أحد يستطيع أن يشفع عنده - سبحانه - إلا بإذنه ورضاه قال - تعالى - { وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ فِي السماوات لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله لِمَن يَشَآءُ ويرضى } والمقصود من هذه الجملة - كما يقول الآلوسي - بيان كبرياء شأنه - تعالى - وأنه لا أحد يساويه أو يدانيه بحيث يستقل أن يدفع ما يريده دفعا على وجه الشفاعة والاستكانة والخضوع فضلا عن أن يستقل بدفعه عناداً أو مناصبة وعداوة . وفي ذلك تيئيس للكفار حيث زعموا أن آلهتهم شفعاء لهم عند الله " . وقوله - سبحانه في الجملة السادسة : { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } تأكيد لكمال سلطانه في هذا الوجود ، وبيان لشمول علمه على كل شيء .
والضمير في ( أيديهم ) و ( خلفهم ) يعود إلى ( ما ) في قوله قبل ذلك { لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } وعبر بضمير الذكور والعقلاء ، تغليباً لجانبهم على جانب غير العقلاء .
والعلم بما بين أيديهم وما خلفهم كناية عن إحاطة علمه - سبحانه بماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم ، وما يعرفونه من شئونهم الدنيوية وما لا يعرفونه .
وقوله - تعالى - في الجملة السابعة : { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ } معطوف على قوله { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } لأنه مكمل لمعناه . والمراد بالعلم المعلوم . والإِحاطة بالشيء معناهها العلم الكامل به .
أي : لا يعلمون شيئاً من معلوماته - سبحانه - إلا بالقدر الذي أراد أن يعلمهم إياه على ألسنة رسله . فهو كقوله - تعالى - : { عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً . إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ } فالجملة الكريمة بيان لكمال علم الله - تعالى - ولنقصان علم سواه ، إذ أن البشر لم يعظوا من العلم إلا القليل ، وهذا القليل ناقص لأنه ليس على إحاطة واستغراق لكل ما تشتمل عليه جزئيات الشيء ووجوده وجنسه وكيفية وغرضه المقصود به وبإيجاده ، إذ العلم الكامل بالشيء لا يكون إلا الله رب العالمين .
ثم قال - تعالى - في الجملة الثامنة : { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض } .
قال الراغب : الكرسي في تعارف العامة : اسم للشيء الذي يقعد عليه ، وهو في الأصل منسوب إلى الكرسي أي الشيء المجتمع ، ومنه الكراسة لأنها تجمع العلم . . وكل مجتمع من الشيء كرس .
وللعلماء اتجاهان مشهوران في تفسير معنى الكري في الجملة الكريمة . فالسلف يقولون : إن لله - تعالى - كرسيا علينا أن نؤمن بوجوده وإن كنا لا نعرف حقيقته ، لأن ذلك ليس في مقدور البشر .
والخلف يقولون : الكرسي في الآية كناية عن عظم السلطان ، ونفوذ القدرة ، وسعة العلم ، وكمال الإِحاطة .
ولصاحب الكشاف تلخيص حسن لأقوال العلماء في ذلك ، فقد قال - رحمه الله - وفي قوله : { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ } أربعة أوجه :
أحدها : أن كرسيه لم يضق عن السماوات والأرض لبسطته وسعته وما هو إلا تصوير لعظمته ولا كسري ثمة ولا قعود ولا قاعد .
والثاني : وسع علمه ، وسمي العلم كرسيا تسمية بمكانه الذي هو كرسي العالم .
والثالث : وسع ملكه تسمية بمكانه الذي هو كرسي الملك .
والرابع : ما روى أنه خلق كرسيا هو بين يدي العرش دونه السموات والأرض وهو إلى العرش كأصغر شيء . وعن الحسن الكلرسي هو العرش .
هذا وقد روى المفسرون عن ابن عباس أنه قال : " كرسيه علمه " ولعل تفسير الكرسي بالعلم كما قال حبر الأمة هو أقرب الأقوال إلى الصواب ، لأنه هو المناسب لسياق الآية الكريمة .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بالصفتين التاسعة والعاشرة فقال - تعالى - : { وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ العلي العظيم } .
{ يَؤُودُهُ } معناه يثقله ويشق عليه . يقال آدني الأمر بمعنى أثقلني وتحملت منه المشقة .
و { العلي } هو المتعالي عن الأشياء ، والأنداد ، والأمثال ، والأضداد وعن إمارات النقص ودلالات الحدوث . وقيل هو من العلو الذي هو بمعنى القدرة وعلو الشأن .
والمعنى : ولا يثقله ولا يتعبه حفظ السموات والأرض ورعايتهما ، وهو المتعالي عن الأشباه والنظائر ، والمسيطر على خلقه ، العظيم في ذاته وصفاته ، ففي هاتين الجملتين بيان لعظيم قدرته ، وعظيم رعايته لخلقه ، وتنزيهه - سبحانه - عن مشابهة الحوادث .
وبعد ، فهذه آية الكرسي التي اشتملت على عشر جمل ، كل جملة منها تشتمل على وصف أو أكثر من صفات الله الجليلة ، ونعوته المجيدة ، وألوهيته الحقه ، وقدرته النافذة ، وعلمه المحيط بكل شيء ، قد أقامت الأدلة الساطعة على وحدانية الله - تعالى - وجوب إفراده بالعباده .
وقد تكلم العلماء طويلا عن تناسق جملها ، وبلاغه تراكيبها ووجوه فضلها ومن ذلك قول صاحب الكشاف : " فإن قلت : لم فضلت هذه الآية على غيرها حتى ورد في فضلها ما ورد ؟ قلت : لما فضلت له سورة الإخلاص من اشتمالها على توحيد الله وتعظيمه وتمجيده وصفاته العظمى ولا مذكور أعظم من رب العزة . فما كان ذكراً له كان أفضل من سائر الأذكار " .
ومن الأحاديث التي ساقها الإِمام ابن كثير في فضلها ما جاء عن أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله : " أي آية في كتاب الله أعظم ؟ قال الله ورسوله أعلم . فرددها مرارا ثم قال : آية الكرسي . فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم ليهنك العلم أبا المنذر " .
وأخرج الإِمام مسلم في صحيحه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن أعظم آية في القرآن هي آية الكرسي " .
وروى أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - خرج ذات يوم على الناس فقال : أيكم يخبرني بأعظم آية ؟ فقال ابن مسعود على الخبير سقطت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " أعظم آية في القرآن { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم } " . الآية .
وبمناسبة الاختلاف بعد الرسل والاقتتال ، والكفر بعد مجيء البينات والإيمان . . بهذه المناسبة تجيء آية تتضمن قواعد التصور الإيماني ، وتذكر من صفات الله سبحانه ما يقرر معنى الوحدانية في أدق مجالاته ، وأوضح سماته . وهي آية جليلة الشأن ، عميقة الدلالة ، واسعة المجال :
( الله لا إله إلا هو الحي القيوم . لا تأخذه سنة ولا نوم . له ما في السماوات وما في الأرض . من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ؟ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ، ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء . وسع كرسيه السماوات والأرض ، ولا يؤوده حفظهما . وهو العلي العظيم ) . .
وكل صفة من هذه الصفات تتضمن قاعدة من قواعد التصور الإسلامي الكلية . ومع أن القرآن المكي في عمومه كان يدور على بناء هذا التصور ، فإننا نلتقي في القرآن المدني كذلك في مناسبات شتى بهذا الموضوع الأصيل إلهام . الذي يقوم على أساسه المنهج الإسلامي كله ، ولا يستقيم هذا المنهج في الحس إلا أن يستقيم ذلك الأساس ، ويتضح ، ويتحول إلى حقائق مسلمة في النفس ، ترتكن إلى الوضوح واليقين .
ولقد تحدثت فيما سبق عند تفسير سورة الفاتحة في أول الجزء الأول من هذه الطبعة من الظلال ، عن الأهمية البالغة لوضوح صفة الله - سبحانه - في الضمير الإنساني . بما أن الركام الذي كان يرين على هذا الضمير من تصورات الجاهلية كان معظمه ناشئا من غموض هذه الحقيقة ، ومن غلبة الخرافة والأسطورة عليها ؛ ومن الغبش التي يغشيها حتى في فلسفة أكبر الفلاسفة . . حتى جاء الإسلام فجلاها هذا الجلاء ، وأنقذ الضمير البشري من ذلك الركام الثقيل ، ومن ذلك الضلال والخبط في الظلماء !
وكل صفة من هذه الصفات التي تضمنتها هذه الآية تمثل قاعدة يقوم عليها التصور الإسلامي الناصع ، كما يقوم عليها المنهج الإسلامي الواضح .
فهذه الوحدانية الحاسمة التي لا مجال فيها لأي انحراف أو لبس مما طرأ على الديانات السابقة - بعد الرسل - كعقيدة التثليث المبتدعة من المجامع الكنسية بعد عيسى - عليه السلام - ولا لأي غبش مما كان يرين على العقائد الوثنية التي تميل إلى التوحيد ، ولكنها تلبسه بالأساطير ، كعقيدة قدماء المصريين - في وقت من الأوقات - بوحدانية الله ، ثم تلبيس هذه الوحدانية بتمثل الإله في قرص الشمس ! ووجود آلهة صغيرة خاضعة له !
هذه الوحدانية الحاسمة الناصعة هي القاعدة التي يقوم عليها التصور الإسلامي ؛ والتي ينبثق منها منهج الإسلام للحياة كلها . فعن هذا التصور ينشأ الاتجاه إلى الله وحده بالعبودية والعبادة . فلا يكون إنسان عبدا إلا لله ، ولا يتجه بالعبادة إلا لله ، ولا يلتزم بطاعة إلا طاعة الله ، وما يأمره الله به من الطاعات . وعن هذا التصور تنشأ قاعدة : الحاكمية لله وحده . فيكون الله وحده هو المشرع للعباد ؛ ويجيء تشريع البشر مستمدا من شريعة الله . وعن هذا التصور تنشأ قاعدة استمداد القيم كلها من الله ؛ فلا اعتبار لقيمة من قيم الحياة كلها إذا لم تقبل في ميزان الله ، ولا شرعية لوضع أو تقليد أو تنظيم يخالف عن منهج الله . . وهكذا إلى آخرما ينبثق عن معنى الوحدانية من مشاعر في الضمير أو مناهج لحياة الناس في الأرض على السواء .
والحياة التي يوصف بها الإله الواحد هي الحياة الذاتية التي لم تأت من مصدر آخر كحياة الخلائق المكسوبة الموهوبة لها من الخالق . ومن ثم يتفرد الله - سبحانه - بالحياة على هذا المعنى . كما أنها هي الحياة الأزلية الأبدية التي لا تبدأ من مبدأ ولا تنتهي إلى نهاية ، فهي متجردة عن معنى الزمان المصاحب لحياة الخلائق المكتسبة المحددة البدء والنهاية . ومن ثم يتفرد الله - سبحانه - كذلك بالحياة على هذا المعنى . ثم إنها هي الحياة المطلقة من الخصائص التي اعتاد الناس أن يعرفوا بها الحياة . فالله - سبحانه - ليس كمثله شيء ، ومن ثم يرتفع كل شبه من الخصائص التي تتميز بها حياة الأشياء ، وتثبت لله صفة الحياة مطلقة من كل خصيصة تحدد معنى الحياة في مفهوم البشر . . وتنتفي بهذا جميع المفهومات الأسطورية التي جالت في خيال البشر !
