التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{مَثَلُهُمۡ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسۡتَوۡقَدَ نَارٗا فَلَمَّآ أَضَآءَتۡ مَا حَوۡلَهُۥ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمۡ وَتَرَكَهُمۡ فِي ظُلُمَٰتٖ لَّا يُبۡصِرُونَ} (17)

وبعد أن وصف الله تعالى حال المنافقين في الآيات السابقة ، ساق مثلين لتوضيح سوء تصرفهم ، وشدة حيرتهم واضطرابهم . فقال تعالى : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً . . . . }

قوله تعالى : { مَثَلُهُمْ } أي : صفتهم ، وأصل المثل بمعنى المثل - بكسر الميم وسكون الثاء - والمثل النظير والشبيه ، ثم أطلق على القول السائر المعروف لمماثلة مضربه - وهو الذي يضرب فيه - لمورده الذي ورد فيه أولا ، ولا يكون إلا فيما فيه غرابة ثم استعير للصفة أو الحال أو القصة إذا كان لها شان عجيب وفيها غرابة ، وعلى هذا المعنى يحمل المثل في هذه الآية ، وإنما تضرب الأمثال لإِيضاح المعنى الخفي وتقريب المعقول من المحسوس ، وعرض الغائب في صورة الشاهد ، فيكون المعنى الذي ضرب له المثل أوقع في القلوب ، وأثبت في النفوس .

واستوقد النار : طلب وقودها بسطوع نارها واندلاع لهيبا ، أو أوقدها لأن أوقد واستوقد قد يكونان بمعنى واحد كأجاب واستجاب .

والنار : جوهر لطيف حار محرق من نار ينور إذا نفر لحركتها واضطرابها ، وأضاءت ما حوله ، جعلت ما حوله مضئياً ، أو أشرقت فيما حوله . وحول الشيء : ما يحيط به من جميع نواحيه ، ولذا قيل للعام حول ، للفه ودورانه حتى يعود كما كان .

والنور : الضوء الذي يكون للشيء المضيء ، وهو مأخوذ من النار .

ومعنى : { ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ } سلبه منهم ، وفي إسناد ذهب إلى الله تعالى - إشعار بأن النور الذي سلب عنهم لن يستطيع أحد أن يرده عليهم ، لأن الذي سلبه عنهم إنما هو الله الغالب على أمره .

وقال { بِنُورِهِمْ } ولم يقل بنارهم ، لأن إيقاد النار يكون للإِضاءة وللإِحراق والمقصود من إيقاد النار الواردة في المثل إنما هو الإِضاءة .

وقال { بِنُورِهِمْ } ولم يقل بنوره ، مع أن الضمير يعود { الذي استوقد } وهو بحسب الظاهر مفرد ، لأن { الذي } قد يطلق أحيانا قد يطلق بمعنى الذين ، كما في قوله تعالى : { وَخُضْتُمْ كالذي خاضوا } أو لأن { الذي } أريد منه جنس المستوقد ، لا مستوقد بعينه ، فصار في معنى جماعة من المستوقدين . وصح أن يعود عليه ضمير الجمع في قوله { بِنُورِهِمْ } لذلك .

وأورد الظلمات بصيغة الجمع للمبالغة في شدتها ، فكأنها لشدة كثافتها ظلمات بعضها فوق بعض ، وأكد هذا بقوله { لاَّ يُبْصِرُونَ } أي : أن هذه الظلمات بالغة في الشدة حتى أولئك المحاطين بها لا يتأتى لهم أن يبصروا ، كما أن الشان كذلك بالنسبة للذين طمس على أعينهم .

وعبر - سبحانه - بقوله : { وَتَرَكَهُمْ } ولم يقل : ذهب بنورهم وبقوا في ظلمات ، ليدل بذلك على قطع الصلة بينهم وبين ربهم ، وأنهم متروكون غضباً عليهم ونكاية بهم .

هذا ، وللعلماء رأيان في تطبيق هذا المثل على المنافقين ، أما الرأي الأول فيرى أصحابه ، أن هذا المثل قد ضرب في قوم دخلوا في الإِسلام عند وصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، ثم تحولوا بعد ذلك إلى الكفر والنفاق فيقال في تطبيق هذا المثل عليهم : إن قصة هؤلاء المنافقين الذين اكتسبوا بإيمانهم نوراً ، ثم أبطلوا ذلك بنفاقهم ، ووقعوا في حيرة عظيمة ، كقصة من استوقدوا ناراً ؛ فلما أضاءت ما حولهم ، سلب الله منهم الضوء فراحوا في ظلام لا يهتدون إلى الخروج منه سبيلا .

