وبعد هذا الحديث المفصل عن حال المؤمنين وحال الكافرين وعن مصير كل فريق . انتقلت السورة إلى الحديث عن المنافقين ، وعن موقفهم من النبى - صلى الله عليه وسلم - ومن القرآن الكريم الذى أنزله الله - تعالى - عليه ، فقال - سبحانه - : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ . . . يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ } .
وضمير الجمع فى قوله - تعالى - : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ } يعود إلى هؤلاء الكافرين الذين يأكلون كما تأكل الأنعام ، وذلك باعتبار أن المنافقين فرقة من الكافرين ، إلا أنها تخفى هذا الكفر وتبطنه .
كما يحتمل أن يعود إلى كل من أظهر الإِسلام ، باعتبار أن من بينهم قوما قالوا كلمة الإِسلام بأفواههم دون أن تصدقها قلوبهم .
وعلى كل حال فإن النفاق قد ظهر بالمدينة ، بعد أن قويت شوكة المسلمين بها . وصاروا قوة يخشاها أعداؤهم ، هذه القوة جعلت بعض الناس يتظاهرون بالإِسلام على كره وهم يضمرون له ولأتباعه العداوة والبغضاء . . . ويؤيدهم فى ذلك اليهود وغيرهم من الضالين .
أى : ومن هؤلاء الذين يناصبونك العداوة والبغضاء - أيها الرسول الكريم قوم يستمعون إليك بآذانهم لا بقلوبهم .
{ حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ } أى : من مجلسك الذى كانوا يستمعون إليك فيه ، { قَالُواْ } على سبيل الاستهزاء والتهكم { لِلَّذِينَ أُوتُواْ العلم } من أصحابك ، الذين فقهوا كلامك وحفظوه .
{ مَاذَا قَالَ آنِفاً } أى : ماذا كان يقول محمد - صلى الله عليه وسلم - قبل أن نفارق مجلسه .
فقوله : { آنِفاً } اسم فاعل ، ولم يسمع له فعل ثلاثى ، بل سمع ائتنف يأتنف واستأنف يستأنف بمعنى ابتدأ .
قال القرطبى : قوله : { مَاذَا قَالَ آنِفاً } أى : ماذا قال الآن . . فآنفا يراد به الساعة التى هى أقرب الأوقات إليك ، من قولك استأنفت الشئ إذا ابتدأت به ومنه قولهم : أمر أُنف ، وروضة أُنُف ، أى : لم يرعها أحد .
وقال الآلوسى ما ملخصه : قوله : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ . . . } هم المنافقون ، وإفراد الضمير باعتبار اللفظ ، كما أن جمعه باعتبار المعنى .
قال ابن جرير ، كانوا مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيسمعون كلامه ولا يعونه ولا يراعونه حق رعايته تهاونا منهم .
ومقصود بقولهم : { مَاذَا قَالَ آنِفاً } الاستهزاء وإن كان بصورة الاستعلام .
و { آنِفاً } اسم فاعل على غير القياس أو بتجريد فعله من الزوائد لأنه لم يسمع له ثلاثى ، بل المسموع : استأنف وأتنف .
ثم بين - سبحانه - حالهم فقال : { أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ } . أى : أولئك المنافقون الذين قالوا هذا القول القبيح ، هم الذين طبع الله - تعالى - على قلوبهم بأن جعلها بسبب استحباهم الضلالة على الهداية لا ينتفعون بنصح ، ولا يستجيبون لخير ، وهم الذين اتبعوا أهواءهم وشهواتهم فصاروا لا يعقلون حقا ، ولا يفقهون حديثا .
فالآية الكريمة تصور تصويرا بليغا ما كان عليه هؤلاء المنافقون من مكر وخداع ، ومن خبث وسوء طوية . وترد عليهم بهذا الذم الشديد الذى يناسب جرمهم .
( ومنهم من يستمع إليك ، حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم : ماذا قال آنفا ? أولئك الذين طبع الله على قلوبهم ، واتبعوا أهوائهم . . )
ولفظة : ( ومنهم )تحتمل أن تكون إشارة للذين كفروا الذين كان يدور الحديث عنهم في الجولة السابقة في السورة : باعتبار أن المنافقين في الحقيقة فرقة من الكفار مستورة الظاهر ، والله يتحدث عنها بحقيقتها في هذه الآية .
كما تحتمل أن تكون إشارة للمسلمين باعتبار أن المنافقين مندمجون فيهم ، متظاهرون بالإسلام معهم . وقد كانوا يعاملون معاملة المسلمين بحسب ظاهرهم ، كما هو منهج الإسلام في معاملة الناس .
ولكنهم في كلتا الحالتين هم المنافقون كما تدل عليه صفتهم في الآية وفعلهم ، وكما يدل السياق في هذه الجولة من السورة ، والحديث فيها عن المنافقين .
