التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَيَوۡمَ يَحۡشُرُهُمۡ كَأَن لَّمۡ يَلۡبَثُوٓاْ إِلَّا سَاعَةٗ مِّنَ ٱلنَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيۡنَهُمۡۚ قَدۡ خَسِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ ٱللَّهِ وَمَا كَانُواْ مُهۡتَدِينَ} (45)

وبعد أن بينت السورة الكريمة أحوال أولئك المشركين في الدنيا ، ومواقفهم من الدعوة الإِسلامية ، أتبعت ذلك بالحديث عن أحوالهم يوم الحشر ، ومن استعجالهم للعذاب ، وعن رد الرسول - صلى الله عليه وسلم - عليهم ، فقال - تعالى - :

{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً . . . } .

قوله - سبحانه - : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النهار يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ } بيان لأحوالهم السيئة عند جمعهم لحساب يوم القيامة .

إذ الحشر - كما يقول الراغب - إخراج الجماعة عن مقرهم وإزعاجهم عنه إلى الحرب ونحوها .

والمراد به هنا : إخراج الناس من قبورهم وجمعهم في الموقف لحسابهم على أعمالهم الدنيوية .

المقصود بالساعة هنا : المدة القليلة من الزمان ، فقد جرت العادة أن يضرب بها المثل في الوقت القصير .

والمعنى : واذكر يا أيها الرسول الكريم ، وذكرهؤلاء المشركين الذين عموا وصموا عن الحق ، يوم يجمعهم الله - في الآخرة للحساب والعقاب ، فيشتد كريهم ، وينسون تلك الملذات والشهوات . . التي استمتعوا بها في الدنيا ، حتى لكأنهم لم يلبثوا فيها وفى قبورهم ، إلا ساعة من النهار أى : إلا مدة قصيرة من النهار ، يتعارفون بينهم ، أى : لا تتسع تلك المدة إلا للتعارف فيما بينهم .

وقوله : { كَأَن لَّمْ يلبثوا } جملة حالية من ضمير الجمع في يحشرهم .

وخصت الساعة بكونها من النهار ، لأنها أعرف لهم من ساعات الليل .

والمقصود بالتشبيه : بيان أن هذه السنوات الطويلة التي قضاها هؤلاء المشركون في الدنيا يتمتعون بلهوها ولعبها ، ويستبعدون معها أن هناك بعثا وحسابا . . قد زالت عن ذاكرتهم في يوم القيامة ، حتى لكأنهم لم يمكثوا فيها سوا وقت قصير لا يتسع لأكثر من التعارف القليل مع الأقارب والجيران والأصدقاء ، حتى لكأن ذلك النعيم الذي تقلبوا فيه دهراً طويلا لم يروه من قبل . . .

وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - في سورة الأحقاف : { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ } وقوله - سبحانه ، في سورة الروم { وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُقْسِمُ المجرمون مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ } فإن قيل : إن هناك بعض الآيات ذكرت أنهم عندما يسألون يحسبون بأنهم لبثوا في الدنيا يوما أو بعض يوم ، أو عشية أو ضحاها كما في قوله - تعالى - : { قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ في الأرض عَدَدَ سِنِينَ . قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } وكما في قوله - تعالى - { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يلبثوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا } فكيف نجمع بين هذه الآيات التي اختلفت إجابتهم فيها ؟

فالجواب : أن أهل الموقف يختلفون في تقدير الزمن الذي لبثوه في الدنيا على حسب اختلاف أحوالهم ، وعلى حسب أهوال كل موقف ، فإن في يوم القيامة مواقف متعددة بعضها أشد من بعض .

وقوله { يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ } جملة حالية أيضا من ضمير الجمع في يحشرهم .

قال القرطبي : " وهذا التعارف توبيخ وافتضاح ، يقول بعضهم لبعض : أنت أضللتني وأغويتني وحملتني على الكفر ، وليس تعارف شفقة ورحمة وعطف . . . والصحيح أنه لا ينقطع هذا التعارف التوبيخي عند مشاهدة أهوال القيامة ، لقوله - تعالى -

{ وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ القول } فأما قوله : { وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً } وأشباهه فمعناه : لا يسأله سؤال رحمة وشفقة . .

وقوله : { قَدْ خَسِرَ الذين كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ الله وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } جملة مستأنفة مسوقة لبيان حكم الله عليهم في آخرتهم بعد أن ضيعوا دنياهم .

والمراد بلقاء الله : مطلق الحساب والجزاء الكائن في يوم القيامة .

أى : أن هؤلاء الأشقياء الذين أعرضوا عن الحق وأنكروا الحشر ، قد خسروا سعادتهم الأبدية ، وحق عليهم العذاب المهين ، بسبب كفرهم وطغيانهم ، وعدم اهتدائهم إلى طريق النجاة .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَيَوۡمَ يَحۡشُرُهُمۡ كَأَن لَّمۡ يَلۡبَثُوٓاْ إِلَّا سَاعَةٗ مِّنَ ٱلنَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيۡنَهُمۡۚ قَدۡ خَسِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ ٱللَّهِ وَمَا كَانُواْ مُهۡتَدِينَ} (45)

26

بعد ذلك يلمس وجدانهم لمسة خاطفة بمشهد من مشاهد القيامة ، تبدو فيه الحياة الدنيا التي تزحم حسهم ، وتشغل نفوسهم ، وتأكل اهتماماتهم . . رحلة سريعة ، قضاها الناس هناك ، ثم عادوا إلى مقرهم الدائم ودارهم الأصيلة .

( ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم . قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله ، وما كانوا مهتدين ) . .

وفي هذه الجولة الخاطفة ننظر فإذا المحشورون مأخوذون بالمفاجأة ، شاعرون أن رحلتهم الدنيوية كانت قصيرة قصيرة ، حتى لكأنها ساعة من نهار قضوها في التعارف ، ثم أسدل الستار .

أو هذا مجرد تشبيه لهذه الحياة الدنيا ، وللناس الذين دخلوا ثم خرجوا ، كأن لم يفعلوا شيئاً سوى اللقاء والتعارف ?

إنه لتشبيه ، ولكنه حق اليقين وإلا فهل ينتهي البشر في هذه الأرض من عملية التعارف ? إنهم يجيئون ويذهبون وما يكاد أحدهم ينتهي من التعرف إلى الآخرين ، وما تكاد الجماعة فيهم تنتهي من التعرف إلى الجماعات الأخرى . ثم يذهبون .

وإلا فهل هؤلاء الأفراد الذين يتنازعون ويتعاركون ويقع من سوء التفاهم بينهم وبين بعضهم في كل ساعة ما يقع . . . هل هؤلاء تم تعارفهم كما ينبغي أن يكون ?

وهذه الشعوب المتناحرة ، والدول المتخاصمة - لا تتخاصم على حق عام ، ولا على منهج سليم ، إنما تتعارك على الحطام والأعراض - هذه . هل عرف بعضها بعضاً ? وهي ما تكاد تفرغ من خصام حتى تدخل في خصام .

إنه تشبيه لتمثيل قصر الحياة الدنيا . ولكنه يصور حقيقة أعمق فيما يكون بين الناس في هذه الحياة . . ثم يرحلون !

وفي ظل هذا المشهد تبدو الخسارة الفادحة لمن جعلوا همهم كله هو هذه الرحلة الخاطفة ، وكذبوا بلقاء الله ، وشغلوا عنه واستغرقوا في تلك الرحلة - بل تلك الومضة - فلم يستعدوا لهذا اللقاء بشيء يلقون به ربهم ؛ ولم يستعدوا كذلك بشيء للإقامة الطويلة في الدار الباقية :

( قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله ، وما كانوا مهتدين ) . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَيَوۡمَ يَحۡشُرُهُمۡ كَأَن لَّمۡ يَلۡبَثُوٓاْ إِلَّا سَاعَةٗ مِّنَ ٱلنَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيۡنَهُمۡۚ قَدۡ خَسِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ ٱللَّهِ وَمَا كَانُواْ مُهۡتَدِينَ} (45)

يقول تعالى مُذكِّرًا للناس قيام الساعة وحشرهم من أجداثهم إلى عَرَصات القيامة : كأنهم{[14251]} يوم يوافونها لم يلبثوا في الدنيا { إِلا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ } كما قال تعالى : { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا } [ النازعات : 46 ] ، وقال تعالى : { يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا عَشْرًا * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا يَوْمًا } [ طه : 102 - 104 ] ، وقال تعالى : { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } [ الروم : 55 ، 56 ] .

وهذا كله دليل على استقصار الحياة الدنيا في الدار الآخرة كما قال : { قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [ المؤمنون : 112 ، 114 ] .

وقوله : { يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ } أي : يعرف الأبناء الآباء{[14252]} والقرابات بعضهم لبعض ، كما كانوا في

الدنيا ، ولكن كل مشغول بنفسه { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ } [ المؤمنون : 101 ] ، وقال تعالى : { وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا * يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ * كَلا } [ المعارج : 10 ، 15 ] .

وقوله : { قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } كقوله تعالى : { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ } [ المرسلات : 15 ] . لأنهم خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ، ألا ذلك هو الخسران المبين . فهذه هي الخسارة العظيمة ، ولا خسارة أعظم من خَسارة من فُرّق بينه وبين أحبته{[14253]} يوم الحسرة والندامة .


[14251]:- في ت ، أ : "وكأنهم".
[14252]:- في ت ، أ : "الآباء الأبناء.
[14253]:- في ت ، أ : "أخيه".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَيَوۡمَ يَحۡشُرُهُمۡ كَأَن لَّمۡ يَلۡبَثُوٓاْ إِلَّا سَاعَةٗ مِّنَ ٱلنَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيۡنَهُمۡۚ قَدۡ خَسِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ ٱللَّهِ وَمَا كَانُواْ مُهۡتَدِينَ} (45)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لّمْ يَلْبَثُوَاْ إِلاّ سَاعَةً مّنَ النّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الّذِينَ كَذّبُواْ بِلِقَآءِ اللّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } .

يقول تعالى ذكره : ويوم نحشر هؤلاء المشركين فنجمعهم في موقف الحساب ، كأنهم كانوا قبل ذلك لم يلبثوا إلا ساعة من نهار يتعارفون فيما بينهم ، ثم انقطعت المعرفة وانقضت تلك الساعة . يقول الله : قَدْ خَسِرَ الّذِينَ كَذّبُوا بِلِقاء اللّهِ وَما كانُواّ مُهْتَدِينَ ، قد غبن الذين جحدوا ثواب الله وعقابه وحظوظهم من الخير ، وهلكوا . وما كَانُوا مُهْتَدِينَ يقول : وما كانوا موفقين لإصابة الرشد مما فعلوا من تكذيبهم بلقاء الله لأنه أكسبهم ذلك ما لا قبَل لهم به من عذاب الله .