أما صفة( القيوم ) . . فتعني قيامه - سبحانه - على كل موجود . كما تعني قيام كل موجود به فلا قيام لشيء إلا مرتكنا إلى وجوده وتدبيره . . لا كما كان أكبر فلاسفة الإغريق - أرسطو - يتصور أن الله لا يفكر في شيء من مخلوقاته ، لأنه تعالى أن يفكر في غير ذاته ! ويحسب أن في هذا التصور تنزيها لله وتعظيما ؛ وهو يقطع الصلة بينه وبين هذا الوجود الذي خلقه . . وتركه . . فالتصور الإسلامي تصور إيجابي لا سلبي . يقوم على أساس أن الله - سبحانه - قائم على كل شيء ، وأن كل شيء قائم في وجوده على إرادة الله وتدبيره . . ومن ثم يظل ضمير المسلم وحياته ووجوده ووجود كل شيء من حوله مرتبطا بالله الواحد ؛ الذي يصرف أمره وأمر كل شيء حوله ، وفق حكمة وتدبير ، فيلتزم الإنسان في حياته بالمنهج المرسوم القائم على الحكمة والتدبير ؛ ويستمد منه قيمه وموازينه ، ويراقبه وهو يستخدم هذه القيم والموازين .
وهذا توكيد لقيامه - سبحانه - على كل شيء ، وقيام كل شيء به . ولكنه توكيد في صورة تعبيرية تقرب للإدراك البشري صورة القيام الدائم . في الوقت الذي تعبر فيه هذه الصورة عن الحقيقة الواقعة من مخالفة الله - سبحانه - لكل شيء . . ( ليس كمثله شيء ) . . وهي تتضمن نفي السنة الخفيفة أو النوم المستغرق ، وتنزهه - سبحانه - عنهما إطلاقا . .
وحقيقة القيام على هذا الوجود بكلياته وجزئياته في كل وقت وفي كل حالة . . حقيقة هائلة حين يحاول الإنسان تصورها ، وحين يسبح بخياله المحدود مع ما لا يحصيه عد من الذرات والخلايا والخلائق والأشياء والأحداث في هذا الكون الهائل ؛ ويتصور - بقدر ما يملك - قيام الله - سبحانه - عليها ؛ وتعلقها في قيامها بالله وتدبيره . . إنه أمر . . أمر لا يتصوره الإدراك الإنساني . وما يتصوره منه - وهو يسير - هائل يدير الرؤوس . ويحير العقول ، وتطمئن به القلوب . .
( له ما في السماوات وما في الأرض ) . .
فهي الملكية الشاملة . كما أنها هي الملكية المطلقة . . الملكية التي لا يرد عليها قيد ولا شرط ولا فوت ولا شركة . وهي مفهوم من مفاهيم الألوهية الواحدة . فالله الواحد هو الحي الواحد ، القيوم الواحد ، المالك الواحد وهي نفي للشركة في صورتها التي ترد على أذهان الناس ومداركهم . كما أنها ذات أثر في إنشاء معنى الملكية وحقيقتها في دنيا الناس . فإذا تمحضت الملكية الحقيقية لله ، لم يكن للناس ملكية ابتداء لشيء . إنما كان لهم استخلاف من المالك الواحد الأصلي الذي يملك كل شيء . ومن ثم وجب أن يخضعوا في خلافتهم لشروطالمالك المستخلف في هذه الملكية . وشروط المالك المستخلف قد بينها لهم في شريعته ؛ فليس لهم أن يخرجوا عنها ؛ وإلا بطلت ملكيتهم الناشئة عن عهد الاستخلاف ، ووقعت تصرفاتهم باطلة ، ووجب رد هذه التصرفات من المؤمنين بالله في الأرض . . وهكذا نجد أثر التصور الإسلامي في التشريع الإسلامي ، وفي واقع الحياة العملية التي تقوم عليه . وحين يقول الله في القرآن الكريم : ( له ما في السماوات وما في الأرض ) . فإنه لا يقرر مجرد حقيقة تصورية اعتقادية ؛ إنما يضع قاعدة من قواعد الدستور للحياة البشرية ونوع الارتباطات التي تقوم فيها كذلك .
على أن مجرد استقرار هذه الحقيقة في الضمير . . مجرد شعور الإنسان بحقيقة المالك - سبحانه - لما في السماوات وما في الأرض . . مجرد تصور الإنسان لخلو يده هو من ملكية أي شيء مما يقال : إنه يملكه ؛ ورد هذه الملكية لصاحبها الذي له ما في السماوات وما في الأرض . . مجرد إحساسه بأن ما في يده عارية لأمد محدود ، ثم يستردها صاحبها الذي أعارها له في الأجل المرسوم . . مجرد استحضار هذه الحقائق والمشاعر كفيل وحده بأن يطامن من حدة الشره والطمع ، وحدة الشح والحرص ، وحدة التكالب المسعور . وكفيل كذلك بأن يسكب في النفس القناعة والرضى بما يحصل من الرزق ؛ والسماحة والجود بالموجود ؛ وأن يفيض على القلب الطمأنينة والقرار في الوجدان والحرمان سواء ؛ فلا تذهب النفس حسرات على فائت أو ضائع ؛ ولا يتحرق القلب سعارا على المرموق المطلوب !
( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ؟ ) . .
وهذه صفة أخرى من صفات الله ؛ توضح مقام الألوهية ومقام العبودية . . فالعبيد جميعا يقفون في حضرة الألوهية موقف العبودية ؛ لا يتعدونه ولا يتجاوزونه ، يقفون في مقام العبد الخاشع الخاضع ؛ الذي لا يقدم بين يدي ربه ؛ ولا يجرؤ على الشفاعة عنده ، إلا بعد أن يؤذن له ، فيخضع للإذن ويشفع في حدوده . . وهم يتفاضلون فيما بينهم ، ويتفاضلون في ميزان الله . ولكنهم يقفون عند الحد الذي لا يتجاوزه عبد . .
إنه الإيحاء بالجلال والرهبة في ظل الألوهية الجليلة العلية . يزيد هذا الإيحاء عمقا صيغة الاستفهام الاستنكارية ؛ التي توحي بأن هذا أمر لا يكون ؛ وأنه مستنكر أن يكون . فمن هو هذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ؟ وفي ظل هذه الحقيقة تبدو سائر التصورات المنحرفة للذين جاءوا من بعد الرسل فخلطوا بين حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية ، فزعموا لله - سبحانه - خليطا يمازجه أو يشاركه بالبنوة أو بغيرها من الصور في أي شكل وفي أي تصور ، أو زعموا له - سبحانه - اندادا يشفعون عنده فيستجيب لهم حتما . أو زعموا له - سبحانه - من البشر خلفاء يستمدون سلطانهم من قرابتهم له . . في ظل هذه الحقيقة تبدو تلك التصورات كلها مستنكرة مستبعدة لا تخطر على الذهن ؛ ولا تجول في الخاطر ، ولا تلوح بظلها في خيال !
وهذه هي النصاعة التي يتميز بها التصور الإسلامي ؛ فلا تدع مجالا لتلبيس أو وهم ، أو اهتزاز في الرؤية ! الألوهية الوهية . والعبودية عبودية . ولا مجال لالتقاء طبيعتهما أدنى التقاء . والرب رب ، والعبد عبد . ولا مجال لمشاركة في طبيعتهما ولا التقاء .
فأما صلة العبد بالرب ، ورحمة الرب للعبد ، والقربى والود والمدد . . فالإسلام يقررها ويسكبها في النفس سكبا ؛ ويملأ بها قلب المؤمن ويفيضها عليه فيضا ؛ ويدعه يعيش في ظلالها الندية الحلوة . دون ما حاجة إلى خلط طبيعة الألوهية وطبيعة العبودية . ودون ما حاجة إلى الغبش والركام والزغللة والاضطراب الذي لا تتبين فيه صورة واحدة واضحة ولا ناصعة ولا محددة !
( يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ، ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ) . .
وهذه الحقيقة بطرفيها تساهم كذلك في تعريف المسلم بإلهه ، وفي تحديد مقامه هو من إلهه . فالله يعلم ما بين أيدي الناس وما خلفهم . وهو تعبير عن العلم الشامل الكامل المستقصي لكل ما حولهم . فهو يشمل حاضرهم الذي بين أيديهم ؛ ويشمل غيبهم الذي كان ومضى والذي سيكون وهو عنهم محجوب . كذلك هو يشمل ما يعلمونه من الأمور وما يجهلونه في كل وقت . وهو على العموم تعبير لغوي يفيد شمول العلم وتقصيه . . أما هم فلا يعلمون شيئا إلا ما يأذن لهم الله أن يعلموه . .
وشطر الحقيقة الأول . . علم الله الشامل بما بين أيديهم وما خلفهم . . من شأنه أن يحدث في النفس رجة وهزة . النفس التي تقف عارية في كل لحظة أمام بارئها الذي يعلم ما بين يديها وما خلفها . يعلم ما تضمر علمه بما تجهر . ويعلم ما تعلم علمه بما تجهل . ويعلم ما يحيط بها من ماض وآت مما لا تعلمه هي ولا تدريه . . شعور النفس بهذا خليق بأن يحدث فيها هزة الذي يقف عريانا بكل ما في سريرته أمام الديان ؛ كما أنه خليق بأن يسكب في القلب الاستسلام لمن يعرف ظاهر كل شيء وخافيه .
وشطر الحقيقة الثاني . . أن الناس لا يعلمون إلا ما شاء الله لهم أن يعلموه . . جدير بأن يتدبره الناس طويلا . وبخاصة في هذه الأيام التي يفتنون فيها بالعلم في جانب من جوانب الكون والحياة .
( ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ) . .
إنه - سبحانه - هو الذي يعلم وحده كل شيء علما مطلقا شاملا كاملا . وهو - سبحانه - يتأذن فيكشف للعباد بقدر عن شيء من علمه ؛ تصديقا لوعده الحق : ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) . . ولكنهم هم ينسون هذه الحقيقة ؛ ويفتنهم ما يأذن الله لهم فيه من علمه . سواء كان هذا الذي أذن لهم فيه علم شيء من نواميس الكون وقوانينه ؛ أو رؤية شيء من غيبه في لحظة عابرة وإلى حد معين . . يفتنهم هذا كما يفتنهم ذاك ؛ فينسون الإإذن الأول الذي منحهم الإحاطة بهذا العلم . فلا يذكرون ولا يشكرون . بل يتبجحون وقد يكفرون .
إن الله سبحانه وهب الإنسان المعرفة مذ أراد إسناد الخلافة في الأرض إليه . ووعده أن يريه آياته في الآفاق وفي الأنفس ووعده الحق . وصدقه وعده فكشف له يوما بعد يوم ، وجيلا بعد جيل ، في خط يكاد يكون صاعدا أبدا ، عن بعض القوى والطاقات والقوانين الكونية التي تلزم له في خلافة الأرض ، ليصل بها إلى أقصى الكمال المقدر له في هذه الرحلة المرسومة .
وبقدر ما أذن الله للإنسان في علم هذا الجانب وكشف له عنه ، بقدر ما زوى عنه أسرارا أخرى لا حاجة له بها في الخلافة . . زوى عنه سر الحياة وما يزال هذا السر خافيا ، وما يزال عصيا ، وما يزال البحث فيه خبطا في التيه بلا دليل ! وزوى عنه سر اللحظة القادمة . فهي غيب لا سبيل إليه . والستر المسدل دونها كثيف لا تجدي محاولة الإنسان في رفعه . . وأحيانا تومض من وراء الستر ومضة لقلب مفرد بإذن من الله خاص ؛ ثم يسدل الستر ويسود السكون ؛ ويقف الإنسان عند حده لا يتعداه !
وزوى عنه أسرارا كثيرة . . زوى عنه كل ما لا يتعلق بالخلافة في الأرض . . والأرض هي تلك الذرة الصغيرة السابحة في الفضاء كالهباءة . .
ومع ذلك يفتن الإنسان بذلك الطرف من العلم ، الذي أحاط به بعد الأذن . يفتن فيحسب نفسه في الأرض إلها ! ويكفر فينكر أن لهذا الكون إلها ! وإن يكن هذا القرن العشرون قد بدأ يرد العلماء حقا إلى التواضعوالتطامن . فقد بدأوا يعلمون أنهم لم يؤتوا من العلم إلا قليلا ! وبقي الجهال المتعالمون الذين يحسبون أنهم قد علموا شيئا كثيرا !
( وسع كرسيه السماوات والأرض ، ولا يؤوده حفظهما ) . .
وقد جاء التعبير في هذه الصورة الحسية في موضع التجريد المطلق ؛ على طريقة القرآن في التعبير التصويري ، لأن الصورة هنا تمنح الحقيقة المراد تمثيلها للقلب قوة وعمقا وثباتا . فالكرسي يستخدم عادة في معنى الملك . فإذا وسع كرسيه السماوات والأرض فقد وسعهما سلطانه . وهذه هي الحقيقة من الناحية الذهنية . ولكن الصورة التي ترتسم في الحس من التعبير بالمحسوس أثبت وأمكن . وكذلك التعبير بقوله : ( ولا يؤوده حفظهما ) فهو كناية عن القدرة الكاملة . ولكنه يجيء في هذه الصورة المحسوسة . صورة انعدام الجهد والكلال . لأن التعبير القرآني يتجه إلى رسم صور للمعاني تجسمها للحس ، فتكون فيه أوقع وأعمق وأحس .
ولا حاجة بنا إلى كل ما ثار من الجدل حول مثل هذه التعبيرات في القرآن ، إذا نحن فقهنا طريقة القرآن التعبيرية ؛ ولم نستعر من تلك الفلسفات الأجنبية الغريبة التي أفسدت علينا كثيرا من بساطة القرآن ووضوحه .
ويحسن أن أضيف هنا أنني لم أعثر على أحاديث صحيحة في شأن الكرسي والعرش تفسر وتحدد المراد مما ورد منها في القرآن . ومن ثم أوثر أن لا أخوض في شأنها بأكثر من هذا البيان .
وهذه خاتمة الصفات في الآية ، تقرر حقيقة ، وتوحي للنفس بهذه الحقيقة . وتفرد الله سبحانه بالعلو ، وتفرده سبحانه بالعظمة . فالتعبير على هذا النحو يتضمن معنى القصر والحصر . فلم يقل وهو علي عظيم ، ليثبت الصفة مجرد إثبات . ولكنه قال : ( العلي العظيم ) ليقصرها عليه سبحانه بلا شريك !
إنه المتفرد بالعلو ، المتفرد بالعظمة . وما يتطاول أحد من العبيد إلى هذا المقام إلا ويرده الله إلى الخفض والهون ؛ وإلى العذاب في الآخرة والهوان . وهو يقول ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا ) . . ويقول عن فرعون في معرض الهلاك : إنه كان عاليا . .
ويعلو الإنسان ما يعلو ، ويعظم الإنسان ما يعظم ، فلا يتجاوز مقام العبودية لله العلي العظيم . وعندما تستقر هذه الحقيقة في نفس الإنسان ، فإنها تثوب به إلى مقام العبودية وتطامن من كبريائه وطغيانه ؛ وترده إلى مخافة الله ومهابته ؛ وإلى الشعور بجلاله وعظمته ؛ وإلى الأدب في حقه والتحرج من الاستكبار على عباده . فهي اعتقاد وتصور . وهي كذلك عمل وسلوك . .
هذه آية الكرسي ولها شأن عظيم قد صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها أفضل آية في كتاب الله . قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق حدثنا سفيان عن سعيد الجريري عن أبي السليل عن عبد الله بن رباح ، عن أبي - هو ابن كعب - أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله : " أي آية في كتاب الله أعظم " ؟ قال : الله ورسوله أعلم . فرددها مرارًا ثم قال أبى : آية الكرسي . قال : " لِيَهْنك العلم أبا المنذر ، والذي نفسي بيده إن لها لسانًا وشفتين تقدس الملك عند ساق العرش " وقد رواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عبد الأعلى بن عبد الأعلى عن الجريري - به{[4267]} وليس عنده زيادة : " والذي نفسي بيده . . . " إلخ .
حديث آخر : عن أبي أيضاً في فضل آية الكرسي ، قال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي حدثنا مبشر عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن عبدة بن أبي لبابة{[4268]} عن عبد الله بن أبي بن كعب : أن أباه أخبره : أنه كان له جرن فيه تمر قال : فكان أبي يتعاهده فوجده ينقص قال : فحرسه{[4269]} ذات ليلة فإذا هو بدابة شبيه الغلام المحتلم قال : فسلمت عليه فرد السلام . قال : فقلت : ما أنت ، جني أم إنسي ؟ قال : جني . قلت : ناولني يدك . قال : فناولني ، فإذا يد{[4270]} كلب وشعر كلب . فقلت : هكذا خَلْقُ الجن ؟ قال : لقد علمت الجن ما فيهم أشد مني ، قلت : فما حملك على ما صنعت ؟ قال : بلغني أنك رجل تحب الصدقة فأحببنا أن نصيب من طعامك . قال : فقال له{[4271]} فما الذي يجيرنا{[4272]} منكم ؟ قال : هذه الآية : آية الكرسي . ثم غدا إلى النبي{[4273]} صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " صدق الخبيث " .
وهكذا رواه الحاكم في مستدركه من حديث أبي داود الطيالسي عن حرب بن شداد عن يحيى بن أبي كثير عن الحضرمي بن لاحق ، عن محمد بن عمرو بن أبي بن كعب عن جده به{[4274]} . وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه .
طريق أخرى : قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر حدثنا عثمان بن غياث{[4275]} قال : سمعت أبا السليل قال : كان رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يحدث الناس حتى يكثروا عليه فيصعد على سطح بيت فيحدث الناس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أي آية في القرآن أعظم ؟ " فقال رجل :
{ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ } قال : فوضع يده بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي ، أو قال : فوضع يده بين ثديي فوجدت بردها بين كتفي وقال : " ليهنك العلم يا أبا المنذر " {[4276]} .
حديث آخر : عن الأسفع{[4277]} البكري . قال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا أبو يزيد القراطيسي حدثنا يعقوب بن أبي عباد المكي حدثنا مسلم بن خالد ، عن ابن جريج أخبرني عمر بن عطاء أن مولى ابن الأسفع{[4278]} - رجل صدق - أخبره عن الأسفع {[4279]} البكري : أنه سمعه يقول : إن النبي صلى الله عليه وسلم جاءهم في صفة المهاجرين فسأله إنسان : أي آية في القرآن أعظم ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ } حتى انقضت الآية . {[4280]} .
حديث آخر : عن أنس قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن الحارث حدثني سلمة بن وردان أن أنس بن مالك حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل رجلا من صحابته فقال : " أي فلان هل تزوجت " ؟ قال : لا وليس عندي ما أتزوج به . قال : " أوليس معك : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } " ؟ قال : بلى . قال : " ربع القرآن . أليس معك : { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } " ؟ قال : بلى . قال : " ربع القرآن . أليس معك { إِذَا زُلْزِلَتِ } " ؟ قال : بلى . قال : " ربع القرآن أليس معك : { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ[ وَالْفَتْحُ ]{[4281]} } " ؟ قال : بلى . قال : " ربع القرآن . أليس معك آية الكرسي : { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ{[4282]} } " ؟ قال : بلى . قال : " ربع القرآن " {[4283]} .
حديث آخر : عن أبي ذر جُنْدَب بن جنادة قال الإمام أحمد : حدثنا وكيع بن الجراح حدثنا المسعودي أنبأني أبو عمر الدمشقي عن عبيد بن الخشخاش عن أبي ذر رضي الله عنه قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فجلست . فقال : " يا أبا ذر هل صليت ؟ " قلت : لا . قال : " قم فصل " قال : فقمت فصليت ثم جلست فقال : " يا أبا ذر تَعَوَّذ بالله من شر شياطين الإنس والجن " قال : قلت : يا رسول الله أوللإنس شياطين ؟ قال : " نعم " قال : قلت : يا رسول الله الصلاة ؟ قال : " خير موضوع من شاء أقل ومن شاء أكثر " . قال : قلت : يا رسول الله فالصوم ؟ قال : " فرض مُجْزِئ وعند الله مزيد " قلت : يا رسول الله فالصدقة ؟ قال : " أضعاف مضاعفة " . قلت : يا رسول الله فأيها أفضل ؟ قال : " جهد من مقل أو سر إلى فقير " قلت : يا رسول الله أي الأنبياء كان أول ؟ قال : " آدم " قلت : يا رسول الله ونبي{[4284]} كان ؟ قال : " نعم نبي مكلم " قال : قلت : يا رسول الله كم المرسلون ؟ قال : " ثلثمائة وبضعة عشر جمًّا غفيرًا " وقال مرة : " وخمسة عشر " قال : قلت : يا رسول الله أيما أنزل عليك أعظم ؟ قال : " آية الكرسي : { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } " ورواه النسائي{[4285]} .
حديث آخر : عن أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري ، رضي الله عنه وأرضاه قال الإمام أحمد : حدثنا سفيان{[4286]} عن ابن أبي ليلى عن أخيه عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبي أيوب : أنه كان{[4287]} في سهوة له ، وكانت الغول تجيء فتأخذ فشكاها إلى النبي صلى الله عليه وسلم : فقال : " فإذا رأيتها فقل : باسم الله أجيبي رسول الله " . قال : فجاءت فقال لها : فأخذها فقالت : إني لا أعود . فأرسلها فجاء فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " ما فعل أسيرك ؟ " قال : أخذتها فقالت لي : إني لا أعود ، إني لا أعود . فأرسلتها ، فقال{[4288]} : " إنها عائدة " فأخذتها مرتين أو ثلاثا كل ذلك تقول : لا أعود . وأجيء {[4289]} إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول : " ما فعل أسيرك ؟ " فأقول : أخذتها فتقول : لا أعود . فيقول : " إنها عائدة " فأخذتها فقالت : أرسلني وأعلمك شيئًا تقوله فلا يقربك شيء : آية الكرسي ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال : " صدقت وهي كذوب " .
ورواه الترمذي في فضائل القرآن عن بُنْدار عن أبي أحمد الزبيري به{[4290]} ، وقال : حسن غريب .
وقد ذكر البخاري هذه القصة عن أبي هريرة فقال في كتاب " فضائل القرآن " وفي كتاب " الوكالة " وفي " صفة إبليس " من صحيحه : قال عثمان بن الهيثم أبو عمرو حدثنا عوف عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال : وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام فأخذته وقلت : لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إني محتاج وعلي عيال ولي حاجة شديدة . قال : فخليت عنه . فأصبحت فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة ؟ " قال : قلت يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالا فَرحِمْتُه وخليت سبيله . قال : " أما إنه قد كَذَبك وسيعود " فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنه سيعود " فرصدته فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت : لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : دعني فإني محتاج وعلي عيال لا أعود . فرحمته وخليت سبيله فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة ؟ " قلت{[4291]} : يا رسول الله شكا حاجة وعيالا فرحمته فخليت سبيله . قال : " أما إنه قد كذبك وسيعود " فرصدته الثالثة فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت : لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهذا آخر ثلاث مرات أنَّك تزعم أنك لا تعود ثم تعود . فقال : دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها . قلت : ما هن{[4292]} . قال : إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي : { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } حتى تختم الآية فإنك لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح فخليت سبيله فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما فعل أسيرك البارحة ؟ " قلت : يا رسول الله زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله . قال : " ما هي ؟ " قال : قال لي : إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية : { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } وقال لي : لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح . وكانوا أحرص شيء على الخير ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أما إنه صدقك{[4293]} وهو كذوب تعلم من تخاطب مُذْ{[4294]} ثلاث ليال يا أبا هريرة ؟ " قلت{[4295]} : لا قال : " ذاك شيطان " .