وسؤالهم ذاك بعد استماعهم للرسول [ صلى الله عليه وسلم ] والاستماع معناه السماع باهتمام - يدل على أنهم كانوا يتظاهرون تظاهرا بأنهم يلقون سمعهم وبالهم للرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وقلوبهم لاهية غافلة . أو مطموسة مغلقة . كما أنه قد يدل من جانب آخر على الغمز الخفي اللئيم إذ يريدون أن يقولوا بسؤالهم هذا لأهل العلم : إن ما يقوله محمد لا يفهم ، أو لا يعني شيئا يفهم . فهاهم أولاء مع استماعهم له ، لا يجدون له فحوى ولا يمسكون منه بشيء ! كذلك قد يعنون بهذا السؤال السخرية من احتفال أهل العلم بكل ما يقوله محمد [ صلى الله عليه وسلم ] وحرصهم على استيعاب معانيه وحفظ ألفاظه - كما كان حال الصحابة رضوان الله عليهم مع كل كلمة يتلفظ بها الرسول الكريم - فهم يسألونهم أن يعيدوا ألفاظه التي سمعوها على سبيل السخرية الظاهرة أو الخفية . . وكلها احتمالات تدل على اللؤم والخبث والانطماس والهوى الدفين :
يقول تعالى مخبرا عن المنافقين في بلادتهم وقلة فهمهم حيث كانوا يجلسون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويستمعون كلامه ولا يفهمون منه شيئا ، فإذا خرجوا من عنده { قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ } من الصحابة : { مَاذَا قَالَ آنِفًا } أي : الساعة ، لا يعقلون ما يقال {[26661]} ، ولا يكترثون له .
قال الله تعالى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ } أي : فلا فهم صحيح ، ولا قصد صحيح .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِنْهُمْ مّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتّىَ إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُوْلََئِكَ الّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَىَ قُلُوبِهِمْ وَاتّبَعُوَاْ أَهْوَآءَهُمْ } .
يقول تعالى ذكره : ومن هؤلاء الكفار يا محمد من يَسْتَمِع إِلَيْكَ وهو المنافِق ، فيستمع ما تقول فلا يعيه ولا يفهمه ، تهاونا منه بما تتلو عليه من كتاب ربك ، وتغافلاً عما تقوله ، وتدعو إليه من الإيمان ، حَتّى إِذَا خَرَجَوُا مِنْ عِنْدِكَ قالوا إعلاما منهم لمن حضر معهم مجلسك من أهل العلم بكتاب الله ، وتلاوتك عليهم ما تلوت ، وقِيلك لهم ما قلت إنهم لن يُصْغوا أسماعهم لقولك وتلاوتك ماذَا قالَ لنا محمد آنِفا ؟ وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إلَيْكَ حَتّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِك هؤلاء المنافقون ، دخل رجلان : رجل ممن عقل عن الله وانتفع بما سمع ورجل لم يعقل عن الله ، فلم ينتفع بما سمع ، كان يقال : الناس ثلاثة : فسامع عامل ، وسامع غافل ، وسامع تارك .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إلَيْكَ قال : هم المنافقون . وكان يقال : الناس ثلاثة : سامع فعامل ، وسامع فغافل ، وسامع فتارك .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا يحيى بن آدم ، قال : حدثنا شريك ، عن عثمان أبي اليقظان ، عن يحيى بن الجزّار ، أو سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس ، في قوله : حَتّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا للّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ ماذَا قالَ آنِفا قال ابن عباس : أنا منهم ، وقد سُئِلت فيمن سُئِل .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إلَيْكَ حَتّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ . . . إلى آخر الآية ، قال : هؤلاء المنافقون ، والذين أُوتُوا العلم : الصحابة رضي الله عنهم .
وقوله : أُولَئِكَ الّذِينَ طَبَعَ اللّهُ على قُلُوبِهِمْ يقول تعالى ذكره : هؤلاء الذين هذه صفتهم هم القوم الذين ختم الله على قلوبهم ، فهم لا يهتدون للحقّ الذي بعث الله به رسوله عليه الصلاة والسلام ، واتّبَعُوا أهْوَاءَهُمْ يقول : ورفضوا أمر الله ، واتبعوا ما دعتهم إليه أنفسهم ، فهم لا يرجعون مما هم عليه إلى حقيقة ولا برهان ، وسوّى جلّ ثناؤه بين صفة هؤلاء المنافقين وبين المشركين ، في أن جميعهم إنما يتبعون فيما هم عليه من فراقهم دين الله ، الذي ابتعث به محمدا صلى الله عليه وسلم أهواءهم ، فقال في هؤلاء المنافقين : أُولَئِكَ الّذِينَ طَبَعَ اللّهُ على قُلُوبِهِمْ وَاتّبَعُوا أهْوَاءَهُمْ وقال في أهل الكفر به من أهل الشرك ، كَمَنْ زُيّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ ، واتّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ .