التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{ثُمَّ خَلَقۡنَا ٱلنُّطۡفَةَ عَلَقَةٗ فَخَلَقۡنَا ٱلۡعَلَقَةَ مُضۡغَةٗ فَخَلَقۡنَا ٱلۡمُضۡغَةَ عِظَٰمٗا فَكَسَوۡنَا ٱلۡعِظَٰمَ لَحۡمٗا ثُمَّ أَنشَأۡنَٰهُ خَلۡقًا ءَاخَرَۚ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحۡسَنُ ٱلۡخَٰلِقِينَ} (14)

ثم بين - سبحانه - أطواراً أخرى لخلق الإنسان تدل على كمال قدرته - - تعالى - فقال : { ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً } أى : ثم صيرنا النطفة البيضاء ، علقة حمراء إذ العلقة عبارة عن الدم الجامد .

{ فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً } أى : جعلنا بقدرتنا هذه العلقة قطعة من اللحم ، تشبه فى صغرها قطعة اللحم التى يمضغها الإنسان فى فمه .

{ فَخَلَقْنَا المضغة عِظَاماً } أى : حولنا هذه المضغة من اللحم التى لم تظهر معالمها بعد ، إلى عظم صغير دقيق ، على حب ما اقتضته حكمتنا فى خلقنا .

{ فَكَسَوْنَا العظام لَحْماً } أى : فكسونا هذه المضغة التى تحولت بقدرتنا إلى عظام دقيقة باللحم ، بحيث صار هذا اللحم ساتراً للعظام ومحيطاً بها .

قال بعض العلماء : " وهنا يقف الإنسان مدهوشاً ، أمام ما كشف عنه القرآن من حقيقة فى تكوين الجنين ، لم تعرف على وجه الدقة إلا أخيراً ، بعد تقدم علم الأجنة التشريحى " .

وذلك أن خلايا العظام غير خلايا اللحم وقد ثبت أن خلايا العظام هى التى تكون أولاً من الجنين ، ولا تشاهد خلية واحدة من خلايا اللحم إلا بعد ظهور خلايا الهيكل العظمى للجنين . وهى التى يسجلها النص القرآنى فى قوله - تعالى - { فَخَلَقْنَا المضغة عِظَاماً فَكَسَوْنَا العظام لَحْماً } فسبحانه العليم الخبير .

وقوله - تعالى - : { ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ } بيان لما انتهت إليه أطوار خلق الإنسان .

أى : ثم صيرنا هذا الإنسان بشراً سويًّا ، بعد أن كان نطفة ، فعلقة ، فمضغة ، فعظاماً ، فلحماً يكسو هذه العظام ، وهذا كله يدل على كمال قدرة الله - تعالى - وعلى أنه حق ، إذ قدرته - سبحانه - لا يعجزها شىء .

قال صاحب الكشاف : " قوله - تعالى - : { ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ } ، أى : خلقاً مبايناً للخلق الأول مباينة ما أبعدها ، حيث جعله حيواناً بعد أن كان جماداً ، وناطقاً وكان أبكم ، وسميعاً وكان أصم وبصيراً وكان أكمه ، وأودع باطنه وظاهره - بل كل عضو من أعضائه بل كل جزء من أجزائه - عجائب فطرته ، وغرائب حكمته ، لا تدرك بوصف الواصف ، ولا تبلغ بشرح الشارح . . . " .

{ فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين } أى : فكثر خيره - سبحانه - ودام إحسانه وتقدس شأنه ، فهو - عز وجل - أحسن الخالقين على الإطلاق ، فقد أتقن كل شىء خلقه ، وأحكم كل شىء صنعه .

ولفظ " تبارك " فعل ماض لا ينصرف ، والأكثر إسناده إلى غير مؤنث .

