ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك بعض المنن الأخرى التي منحها للمؤمنين قبل أن يلتحموا مع أعدائهم في بدر فقال : { إِذْ يُغَشِّيكُمُ النعاس أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السمآء مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشيطان وَلِيَرْبِطَ على قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقدام } .
وقوله : { يُغَشِّيكُمُ } بتشديد الشين من التغشية بمعنى التغطية عن غشاه تغشية أى : غطاه .
والنعاس : أول الوم قبل أن يثقل . وفعله - على الراجح - على وزن منع .
والأمنة : مصدر بمعنى الأمن . وهو طمأنينة القلب وزوال الخوف ، يقال : أمنت من كذا أمنة وأمنا وأمانا بمعنى .
قال الجمل : في قوله : { إذ يغشاكم النعاس } ثلاثة قراءات سبعية .
الأولى : يغشاكم كيلقاكم ، من غشية إذا أتاه وأصابه وفى المصباح : غشيته أغشاه من باب تعب بمعنى أتيته - وهى قراءة أبى عمرو وابن كثير .
الثانية : يُغْشِيكم - بإسكان الغيب وكسر الشين - من أغشاه . أي أنزله بكم وأوقعه عليكم - وهو قراءة نافع - .
الثالثة : يغشيكم - بتشديد الشين وفتح الغين وهى قراءة الباقين - من غشاه تغشية بمعنى غطاه .
أى : يغشيكم الله النعاس أي يجعله عليكم كالغطاء من حيث اشتماله عليكم .
والنعاس على القراءة الأولى مرفوع على الفاعلية ، وعلى الأخيرتين منصوب على المفعولية . وقوله : " أمنة " حال أو مفعول لأجله .
وقال القرطبى : وكان هذا النعاس في الليلة التي كان القتال من غدها ، فكان النوم عجيبا مع ما كان بين أيديهم من الأمر المهم ، ولكن الله ربط جأشهم .
وعن على - رضى الله عنه - قال : ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقدار على فرس أبلق ، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم سوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت شجرة يصلى حتى أصبح .
وفى امتنان الله عليهم بالنوم في هذه الليلة وجهان : - أحدهما : أن قواهم بالاستراحة على القتال من الغد .
الثانى : أن أمنهم بزوال الرعب في قلوبهم : كما يقال : الأمن منيم ، والخوف مسهر .
وقال ابن كثير : وجاء في الصحيح " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما كان يوم بدر في العريش مع الصديق ، وهما يدعوان ، أخذت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة من النوم . ثم استيقظ متبسما ، فقال : " أبشر يا أبا بكر ، هذا جبريل على تثناياه النقع " . ثم خرج من باب العريش وهو يتلو قول الله - تعالى - { سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر } " .
والمعنى : واذكروا - أيها المؤمنون - أيضاً ، وقت أن كنتم متعبين وقلقين على مصيركم في هذه المعركة ، فألقى الله عليكم النعاس ، وغشاكم به قبل التحامكم بأعدائكم ، ليكون أمانا لقلوبكم ، وراحة لأبدانكم ، وبشارة خير لكم .
هذا ، ومن العلماء الذين تكلموا عن نعمة النعاس التي ساقها الله للمؤمنين قبل المعركة ، الإِمامان الرازى ومحمد عبده .
أما الامام الرازى فقد قال ما ملخصه : واعلم أن كل نوم ونعاس لا يحصل إلا من قبل الله - تعالى - فتخصيص هذا النعاس بأنه من الله لا بد فيه من مزيد فائدة ، وذكروا في ذلك وجوها : منها : أن الخائف إذا خاف من عدوه فإنه لا يأخذه النوم ، وإذا نام الخائفون أمنوا . فصار حصول النوم لهم في وقت الخوف الشديد ، يدل على إزالة الخوف وحصول الأمن .
ومنها : أنهم ما ناموا نوما غرقا يتمكن مع العدو من معافصتهم ، بل كان ذلك نعاسا يزول معه الإِعياء والكلال ، ولو قصدهم العدو في هذه الحالة لعرفوا وصوله ، ولقدروا على دفعه .
ومنها : أنه غشيهم هذا النعاس دفعة واحدة مع كثرتهم ، ومحصول النعاس للجمع العظيم في الخوف الشديد أمر خارق للعادة . فلهذا السبب قيل : إن ذلك النعاس كان في حكم المعجز .