كذا رواه البخاري معلقا بصيغة الجزم{[4296]} وقد رواه النسائي في " اليوم والليلة " عن إبراهيم بن يعقوب عن عثمان بن الهيثم فذكره {[4297]} وقد روي من وجه آخر عن أبي هريرة بسياق آخر قريب من هذا فقال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره :
حدثنا محمد بن عبد الله بن عمرويه الصفار ، حدثنا أحمد بن زهير بن حرب أخبرنا مسلم بن إبراهيم أخبرنا إسماعيل بن مسلم العبدي أخبرنا أبو المتوكل الناجي : أن أبا هريرة كان معه مفتاح بيت الصدقة وكان فيه تمر فذهب يوما ففتح الباب فوجد التمر قد أخذ منه ملء كف ودخل يوما آخر فإذا قد أخذ منه ملء كف ثم دخل يومًا آخر ثالثًا فإذا قد أخذ منه مثل ذلك . فشكا ذلك أبو هريرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " تحب أن تأخذ صاحبك هذا ؟ " قال : نعم . قال : " فإذا فتحت الباب فقل : سبحان من سخرك محمد " {[4298]} فذهب ففتح الباب فقال{[4299]} : سبحان من سخرك محمد{[4300]} . فإذا هو قائم بين يديه قال : يا عدو الله أنت صاحب هذا ؟ قال : نعم دعني فإني لا أعود ما كنت آخذا إلا لأهل بيت من الجن فقراء ، فخلى عنه ثم عاد الثانية ثم عاد الثالثة . فقلت : أليس قد عاهدتني ألا تعود ؟ لا أدعك اليوم حتى أذهب بك إلى النبي{[4301]} صلى الله عليه وسلم قال : لا تفعل فإنك إن تدعني علمتك كلمات إذا أنت قلتها لم يقربك أحد من الجن صغير ولا كبير ذكر ولا أنثى قال له : لتفعلن ؟ قال : نعم . قال : ما هن ؟ قال : { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } قرأ آية الكرسي حتى ختمها فتركه فذهب فأبعد فذكر ذلك أبو هريرة للنبي صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما علمت أن ذلك كذلك ؟ " .
وقد رواه النسائي عن أحمد بن محمد بن عبيد الله عن شعيب بن حرب عن إسماعيل بن مسلم عن أبي المتوكل عن أبي هريرة به{[4302]} وقد تقدم لأبي بن كعب كائنة مثل هذه أيضًا فهذه ثلاث وقائع .
قصة أخرى : قال أبو عبيد في كتاب " الغريب " : حدثنا أبو معاوية عن أبي عاصم الثقفي عن الشعبي عن عبد الله بن مسعود قال : خرج رجل من الإنس فلقيه رجل من الجن فقال : هل لك أن تصارعني ؟ فإن صرعتني علمتك آية إذا قرأتها حين تدخل بيتك لم يدخل شيطان ؟ فصارعه فصرعه{[4303]} فقال : إني أراك ضئيلا شخيتا{[4304]} كأن ذراعيك ذراعا كلب أفهكذا أنتم أيها الجن . كلكم أم أنت من بينهم ؟ فقال : إني بينهم{[4305]} لضليع فعاودني فصارعه {[4306]} فصرعه الإنسي . فقال : تقرأ آية الكرسي فإنه لا يقرؤها أحد إذا دخل بيته إلا خرج الشيطان وله خَبَخٌ كخبج{[4307]} الحمار .
فقيل لابن مسعود : أهو عمر ؟ فقال : من عسى أن يكون إلا عمر .
قال أبو عبيد : الضئيل : النحيف الجسم . والخَبَج{[4308]} بالخاء المعجمة ويقال : بالحاء المهملة : الضراط{[4309]} .
حديث آخر عن أبي هريرة : قال الحاكم أبو عبد الله في مستدركه : حدثنا علي بن حمشاذ{[4310]} حدثنا بشر بن موسى حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثني حكيم بن جُبَير الأسدي عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " سورة البقرة فيها آية سيدة آي القرآن لا تقرأ في بيت فيه شيطان إلا خرج منه ! آية الكرسي " .
وكذا رواه من طريق أخرى عن زائدة عن حكيم بن جبير ثم قال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه{[4311]} كذا قال ، وقد رواه الترمذي من حديث زائدة [ به ]{[4312]} ولفظه : " لكل شيء سنام وسنام القرآن سورة البقرة وفيها آية هي سيدة آي القرآن : آية الكرسي " . ثم قال : غريب لا نعرفه إلا من حديث حكيم بن جبير ، وقد تكلم فيه شعبة وضعفه{[4313]} .
قلت : وكذا ضعفه أحمد ويحيى بن معين وغير واحد من الأئمة وتركه ابن مهدي وكذبه السعدي .
حديث آخر : قال ابن مَرْدُويه : حدثنا عبد الباقي بن نافع أخبرنا عيسى بن محمد المروزي أخبرنا عمر بن محمد البخاري ، أخبرنا أبي أخبرنا عيسى بن موسى غُنْجَار عن عبد الله بن كَيْسان ، أخبرنا يحيى بن عقيل عن يحيى بن يعمر{[4314]} عن ابن عمر عن عمر بن الخطاب : أنه خرج ذات يوم إلى الناس وهم سماطات فقال : أيكم يخبرني بأعظم آية في القرآن ؟ فقال ابن مسعود : على الخبير سَقَطْتَ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " أعظم آية في القرآن : { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ }{[4315]} .
حديث آخر في اشتماله على اسم الله الأعظم : قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن بكر{[4316]} أخبرنا عبيد الله{[4317]} بن أبي زياد حدثنا شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد بن السكن قالت{[4318]} : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في هاتين الآيتين { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } و { الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } [ آل عمران : 1 ، 2 ] " إن فيهما اسم الله الأعظم " {[4319]} .
وكذا رواه أبو داود عن مُسدَّد والترمذي عن علي بن خَشْرم{[4320]} وابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة ثلاثتهم عن عيسى بن يونس عن عبيد الله بن أبي زياد به{[4321]} وقال الترمذي : حسن صحيح .
حديث آخر في معنى هذا عن أبي أمامة رضي الله عنه : قال ابن مَرْدُويه : أخبرنا عبد الرحمن بن نمير أخبرنا إسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل أخبرنا هشام بن عمار أخبرنا الوليد بن مسلم ، أخبرنا عبد الله بن العلاء بن زيد : أنه سمع القاسم بن عبد الرحمن يحدث عن أبي أمامة يرفعه قال : " اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في ثلاث : سورة البقرة وآل عمران وطه " وقال هشام - وهو ابن عمار خطيب دمشق - : أما البقرة ف { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } وفي آل عمران : { الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } وفي طه : { وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ } [ طه : 111 ]{[4322]} .
حديث آخر عن أبي أمامة في فضل قراءتها بعد الصلاة المكتوبة : قال أبو بكر بن مَرْدُويه : حدثنا محمد بن محرز بن مساور الأدمي أخبرنا جعفر بن محمد بن الحسن أخبرنا الحُسَين بن بشر{[4323]} بطَرسُوس أخبرنا محمد بن حمير أخبرنا محمد بن زياد عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قرأ دُبُر كل صلاة مكتوبة آية الكرسي لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت " .
وهكذا رواه النسائي في " اليوم والليلة " عن الحسين بن بشر به {[4324]}وأخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث محمد بن حِمْير وهو الحمصي من رجال البخاري أيضًا فهو إسناد على شرط البخاري ، وقد زعم أبو الفرج بن الجوزي أنه حديث موضوع{[4325]} فالله أعلم . وقد روى ابن مردويه من حديث علي{[4326]} والمغيرة بن شعبة{[4327]} وجابر بن عبد الله نحو هذا الحديث . ولكن في إسناد كل منها ضعف .
وقال ابن مردويه أيضا : حدثنا محمد بن الحسن بن زياد المقري أخبرنا يحيى بن دُرُسْتُوَيه المروزي{[4328]} أخبرنا زياد بن إبراهيم أخبرنا أبو حمزة السكري عن المثنى عن قتادة عن الحسن عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أوحى الله إلى موسى بن عمران عليه السلام أن اقرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة فإنه من يقرؤها في دبر كل صلاة مكتوبة أجعلْ له{[4329]} قلب الشاكرين ولسان الذاكرين وثواب المنيبين{[4330]} وأعمال الصديقين ولا يواظب على ذلك إلا نبي أو صديق أو عبد امتحنتُ{[4331]} قلبه للإيمان أو أريد قتله في سبيل الله " {[4332]} وهذا حديث منكر جدًّا .
حديث آخر في أنها تحفظ من قرأها أول النهار وأول الليل : قال أبو عيسى الترمذي : حدثنا يحيى بن المغيرة أبو سلمة المخزومي المديني أخبرنا ابن أبي فديك عن عبد الرحمن المليكي عن
زرارة بن مصعب عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قرأ : { حم } المؤمن إلى : { إِلَيْهِ الْمَصِيرُ } وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي ومن قرأهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح " ثم قال : هذا حديث غريب وقد تكلم بعض أهل العلم في عبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي مُلَيْكة المليكي من قبل حفظه{[4333]} .
وقد ورد في فضيلتها{[4334]} أحاديث أخر تركناها اختصارًا لعدم صحتها وضعف أسانيدها كحديث على قراءتها عند الحجامة : أنها تقوم مقام حجامتين وحديث أبي هريرة في كتابتها في اليد اليسرى بالزعفران سبع مرات وتلحس للحفظ وعدم النسيان أوردهما ابن مردويه وغير ذلك . وهذه الآية مشتملة على عشر جمل مستقلة .
فقوله : { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ } إخبار بأنه المتفرد بالإلهية لجميع الخلائق { الْحَيُّ الْقَيُّومُ } أي : الحي في نفسه الذي لا يموت أبدًا القيم لغيره وكان عمر يقرأ : " القَيَّام " فجميع الموجودات مفتقرة إليه وهو غني عنها ولا قوام لها بدون أمره كقوله : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأرْضُ بِأَمْرِهِ } [ الروم : 25 ] وقوله : { لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ } أي : لا يعتريه نقص ولا غفلة ولا ذهول عن خلقه بل هو قائم على كل نفس بما كسبت شهيد على كل شيء لا يغيب عنه شيء ولا يخفى عليه خافية{[4335]} ، ومن تمام القيومية أنه لا يعتريه سنة ولا نوم ، فقوله : { لا تَأْخُذُهُ } أي : لا تغلبه سنة وهي الوسن والنعاس ولهذا قال : { وَلا نَوْمٌ } لأنه أقوى من السنة . وفي الصحيح عن أبي موسى قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات فقال : " إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل النهار قبل عمل الليل وعمل الليل قبل عمل النهار حجابه النور - أو النار - لو كشفه لأحرقت سُبُحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه " {[4336]} .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر أخبرني الحكم بن أبان عن عكرمة مولى ابن عباس في قوله : { لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ } أن موسى عليه السلام سأل الملائكة هل ينام الله عز وجل ؟ فأوحى الله إلى الملائكة وأمرهم أن يؤرقوه ثلاثا{[4337]} فلا يتركوه ينام ففعلوا ثم أعطوه قارورتين فأمسكهما ثم تركوه وحذروه أن يكسرهما . قال : فجعل ينعس وهما في يده{[4338]} في كل يد واحدة قال : فجعل ينعس وينبه{[4339]} وينعس وينبه{[4340]} حتى نعس نعسة فضرب إحداهما بالأخرى فكسرهما قال معمر : إنما هو مثل ضربه الله عز وجل يقول : فكذلك السموات والأرض في يديه .