وهو مأخوذ من البركة بمعنى الكثرة من كل خير ، أو بمعنى الثبات والدوام وكل شىء دام وثبت فقد برك .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{ثُمَّ خَلَقۡنَا ٱلنُّطۡفَةَ عَلَقَةٗ فَخَلَقۡنَا ٱلۡعَلَقَةَ مُضۡغَةٗ فَخَلَقۡنَا ٱلۡمُضۡغَةَ عِظَٰمٗا فَكَسَوۡنَا ٱلۡعِظَٰمَ لَحۡمٗا ثُمَّ أَنشَأۡنَٰهُ خَلۡقًا ءَاخَرَۚ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحۡسَنُ ٱلۡخَٰلِقِينَ} (14)

12

وبتلك القوة الكامنة في الخلية المستمدة من الناموس الماضي في طريقه بين التدبير والتقدير . . حتى تجيء مرحلة العظام . . ( فخلقنا المضغة عظاما )فمرحلة كسوة العظام باللحم : ( فكسونا العظام لحما ) . . وهنا يقف الإنسان مدهوشا أمام ما كشف عنه القرآن من حقيقة في تكوين الجنين لم تعرف على وجه الدقة إلا أخيرا بعد تقدم علم الأجنة التشريحي . ذلك أن خلايا العظام غير خلايا اللحم . وقد ثبت أن خلايا العظام هي التي تتكون أولا في الجنين . ولا تشاهد خلية واحدة من خلايا اللحم إلا بعد ظهور خلايا العظام ، وتمام الهيكل العظمي للجنين . وهي الحقيقة التي يسجلها النص القرآني : ( فخلقنا المضغة عظاما ، فكسونا العظام لحما ) . . فسبحان العليم الخبير !

( ثم أنشأناه خلقا آخر ) . . هذا هو الإنسان ذو الخصائص المتميزة . فجنين الإنسان يشبه جنين الحيوان في أطواره الجسدية . ولكن جنين الإنسان ينشأ خلقا آخر ، ويتحول إلى تلك الخليقة المتميزة ، المستعدة للارتقاء . ويبقى جنين الحيوان في مرتبة الحيوان ، مجردا من خصائص الارتقاء والكمال ، التي يمتاز بها جنين الإنسان .

إن الجنين الإنساني مزود بخصائص معينة هي التي تسلك به طريقه الإنساني فيما بعد . وهو ينشأ ( خلقا آخر )في آخر أطواره الجنينية ؛ بينما يقف الجنين الحيواني عند التطور الحيواني لأنه غير مزود بتلك الخصائص . ومن ثم فإنه لا يمكن أن يتجاوز الحيوان مرتبته الحيوانية ، فيتطور إلى مرتبة الإنسان تطورا آليا - كما تقول النظريات المادية - فهما نوعان مختلفان . اختلفا بتلك النفخة الإلهية التي بها صارت سلالة الطين إنسانا . واختلفا بعد ذلك بتلك الخصائص المعينة الناشئة من تلك النفخة والتي ينشأ بها الجنين الإنساني ( خلقا آخر ) . إنما الإنسان والحيوان يتشابهان في التكوين الحيواني ؛ ثم يبقى الحيوان حيوانا في مكانه لا يتعداه . ويتحول الإنسان خلقا آخر قابلا لما هو مهيأ له من الكمال . بواسطة خصائص مميزة ، وهبها له الله عن تدبير مقصود لا عن طريق تطور آلى من نوع الحيوان إلى نوع الإنسان .

( فتبارك الله أحسن الخالقين ) . . وليس هناك من يخلق سوى الله . فأحسن هنا ليست للتفضيل ، إنما هي للحسن المطلق في خلق الله .

( فتبارك الله أحسن الخالقين ) . . الذي أودع فطرة الإنسان تلك القدرة على السير في هذه الأطوار ، وفق السنة التي لا تتبدل ولا تنحرف ولا تتخلف ، حتى تبلغ بالإنسان ما هو مقدر له من مراتب الكمال الإنساني ، على أدق ما يكون النظام !