وأما الرأي الثاني فيرى أصحابه أن هذا المثل إنما ضرب في قوم لم يسبق لهم إيمان وإنما دخلوا في الإسلام من أول أمرهم نفاقاً ، فيقال في تطبيق هذا المثل عليهم : إن قصة هؤلاء الذين دخلوا في الإِسلام نفاقاً ، فظفروا بحقن دمائهم وبغنائم الجهاد وسائر أحكام المسلمين ، وتمتعوا بذلك في الدنيا قليلا ثم صاروا إلى ظلمات العذاب الدائم في الآخرة - قصة هؤلاء كقصة من استوقدوا نارا لتضيء لهم وينتفعوا بها ، فأضاءت ما حولهم قليلا ، ثم طفئت وصاروا إلى ظلمة شديدة مطبقة .

/خ20

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{مَثَلُهُمۡ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسۡتَوۡقَدَ نَارٗا فَلَمَّآ أَضَآءَتۡ مَا حَوۡلَهُۥ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمۡ وَتَرَكَهُمۡ فِي ظُلُمَٰتٖ لَّا يُبۡصِرُونَ} (17)

1

ولعلنا نلمح أن الحيز الذي استغرقه رسم هذه الصورة الثالثة قد جاء أفسح من الحيز الذي استغرقه رسم الصورة الأولى والصورة الثانية . .

ذلك أن كلا من الصورتين الأوليين فيه استقامة على نحو من الأنحاء وفيه بساطة على معنى من المعاني . . الصورة الأولى صورة النفس الصافية المستقيمة في اتجاهها ، والصورة الثانية صورة النفس المعتمة السادرة في اتجاهها . أما الصورة الثالثة فهي صورة النفس الملتوية المريضة المعقدة المقلقلة . وهي في حاجة إلى مزيد من اللمسات ، ومزيد من الخطوط كيما تتحدد وتعرف بسماتها الكثيرة . .

على أن هذه الإطالة توحي كذلك بضخامة الدور الذي كان يقوم به المنافقون في المدينة لإيذاء الجماعة المسلمة ، ومدى التعب والقلق والاضطراب الذي كانوا يحدثونه ؛ كما توحي بضخامة الدور الذي يمكن أن يقوم به المنافقون في كل وقت داخل الصف المسلم ، ومدى الحاجة للكشف عن ألاعيبهم ودسهم اللئيم .

وزيادة في الإيضاح ، يمضي السياق يضرب الأمثال لهذه الطائفة ويكشف عن طبيعتها ، وتقلباتها وتأرجحها ليزيد هذه الطبيعة جلاء وإيضاحا :

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ ( 17 ) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ( 18 )

إنهم لم يعرضوا عن الهدى ابتداء ، ولم يصموا آذانهم عن السماع ، وعيونهم عن الرؤية وقلوبهم عن الإدراك ، كما صنع الذين كفروا . ولكنهم استحبوا العمى على الهدى بعد ما استوضحوا الأمر وتبينوه . . لقد استوقدوا النار ، فلما أضاء لهم نورها لم ينتفعوا بها وهم طالبوها . عندئذ ( ذهب الله بنورهم ) الذي طلبوه ثم تركوه : ( وتركهم في ظلمات لا يبصرون ) جزاء إعراضهم عن النور !

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{مَثَلُهُمۡ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسۡتَوۡقَدَ نَارٗا فَلَمَّآ أَضَآءَتۡ مَا حَوۡلَهُۥ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمۡ وَتَرَكَهُمۡ فِي ظُلُمَٰتٖ لَّا يُبۡصِرُونَ} (17)

{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ }

[ يقال : مثل ومثل ومثيل - أيضا - والجمع أمثال ، قال الله تعالى : { وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ } [ العنكبوت : 43 ]{[1298]} .

وتقدير هذا المثل : أن الله سبحانه ، شبَّههم في اشترائهم الضلالة بالهدى ، وصيرورتهم بعد التبصرة إلى العمى ، بمن استوقد نارًا ، فلما أضاءت ما حوله وانتفع بها وأبصر بها ما عن يمينه وشماله ، وتَأنَّس بها فبينا هو كذلك إذْ طفئت ناره ، وصار في ظلام شديد ، لا يبصر ولا يهتدي ، وهو مع ذلك أصم لا يسمع ، أبكم لا ينطق ، أعمى لو كان ضياء لما أبصر ؛ فلهذا لا يرجع إلى ما كان عليه قبل ذلك ، فكذلك هؤلاء{[1299]} المنافقون في استبدالهم الضلالة عوضًا عن الهدى ، واستحبابهم الغَيّ على الرّشَد . وفي هذا المثل دلالة على أنهم آمنوا ثم كفروا ، كما أخبر عنهم تعالى في غير هذا الموضع ، والله أعلم .

وقد حكى هذا الذي قلناه فخر الدين الرازي في تفسيره عن السدي ثم قال : والتشبيه هاهنا في غاية الصحة ؛ لأنهم بإيمانهم اكتسبوا أولا نورا ثم بنفاقهم ثانيًا أبطلوا ذلك النور فوقعوا في حيرة عظيمة فإنه لا حيرة أعظم من حيرة الدين .