وقال الامام محمد عبده : لقد مضت سنة الله في الخلق ، بأن من يتوقع في صبيحة ليلته هو لا كبيرا ، ومصابا عظيما ، فإنه يتجافى تجنبه على مضجعه فيصبح خاملا ضعيفا . وقد كان المسلمون يوم بدر يتوقعون مثل ذلك ، إذ بلغهم أن جيشا يزيد على عددهم ثلاثة أضعاف سيحاربهم غدا فكان من مقتضى العادة أن يناموا على بساط الأرض والسهاد . . ولكن الله رحمهم بما أنزل عليهم من النعاس : غشيهم فناموا ، واثقين بالله ، مطمئنين لوعده ، وأصبحوا على همة ونشاط في لقاء عدوهم وعدوه . . . . فالنعاس لم يكن يوم بدر في وقت الحرب بل قبلها .
وبذلك نرى أن النعاس الذي أنزله الله تعالى - على المؤمنين قبل لقائهم بأعدائهم في بدر كان نعمة عظيمة ومنه جليلة .
وقوله - تعالى - : { وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السمآء مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ } وهو - أى : إنزال الماء من السماء نعمة عظمى تحمل في طياتها نعما وسننا .
أولهما : يتجلى في هذه الجملة الكريمة ، أنه - سبحانه - أنزل على المؤمنين المطر من السماء ليطهرهم به من الحدثين : الأصغر والأكبر ، فإن المؤمن كما يقول الإِمام الرازى - " يكاد يستقذر نفسه إذا كان جنبا ، وبغتم إذا لم يتمكن من الاغتسال ، ويضطرب قلبه لأجل هذا السبب " .
وثانيها : قوله - تعالى - : ويهذب عنكم رجز الشيطان .
وأصل الرجز : الاضطراب ويطلق على كل ما تشتد مشقته على النفوس .
قال الراغب : أصل الرجز الاضطراب ، ومنه قيل رجز البعير رجزا فهو أرجز ، وناقة رجزاء إذا تقارب خطوها واضطرب لضعفها . .
والمراد برجز الشيطان : وسوسته للمؤمنين ، وتخويفه إياهم من العطش وغيره عند فقدهم الماء وإلقاؤه الظنون السيئة في قلوبهم .
أى : أنه - سبحانه - أنزل عليكم الماء - أيها المؤمنون - ليظهركم به تطهيرا حسيا وليزيل عنكم وسوسة الشيطان ، بتخويفه إياكم من العطش وبإلقائه في نفوسكم الظنون والأوهام . . وهذا هو التطهير الباطنى .
وثالثها قوله - تعالى - : { وَلِيَرْبِطَ على قُلُوبِكُمْ } أى : وليقويها بالثقة في نصر الله ، وليوطنها على الصبر والطمأنينة . . ولا شك أن وجود الماء في حوزة المحاربين يزيدهم قوة على قوتهم ، وثباتاً على ثباتهم ، أما فقده فإنه يؤدى إلى فقد الثقة والاطمئنان ، بل وإلى الهزيمة المحققة .
وأصل الربط : الشد . ويقال لكل من صبر على أمر : ربط قلبه عليه ، أى : حبس قلبه عن أن يضطرب أو يتزعزع ، ومنه قولهم : رجل رابط الجأش : أى : ثابت متمكن .
ورابع هذه النعم التي تولدت عن نزول الماء من السماء على المؤمنين ، قبل خوضهم معركة بدر ، يتجلى في قوله - تعالى - { وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقدام } .
أى : أنه - سبحانه - أنزل عليهم المطر قبل المعرفة لتطهيرهم حسياً ومعنوياً ، ولتقويتهم وطمأنينتهم ، وليثبت أقدامهم به حتى لا تسوخ في الرمال ، وحتى يسهل المشى عليها ، إذ من المعروف أن من العسير المشئ على الرمال . فإذا ما نزلت عليها الأمطار جمدت وسهل السير فوقها ، وانطفأ غبارها . . فالضمير في قوله { بِهِ } يعود على الماء المنزل من السماء .
قال الزمخشرى : ويجوز أن يعود للربط - في قوله { وَلِيَرْبِطَ على قُلُوبِكُمْ } ، لأن القلب إذا تمكن فيه الصبر والجراءة ثبت القدم في مواطن القتال .
وهذا ، وقد وردت آثار متعددة توضع ما اشتملت عليه هذه الآية الكريمة من نعم جليلة ، ومن ذلك ما جاء عن ابن عباس أنه قال : نزل النبى - صلى الله عليه وسلم - يغنى حين سار إلى بدر - والمسلمون بينهم وبين الماء رملة دعصة - أي كثيرة مجتمعة - فأصاب المسلمين ضعف شديد ، وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ ، فوسوس بينهم ، تزعمون أنكم أولياء الله وفيكم ورسوله ، وقد غلبكم المشركون على الماء ، وأنتم تصلون مجنبين ؟ فأمطر الله عليهم مطرا شدديا ، فشرب المسلمون وتطهروا ، وأذهب الله عنهم رجز الشيطان وثبت الرمل حين أصابه المطر ، ومشى الناس عليه والدواب ، فاسروا إلى القوم .