وهكذا رواه ابن جرير عن الحسن بن يحيى عن عبد الرزاق فذكره{[4341]} وهو من أخبار بني إسرائيل وهو مما يعلم أن موسى عليه السلام لا يخفى عليه مثل هذا من أمر الله عز وجل وأنه منزه عنه .
وأغرب من هذا كله الحديث الذي رواه ابن جرير :
حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل حدثنا هشام بن يوسف عن أمية بن شبل عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي عن موسى عليه السلام على المنبر ، قال : " وقع في نفس موسى : هل ينام الله ؟ فأرسل الله إليه ملكًا فأرقه ثلاثًا ثم أعطاه قارورتين في كل يد قارورة وأمره أن يحتفظ بهما " . قال : " فجعل ينام تكاد يداه تلتقيان فيستيقظ فيحبس إحداهما على الأخرى ، حتى نام نومة فاصطفقت يداه فانكسرت القارورتان " قال : " ضرب الله له مثلا عز وجل : أن الله لو كان ينام لم تستمسك السماء والأرض " {[4342]} .
وهذا حديث غريب جدا والأظهر أنه إسرائيلي لا مرفوع ، والله أعلم .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن القاسم بن عطية ، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الدَّشْتكي حدثني أبي عن أبيه حدثنا أشعث بن إسحاق عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : أن بني إسرائيل قالوا : يا موسى هل ينام ربك ؟ قال : اتقوا الله . فناداه ربه عز وجل : يا موسى سألوك : هل ينام ربك فخذ زجاجتين في يديك فقم الليلة ففعل موسى فلما ذهب من الليل ثلث نعس فوقع لركبتيه ، ثم انتعش فضبطهما حتى إذا كان آخر الليل نعس فسقطت الزجاجتان فانكسرتا . فقال : يا موسى ، لو كنت أنام لسقطت السموات والأرض فهلكن كما هلكت الزجاجتان في يديك . وأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم آية الكرسي .
وقوله : { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ } إخبار بأن الجميع عبيده وفي ملكه وتحت قهره وسلطانه كقوله :
{ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا } [ مريم : 93 - 95 ] .
وقوله : { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ } كقوله : { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى } [ النجم : 26 ] وكقوله : { وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى } [ الأنبياء : 28 ] وهذا من عظمته وجلاله وكبريائه عز وجل أنه لا يتجاسر أحد على أن يشفع عنده إلا بإذنه له{[4343]} في الشفاعة كما في حديث الشفاعة : " آتي تحت العرش فأخر{[4344]} ساجدًا فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقال : ارفع رأسك وقل تسمع واشفع تشفع " قال : " فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة " {[4345]} .
وقوله : { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } دليل على إحاطة علمه بجميع الكائنات : ماضيها وحاضرها ومستقبلها كقوله إخبارًا عن الملائكة : { وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا } [ مريم : 64 ] .
وقوله : { وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ } أي : لا يطلع أحد من علم الله على شيء إلا بما أعلمه الله عز وجل وأطلعه عليه . ويحتمل أن يكون المراد لا يطلعون على شيء من علم ذاته وصفاته إلا بما أطلعهم الله عليه كقوله : { وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا } [ طه : 110 ] .
وقوله : { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ } قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا ابن إدريس عن مطرف بن طريف عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله : { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ } قال : علمه ، وكذا رواه ابن جرير من حديث عبد الله بن إدريس وهشيم كلاهما عن مطرف بن طريف به .
قال ابن أبي حاتم : وروي عن سعيد بن جبير مثله . ثم قال ابن جرير : وقال آخرون : الكرسي موضع القدمين ثم رواه عن أبي موسى والسدي والضحاك ومسلم البطين .
وقال شجاع بن مخلد في تفسيره : أخبرنا أبو عاصم عن سفيان عن عمار الدُّهْني عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله : { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ } قال : " كرسيه موضع قدميه والعرش لا يقدر قدره إلا الله عز وجل " .
كذا أورد هذا الحديث الحافظ أبو بكر بن مردويه من طريق شجاع بن مخلد الفلاس ، فذكره{[4346]} وهو غلط وقد رواه وَكِيع في تفسيره : حدثنا سفيان عن عمار الدُّهْنِي{[4347]} عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : الكرسي موضع القدمين والعرش لا يقدر أحد قدره . وقد رواه الحاكم في مستدركه عن أبي العباس محمد بن أحمد المحبوبي عن محمد بن معاذ عن أبي عاصم عن سفيان - وهو الثوري - بإسناده عن ابن عباس موقوفًا مثله وقال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه{[4348]} وقد رواه ابن مردويه من طريق الحاكم بن ظُهَيْر الفزاري الكوفي - وهو متروك - عن السدي عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعًا ولا يصح أيضًا .
وقال السدي عن أبي مالك : الكرسي تحت العرش . وقال السدي : السموات والأرض في جوف الكرسي والكرسي بين يدي العرش . وقال الضحاك عن ابن عباس : لو أن السموات السبع والأرضين السبع بسطن ثم وصلن بعضهن إلى بعض ما كن في سعة الكرسي إلا بمنزلة الحلقة في المفازة .
ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم .
وقال ابن جرير : حدثني يونس أخبرني ابن وهب قال : قال ابن زيد : حدثني أبي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما السموات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في تُرْس " . قال : وقال أبو ذر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض " {[4349]} .
وقال أبو بكر بن مردويه : أخبرنا سليمان بن أحمد أخبرنا عبد الله بن وهيب{[4350]} الغزي أخبرنا محمد بن أبي السَّرِيّ العسقلاني أخبرنا محمد بن عبد الله{[4351]} التميمي عن القاسم بن محمد الثقفي عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر الغفاري ، أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكرسي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده ما السموات السبع والأرضون السبع عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة ، وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة " {[4352]} .
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده : حدثنا زهير حدثنا ابن أبي بُكَيْر{[4353]} حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الله بن خليفة عن عمر ، رضي الله عنه قال : أتت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : ادع الله أن يدخلني الجنة . قال : فعظم الرب تبارك وتعالى وقال : " إن كرسيه وسع السموات والأرض وإن له أطيطًا كأطيط الرَّحل الجديد من ثقله " {[4354]} .
وقد رواه الحافظ البزار في مسنده المشهور وعبد بن حميد وابن جرير في تفسيريهما والطبراني وابن أبي عاصم في كتابي السنة لهما والحافظ الضياء في كتاب " المختار " من حديث أبي إسحاق{[4355]} السبيعي عن عبد الله بن خليفة وليس بذاك المشهور وفي سماعه من عمر نظر{[4356]} ثم منهم من يرويه عنه عن عمر موقوفًا ومنهم من يرويه عنه مرسلا{[4357]} ومنهم من يزيد في متنه زيادة غريبة ومنهم من يحذفها .
وأغرب من هذا حديث جبير بن مطعم في صفة العرش كما رواه أبو داود في كتابه السنة من سننه{[4358]} ، والله أعلم .
وقد روى ابن مردويه وغيره أحاديث عن بريدة وجابر وغيرهما في وضع الكرسي يوم القيامة لفصل القضاء ، والظاهر أن ذلك غير المذكور في هذه الآية .
وقد زعم بعض المتكلمين على علم الهيئة من الإسلاميين : أن الكرسي عندهم هو الفلك الثامن وهو فلك الثوابت الذي فوقه الفلك التاسع وهو الفلك الأثير ويقال له : الأطلس . وقد رد ذلك عليهم آخرون .
وروى ابن جرير من طريق جُويبر عن الحسن البصري أنه كان يقول : الكرسي هو العرش . والصحيح أن الكرسي غير العرش والعرش أكبر منه ، كما دلت على ذلك الآثار والأخبار ، وقد اعتمد ابن جرير على حديث عبد الله بن خليفة ، عن عمر في ذلك وعندي في صحته نظر والله أعلم .
وقوله : { وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا } أي : لا يثقله ولا يُكْرثُهُ حفظ السموات والأرض ومن فيهما ومن بينهما ، بل ذلك سهل عليه يسير لديه وهو القائم على كل نفس بما كسبت ، الرقيب على جميع الأشياء ، فلا يعزب عنه شيء ولا يغيب عنه شيء والأشياء كلها حقيرة بين يديه متواضعة ذليلة صغيرة بالنسبة إليه ، محتاجة فقيرة وهو الغني الحميد الفعال لما يريد ، الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون . وهو القاهر لكل شيء الحسيب على كل شيء الرقيب العلي العظيم لا إله غيره ولا رب سواه فقوله : { وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } كقوله : { وَهُو [ الْعَلِيُّ الْكَبِير } وكقوله ]{[4359]} : { الْكَبِيرُ الْمُتَعَال } [ الرعد : 9 ] .
وهذه الآيات وما في معناها من الأحاديث الصحاح الأجود فيها طريقة السلف الصالح إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه .
{ الله لا إله إلا هو } مبتدأ وخبر والمعنى أنه المستحق للعبادة لا غيره . وللنجاة خلاف في أنه هل يضمر للأخير مثل في الوجود أو يصح أن يوجد . { الحي } الذي يصح أن يعلم ويقدر وكل ما يصح له فهو واجب لا يزول لامتناعه عن القوة والإمكان . { القيوم } الدائم القيام بتدبير الخلق وحفظه فيعول من قام بالأمر إذا حفظه ، وقرئ " القيام " و " القيم " .
{ لا تأخذه سنة ولا نوم } السنة فتور يتقدم النوم قال ابن الرقاع :
وسنان أقصده النعاس فرنقت *** في عينه سنة وليس بنائم
والنوم حال تعرض للحيوان من استرخاء أعصاب الدماغ من رطوبات الأبخرة المتصاعدة ، بحيث تقف الحواس الظاهرة عن الإحساس رأسا ، وتقديم السنة عليه وقياس المبالغة عكسه على ترتيب الوجود ، والجملة نفي للتشبيه وتأكيد لكونه حيا قيوما ، فإن من أخذه نعاس أو نوم كان موؤف الحياة قاصرا في الحفظ والتدبير ، ولذلك ترك العاطف فيه وفي الجمل التي بعده . { له ما في السموات وما في الأرض } تقرير لقيوميته واحتجاج به على تفرده في الألوهية ، والمراد بما فيهما داخلا في حقيقتهما أو خارجا عنهما متمكنا فيهما فهو أبلغ من قوله : { له السماوات والأرض وما فيهن } ، { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } بياسن لكبرياء شأنه سبحانه وتعالى ، وأنه لا أحد يساويه أو يدانيه يستقل بأن يدفع ما يريده شفاعة واستكانة فضلا عن أن يعاوقه عنادا أو مناصبة أي مخاصمة . { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم } ما قبلهم وما بعدهم ، أو بالعكس لأنك مستقبل المستقبل ومستدبر الماضي ، أو أمور الدنيا وأمور الآخرة ، أو عكسه ، أو ما يحسونه وما يعقلونه ، أو ما يدركونه وما لا يدركونه ، والضمير لما في السماوات والأرض ، لأن فيهما العقلاء ، أو لما دل عليه من ذا من الملائكة والأنبياء عليهم الصلاة والسلام . { ولا يحيطون بشيء من علمه } من معلوماته . { إلا بما شاء } أن يعلموه ، وعطفه على ما قبله لأن مجموعهما يدل على تفرده بالعلم الذاتي التام الدال على وحدانيته سبحانه وتعالى . { وسع كرسيه السماوات والأرض } تصوير لعظمته وتمثيل مجرد كقوله تعالى { وما قدروا الله حق قدره } { والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه } ولا كرسي في الحقيقة ، ولا قاعد . وقيل كرسيه مجاز عن علمه أو ملكه ، مأخوذ من كرسي العالم والملك . وقيل جسم بين يدي العرش ولذلك سمي كرسيا محيط بالسماوات السبع ، لقوله عليه الصلاة والسلام " ما السماوات السبع والأرضون السبع من الكرسي ، إلا كحلقة في فلاة ، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة " ولعله الفلك المشهور بفلك البروج ، وهو في الأصل اسم لما يقعد عليه ولا يفضل عن مقعد القاعد ، وكأنه منسوب إلى الكرسي وهو الملبد . { ولا يؤوده } أي ولا يثقله ، مأخوذ من الأود وهو الاعوجاج . { حفظهما } أي حفظه السماوات والأرض ، فحذف الفاعل وأضاف المصدر إلى المفعول . { وهو العلي } المتعالي عن الأنداد والأشباه . { العظيم } المستحقر بالإضافة إليه كل ما سواه .
وهذه الآية مشتملة على أمهات المسائل الإلهية ، فإنها دالة على أنه تعالى موجود واحد في الألوهية ، متصف بالحياة ، واجب الوجود لذاته موجد لغيره ، إذ القيوم هو القائم بنفسه المقيم لغيره ، منزه عن التحيز والحلول ، مبرأ عن التغير والفتور ، لا يناسب الأشباح ولا يعتريه ما يعتري الأرواح ، مالك الملك والملكوت ، ومبدع الأصول والفروع ، ذو البطش الشديد ، الذي لا يشفع عنده إلا من أذن له عالم الأشياء كلها ، جليها وخفيها ، كليها وجزئيها ، واسع الملك والقدرة ، كل ما يصح أن يملك ويقدر عليه ، لا يؤده شاق ، ولا يشغله شأن ، متعال عما يدركه ، وهو عظيم لا يحيط به فهم ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام " إن أعظم آية في القرآن آية الكرسي ، من قرأها بعث الله ملكا يكتب من حسناته ، ويمحو من سيئاته إلى الغد من تلك الساعة " . وقال " من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة ، لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت ، ولا يواظب عليها إلا صديق أو عابد ، ومن قرأها إذا أخذ مضجعه آمنه الله على نفسه وجاره وجار جاره والأبيات حوله " .
{ اللَّهُ لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ }
هذه سيدة آي القرآن ، ورد ذلك في الحديث( {[2428]} ) وورد أنها تعدل ثلث القرآن( {[2429]} ) ، وورد أن من قرأها أول ليله لم يقربه شيطان( {[2430]} ) ، وكذلك من قرأها أول نهاره . وهذه متضمنة التوحيد والصفات العلى ، و { الله } مبتدأ ، و { لا إله } مبتدأ ثانٍ ، وخبره محذوف تقديره معبود أو موجود ، و { إلا } هو بدل من موضع { لا إله } ، و { الحي } صفة من صفات الله تعالى ذاتية ، وذكر الطبري ، عن قوم أنهم قالوا : الله تعالى حي لا بحياة . وهذا قول المعتزلة وهو قول مرغوب عنه ، وحكي عن قوم أنه حي بحياة هي صفة له ، وحكي عن قوم أنه يقال حي كما وصف نفسه ، ويسلم ذلك دون أن ينظر فيه( {[2431]} ) ، و { القيوم } فيعول من القيام أصله قيووم اجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فأدغمت الأولى في الثانية بعد قلب الواو ياء ، وقيوم بناء مبالغة أي : هو القائم على كل أمر بما يجب له ، وبهذا المعنى فسره مجاهد والربيع والضحاك ، وقرأ ابن مسعود وعلقمة وإبراهيم النخعي والأعمش : «الحي القيوم » بالألف( {[2432]} ) ثم نفى عز وجل أن تأخذه { سنة } أو { نوم } ، وفي لفظ الأخذ غلبة ما ، فلذلك حسنت في هذا الموضع بالنفي ، والسنة بدء النعاس ، وهو فتور يعتري الإنسان وترنيق في عينيه ، وليس يفقد معه كل ذهنه ، والنوم هو المستثقل الذي يزول معه الذهن ، والمراد بهذه الآية أن الله تعالى لا تدركه آفة ولا يلحقه خلل بحال من الأحوال ، فجعلت هذه مثالاً لذلك وأقيم هذا المذكور من الآفات مقام الجميع ، وهذا هو مفهوم الخطاب كما قال تعالى : { فلا تقل لهما أف }( {[2433]} ) [ الإسراء : 23 ] ، ومما يفرق بين الوسن والنوم قول عدي بن الرقاع : [ الكامل ]
وَسْنان أَقْصَدُه النُّعاسُ فَرنّقَتْ . . . في عَيْنِهِ سِنَةٌ وَلَيْسَ بنائِمِ( {[2434]} )
وبهذا المعنى في السنة فسر الضحاك والسدي ، وقال ابن عباس وغيره : السنة النعاس ، وقال ابن زيد : الوسنان ، الذي يقوم من النوم وهولا يعقل حتى ربما جرد السيف على أهله .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذا الذي قال ابن زيد فيه نظر وليس ذلك بمفهوم من كلام العرب ، وروى أبو هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي عن موسى على المنبر قال : «وقع في نفس موسى هل ينام الله جل ثناؤه ؟ فأرسل الله إليه ملكاً فأرقه ثلاثاً لم أعطاه قارورتين في كل يد قارورة وأمره أن يحتفظ بهما ، قال : فجعل ينام وتكاد يداه تلتقيان ، ثم يستيقظ فيحبس إحداهما عن الأخرى حتى نام نومة فاصطفقت فانكسرت القارورتان »
قال : ضرب الله مثلاً أن لو كان ينام لم تستمسك السماء والأرض( {[2435]} ) ، وقوله تعالى : { له ما في السموات وما في الأرض } أي بالملك . فهو مالك الجميع وربه ، وجاءت العبارة ب { ما } وإن كان في الجملة من يعقل من حيث المراد الجملة والموجود ، ثم قرر ووقف تعالى على من يتعاطى أن { يشفع عنده } أو يتعاطى ذلك فيه إلا أن يأذن هو في ذلك لا إله إلا هو( {[2436]} ) وقال الطبري : هذه الآية نزلت لما قال الكفار : ما نعبد أوثاننا هذه إلا ليقربونا إلى الله زلفى ، فقال الله : { له ما في السموات وما في الأرض } الآية تقرر في هذه الآية أن الله يأذن لمن يشاء في الشفاعة وهنا هم الأنبياء والعلماء وغيرهم ، والإذن هنا راجع إلى الأمر فيما نص عليه ، كمحمد صلى الله عليه وسلم إذا قيل له : واشفع تشفع( {[2437]} ) وإلى العلم والتمكين إن شفع أحد من الأنبياء والعلماء قبل أن يؤمر ، والذي يظهر أن العلماء والصالحين يشفعون فيمن لم يصل إلى النار ، وهو بين المنزلتين أو وصل ولكن له أعمال صالحة( {[2438]} ) .
وفي البخاري( {[2439]} ) ، في باب بقية من باب الرؤية ، أن المؤمنين يقولون : ربنا إخواننا كانوا يصلون معنا ويصومون معنا ويعملون معنا ، فهذه شفاعة فيمن يقرب أمره ، وكما يشفع الطفل المحبنطىء على باب الجنة الحديث( {[2440]} ) ، وهذا إنما هو في قرابتهم ومعارفهم وأن الأنبياء يشفعون فيمن حصل في النار من عصاة أممهم بذنوب دون قربى ولا معرفة إلا بنفس الإيمان ثم تبقى شفاعة أرحم الراحمين في المستغرقين بالذنوب الذين لم تنلهم شفاعة الأنبياء .
وأما شفاعة محمد في تعجيل الحساب فخاصة له ، وهي الخامسة التي في قوله : «وأعطيت الشفاعة » وهي عامة للناس ، والقصد منها إراحة المؤمنين ، ويتعجل للكفار منها المصير إلى العذاب ، وكذلك إنما يطلبها إلى الأنبياء المؤمنون ، والضميران في قوله : { أيديهم وما خلفهم } عائدان على كل من يعقل ممن تضمنه قوله : { له ما في السموات وما في الأرض } ، وقال مجاهد { ما بين أيديهم } الدنيا { وما خلفهم } الآخرة ، وهذا صحيح في نفسه عند موت الإنسان ، لأن ما بين اليد هو كل ما تقدم الإنسان ، وما خلفه هو كل ما يأتي بعده ، وبنحو قول مجاهد قاله السدي وغيره .
{ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ }
قوله تعالى : { ولا يحيطون بشيء من علمه } معناه : من معلوماته( {[2441]} ) ، وهذا كقول الخضر لموسى عليهما السلام حين نقر العصفور من حرف السفينة : ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر ، فهذا وما شاكله راجع إلى المعلومات ، لأن علم الله تعالى الذي هو صفة ذاته لا يتبعض ، ومعنى الآية ، لا معلوم لأحد إلا ما شاء الله أن يعلمه ، واختلف الناس في الكرسي الذي وصفه الله تعالى بأنه وسع السموات والأرض ، فقال ابن عباس : { كرسيه } علمه ، ورجحه الطبري : وقال : منه الكراسة للصحائف التي تضم العلم ، ومنه قيل للعلماء الكراسيّ ، لأنهم المعتمد عليهم ، كما يقال : أوتاد الأرض ، وهذه الألفاظ تعطي نقض ما ذهب إليه من أن الكرسي العلم ، قال الطبري : ومنه قول الشاعر :
تحف بهم بيض الوجوه وعصبة . . . كراسيّ بالأحداث حين تنوب( {[2442]} )
يريد بذلك علماء بحوادث الأمور ونوازلها ، وقال أبو موسى الأشعري : الكرسي موضع القدمين وله أطيط كأطيط الرحل( {[2443]} ) ، وقال السدي : هو موضع قدميه .
قال القاضي أبو محمد : وعبارة أبي موسى مخلصة( {[2444]} ) لأنه يريد هو من عرش الرحمن كموضع القدمين في أسرة الملوك ، وهو مخلوق عظيم بين يدي العرش نسبته إليه نسبة الكرسي إلى سرير الملك ، والكرسي هو موضع القدمين ، وأما عبارة السدي فقلقة ، وقد مال إليها منذر البلوطي( {[2445]} ) وتأولها بمعنى : ما قدم من المخلوقات( {[2446]} ) على نحو ما تأول في قول النبي عليه السلام فيضع الجبار فيها قدمه( {[2447]} ) . قال أبو محمد وهذا عندي عناء ، لأن التأويل لا يضطر إليه إلا في ألفاظ النبي عليه السلام وفي كتاب الله ، وأما في عبارة مفسر فلا ، وقال الحسن بن أبي الحسن : الكرسي هو العرش نفسه .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : والذي تقتضيه الأحاديث أن الكرسي مخلوق عظيم بين يدي العرش ، والعرش أعظم منه( {[2448]} ) ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما السموات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس »( {[2449]} ) ، وقال أبو ذر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت في فلاة من الأرض » ، وهذه الآية منبئة عن عظم مخلوقات الله تعالى ، والمستفاد من ذلك عظم قدرته إذ { لا يؤوده } حفظ هذا الأمر العظيم ، و { يؤوده } : معناه يثقله ، يقال آدني( {[2450]} ) الشيء بمعنى أثقلني وتحملت منه مشقة ، وبهذا فسر اللفظة ابن عباس والحسن وقتادة وغيرهم ، وروي عن الزهري وأبي جعفر والأعرج بخلاف عنهم ، تخفيف الهمزة التي على الواو الأولى ، جعلوها بين بين لا تخلص واواً مضمومة ولا همزة محققة ، كما قيل في لؤم لوم ، و { العلي } : يراد به علو القدر والمنزلة لا علو المكان ، لأن الله منزه عن التحيز ، وحكى الطبري عن قوم أنهم قالوا : هو العلي عن خلقه بارتفاع مكانه عن أماكن خلقه .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذا قول جهلة مجسمين( {[2451]} ) ، وكان الوجه أن لا يحكى وكذا { العظيم } هي صفة بمعنى عظم القدر والخطر ، لا على معنى عظم الأجرام ، وحكى الطبري عن قول : أن { العظيم } معناه المعظم ، كما يقال العتيق بمعنى المعتق وأنشد قول الأعشى :
وكأن الخمر العتيق من الأس . . . فنط ممزوجة بماء زلال( {[2452]} )
وذكر عن قوم أنهم أنكروا ذلك وقالوا : لو كان بمعنى معظم لوجب أن لا يكون عظيماً قبل أن يخلق الخلق وبعد فنائهم ، إذ لا معظم له حينئذ .