وزعم ابن جرير أن المضروب لهم المثل هاهنا لم يؤمنوا في وقت من الأوقات ، واحتج بقوله تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } [ البقرة : 8 ] .

والصواب : أن هذا إخبار عنهم في حال نفاقهم وكفرهم ، وهذا لا ينفي أنه كان حصل لهم إيمان قبل ذلك ، ثم سُلبوه وطبع على قلوبهم ، ولم يستحضر ابن جرير ، رحمه الله ، هذه الآية هاهنا وهي قوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ } [ المنافقون : 3 ] ؛ فلهذا وجه [ ابن جرير ]{[1300]} هذا المثل بأنهم استضاؤوا بما أظهروه من كلمة الإيمان ، أي في الدنيا ، ثم أعقبهم ظلمات يوم القيامة .

قال : وصح ضرب مثل الجماعة بالواحد ، كما قال : { رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ } [ الأحزاب : 19 ] أي : كدوران عيني الذي يغشى عليه من الموت ، وقال تعالى : { مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } [ لقمان : 28 ] وقال تعالى : { مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا } [ الجمعة : 5 ] ، وقال بعضهم : تقدير الكلام : مثل قصتهم كقصة الذي استوقد نارا . وقال بعضهم : المستوقد واحد لجماعة معه . وقال آخرون : الذي هاهنا بمعنى الذين كما قال الشاعر :

وإن الذي حانت بفلج دماؤهم *** هم القوم كل القوم يا أم خالد{[1301]}

قلت : وقد التفت في أثناء المثل من الواحد{[1302]} إلى الجمع ، في قوله تعالى : { فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ } وهذا أفصح في الكلام ، وأبلغ في النظام ، وقوله تعالى : { ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ } أي : ذهب عنهم ما ينفعهم ، وهو النور ، وأبقى لهم ما يضرهم ، وهو الإحراق والدخان { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ } وهو ما هم فيه من الشك والكفر والنفاق ، { لا يُبْصِرُونَ } لا يهتدون إلى سبل{[1303]} خير ولا يعرفونها ، وهم مع ذلك { صُمٌّ } لا يسمعون خيرا { بُكْمٌ } لا يتكلمون بما ينفعهم { عُمْيٌ } في ضلالة وعماية البصيرة ، كما قال تعالى : { فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } [ الحج : 46 ] فلهذا لا يرجعون إلى ما كانوا عليه من الهداية التي باعوها بالضلالة .

ذكر أقوال المفسرين من السلف بنحو ما ذكرناه :

قال السدي في تفسيره ، عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرّة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من الصحابة ، في قوله تعالى : { فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ } زعم أن ناسًا دخلوا في الإسلام مَقْدَم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، ثم إنهم نافقوا ، فكان مثلهم كمثل رجُل كان في ظلمة ، فأوقد نارًا ، فأضاءت ما حوله من قذى ، أو أذى ، فأبصره حتى عرف ما يتقي منه{[1304]} فبينا{[1305]} هو كذلك إذ طفئت ناره ، فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى ، فكذلك المنافق : كان في ظلمة الشرك فأسلم ، فعرف الحلال والحرام ، و[ عرف ]{[1306]} الخير والشر ، فبينا{[1307]} هو كذلك إذ كفر ، فصار لا يعرف الحلال من الحرام ، ولا الخير من الشر .

وقال مجاهد : { فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ }{[1308]} أما إضاءة النار فإقبالهم{[1309]} إلى المؤمنين ، والهدى .

وقال عطاء الخرساني في قوله : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا } قال : هذا مثل المنافق ، يبصر أحيانًا ويعرف أحيانًا ، ثم يدركه عمى القلب .

وقال ابن أبي حاتم : وروي عن عكرمة ، والحسن والسدي ، والرّبيع بن أنس نحو قول عطاء الخرساني .

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، في قوله تعالى : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا } إلى آخر الآية ، قال : هذه صفة المنافقين . كانوا قد آمنوا حتى أضاء الإيمان في قلوبهم ، كما أضاءت النار لهؤلاء الذين استوقدوا{[1310]} ثم كفروا فذهب الله بنورهم فانتزعه ، كما ذهب بضوء هذه النار فتركهم في ظلمات لا يبصرون .

وقال العوفي ، عن ابن عباس ، في هذه الآية ، قال : أما النور : فهو إيمانهم الذي كانوا يتكلمون به ، وأمَّا الظلمة : فهي ضلالتهم وكفرهم الذي كانوا يتكلمون به ، وهم قوم كانوا على هدى ، ثمّ نزع منهم ، فعتوا بعد ذلك .

وأما قول ابن جرير فيشبه ما رواه علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله تعالى : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا } قال : هذا مثل ضربه الله للمنافقين أنهم كانوا يعتزون بالإسلام ، فيناكحهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء ، فلما ماتوا سلبهم الله ذلك العِزّ ، كما سُلِب صاحب النار ضَوءه .