وعن عروة بن الزبير قال : بعث الله السماء وكان الوادى دهساً فاصاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه مالبد لهم الأرض ولم منعهم من المسير ، وأصاب قريشا ما لم يقدروا على أن يرحلوا معه .
ومن هذا القول المنقول عن عروة - رضى الله عنه - نرى أن المطر كان خيراً للمسلمين ، وكان شراً على الكافرين ، لأن المسلمين كانوا في مكان يصلحه المطر ، بينما كان المشركون في مكان يؤذيهم فيه المطر .
( إذ يغشيكم النعاس أمنة منه ، وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ، ويذهب عنكم رجز الشيطان ، وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام ) . .
أما قصة النعاس الذي غشي المسلمين قبل المعركة فهي قصة حالة نفسية عجيبة ، لا تكون إلا بأمر الله وقدره وتدبيره . . لقد فزع المسلمون وهم يرون أنفسهم قلة في مواجهة خطر لم يحسبوا حسابه ولم يتخذوا له عدته . . فإذا النعاس يغشاهم ، ثم يصحون منه والسكينة تغمر نفوسهم ؛ والطمأنينة تفيض على قلوبهم [ وهكذا كان يوم أحد . . تكرر الفزع ، وتكرر النعاس ، وتكررت الطمأنينة ] . . ولقد كنت أمر على هذه الآيات ، وأقرأ أخبار هذا النعاس ، فأدركه كحادث وقع ، يعلم الله سره ، ويحكي لنا خبره . . ثم إذا بي أقع في شدة ، وتمر عليّ لحظات من الضيق المكتوم ، والتوجس القلق ، في ساعة غروب . . ثم تدركني سنة من النوم لا تتعدى بضع دقائق . . وأصحوا إنساناً جديداً غير الذي كان . . ساكن النفس . مطمئن القلب . مستغرقاً في الطمأنينة الواثقة العميقة . . كيف تم هذا ? كيف وقع هذا التحول المفاجىء ? لست أدري ! ولكني بعدها أدرك قصة بدر وأحد . أدركها في هذه المرة بكياني كله لا بعقلي . وأستشعرها حية في حسي لا مجرد تصور . وأرى فيها يد الله وهي تعمل عملها الخفي المباشر . . ويطمئن قلبي . .
لقد كانت هذه الغشية ، وهذه الطمأنينة ، مدداً من أمداد الله للعصبة المسلمة يوم بدر :
( إذ يغشيكم النعاس أمنة منه ) . .
ولفظ ( يغشيكم ) ولفظ ( النعاس ) ولفظ ( أمنة ) . . كلها تشترك في إلقاء ظل لطيف شفيف ؛ وترسم الظل العام للمشهد ، وتصور حال المؤمنين يومذاك ، وتجلي قيمة هذه اللحظة النفسية الفاصلة بين حال للمسلمين وحال .
( وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ، ويذهب عنكم رجز الشيطان ، وليربط على قلوبكم ، ويثبت به الأقدام ) . .
فهي قصة مدد آخر من أمداد الله للعصبة المسلمة ، قبيل المعركة .
قال علي بن طلحة ، عن ابن عباس قال : نزل النبي [ ص ] حين سار إلى بدر والمشركون بينهم وبين الماء رملة وعصة ، وأصاب المسلمين ضعف شديد ، وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ يوسوس بينهم : تزعمون أنكم أولياء الله تعالى وفيكم رسوله ، وقد غلبكم المشركون على الماء ، وأنتم تصلون مجنبين ? فأمطر الله عليهم مطراً شديداً ، فشرب المسلمون وتطهروا ، وأذهب الله عنهم رجز الشيطان ، وثبت الرمل حين أصابه المطر ، ومشى الناس عليه والدواب ، فساروا إلى القوم ، وأمد الله نبيه [ ص ] بألف من الملائكة ، فكان جبريل في خمسمائة مجنبة ، وميكائيل في خمسمائة مجنبة " . .
ولقد كان ذلك قبل أن ينفذ رسول الله [ ص ] ما أشار به الحباب بن المنذر من النزول على ماء بدر ، وتغوير ما وراءها من القلب .
" والمعروف أن رسول الله [ ص ] لما صار إلى بدر نزل على أدنى ماء هناك أي أول ماء وجده - فتقدم إليه الحباب بن المنذر فقال : يا رسول الله هذا المنزل الذي نزلته ، منزل أنزلك الله إياه فليس لنا أن نجاوزه ، أو منزل نزلته للحرب والمكيدة ? فقال : " بل منزل نزلته للحرب والمكيدة " . فقال : يا رسول الله ، ليس بمنزل ، ولكن سربنا حتى ننزل على أدنى ماء يلي القوم ونغور ما وراءه من القلب ونسقي الحياض فيكون لنا ماء وليس لهم ماء . فسار رسول الله [ ص ] ففعل ذلك " .
ففي هذه الليلة - وقبل إنفاذ مشورة الحباب بن المنذر - كانت هذه الحالة التي يذكر الله بها العصبة التي شهدت بدراً . . والمدد على هذا النحو مدد مزدوج : مادي وروحي . فالماء في الصحراء مادة الحياة ، فضلاً على أن يكون أداة النصر . والجيش الذي يفقد الماء في الصحراء يفقد أعصابه قبل أن يواجه المعركة . ثم هذه الحالة النفسية التي صاحبت الموقف ووسوس بها الشيطان ! حالة التحرج من أداء الصلاة على غير طهر لعدم وجود الماء [ ولم يكن قد رخص لهم بعد في التيمم ، فقد جاء هذا متأخراً في غزوة بني المصطلق في السنة الخامسة ] . وهنا تثور الهواجس والوساوس ، ويدخل الشيطان من باب الإيمان ليزيد حرج النفوس ووجل القلوب ! والنفوس التي تدخل المعركة في مثل هذا الحرج وفي مثل هذا القلق تدخلها مزعزعة مهزومة من داخلها . . وهنا يجيء المدد وتجيء النجدة . .
( وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ، ويذهب عنكم رجز الشيطان ، وليربط على قلوبكم ، ويثبت به الأقدام ) . .
ويتم المدد الروحي بالمدد المادي ؛ وتسكن القلوب بوجود الماء ، وتطمئن الأرواح بالطهارة ؛ وتثبت الأقدام بثبات الأرض وتماسك الرمال .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِذْ يُغَشّيكُمُ النّعَاسَ أَمَنَةً مّنْهُ وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السّمَآءِ مَآءً لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىَ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبّتَ بِهِ الأقْدَامَ } . .
يقول تعالى ذكره : ولتطمئن به قلوبكم إذ يعشيكم النعاس . ويعني بقوله : يُغَشّيكُمُ النّعاسَ : يلقي عليكم النعاس ، أمَنَةً يقول : أمانا من الله لكم من عدوّكم أن يغلبكم ، وكذلك النعاس في الحرب أمنة من الله عزّ وجلّ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن عاصم ، عن أبي رزين ، عن عبد الله ، قال : النعاس في القتال أمنة من الله عزّ وجلّ ، وفي الصلاة من الشيطان .
حدثني الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوريّ ، في قوله : يغشاكم النعاس أمنة منه ، عن عاصم ، عن أبي رزين ، عن عبد الله ، بنحوه ، قال : قال عبد الله : فذكر مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن أبي رزين ، عن عبد الله بنحوه .
والأمنة : مصدر من قول القائل : أمنت من كذا أَمَنَةً وأمانا وأمنا ، وكلّ ذلك بمعنى واحد .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : أمَنَةً منْهُ : أمانا من الله عزّ وجلّ .
قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : أمَنَةً قال : أمنا من الله .
حدثني يونس ، قال : حدثنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : إذْ يُغَشّيكُمُ النّعاسَ أمَنَةً مِنْهُ قال : أنزل الله عزّ وجلّ النعاس أمنة من الخوف الذي أصابهم يوم أُحد . فقرأ : ثُمّ أنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الغَم أمَنَةً نُعاسا .
واختلفت القراء في قراءة قوله : «إذْ يُغَشاكُمُ النّعاسُ أمَنَةً مِنْهُ » فقرأ ذلك عامّة قراء أهل المدينة «يُغَشِيكُمُ النّعاسَ » بضم الياء وتخفيف الشين ونصب «النعاس » ، من أغشاهم الله النعاس ، فهو يغشيهم . وقرأته عامة قراء الكوفيين : يُغَشّيكُم بضم الياء وتشديد الشين من غشّاهم الله النعاس ، فهو يُغَشّيهم . وقرأ ذلك بعض المكيين والبصريين : «يَغْشاكُم النّعاسُ » بفتح الياء ورفع «النعاس » ، بمعنى غشيهم النعاس ، فهو يغشاهم واستشهد هؤلاء لصحة قراءتهم كذلك بقوله في آل عمران : يَغْشَى طائفَةً .
وأولى ذلك بالصواب : إذْ يُغَشّيكُم على ماذكرت من قراءة الكوفيين ، لإجماع جميع القرّاء على قراءة قوله : ويُنَزّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السّماءِ ماءً بتوجيه ذلك إلى أنه من فعل الله عزّ وجلّ ، فكذلك الواجب أن يكون كذلك : يُغَشّيكُم إذ كان قوله : ويُنَزّلُ عطفا على «يُغَشّي » ، ليكون الكلام متسقا على نحو واحد .
وأما قوله : ويُنَزّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السّماءِ ماءً لِيّطَهّرَكُمْ بِهِ فإن ذلك مطر أنزله الله من السماء يوم بدر ، ليطهر به المؤمنين لصلاتهم لأنهم كانوا أصبحوا يومئذٍ مُجْنِبين على غير ماء فلما أنزل الله عليهم الماء اغتسلوا وتطهروا . وكان الشيطان وسوس لهم بما حزنهم به من إصباحهم مجنبين على غير ماء ، فأذهب الله ذلك من قلوبهم بالمطر فذلك ربطه على قلوبهم وتقويته أسبابهم وتثبيته بذلك المطر أقدامهم ، لأنهم كانوا التقوا مع عدوّهم على رَمْلة هَشّاء فلبّدَها المطر حتى صارت الأقدام عليها ثابتة لا تسوخ فيها ، توطئة من الله عزّ وجلّ لنبيه عليه الصلاة والسلام وأوليائه أسباب التمكن من عدوهم والظفر بهم . وبمثل الذي قلنا ، تتابعت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره من أهل العلم . ذكر الأخبار الواردة بذلك :
حدثنا هارون بن إسحاق ، قال : حدثنا مصعب بن المقدام ، قال : حدثنا إسرائيل ، قال : حدثنا أبو إسحاق ، عن حارثة ، عن عليّ رضي الله عنه ، قال : أصابنا من الليل طشّ من المطر يعني الليلة التي كانت في صبيحتها وقعة بدر فانطلقنا تحت الشجر والحجف ، نستظلّ تحتها من المطر ، وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو به : «اللّهُمّ إنْ تَهْلِكْ هَذِهِ العِصَابَةُ لا تُعْبَدْ في الأرْضِ » فلما أن طلع الفجر نادى : الصّلاةَ عِبادَ اللّهِ ، فجاء الناس من تحت الشجر والحجف ، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحرّض على القتال .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حفص بن غياث وأبو خالد ، عن داود ، عن سعيد بن المسيب : ماءً لِيُطَهّرَكُمْ بِهِ قال : طشّ يوم بدر .
حدثني الحسن بن يزيد ، قال : حدثنا حفص ، عن داود ، عن سعيد ، بنحوه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد أبي عديّ وعبد الأعلى ، عن داود ، عن الشعبيّ وسعيد بن المسيب ، قالا : طش يوم بدر .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن داود ، عن الشعبي وسعيد بن المسيب في هذه الاَية : يُنَزّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السّماءِ ماءً لِيُطَهّرَكُمْ بِهِ ، وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشّيْطانِ قالا : طش كان يوم بدر ، فثبت الله به الأقدام .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : «إذْ يَغْشاكُمُ النّعاسُ أمَنَةً مِنْهُ » . . . الاَية ، ذكر لنا أنهم مطروا يومئذٍ حتى سال الوادي ماء ، واقتتلوا على كثيب أعفر ، فلبده الله بالماء ، وشرب المسلمون وتوضئوا وسَقَوْا ، وأذهب الله عنهم وسواس الشيطان .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال : نزل النبيّ صلى الله عليه وسلم يعني حين سار إلى بدر والمسلمون بينهم وبين الماء رملة دعصة فأصاب المسلمين ضعف شديد ، وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ ، فوسوس بينهم : تزعمون أنكم أولياء الله وفيكم رسوله ، وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم تصلون مجنبين فأمطر الله عليهم مطرا شديدا ، فشرب المسلمون وتطهروا ، وأذهب الله عنهم رجز الشيطان . وثبت الرمل حين أصابه المطر ، ومشي الناس عليه والدوابّ فساروا إلى القوم ، وأمدّ الله نبيه بألف من الملائكة ، فكان جبريل عليه السلام في خمسمائة من الملائكة مجنبة ، وميكائيل في خمسمائة مجنبة .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : «إذْ يُغْشاكُمُ النّعاسُ أمَنَةً مِنْهُ » . . . إلى قوله : وَيُثَبّتَ بِهِ الأقْدَامَ وذلك أن المشركين من قريش لما خرجوا لينصروا العير ويقاتلوا عنها ، نزلوا على الماء يوم بدر ، فغلبوا المؤمنين عليه ، فأصاب المؤمنين الظمأ ، فجعلوا يصلون مجنبين محدثين ، حتى تعاظم ذلك في صدور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأنزل الله من السماء ماء حتى سال الوادي ، فشرب المسلمون وملئوا الأسقية ، وسقوا الركاب واغتسلوا من الجنابة ، فجعل الله في ذلك طُهورا ، وثبت الأقدام . وذلك أنه كانت بينهم وبين القوم رملة فبعث الله عليها المطر . فضربها حتى اشتدت ، وثبتت عليها الأقدام .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون ، فسبقهم المشركون إلى ماء بدر ، فنزلوا عليه ، وانصرف أبو سفيان وأصحابه تلقاء البحر ، فانطلقوا . قال : فنزلوا على أعلى الوادي ، ونزل محمد صلى الله عليه وسلم في أسفله . فكان الرجل من أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام يُجنب فلا يقدر على الماء ، فيصلي جنبا ، فألقى الشيطان في قلوبهم ، فقال : كيف ترجون أن تظهروا عليهم وأحدكم يقوم إلى الصلاة جنبا على غير وضوء ؟ قال : فأرسل الله عليهم المطر ، فاغتسلوا وتوضئوا وشربوا ، واشتدت لهم الأرض ، وكانت بطحاء تدخل فيها أرجلهم ، فاشتدّت لهم من المطر واشتدّوا عليها .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : غلب المشركون المسلمين في أوّل أمرهم على الماء فظمىء المسلمون ، وصلوا مجنبين محدثين ، وكانت بينهم رمال ، فألقى الشيطان في قلوب المؤمنين الحزن ، فقال : تزعمون أن فيكم نبيّا وأنكم أولياء الله ، وقد غلبتم على الماء وتصلون مجنبين محدثين ؟ قال : فأنزل الله ماء من السماء ، فسال كلّ واد ، فشرب المسلمون وتطهروا ، وثبتت أقدامهم ، وذهبت وسوسة الشيطان .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ماءً لِيُطَهّرَكُمْ بِهِ قال : المطر أنزله عليهم قبل النعاس . رِجْزَ الشّيْطَانِ قال : وسوسته . قال : فأطفأ بالمطر الغبار ، والتبدت به الأرض ، وطابت به أنفسهم ، وثبتت به أقدامهم .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ماءً لِيُطَهّرَكُمْ بِهِ أنزله عليهم قبل النعاس ، طبق المطر الغبار ، ولبد به الأرض ، وطابت به أنفسهم ، وثبتت به الأقدام .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ماءً لِيُطَهّرَكُمْ بِهِ قال : القطر ويُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشّيْطَانِ وساوسه . أطفأ بالمطر الغبار ، ولبد به الأرض ، وطابت به أنفسهم ، وثبتت به أقدامهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، رجز الشيطان : وسوسته .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَيُنَزّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السّماءِ ماءً لِيُطَهّرَكُمْ بِهِ قال : هذا يوم بدر أنزل عليهم القطر . وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشّيْطانِ الذي ألقى في قلوبكم ليس لكم بهؤلاء طاقة . وَلِيَرْبِطَ على قُلُوبِكُمْ وَيُثَبّتَ بِهِ الأقْدَامَ .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : إذْ يَغْشاكُمُ النّعاسُ أمَنَةً مِنْهُ . . . إلى قوله : وَيُثَبّتَ بِهِ الأقْدَامَ : إن المشركين نزلوا بالماء يوم بدر ، وغلبوا المسلمين عليه ، فأصاب المسلمين الظمأ ، وصلوا محدثين مجنبين ، فألقى الشيطان في قلوب المؤمنين الحزن ، ووسوس فيها : إنكم تزعمون أنكم أولياء الله وأن محمدا نبيّ الله ، وقد غلبتم على الماء وأنتم تصلون محدثين مجنبين فأمطر الله السماء حتى سال كلّ واد ، فشرب المسلمون وملئوا أسقيتهم وسقوا دوابهم واغتسلوا من الجنابة ، وثبت الله به الأقدام وذلك أنهم كان بينهم وبين عدوّهم رملة لا تجوزها الدوابّ ، ولا يمشي فيها الماشي إلاّ بجهد ، فضربها الله بالمطر حتى اشتدت وثبتت فيها الأقدام .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : «إذْ يَغْشاكُمُ النّعاسُ أمَنَةً مِنْهُ » : أي أنزلت عليكم الأمنة حتى نمتم لا تخافون ، ونزل عليكم من السماء المطر الذي أصابهم تلك الليلة ، فحبس المشركون أن يسبقوا إلى الماء ، وخُلي سبيلُ المؤمنين إليه . لِيُطَهّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ على قُلُوبِكُمْ وَيُثَبّتَ بِهِ الأقْدَام : ليذهب عنهم شكّ الشيطان بتخويفه إياهم عدوّهم ، واستجلاد الأرض لهم ، حتى انتهوا إلى منزلهم الذي سبق إليه عدوّهم .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : ثم ذكر ما ألقى الشيطان في قلوبهم من شأن الجنابة وقيامهم يصلون بغير وضوء ، فقال : «إذْ يَغْشاكُمُ النّعاسُ أمَنَةً مِنْهُ ويُنَزّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السّماءِ ماءً لِيُطَهّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ على قُلُوبِكُمْ وَيُثَبّتَ بِهِ الأقْدَامَ » حتى تشتدّون على الرمل ، وهو كهيئة الأرض .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا داود بن أبي هند ، قال : قال رجل عند سعيد بن المسيب ، وقال مرّة قرأ : وَيُنَزّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السّماءِ ماءً لِيُطَهّرَكُمْ بِهِ فقال سعيد : إنما هي : «وَيُنزِلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السّماءِ ماءً لِيُطْهِرَكُمْ بِهِ » قال : وقال الشعبي : كان ذلك طشّا يوم بدر .
وقد زعم بعض أهل العلم بالغريب من أهل البصرة ، أن مجاز قوله : وَيُثَبّتَ بِهِ الأقْدَام ويفرغ عليهم الصبر وينزله عليهم ، فيثبتون لعدوّهم . وذلك قول خلاف لقول جميع أهل التأويل من الصحابة والتابعين ، وحسب قول خطأ أن يكون خلافا لقول من ذكرنا . وقد بيّنا أقوالهم فيه ، وأن معناه : ويثبت أقدام المؤمنين بتلبيد المطر الرمل حتى لا تسوخ فيه أقدامهم وحوافر دوابهم .
لقد أبدع نظم الآيات في التنقل من قصة إلى أخرى من دلائِل عناية الله تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين ، فقَرَنَها ، في قَرَن زمانها ، وجعل ينتقل من إحداها إلى الأخرى بواسطة إذْ الزمانية ، وهذا من أبدع التخلص ، وهو من مبتكرات القرآن فيما أحسب .
ولذلك فالوجه أن يكون هذا الظرف مفعولاً فيه لقوله : { ومَا النصر } [ الأنفال : 10 ] فإن إغشاءهم النعاس كان من أسباب النصر ، فلا جرم أن يكون وقت حُصوله طرفاً للنصر .
والغَشْيُ والغشيان كون الشيء غاشياً أي غاماً ومغطياً ، فالنوم يغطي العَقل .
والنعاسُ النوم غير الثقيل ، وهو مثل السِّنة .
وقرأ نافع ، وأبو جعفرُ : { يُغْشِيكم } ، بضم التحتية وسكون الغين وتخفيف الشين بعدها ياء مضارع أغشاه وبنصب { النعاسَ } والتقدير : إذ يغشيكم الله النعاسَ ، والنعاس مفعول ثاني ليغشي بسبب تعدية الهمزة وقرأه ابنُ كثير ، وأبو عمرو : بفتح التحتية وفتح الشين بعدها ألف ، وبرفع النعاس ، على أن يغشاكم مضارع غشي والنعاس فاعل ، وقرأه الباقون : بضم التحتية وفَتح الغين وتشديد الشين ونصب النعاس ، على أنه مضارع غشاه المضاعف والنعاس مفعول ثان .
فإسناد الإغشاء أو التغشية إلى الله لأنه الذي قدر أن يناموا في وقت لا ينام في مثله الخائف ، ولا يكون عامّاً سائرَ الجيش ، فهو نوم منحهم الله إياه لِفائِدتهم .
وإسناد الغشي إلى النعاس حقيقة على المتعارف وقد علم أنه من تقدير الله بقوله { أمنة منه } .
و ( الأمنة ) الأمن ، وتقدم في آل عمران ، وهو منصوب على المفعول لأجله على قراءة من نصب ( النعاس ) ، وعلى الحال على قراءة من رفع ( النعاس ) .
وإنما كان ( النعاس ) أمناً لهم لأنهم لمّا ناموا زال أثر الخوف من نفوسهم في مدة النوم فتلك نعمة ، ولما استيقظوا وجدوا نشاطاً ، ونشاط الأعصاب يكسب صاحبه شجاعة ويزيل شعور الخوف الذي هو فتور الأعصاب .
وصيغة المضارع في { يُغشيكم } لاستحضار الحالة .
و ( مِنْ ) في قوله : { منه } للابتداء المجازي ، وهو وصف ل ( أمنة ) لإفادة تشريف ذلك النعاس وأنه وارد من جانب القُدس ، فهو لطْف وسكينة ورحمة ربَانية ، ويتأكد به إسناد الإغشاء إلى الله ، على قراءة من نصبوا ( النعاس ) ، تنبيهاً على أنه إسناد مخصوص ، وليس الإسناد الذي يعم المقدورات كلها ، وعلى قراءة من رفعوا ( النعاس ) يكون وصف الأمنة بأنها منه سارياً إلى الغَشي فيعلم أنه غشي خاص قُدسي ، وليس مثل سائِر غشيان النعاس فهو خارق للعادة كان كرامة لهم وقد حصل ذلك للمسلمين يومَ بدر كما هو صريح هذه الآية وحصل النعاس يوم أُحُد لطائفة من الجيش قال تعالى : { ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً يغشى طائفة منكم } وتقدم في سورة آل عمران ( 154 ) ، وفي صحيح البخاري عن أبي طلحة قال : « كنتُ فيمن تَغَشّاه النعاس يومَ أُحُد حتى سَقط سيفي من يدي مراراً » .
وذكر الله مِنةٌ أخرى جاءت في وقت الحاجة : وهي أنه أنزل عليهم المَطر يوم بَدر ، فإسناد هذا الإنزال إلى الله تعالى للتنبيه على أنه أكرمهم به وذلك لكونه نزل في وقت احتياجهم إلى الماء ، ولعله كان في غير الوقت المعتاد فيه نزول الأمطار في أُفُقِهم ، قال أهل السير : كان المسلمون حين اقتربوا من بدر راموا أن يسبقوا جيش المشركين إلى ماء بدر ، وكان طريقهم دَهْساء أي رملاً ليناً ، تسوخ فيه الأرجل فشق عليهم إسراع السير إلى الماء وكانت أرض طريق المشركين ملبدة ، فلما أنزل الله المطر تلبدت الأرض فصار السير أَمكن لهم ، واستوحلتْ الأرض للمشركين فصار السير فيها متعباً ، فأمكن للمسلمين السبق إلى الماء من بدر ونزلوا عليه وادخروا ماء كثيراً من ماء المطر ، وتطهروا وشربوا ، فذلك قوله تعالى : { ليطهّركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان } .
و ( الرجز ) القَذَر ، والمراد الوسخ الحِسي وهو النجس ، والمعنوي المعبر عنه في كتب الفقه بالحَدَث . والمراد الجنابة ، وذلك هو الذي يعم الجيش كله فلذلك قال : { ويذهب عنكم رجز الشيطان } ، وإضافته إلى الشيطان لأن غالب الجيش لما ناموا احتلموا فأصبحوا على جنابة وذلك قد يكون خواطر الشيطان يخيلها للنائِم ليفسد عليه طهارته بدون اختيار طمعاً في تثاقله عن الاغتسال حتى يخرج وقت صلاة الصبح ، ولأن فقدان الماء يلجئهم إلى البقاء في تنجس الثياب والأجساد والنجاسة تلائم طبع الشيطان .
وتقدير المجرور في قوله : { عنكم رجز الشيطان } للرعاية على الفاصلة ، لأنها بنيت على مد وحرف بعده في هذه الآيات والتي بعدها مع ما فيه من الاهتمام بهم .
وقوله : { وليربط على قلوبكم } أي يؤمنّكم بكونكم واثقين بوجود الماء لا تخافون عطشاً وتثبيت الأقدام هو التمكن من السير في الرمل ، بأن لا تسوخ في ذلك الدهس الأرجل ، لأن هذا المعنى هو المناسب حصوله بالمطر .
و ( الربط ) حقيقته شد الوثاق على الشي وهو مجاز في التثبيت وإزالة الاضطراب ومنه قولهم : فُلان رابط الجأش وله رباطة جَأش .