لما ذكر هول يوم القيامة وذكر حال الكافرين استأنف بذكر تمجيد الله تعلى وذكر صفاته إبطالاً لكفر الكافرين وقطعاً لرجائهم ، لأنّ فيها { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } ، وجعلت هذه الآية ابتداءً لآيات تقرير الوحدانية والبعث ، وأودعت هذه الآية العظيمة هنا لأنّها كالبرزخ بين الأغراض السابقة واللاّحقة .
وجيء باسم الذات هنا لأنّه طريق في الدلالة على المسمى المنفرد بهذا الاسم ، فإنّ العَلَم أعْرَفُ المَعارف لعدم احتياجه في الدلالة على مسمّاه إلى قرينة أو مَعُونة لولا احتمالُ تعدد التسمية ، فلما انتفى هذا الاحتمالُ في اسم الجلالة كان أعرفَ المعارف لا مَحالةً لاستغنائه عن القرائن والمعونات ، فالقرائنُ كالتكلّم والخطاب ، والمعونات كالمَعاد والإشارةِ باليدِ والصلةِ وسبقِ العهد والإضافة .
وجملة « لا إله إلاَّ هو » خبر أول عن اسم الجلالة ، والمقصود من هذه الجملة إثبات الوحدانية وقد تقدم الكلام على دلالة لا إله إلاّ هو على التوحيد ونفي الآلهة عند قوله تعالى : { وإلهكم إله واحد إلاّ هو } [ البقرة : 163 ] .
وقوله : { الحي } خبر لمبتدأ محذوف ، و { القيّوم } خبر ثان لذلك المبتدإ المحذوف ، والمقصودُ إثبات الحياة وإبطالُ استحقاق آلهة المشركين وصف الإلهية لانتفاء الحياة ، عنهم كما قال إبراهيم عليه السلام { يا أبت لِمَ تعبدُ ما لا يسمع ولا يبصر } [ مريم : 42 ] وفُصِلت هذه الجملة عن التي قبلها للدلالة على استقلالها لأنّها لو عطفت لكانت كالتبع ، وظاهر كلام الكشاف أنّ هذه الجملة مبيّنة لما تضمّنته جملة { الله لا إله إلا هو } من أنّه القائم بتدبير الخلق ، أي لأنّ اختصاصه بالإلهية يقتضي أن لا مدبّر غيره ، فلذلك فصلت خلافاً لما قرر به التفتازاني كلامَه فإنّه غير ملائم لعبارته .
والحيّ في كلام العرب من قامت به الحياة ، وهي صفة بها الإدراكُ والتصرّفُ ، أعني كمال الوجود المتعارف ، فهي في المخلوقات بانبثاث الروح واستقامة جريان الدم في الشرايين ، وبالنسبة إلى الخالق ما يقاربُ أثَر صفة الحياة فينا ، أعني انتفاء الجَمَادِيَّة مع التنزيه عن عوارض المخلوقات . وفسّرها المتكلّمون بأنها « صفة تصحّح لمن قامت به الإدراكَ والفعل » .
وفسّر صاحب « الكشاف » الحيّ بالباقي ، أي الدائم الحياة بحيث لا يعتريه العدم ، فيكون مستعملاً كناية في لازم معناه لأنّ إثباتَ الحياة لله تعالى بغير هذا المعنى لا يكون إلاَّ مجازاً أو كناية . وقال الفخر : « الذي عندي أنّ الحي في أصل اللغة ليس عبارة عن صحة العلم والقدرة . بل عبار عن كمال الشيء في جنسه ، قال تعالى : { فأحيا به الأرض بعد موتها } [ الجاثية : 5 ] ، وحياة الأشجار إيراقها . فالصفة المسمّاة في عرف المتكلّمين بالحياة سمّيت بذلك لأنّ كمال حال الجسم أن يكون موصوفاً بها ، فالمفهوم الأصلي من لفظ الحيّ كونه واقعاً على أكمل أحواله وصفاته » .
والمقصود بوصف الله هنا بالحيّ إبطال عقيدة المشركين إلاهية أصنامهم التي هي جمادات ، وكيف يكون مدبّر أمور الخلق جماداً .
والحيّ صفة مشبهة من حيِيَ ، أصله حَيِيٌ كحَذِرٍ أدغمت الياءان ، وهو يائي باتفاق أئمة اللّغة ، وأما كتابة السلف في المصحف كلمة حيوة بواو بعد الياء فمخالفة للقياس ، وقيل كتبوها على لغة أهل اليمن لأنّهم يقولون حيوة أي حياة ، وقيل كتبوها على لغة تفخيم الفتحة .
والقيّوم فيعول من قام يقوم وهو وزن مبالغة ، وأصله قَيْوُوم فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمتا ، والمراد به المبالغة في القيام المستعملِ مجازاً مشهوراً في تدبير شؤون الناس ، قال تعالى : { أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبتْ } [ الرعد : 33 ] . والمقصود إثبات عموم العلم له وكمالِ الحياة وإبطالُ إلاهية أصنام المشركين ، لأن المشركين كانوا يعترفون بأن مدبّر الكون هو الله تعالى ، وإنّما جعلوا آلهتهم شفعاء وشركاء ومقتسمين أمور القبائل . والمشركون من اليونان كانوا قد جعلوا لكل إله من آلهتهم أنواعاً من المخلوقات يتصرّف فيها وأمماً من البشر تنتمي إليه ويَحنأ عليها .
وجملة { لا تأخذه سِنة ولا نوم } مُقرّرة لمضمون جملة « الله الحيّ القيوم » ولرفع احتمال المبالغة فيها ، فالجملة منزّلة منزلة البيان لمعنى الحي القيوم ولذلك فصلت عن التي قبلها .
والسِّنة فِعْلة من الوسن ، وهو أول النوم ، والظاهر أنّ أصلها اسم هيأة كسائر ما جاء على وزن فِعله من الواوي لفاء ، وقد قالوا وَسنة بفتح الواو على صيغة المرة . والسنة أول النوم ، قال عدي بن الرقاع :
وسنانُ أقْصَدَه النُّعَاس فَرنَّقَتْ *** في عينه سِنَة وليسَ بنائم
والنوم معروف وهو فتور يعتري أعصَاب الدماغ من تعب أعمال الأعصاب من تصاعد الأبخرة البدنية الناشئة عن الهضم والعملِ العصبي ، فيشتدّ عند مغيب الشمس ومجيء الظُلمة فيطلب الدمَاغ والجهاز العصبي الذي يدبّره الدمَاغ استراحةً طبيعية فيغيب الحِسّ شيئاً فشيئاً وتثقل حركة الأعضاء ، ثم يغيب الحسّ إلى أن تسترجع الأعصاب نشاطها فتكون اليقظة .
ونفي استيلاء السنة والنوم على الله تعالى تحقيق لكمال الحياة ودوام التدبير ، وإثبات لكمال العلم ؛ فإنّ السنة والنوم يشبهان الموت ، فحياة النائم في حالهما حياة ضعيفة ، وهما يعوقان عن التدبير وعن العلم بما يحصل في وقت استيلائهما على الإحساس .
ونفي السنة عن الله تعالى لا يغني عن نفي النوم عنه لأنّ من الأحياء من لا تعتريه السنة فإذا نام نام عميقاً ، ومن الناس من تأخذه السنة في غير وقت النوم غلبة ، وقد تمادحت العرب بالقدرة على السهر ، قال أبو كبير :
فأتَتْ به حُوشَ الفُؤادِ مُبَطَّناً *** سُهُداً إذَا ما نَام ليلُ الهَوْجَلِ
والمقصود أنّ الله لا يحجب علمه شيء حجباً ضعيفاً ولا طويلاً ولا غلبة ولا اكتساباً ، فلا حاجة إلى ما تطلّبه الفخر والبيضاوي من أن تقديم السنة على النوم مراعى فيه ترتيب الوجود ، وأنّ ذكر النوم من قبيل الاحتراس .
وقد أخذ هذا المعنى بشّار وصاغه بما يناسب صناعة الشعر فقال :
وليلٍ دَجُوجِي تَنَامُ بناتُه *** وأبناؤه من طُوله{[193]} ورَبَائِبه
فإنّه أراد من بنات الليل وأبنائه الساهرات والساهرين بمواظبة ، وأراد بربائب الليل من هم أضعف منهم سهراً لليلِ لأنّ الربيب أضعف نسبة من الولد والبنت .
وجملة { له ما في السماوات وما في الأرض } تقرير لانفراده بالإلهية إذ جميع الموجودات مخلوقاته ، وتعليل لاتّصافه بالقيّوميّة لأنّ من كانت جميع الموجودات مِلكاً له فهو حقيق بأن يكون قيّومها وألاّ يهملها ولذلك فُصلت الجملة عن التي قبلها .
واللامُ للمِلك . والمراد بالسماوات والأرض استغراق أمكنة الموجودات ، فقد دلت الجملة على عموم الموجودات بالموصول وصلته ، وإذا ثبت ملكه للعموم ثبت أنّه لا يشذّ عن مِلكه موجود فحصل معنى الحصر ، ولكنّه زاده تأكيداً بتقديم المسند أي لا لِغيره لإفادة الردّ على أصناف المشركين ، من الصابئة عبدة الكواكب كالسريان واليونان ومن مشركي العرب لأن مجرّد حصول معنى الحصر بالعموم لا يكفي في الدلالة على إبطال العقائد الضّالة . فهذه الجملة أفادت تعليم التوحيد بعمومها ، وأفادت إبطال عقائد أهل الشرك بخصوصية القصر ، وهذا بلاغة معجِزة .
وجملة { من ذا الذي يشفع عنده ألا بإذنه } مقرّرة لمضمون جملة { له ما في السموات وما في الأرض } لما أفادُه لام الملك من شمول ملكه تعالى لِجميع ما في السماوات وما في الأرض ، وما تضمنّه تقديم المجرور من قَصْر ذلك الملك عليه تعالى قصرَ قلب ، فبطل وصف الإلهية عن غيره تعالى ، بالمطابقة . وبطل حق الإدلال عليه والشفاعة عنده التي لا تردّ بالالتزام ، لأنّ الإدلال من شأن المساوي والمقارب ، والشفاعة إدلال . وهذا إبطال لمعتقد معظم مشركي العرب لأنّهم لم يثبتوا لإلهتهم وطواغيتهم ألوهية تامة ، بل قالوا : { هؤلاء شفعاؤنا عند الله } [ يونس : 18 ] وقالوا : { ما نعبدهم إلاَّ ليقرّبونا إلى الله زُلْفى } [ الزمر : 3 ] ، فأكّد هذا المدلول بالصريح ، ولذلك فصلت هذه الجملة عمّا قبلها .
وَ { ذا } مزيدة للتأكيد إذ ليس ثمّ مشار إليه معيَّن ، والعرب تزيد ( ذا ) لما تدل عليه الإشارة من وجود شخص معيّن يتعلق به حكم الاستفهام ، حتى إذا أظهر عدم وجوده كان ذلك أدلّ على أن ليس ثمّةَ متطلع ينصب نفسه لادّعاء هذا الحكم ، وتقدم القول في ( من ذا ) عند قوله تعالى : { مَن ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً } [ البقرة : 245 ] . والاستفهام في قوله : { من ذا الذي يشفع عنده } مستعمل في الإنكار والنفي بقرينة الاستثناء مِنه بقوله { إلا بإذنه } .
والشفاعة تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى : { لا بيع فيه ولا خلّة ولا شفاعة } [ البقرة : 54 ] .
والمعنى أنّه لا يشفع عنده أحد بحق وإدلال لأنّ المخلوقات كلها ملكُه ، ولكن يشفع عنده من أراد هُو أن يُظهر كرامته عنده فيأذَنَه بأن يشفع فيمن أراد هو العفوَ عنه ، كما يُسند إلى الكبراء مناولة المكرمات إلى نبغاء التلامذة في مواكب الامتحان ، ولذلك جاء في حديث الشفاعة : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيه الناس ليكلّم ربّه فيخفّف عنهم هَوْل موقف الحساب ، فيأتي حتى يسجد تحت العرش ويتكلم بكلمات يعلّمه الله تعالى إياها ، فيقال يا محمدُ ارفع رأسك ، سَل تعطَه ، واشفَع تشفَّع ، فسجوده استيذان في الكلام ، ولا يشفع حتى يقال اشفع ، وتعليمُه الكلمات مقدّمة للإذن .
وجملة { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه } تقرير وتكميل لما تضمنّه مجموع جملتي { الحيّ القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم } ولما تضمنّته جملة { من ذا الذي يشفع عنده إلاّ بإذنه } ، فإنّ جملتي { الحيّ القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم } دلتا على عموم علمه بما حدث ووُجد من الأكوان ولم تَدُلاّ على علمه بما سيكون فأُكد وكمل بقوله يعلمُ الآية ، وهي أيضاً تعليل لجملة من ذا الذي يشفع عنده إلاّ بإذنه إذ قد يتّجه سؤال لماذا حُرموا الشفاعة إلاّ بعد الإذن فقيل لأنّهم لا يعلمون من يستحقّ الشفاعة وربّما غرّتهم الظواهر ، والله يعمل من يستحقّها فهو يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولأجل هذين المعنيين فصلت الجملة عما قبلها .
والمراد بما بين أيديهم وما خلفهم ما هو ملاحظ لهم من المعلومات وما خفي عنهم أو ذهلوا عنه منها ، أو ما هو واقع بعدهم وما وقع قبلهم . وأما علمه بما في زمانهم فأحرى . وقيل المستقبل هو ما بين الأيدي والماضي هوالخَلف ، وقيل عكس ذلك ، وهما استعمالان مبنيان على اختلاف الاعتبار في تمثيل ما بين الأيدي والخلف ، لأنّ ما بين أيدي المرء هو أمامَه ، فهو يستقبله ويشاهده ويسعى للوصول إليه ، وما خلفه هو ما وراء ظهره ، فهو قد تخلّف عنه وانقطع ولا يشاهده ، وقد تجاوزه ولا يتّصل به بعد وقيل أمور الدنيا وأمور الآخرة ، وهوفرع من الماضي والمستقبل ، وقيل المحسوسات والمعقولات . وأياماً كان فاللفظ مجاز ، والمقصود عموم العلم بسائرِ الكائنات .
وضمير { أيديهم } و { خلفهم } عائد إلى { ما في السماوات وما في الأرض } بِتغليب العقلاء من المخلوقات لأنّ المراد بما بين أيديهم وما خلفهم ما يشمل أحوال غير العقلاء ، أو هو عائد على خصوص العقلاء من عموم ما في السموات وما في الأرض فيكون المراد ما يختصّ بأحوال البشر وهو البعض ، لضمير ولا يحيطون لأنّ العلم من أحوال العقلاء .
وعطفت جملة { ولا يحيطون بشيء من علمه } على جملة { يعلم ما بين أيديهم } لأنّها تكملة لمعناها كقوله : { والله يعلم وأنتم لا تعلمون } [ البقرة : 216 ] .
ومعنى يحيطون يعلمون علماً تاماً ، وهومجاز حقيقته أنّ الإحاطة بالشيء تقتضي الاحتواء على جميع أطرافه بحيث لا يشذّ منه شيء من أوله ولا آخره ، فالمعنى لا يعلمون علم اليقين شيئاً من معلوماته ، وأمَّا ما يدّعونه فهو رجم بالغيب .
فالعلمُ في قوله : { من علمه } بمعنى المعلوم ، كالخَلْق بمعنى المخلوق ، وإضافته إلى ضمير اسم الجلالة تخصيص له بالعلوم اللدُنية التي استأثر الله بها ولم ينصب الله تعالى عليها دلائل عقلية أو عادية . ولذلك فقوله : { إلا بما شاء } تنبيه على أنّه سبحانه قد يُطلع بعض أصفيائه على ما هو من خواصّ علمه كقوله : { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلاّ من ارتضى من رسول } [ الجن : 26 ، 27 ] .
وقوله : { وسّع كرسيّه السموات والأرض } تقرير لما تضمّنته الجمل كلّها من عظمة الله تعالى وكبريائه وعلمِه وقدرته وبيان عظمة مخلوقاته المستلزمة عظمة شأنه ، أو لبيان سعة ملكه كذلك كما سنبيّنه ، وقد وقعت هذه الجمل مترتبة متفرّعة .
والكرسي شيء يُجلس عليه مُتركب من أعواد أو غيرها موضوعة كالأعمدة متساوية ، عليها سطح من خشب أو غيره بمقدار ما يسع شخصاً واحداً في جلوسه ، فإن زاد على مجلس واحد وكان مرتفعاً فهو العرش . وليس المراد في الآية حقيقة الكرسي إذ لا يليق بالله تعالى لاقتضائه التحيّز ، فتعين أن يكون مراداً به غير حقيقته .
والجمهور قالوا : إنّ الكرسي مخلوق عظيم ، ويضاف إلى الله تعالى لعظمته ، فقيل هو العرش ، وهو قول الحسَن . وهذا هو الظاهر لأنّ الكرسي لم يذكر في القرآن إلاّ في هذه الآية وتكرّر ذكر العرش ، ولم يَرِد ذكرهما مقترنين ، فلو كان الكرسي غير العرش لذكر معه كما ذُكرت السماوات مع العرش في قوله تعالى : { قل من رب السموات السبع وربُ العرش العظيم } [ المؤمنون : 86 ] ، وقيل الكرسي غير العرش ، فقال ابن زيد هو دون العرش وروى في ذلك عن أبي ذَر أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما الكرسيُ في العرش إلاّ كحلقة من حديد ألقيَتْ بين ظهري فلاة من الأرض " وهو حديث لم يصح . وقال أبو موسى الأشعري والسُدى والضحاك : الكرسي موضع القدمين من العرش ، أي لأنّ الجالس على عرش يكون مرتفعاً عن الأرض فيوضع له كرسي لئلا تكون رجلاه في الفضاء إذا لم يتربَّع ، وروي هذا عن ابن عباس . وقيل الكرسي مثلَ لعلم الله ، وروي عن ابن عباس لأنّ العالم يجلس على كرسي ليعلّم الناس . وقيل مثل لملك الله تعالى كما يقولون فلان صاحب كرسي العراق أي ملك العراق ، قال البيضاوي : « ولعلّه الفلَك المسمّى عندهم بفَلك البروج » . قلت أثبت القرآن سبع سماوات ولم يبيّن مسمّاها في قوله ( سورة نوح ) : { ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقاً وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا } [ نوح : 15 ، 16 ] ، فيجوز أن تكون السموات طبقات من الأجواء مختلفة الخصائص متمايزة بما يملاّها من العناصر ، وهي مسبح الكواكب ، ولقد قال تعالى ( سورة الملك ) : { ولقد زيّنا السماء الدنيا بمصابيح }
[ الملك : 5 ] ، ويجوز أن تكون السماوات هي الكواكب العظيمة المرتبطة بالنظام الشمس وهي : فُلكان ، وعطارد ، والزهرة ، وهذه تحت الشمس إلى الأرض ، والمريخُ ، والمشتري ، وزحلُ ، وأورانوس ، ونبتون ، وهذه فوق الشمس على هذا الترتيب في البعد ، إلاّ أنّها في عظم الحجم يكون أعظمها المشتري ، ثم زحل ، ثم نبتون ، ثم أورانوس ، ثم المريخ ، فإذا كان العرش أكبرها فهو المشتري ، والكرسي دونه فهو زُحل ، والسبع الباقية هي المذكورة ، ويضم إليها القمر ، وإن كان الكرسي هو العرش فلا حاجة إلى عدّ القمر ، وهذا هو الظاهرُ ، والشمس من جملة الكواكب ، وقوله تعالى : { وجعل الشمس سراجاً } [ نوح : 16 ] تخصيص لها بالذكر للامتنان على الناس بأنّها نور للأرض ، إلاّ أنّ الشمس أكبر من جميعها على كل تقدير . وإذا كانت السماوات أفلاكاً سبعة لشموس غير هذه الشمس ولكل فَلك نظامه كما لهذه الشمس نظامها فذلك جائز وسبحان من لا تحيط بعظمةِ قدرتِه الأفهامُ فيكون المعنى على هذا أن الله تعالى نبهنا إلى عظيم قدرته وسعة ملكوته بما يدل على ذلك مع موافقته لما في نفس الأمر ، ولكنّه لم يفصّل لنا ذلك لأنّ تفصيله ليس من غرض لاستدلال على عظمته ، ولأن العقول لا تصل إلى فهمه لتوقفه على علوم واستكمالات فيها لم تتمّ إلى الآن ، ولتعلمُنّ نبأه بعد حين .
وجُملة { ولا يؤوده حفظهما } عطفت على جملة { وَسِع كرسيهُ } لأنّها من تكملتها وفيها ضمير معادُه في التي قبلها ، أي إنّ الذي أوجد هاته العوالمَ لا يعجز عن حفظها .
وآده جعله ذا أود . والأوَدُ بالتحريك العِوَج ، ومعنى آده أثقله لأن المثقَّل ينحني فيصير ذا أوَد .
وعطف عليه { وهو العلي العظيم } لأنّه من تمامه ، والعلو والعظمة مستعاران لشرف القدر وجلال القدرة .
ولهذه الآية فضل كبيرٌ لما اشتملت عليه من أصول معرفة صفات الله تعالى ، كما اشتملت سورة الإخلاص على ذلك وكما اشتملت كلمة الشهادة . في « الصحيحين » عن أبي هريرة " أنّ آتياً أتاه في الليل فأخذ من طعام زكاة الفطر فلما أمسكه قال له إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي لن يزال معك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح " فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " صدقك وذلك شيطان " وأخرج مسلم عن أبي ابن كعب أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : " يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم قلت اللَّهُ لا إله إلاّ هو الحيّ القيوم ، فضرب في صدري وقال : واللَّهِ لِيَهْنِك العلمُ أبا المُنذر " . وروى النسائي : " من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلاّ الموت " وفيها فضائل كثيرة مجرّبة للتأمين على النفس والبيت .