وقال أبو جعفر الرازي ، عن الرّبيع بن أنس ، عن أبي العالية : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا } فإنما ضوء النار ما أوقدتها ، فإذا خمدت ذهب نورها ، وكذلك المنافق ، كلما تكلم بكلمة الإخلاص ، بلا إله إلا الله ، أضاء له ، فإذا شك وقع في الظلمة .

وقال الضحاك [ في قوله ]{[1311]} { ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ } أما نورهم فهو إيمانهم الذي تكلموا به .

وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن قتادة : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ } فهي{[1312]} لا إله إلا الله ؛ أضاءت لهم فأكلوا بها وشربوا وأمنوا في الدنيا ، ونكحوا النساء ، وحقنوا دماءهم ، حتى إذا ماتوا ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون .

وقال سعيد ، عن قتادة في هذه الآية : إن المعنى : أن المنافق تكلم بلا إله إلا الله فأضاءت له الدنيا ، فناكح بها المسلمين ، وغازاهم بها ، ووارثهم بها ، وحقن بها دمه وماله ، فلما كان عند الموت ،

سلبها المنافق ؛ لأنه{[1313]} لم يكن لها أصل في قلبه ، ولا حقيقة في عمله{[1314]} .

{ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ } يقول : في عذاب إذا ماتوا .

وقال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عِكْرِمة ، أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ } أي يبصرون الحق ويقولون به ، حتى إذا خرجوا من ظلمة الكفر أطفئوه بكفرهم{[1315]} ونفاقهم فيه ، فتركهم الله في ظلمات الكفر ، فهم لا يبصرون هدى ، ولا يستقيمون على حق .

وقال السدي في تفسيره بسنده : { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ } فكانت الظلمة نفاقهم .

وقال الحسن البصري : { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ } فذلك{[1316]} حين يموت المنافق ، فيظلم عليه عمله عمل السوء ، فلا يجد له عملا من خير عمل به يصدق{[1317]} به قول : لا إله إلا الله{[1318]} . { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } قال السدي بسنده : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } فهم خرس عمي{[1319]} .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } يقول : لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه ، وكذا قال أبو العالية ، وقتادة بن دعامة .

{ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ } قال ابن عباس : أي لا يرجعون إلى هدى ، وكذلك{[1320]} قال الرّبيع بن أنس .

وقال السدي بسنده : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ } إلى الإسلام .

وقال قتادة : { فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ } أي لا يتوبون{[1321]} ولا هم يذكرون .

/خ20


[1298]:زيادة من جـ، ط.
[1299]:في جـ: "هم".
[1300]:زيادة من و.
[1301]:البيت للأشهب بن رميلة، كما في اللسان، مادة "فلج".
[1302]:في جـ، ط، ب، أ، و: "الوحدة".
[1303]:في طـ، ب: "سبيل".
[1304]:في جـ، ط، ب: "منها".
[1305]:في أ، و: "فبينما".
[1306]:زيادة من جـ.
[1307]:في أ، و: "فبينما".
[1308]:في جـ: "ما حوله ذهب الله بنورهم".
[1309]:في جـ، ط، ب: "فإقباله".
[1310]:في جـ: "استوقد نارا".
[1311]:زيادة من جـ، ط، ب.
[1312]:في جـ: "فهو".
[1313]:في جـ: "لأنها".
[1314]:في جـ: "علمه".
[1315]:في جـ: "طعنوا بكفرهم به".
[1316]:في جـ: "فبذلك".
[1317]:في جـ: "يصدقه".
[1318]:في طـ، ب، و: "إلا هو".
[1319]:في جـ: "عمي خرس".
[1320]:في جـ، ط، ب، أ: "وكذا".
[1321]:في جـ: "لا يؤمنون".
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{مَثَلُهُمۡ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسۡتَوۡقَدَ نَارٗا فَلَمَّآ أَضَآءَتۡ مَا حَوۡلَهُۥ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمۡ وَتَرَكَهُمۡ فِي ظُلُمَٰتٖ لَّا يُبۡصِرُونَ} (17)