وإن الناس ليقفون دهشين أمام ما يسمونه " معجزات العلم " حين يصنع الإنسان جهازا يتبع طريقا خاصا في تحركه ، دون تدخل مباشر من الإنسان . . فأين هذا من سير الجنين في مراحله تلك وأطواره وتحولاته ، وبين كل مرحلة ومرحلة فوارق هائلة في طبيعتها ، وتحولات كاملة في ماهيتها ? غير أن البشر يمرون على هذه الخوارق مغمضي العيون ، مغلقي القلوب ، لأن طول الألفة أنساهم أمرها الخارق العجيب . . وإن مجرد التفكر في أن الإنسان - هذا الكائن المعقد - كله ملخص وكامن بجميع خصائصه وسماته وشياته في تلك النقطة الصغيرة التي لا تراها العين المجردة ؛ وإن تلك الخصائص والسمات والشيات كلها تنمو وتتفتح وتتحرك في مراحل التطور الجنينية حتى تبرز واضحة عندما ينشأ خلقا آخر . فإذا هي ناطقة بارزة في الطفل مرة أخرى . وإذا كل طفل يحمل وراثاته الخاصة فوق الوراثات البشرية العامة . هذه الوراثات وتلك التي كانت كامنة في تلك النقطة الصغيرة . . إن مجرد التفكر في هذه الحقيقة التي تتكرر كل لحظة لكاف وحده أن يفتح مغاليق القلوب على ذلك التدبير العجيب الغريب . . .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{ثُمَّ خَلَقۡنَا ٱلنُّطۡفَةَ عَلَقَةٗ فَخَلَقۡنَا ٱلۡعَلَقَةَ مُضۡغَةٗ فَخَلَقۡنَا ٱلۡمُضۡغَةَ عِظَٰمٗا فَكَسَوۡنَا ٱلۡعِظَٰمَ لَحۡمٗا ثُمَّ أَنشَأۡنَٰهُ خَلۡقًا ءَاخَرَۚ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحۡسَنُ ٱلۡخَٰلِقِينَ} (14)

وقوله : ثُمّ خَلَقْنا النطْفَةَ عَلَقَةً يقول : ثم صيرنا النطفة التي جعلناها في قرار مكين علقة ، وهي القطعة من الدم . فَخَلَقْنا العَلَقَةَ مُضْغَةً يقول : فَجعلنا ذلك الدم مضغة ، وهي القطعة من اللحم . وقوله : فخَلَقْنا المُضْغَةَ عِظاما يقول : فجعلنا تلك المضغة اللحم عظاما .

وقد اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الحجاز والعراق سوى عاصم : فخَلَقْنا المُضْغَةَ عِظاما على الجماع ، وكان عاصم وعبد الله يقرآن ذلك : «عَظْما » فِي الحرفين على التوحيد جميعا .

والقراءة التي نختار في ذلك الجماع ، لإجماع الحجة من القرّاء عليه .

وقوله : فَكَسَوْنا العِظامَ لَحْما يقول : فألبسنا العظام لحما . وقد ذكر أن ذلك في قراءة عبد الله : «ثُمّ خَلَقْنا النطْفَةَ عَظْما وعصبا فَكَسَوْنَاه لَحْما » . وقوله : ثُمّ أنْشأْناهُ خَلْقا آخَرَ يقول : ثم أنشأنا هذا الإنسان خلقا آخر . وهذه الهاء التي في : أنْشَأْناهُ عائدة على «الإنسان » في قوله : وَلَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ قد يجوز أن تكون من ذكر العظم والنطفة والمضغة ، جعل ذلك كله كالشيء الواحد ، فقيل : ثم أنشأنا ذلك خلقا آخر .

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ثُمّ أنْشَأْناهُ خَلْقا آخَرَ فقال بعضهم : إنشاؤه إياه خلقا آخر : نفخه الروح فيه ، فيصير حينئذٍ إنسانا ، وكان قبل ذلك صورة . ذكر من قال ذلك :

حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حجاج ، عن عطاء ، عن ابن عباس في قوله : ثُمّ أنْشَأْناهُ خَلْقا آخَرَ قال : نفخ الروح فيه .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا هشيم عن الحجاج بن أرطأة عن عطاء ، عن ابن عباس ، بمثله .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال ابن عباس : ثُمّ أنْشَأْناهُ خَلْقا آخَرَ قال : الروح .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني عن عكرمة ، في قوله : ثُمّ أنْشَأْناهُ خَلْقا آخَرَ قال : نفخ الروح فيه .

حدثنا ابن بشار وابن المثنى ، قالا : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سلمة ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبيّ : ثُمّ أنْشَأْناهُ خَلْقا آخَرَ قال : نفخ فيه الروح .

قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، بمثله .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، في قوله : ثُمّ أنْشَأْناهُ خَلْقا آخَرَ قال : نفخ فيه الروح ، فهو الخلق الاَخر الذي ذكر .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : ثُمّ أنْشَأْناهُ خَلْقا يعني الروح تنفخ فيه بعد الخلق .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ثُمّ أنْشَأْناهُ خَلْقا آخَرَ قال : الروح الذي جعله فيه .

وقال آخرون : إنشاؤه خلقا آخر تصريفه إياه في الأحوال بعد الولادة : في الطفولة ، والكهولة ، والاغتذاء ، ونبات الشعر ، والسنّ ، ونحو ذلك من أحوال الأحياء في الدنيا . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثنا أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ثُمّ أنْشَأْناهُ خَلْقا آخَرَ فَتَبارَكَ اللّهُ أحْسَنُ الخالِقِينَ يقول : خرج من بطن أمه بعدما خلق ، فكان من بدء خلقه الاَخر أن استهلّ ، ثم كان من خلقه دُلّ على ثدي أمه ، ثم كان من خلقه أن علم كيف يبسط رجليه ، إلى أن قعد ، إلى أن حبا ، إلى أن قام على رجليه ، إلى أن مشى ، إلى أن قُطِم ، فعلم كيف يشرب ويأكل من الطعام ، إلى أن بلغ الحلم ، إلى أن بلغ أن يتقلّب في البلاد .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة : ثُمّ أنْشَأْناهُ خَلْقا آخَرَ قال : يقول بعضهم : هو نبات الشعر ، وبعضهم يقول : هو نفخ الروح .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرّزاق ، قال : أخبرنا معمر عن قَتادة ، مثله .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك : ثُمّ أنْشَأْناهُ خَلْقا آخَرَ قال : يقال الخلق الاَخر بعد خروجه من بطن أمه بسنه وشعره .

وقال آخرون : بل عَنَى بإنشائه خلقا آخر : سوّى شبابه . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ثُمّ أنْشَأْناهُ خَلْقا آخَرَ قال : حين استوى شبابه .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال مجاهد : حين استوى به الشباب .

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : عنى بذلك نفخ الروح فيه وذلك أنه بنفخ الروح فيه يتحوّل خلقا آخر إنسانا ، وكان قبل ذلك بالأحوال التي وصفه الله أنه كان بها ، من نطفة وعلقة ومضغة وعظم وبنفخ الروح فيه ، يتحوّل عن تلك المعاني كلها إلى معنى الإنسانية ، كما تحوّل أبوه آدم بنفخ الروح في الطينة التي خلق منها إنسانا وخلقا آخر غير الطين الذي خلق منه .

وقوله : فَتَبارَكَ اللّهُ أحْسَنُ الخالِقِينَ اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه فتبارك الله أحسن الصانعين . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن ليث ، عن مجاهد : فَتَبارَكَ اللّهُ أحْسَنُ الخالِقِينَ قال : يصنعون ويصنع الله ، والله خير الصانعين .

وقال آخرون : إنما قيل : فَتَبارَكَ اللّهُ أحْسَنُ الخالِقِينَ لأن عيسى ابن مريم كان يخلق ، فأخبر جلّ ثناؤه عن نفسه أنه يخلق أحسن مما كان يخلق . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جُرَيج ، في قوله : فَتَبارَكَ اللّهُ أحْسَنُ الخالِقِينَ قال : عيسى ابن مريم يخلق .

وأولى القولين في ذلك بالصواب قول مجاهد ، لأن العرب تسمي كل صانع خالقا ومنه قول زهير :

وَلأَنْتَ تَفْرِي ما خَلَقْتَ وَبَعْ *** ضُ القَوْمِ يَخْلُقُ ثُمّ لا يَفْرِي

ويروى :

وَلأَنْتَ تَخْلُقُ ما فَريْتَ وَبَعْ *** ضُ القَوْمِ يَخْلُقُ ثُمّ لا يَفْرِي

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{ثُمَّ خَلَقۡنَا ٱلنُّطۡفَةَ عَلَقَةٗ فَخَلَقۡنَا ٱلۡعَلَقَةَ مُضۡغَةٗ فَخَلَقۡنَا ٱلۡمُضۡغَةَ عِظَٰمٗا فَكَسَوۡنَا ٱلۡعِظَٰمَ لَحۡمٗا ثُمَّ أَنشَأۡنَٰهُ خَلۡقًا ءَاخَرَۚ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحۡسَنُ ٱلۡخَٰلِقِينَ} (14)

و { العلقة } الدم الغريض ، و { المضغة } بضعة اللحم قدر ما يمضغ ، وقرأ الجمهور { عظاماً } في الموضعين ، وقرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر «عظماً » بالإفراد في الموضعين ، وقرأ السلمي وقتادة والأعرج والأعمش بالإفراد أولاً وبالجمع في الثاني ، وقرأ مجاهد وأبو رجاء وإبراهيم بن أَبي بكير بعكس ذلك ، وفي قراءة ابن مسعود ، «ثم جعلنا المضغة عظاماً وعصباً فكسوناه لحماً » ، واختلف الناس في «الخلق الآخر » ، فقال ابن عباس والشعبي وأَبو العالية والضحاك وابن زيد : هو نفخ الروح فيه ، وقال ابن عباس أيضاً : خروجه إلى الدنيا ، وقال قتادة عن فرقة : نبات شعره ، وقال مجاهد : كمال شبابه وقال ابن عباس أيضاً : تصرفه في أمور الدنيا .

قال الفقيه الإمام القاضي : وهذا التخصيص كله لا وجه له وإنما هو عام في هذا وغيره من وجوه من النطق والإدراك وحسن المحاولة هو بها { آخر } ، وأول رتبة من كونه { آخر } هي نفخ الروح فيه ، والطرف الآخر من كونه { آخر } تحصيله المعقولات ، و «تبارك » مطاوع بارك فكأنها بمنزلة تعالى وتقدس من معنى البركة ، وهذه الآية يروى أن عمر بن الخطاب لما سمع صدر الآية إلى قوله { آخر } قال { فتبارك الله أَحسن الخالقين } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا أنزلت{[8464]} ، ويروى أن قائل ذلك معاذ بن جبل رضي الله عنه{[8465]} ، ويروى أَن قائل ذلك هو عبد الله بن أَبي سرح وبهذا السبب ارتد ، وقال أنا آتي بمثل ما يأتي به محمد وفيه نزلت :

{ ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو قال أوحي إليَّ ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله }{[8466]} [ الأنعام : 93 ] ، الآية وقوله { أحسن الخالقين } معناه الصانعين يقال لمن صنع شيئاً خلقه ومنه قول الشاعر : [ الكامل ]

ولأنت تفري ما خلقت . . . وبعض القوم يخلق ثم لا يفري{[8467]}

وذهب بعض الناس إلى نفي هذه اللفظة عن الناس ، فقال ابن جريج : إنما قال { الخالقين } لأَنه تعالى قد أذن لعيسى في أَن يخلق ، واضطرب بعضهم في ذلك{[8468]} ، ولا تنفى اللفظة عن البشر في معنى الصنع وإنما هي منفية الاختراع والإيجاد من العدم ، ومن هذه الآية قول ابن عباس لعمر حين سأل مشيخة الصحابة عن ليلة القدر فقالوا الله أعلم ، فقال عمر : ما تقول يا ابن عباس ، فقال : يا أمير المؤمنين إن الله خلق السماوات سبعاً ، والأرضين سبعاً ، وخلق ابن آدم من سبع ، وجعل رزقه في سبع ، فأراها في ليلة سبع وعشرين ، فقال : آعجزكم أن تأتوا بمثل ما أتى به هذا الغلام الذي لم تجتمع شؤون رأسه وهذا الحديث بطوله في مسند ابن أَبي شيبة فأراد ابن عباس بقوله خلق ابن آدم من سبع هذه الآية ، وبقوله جعل رزقه في سبع قوله { فأنبتنا فيها حباً وعنباً وقضباً وزيتوناً ونخلاً وحدائق غلباً وفاكهة وأبّا }{[8469]} [ عبس : 27 ] الآية السبع منها لابن آدم والأب للأنعام والقضب يأكله ابن آدم ويسمن منه النساء هذا قول ، وقيل القضب البقول لأنها تقضب فهي رزق ابن آدم ، وقيل : القضب والأب للأنعام والستة الباقية لابن آدم والسابعة هي الأنعام إذ هي من أعظم رزق ابن آدم .


[8464]:أخرج الطيالسي، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وابن عساكر، عن أنس قال: قال عمر: وافقت ربي في أربع: قلت: يا رسول الله، لو صليت خلف المقام، فأنزل الله: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى}، وقلت: يا رسول الله، لو اتخذت على نسائك حجابا فإنه يدخل عليك البر والفاجر، فأنزل الله {وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب}، وقلت لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم: لتنتهن أو ليبدلنه الله أزواجا خيرا منكن، فأنزلت {عسى ربه إن طلقكن} الآية، ونزلت {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين} الآية ... إلى قوله: {ثم أنشأناه خلقا آخر}، فقلت أنا: "فتبارك الله أحسن الخالقين" فنزلت {فتبارك الله أحسن الخالقين}. وأخرج الطبراني، وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: لما نزلت { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين} الآية قال عمر رضي الله عنه: "فتبارك الله أحسن الخالقين" فنزلت {فتبارك الله أحسن الخالقين}. وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، عن صالح أبي الخليل، قال: نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين} إلى قوله: {ثم أنشأناه خلقا آخر}،قال عمر: "فتبارك الله أحسن الخالقين" فقال: والذي نفسي بيده إنها ختمت بالذي تكلمت به يا عمر.
[8465]:أخرج ابن راهويه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني في الأوسط، وابن مردويه، عن زيد بن ثابت قال: أملى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين} إلى قوله: { خلقا آخر}، فقال معاذ بن جبل: "فتبارك الله أحسن الخالقين"، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال معاذ: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: إنها ختمت {فتبارك الله أحسن الخالقين}.
[8466]:هذه هي الآية (93) من سورة (الأنعام)، وقد قيل: إنها نزلت في عبد الله بن أبي سرح الذي كان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ارتد ولحق بالمشركين، وسبب ذلك أنه لما نزلت آية المؤمنين هذه دعاه النبي صلى الله عليه وسلم وأملاها عليه، فلما انتهى إلى قوله: { خلقا آخر} قال عبد الله متعجبا من هذا التفصيل: "فتبارك الله أحسن الخالقين" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هكذا أنزلت علي)، فشك عبد الله حينئذ وقال: لئن كان محمد صادقا لقد أوحي إلي كما أوحي إليه، ولئن كان كاذبا لقد قلت كما قال، فارتد عن الإسلام ولحق بالمشركين، راجع الجزء الخامس صفحة 286 وما بعدها.
[8467]:البيت لزهير بن أبي سلمى، وهو في الديوان، والطبري، والقرطبي، واللسان، والتاج، ومختار الشعر الجاهلي، وهو من قصيدة له يمدح بها هرم بن سنان، ومطلعها: "لمن الديار بقنة الحجر"، وتفري: تقطع، و "ما خلقت" معناها: ما قدرت وهيأت للقطع، والفري: القطع بعد التقدير، ويقال: خلق الأديم خلقا، بمعنى قدره لما يريد قبل القطع، وقاسه ليقطع منه مزادة أو قربة، ولذلك تسمي العرب كل صانع كالنجار والخياط خالقا، وهذا هو موضع الشاهد، يقول لهرم: أنت إذا قدرت أمرا قطعته، أي أنفذته وأمضيته، وغيرك يقدر ثم لا ينفذ لأنه ليس مثلك ماضي العزم.
[8468]:كثر الكلام في المعنى المراد بهذه الآية، وفي الجمع بينها وبين قوله تعالى في الآية (3) من سورة (فاطر): {هل من خالق غير الله}، ومن أحسن ما قيل في ذلك هو ما أشار إليه ابن عطية في تفسيره لمعنى قول الله هنا: {أحسن الخالقين}، وهو أن خلق يكون بمعنى الإيجاد ولا موجد سوى الله تعالى، ويكون بمعنى التقدير كما في قول زهير، وهو المراد هنا. فأبناء آدم قد يصنعون ويقدرون، والله تعالى هو خير الصانعين والمقدرين.
[8469]:الآيات (27 ـ 31) من سورة (عبس).