{ مثلهم كمثل الذي استوقد نارا } لما جاء بحقيقة حالهم عقبها بضرب المثل زيادة في التوضيح والتقرير ، فإنه أوقع في القلب وأقمع للخصم الألد ، لأنه يريك المتخيل محققا والمعقول محسوسا ، ولأمر ما أكثر الله في كتبه الأمثال ، وفشت في كلام الأنبياء والحكماء . والمثل في الأصل بمعنى النظير يقال : مثل ومثل ومثيل كشبه وشبه وشبيه ، ثم قيل للقول السائر الممثل مضربه بمورده ، ولا يضرب إلا ما فيه غرابة ولذلك حوفظ عليه من التغيير ، ثم استعير لكل حال أو قصة أو صفة لها شأن وفيها غرابة مثل قوله تعالى { مثل الجنة التي وعد المتقون } وقوله تعالى { ولله المثل الأعلى } . والمعنى حالهم العجيبة الشأن كحال من استوقد نارا والذي : بمعنى الذين كما في قوله تعالى : { وخضتم كالذي خاضوا } إن جعل مرجع الضمير في بنورهم ، وإنما جاز ذلك ولم يجز وضع القائم موضع القائمين لأنه غير مقصود بالوصف ، بل الجملة التي هي صلته وهو وصلة إلى وصف المعرفة بها لأنه ليس باسم تام بل هو كالجزء منه ، فحقه أنه لا يجمع كما لا نجمع أخواتها ، ويستوي فيه الواحد والجمع وليس الذين جمعه المصحح ، بل ذو زيادة زيدت لزيادة المعنى ولذلك جاء بالياء أبدا على اللغة الفصيحة التي عليها التنزيل ، ولكونه مستطالا بصلته استحق التخفيف ، ولذلك بولغ فيه فحذف ياؤه ثم كسرته ثم اقتصر على اللام في أسماء الفاعلين والمفعولين ، أو قصد به جنس المستوقدين ، أو الفوج الذي استوقد . والاستيقاد : طلب الوقود والسعي في تحصيله ، وهو سطوع النار وارتفاع لهبها . واشتقاق النار من : نار ينور نورا إذا نفر لأن فيها حركة واضطرابا .

{ فلما أضاءت ما حوله } أي النار ، ما حول المستوقد إن جعلتها متعدية ، وإلا أمكن أن تكون مسندة إلى ما والتأنيث لأن ما حوله أشياء وأماكن أو إلى ضمير النار ، وما : موصولة في معنى الأمكنة ، نصب على الظرف ، أو مزيدة ، وحوله ظرف وتأليف الحول للدوران . وقيل للعام حول لأنه يدور . { ذهب الله بنورهم } جواب لما ، والضمير للذي ، وجمعه للحمل على المعنى ، وعلى هذا إنما قال : { بنورهم } ولم يقل : بنارهم لأنه المراد من أيقادها . أو استئناف أجيب به اعتراض سائل يقول : ما بالهم شبهت حالهم بحال مستوقد قد انطفأت ناره ؟ أو بدل من جملة التمثيل على سبيل البيان . والضمير على الوجهين للمنافقين ، والجواب محذوف كما في قوله تعالى : { فلما ذهبوا به } للإيجاز وأمن الالتباس . وإسناد الذهاب إلى الله تعالى إما لأن الكل بفعله ، أو لأن الإطفاء حصل بسبب خفي ، أو أمر سماوي كريح أو مطر ، أو للمبالغة ولذلك عدي الفعل بالباء دون الهمزة لما فيها من معنى الاستصحاب والاستمساك ، يقال ذهب السلطان بماله إذا أخذه ، وما أخذه الله وأمسكه فلا مرسل له ، ولذلك عدل عن الضوء الذي هو مقتضى اللفظ إلى النور ، فإنه لو قيل : ذهب الله بضوئهم احتمل ذهابه بما في الضوء من الزيادة وبقاء ما يسمى نورا ، والغرض إزالة النور عنهم رأسا ألا ترى كيف قرر ذلك وأكده بقوله { وتركهم في ظلمات لا يبصرون } فذكر الظلمة التي هي عدم النور ، وانطماسه بالكلية ، وجمعها ونكرها ووصفها بأنها ظلمة خالصة لا يتراءى فيها شبحان . وترك في الأصل بمعنى طرح وخلى ، وله مفعول واحد فضمن معنى صير فجرى مجرى أفعال القلوب كقوله تعالى : { وتركهم في ظلمات } وقول الشاعر :

فتركته جزر السباع ينشنه *** يقضمن حسن بنانه والمعصم

والظلمة مأخوذة من قولهم : ما ظلمك أن تفعل كذا ، أي ما منعك ، لأنها تسد البصر وتمنع الرؤية ، وظلماتهم : ظلمة الكفر ، وظلمة النفاق ، وظلمة يوم القيامة { يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم } . أو ظلمة الضلال ، وظلمة سخط الله ، وظلمة العقاب السرمدي ، أو ظلمة شديدة كأنها ظلمة متراكمة ، ومفعول { لا يبصرون } من قبيل المطروح المتروك فكأن الفعل غير متعد .

والآية مثل ضربه الله لمن آتاه ضربا من الهدى فأضاعه ، ولم يتوصل به إلى نعيم الأبد فبقي متحيرا متحسرا ، تقريرا وتوضيحا لما تضمنته الآية الأولى ، ويدخل تحت عمومه هؤلاء المنافقون فإنهم أضاعوا ما نطقت به ألسنتهم من الحق باستبطان الكفر ، وإظهاره حين خلوا إلى شياطينهم ، ومن آثر الضلالة على الهدى المجعول له بالفطرة ، أو ارتد عن دينه بعدما آمن ومن صح له أحوال الإرادة فادعى أحوال المحبة فأذهب الله عنه ما أشرق عليه من أنوار الإرادة ، أو مثل لإيمانهم من حيث إنه يعود عليهم يحقن الدماء ، وسلامة الأموال والأولاد ، ومشاركة المسلمين في المغانم . والأحكام بالنار الموقدة للاستضاءة ، ولذهاب أثره وانطماس نوره بإهلاكهم وإفشاء حالهم بإطفاء الله تعالى إياها وإذهاب نورها .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{مَثَلُهُمۡ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسۡتَوۡقَدَ نَارٗا فَلَمَّآ أَضَآءَتۡ مَا حَوۡلَهُۥ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمۡ وَتَرَكَهُمۡ فِي ظُلُمَٰتٖ لَّا يُبۡصِرُونَ} (17)

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ ( 17 )

«المَثَل والمِثْل والمثيل » واحد ، معناه الشبه( {[278]} ) ، هكذا نص أهل اللغة والمتماثلان المتشابهان وقد يكون مثل الشيء جرماً مثله ، وقد( {[279]} ) يكون ما تعقل النفس وتتوهمه من الشيء مثلاً له ، فقوله تعالى : { مثلهم كمثل } معناه أن الذي يتحصل في نفس الناظر في أمرهم كمثل الذي يتحصل في نفس الناظر في أمر المستوقد ، وبهذا يزول الإشكال الذي في تفسير قوله تعالى : { مثل الجنة }( {[280]} ) [ الرعد : 35 ، محمد : 15 ] وفي تفسير قوله تعالى : { ليس كمثله شيء }( {[281]} ) [ الشورى : 11 ] لأن ما يتحصل للعقل من وحدانيته وأزليته ونفي ما لا يجوز عليه ليس يماثله فيه شيء ، وذلك المتحصل هو المثل الأعلى الذي في قوله عز وجل : { ولله المثل الأعلى }( {[282]} ) [ النحل : 6 ] . وقد جاء في تفسيره أنه لا إله إلا الله ففسر بجهة الوحدانية .

وقوله : { مثلهم } رفع بالابتداء والخبر في الكاف ، وهي على هذا اسم كما هي في قول الأعشى : [ البسيط ] .

أتنتهون ولا ينهى ذوي شططٍ . . . كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل

ويجوز أن يكون الخبر محذوفاً( {[283]} ) تقديره مثلهم مستقر كمثل ، فالكاف على هذا حرف ، ولا يجوز ذلك في بيت الأعشى لأن المحذوف فاعل تقديره شيء كالطعن ، والفاعل لا يجوز حذفه عند جمهور البصريين ، ويجوز حذف خبر الابتداء إذا كان الكلام دالاً عليه ، وجوز الأخفش حذف الفاعل ، وأن يكون الكاف في بيت الأعشى حرفاً ووحد الذي( {[284]} ) لأنه لم يقصد تشبيه الجماعة بالجماعة ، وإنما المقصد أن كل واحد من المنافقين فعله كفعل المستوقد ، و { الذي } أيضاً ليس بإشارة إلى واحد ولا بد ، بل إلى هذا الفعل : وقع من واحد أو من جماعة .

قال النحويون ، الذي اسم مبهم يقع للواحد والجميع( {[285]} ) . و { استوقد } قيل معناه أوقد ، فذلك بمنزلة عجب واستعجب بمعنى .

قال أبو علي : وبمنزلة هزىء واستهزأ وسخر واستسخر ، وقر واستقر وعلا قرنه واستعلاه ، وقد جاء استفعل بمعنى أفعل أجاب واستجاب ومنه قول الشاعر( {[286]} ) [ كعب بن سعد الغنوي ] : [ الطويل ] .

وداع دعا يا من يجيب إلى النَّدى . . . . فلم يستجبه عند ذاك مجيب

وأخلف لأهله واستخلف إذا جلب لهم الماء( {[287]} ) ، ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]

ومستخلفات من بلاد تنوفة . . . لمصفرة الأشداق حمر الحواصل( {[288]} )

ومنه قول الآخر : [ الطويل ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . سقاها فروّاها من الماء مخلف( {[289]} )

ومنه أوقد واستوقد قاله أبو زيد ، وقيل استوقد يراد به طلب من غيره أن يوقد له على المشهور من باب استفعل ، وذلك يقتضي حاجته إلى النار ، فانطفاؤها مع حاجته إليها أنكى له . واختلف في { أضاءت } فقيل يتعدى لأنه نقل بالهمزة من ضاء ، ومنه( {[290]} ) قول العباس بن عبد المطلب في النبي صلى الله عليه وسلم : [ المنسرح ]

وأنت لما ولدت أشرقَتِ الأر *** ضُ وضاءت بنورك الطرق

وعلى هذا ، ف { ما } في قوله : { ما حوله } مفعولة ، وقيل ( أضاءت ) لا تتعدى ، لأنه يقال ضاء وأضاء بمعنى ، ف ( ما ) زائدة ، وحوله ظرف .

واختلف المتأولون في على المنافقين الذي يشبه فعل ( الذي استوقد ناراً ) .

فقالت طائفة : هي فيمن آمن ثم كفر بالنفاق ، فإيمانه بمنزلة النار إذا أضاءت ، وكفره بعد بمنزلة انطفائها وذهاب النور( {[291]} ) .

وقال الحسن بن أبي الحسن وغيره : «إن ما يظهر المنافق في الدنيا من الإيمان فيحقن به دمه ويحرز ماله ويناكح ويخالط كالنار التي أضاءت ما حوله ، فإذا مات صار إلى العذاب الأليم ، فذلك بمنزلة انطفائها وبقائه في الظلمات » .

وقالت فرقة : إن إقبال المنافقين إلى المسلمين وكلامهم معهم كالنار وانصرافهم إلى مردتهم وارتكاسهم عندهم كذهابها .

وقالت فرقة : إن المنافقين كانوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في منزلة بما أظهروه ، فلما فضحهم الله وأعلم بنفاقهم سقطت المنزلة ، فكان ذلك كله بمنزلة النار وانطفائها .

وقالت فرقة منهم قتادة : نطقهم ب «لا إله إلا الله » والقرآن كإضاءة النار ، واعتقادهم الكفر بقلوبهم كانطفائها .

قال جمهور النحاة : جواب «لما » ذهب ، ويعود الضمير من «نورهم » في هذا القول على ( الذي ) ( {[292]} ) ، ويصح شبه الآية بقول الشاعر( {[293]} ) : [ الأشهب بن رميلة ] : [ الطويل ] .

وإنّ الذي حانتْ بفلجٍ دماؤهم . . . همُ القومُ كلُّ القومِ يا أمّ خالدِ

وعلى هذا القول يتم تمثيل المنافق بالمستوقد ، لأن بقاء المستوقد في ظلمات لا يبصر كبقاء المنافق على الاختلاف المتقدم .

وقال قوم : جواب «لما » مضمر ، وهو طفئت ، والضمير في «نورهم » على هذا للمنافقين( {[294]} ) والإخبار بهذا( {[295]} ) هو عن حال تكون في الآخرة وهو قوله تعالى : { فضرب بينهم بسور له باب }( {[296]} ) [ الحديد : 13 ] .

قال القاضي أبو محمد : هذا القول غير قوي ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وأبو السمال «في ظلْمات » بسكون اللام ، وقرأ قوم «ظلَمات » بفتح اللام . ( {[297]} )

قال أبو الفتح : في ظلمات وكسرات ثلاثة لغات : اتباع الضم الضم والكسر الكسر أو التخفيف بأن يعدل إلى الفتح في الثاني أو التخفيف بأن يسكن الثاني ، وكل ذلك جائز حسن ، فأما فعلة بالفتح فلا بد فيه من التثقيل إتباعاً فتقول ثمرة وثمرات .

قال القاضي أبو محمد : وذهب قوم في «ظلَمات » بفتح اللام إلى أنه جمع ظلم فهو جمع الجمع( {[298]} ) .


[278]:- الشِّبْه والشَّبَه والشَّبيه كالمثل والمثيل، قال أبو عبيدة: لم يسمع في فعل وفعل غير هذه الأربعة: مثل ومثل، وشبه وشبه، ونكل ونكل، وبدل وبدل، قاله صاحب لسان العرب ونقله الإمام (ق) لدى قوله تعالى: [فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم] الآية، والغرض من ضرب الأمثال تشبيه الخفي بالجلي، والغائب بالشاهد، وذلك لمزيد الكشف والإيضاح، ألا ترى أن الترغيب والترهيب إذا وقع كل منهما مجردا من ضرب مثل لم يتأثر القلب به كتأثره مع ضرب المثل، ولهذا المعنى أكثر الله الأمثال في كتابه المبين كما قال: [وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون].
[279]:- يعني أن مثل الشيء قد يكون حسيا، وقد يكون عقليا أي حاصلا في العقل، وبهذا يقع التفصي من الإشكال الذي يرد في بعض المواد والأمثلة حسبما أشار إليه المؤلف رحمه الله.
[280]:- قال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس في الجنة شيء مما في الدنيا، سوى الأسماء، وأما الذوات فمتباينة. وهي من الآية 15 من سورة محمد.
[281]:- من الآية 11 من سورة الشورى.
[282]:- من الآية 60 من سورة النحل.
[283]:- عبارة أبي (ح) أوضح، ونصه: ومثلهم مبتدأ والخبر في الجار والمجرور بعده، والتقدير كائن كمثل، كما يقدر ذلك في سائر حروف الجر اهـ. وقد بحث مع ابن عطية في الوجه الأول، انظره.
[284]:- للتوحيد دليلان الأول من ناحية المعنى، والثاني من ناحية الاستعمال: وذلك أن القصد تشبيه حال المنافق بحال المستوقد، لا تشبيه الجماعة بالجماعة. فالذي كما يستعمل للواحد يستعمل للجمع كما قال الشاعر: وإن الذي حانت بِفَلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد
[285]:- وفي بعض النسخ والجمع.
[286]:- هو كعب بن سعد الغنوي يرثي أخاه أبا المغوار- وبعد البيت: فقلت ادع أخرى، وارفع الصوت رفعة لعل أبا المغوار منك قريب
[287]:- يقال: أخلف لأهله: استقى لهم ماء، وأخلف القوم: حمل إليهم الماء العذب، وهم ليس معهم ماء عذب أو يكونون على ماء ملح- واستخلف الرجل لأهله: استقى لهم ماءن واستخلف: استعذب الماء.
[288]:- التنوفة: المفازة، والأرض الواسعة البعيدة الأطراف، أو الفلاة لا ماء بها ولا أنيس، وإن كانت معشبة، جمعها تنائف، والبيت أنشده الأصمعي لذي الرمة، كما في أمالي القالي، ويعني أن القطا يحملن الماء في حواصلهن.
[289]:- هو للحطيئة وصدر البيت: كأن دموعي سح واهية الكلى سقاها فرواها من الماء مخلف وبعده: تشد العرى منها على ظهر جونة عير القياد ما تكاد تصرف المخلف: المستقي، والواهية: صفة لمحذوف أي مزادة واهية الكلى، يقول: كأن دموعي تسيل من كل مزادة ضعيفة محمولة على ناقة عسير، فكلما هزتها كثر سيلانها، والعسير التي لا تنقاد، والكلية من المزادة رقعة مستديرة تخرز عليها تحت العروة، يقال: شرب الماء من كلية المزادة. وفي بعض النسخ من العين بدلا من الماء.
[290]:- أي من ضاء المنقول منه. وقيل: إنها تكون لازمة ومتعدية.
[291]:- قال ابن (ك) بعد أن قرر تشبيه المنافقين في اشترائهم الضلالة بالهدى- بمن استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله، وانتفع بما انطفأت، وصار في ظلامه شديد، لا يبصر شيئا، وهومع هذا أصم، لا يسمع، أبكم لا ينطق، أعمى لا يبصر لو كان ضياء، فلهذا لا يرجع إلى ما كان عليه قبل ذلك – فكذلك هؤلاء المنافقون، في استبدالهم الضلالة بالهدى واستحبابهم الغي على الرشد- ما نصه: "وفي هذا المثل دلالة على أنهم آمنوا، ثم كفروا، كما أخبر الله عنهم في غير هذا الموضع". - قال: "وقد حكى هذا الذي قلناه الرازي في تفسيره عن السدي، ثم قال (أي الرازي): والتشبيه ها هنا في غاية الصحة، لأنهم بإيمانهم أولا اكتسبوا نورا، ثم بنفاقهم ثانيا أبطلوا بذلك، فوقعوا في حيرة عظيمة، ولا حيرة أعظم من حيرة الدين، ويشهد لهذا التأويل قوله تعالى: [ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون] فهذا القول الذي صدر به ابن عطية رحمه الله هو الظاهر، وللإمام (ط) رحمه الله نظر آخر.
[292]:- أي على المستوقدين.
[293]:- هو الأشهب بن رميلة، والبيت يستشهد به على حذف النون من الذين، وهو رثاء للقوم الذين قتلوا بفلج وهو اسم موضع.
[294]:- فعلى أن جواب (لما) هو ذهب، وهوالمرتضى والمعتمد يعود ضمير نورهم على المستوقدين ويكون تمثيل المنافق بالمستوقد تاما غير ناقص، وعلى أن جوابها مضمر تقديره طفئت – يعود ضمير نورهم على المنافقين لأن الكلام على المستوقدين تم عند قوله: [فلما أضاءت ما حوله]، وكان التمثيل ناقصا.
[295]:- أي بقوله تعالى: [ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون] لأنه على إضمار الجواب يكون خاصا بالمنافقين.
[296]:- من الآية 13 من سورة الحديد.
[297]:- اعلم أن فُعلة بضم الفاء كظُلمة، وفِعلة بكسر الفاء ككسرة، يجوز في كل منهما ثلاث لغات: لغة الإتباع، ولغة فتح الثاني، ولغة إسكان الثاني، وأن فَعلة بفتح الفاء يجب فيها الإتباع نحو: تمرة وتمرات، وجَفْنة وجَفَنَات.
[298]:- العدول إلى الفتح تخفيفا أسهل من ادعاء جمع الجمع لأن العدول إليه قد جاء في كسرات جمع كِسرة، وفُعلة وفِعلة أخوان، ولأن جمع الجمع غير قياسي فلا ينبغي أن يصار إليه إلا بدليل واضح.