وبعد هذا الحديث المفصل عن حال المؤمنين وحال الكافرين وعن مصير كل فريق . انتقلت السورة إلى الحديث عن المنافقين ، وعن موقفهم من النبى - صلى الله عليه وسلم - ومن القرآن الكريم الذى أنزله الله - تعالى - عليه ، فقال - سبحانه - : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ . . . يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ } .
وضمير الجمع فى قوله - تعالى - : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ } يعود إلى هؤلاء الكافرين الذين يأكلون كما تأكل الأنعام ، وذلك باعتبار أن المنافقين فرقة من الكافرين ، إلا أنها تخفى هذا الكفر وتبطنه .
كما يحتمل أن يعود إلى كل من أظهر الإِسلام ، باعتبار أن من بينهم قوما قالوا كلمة الإِسلام بأفواههم دون أن تصدقها قلوبهم .
وعلى كل حال فإن النفاق قد ظهر بالمدينة ، بعد أن قويت شوكة المسلمين بها . وصاروا قوة يخشاها أعداؤهم ، هذه القوة جعلت بعض الناس يتظاهرون بالإِسلام على كره وهم يضمرون له ولأتباعه العداوة والبغضاء . . . ويؤيدهم فى ذلك اليهود وغيرهم من الضالين .
أى : ومن هؤلاء الذين يناصبونك العداوة والبغضاء - أيها الرسول الكريم قوم يستمعون إليك بآذانهم لا بقلوبهم .
{ حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ } أى : من مجلسك الذى كانوا يستمعون إليك فيه ، { قَالُواْ } على سبيل الاستهزاء والتهكم { لِلَّذِينَ أُوتُواْ العلم } من أصحابك ، الذين فقهوا كلامك وحفظوه .
{ مَاذَا قَالَ آنِفاً } أى : ماذا كان يقول محمد - صلى الله عليه وسلم - قبل أن نفارق مجلسه .
فقوله : { آنِفاً } اسم فاعل ، ولم يسمع له فعل ثلاثى ، بل سمع ائتنف يأتنف واستأنف يستأنف بمعنى ابتدأ .
قال القرطبى : قوله : { مَاذَا قَالَ آنِفاً } أى : ماذا قال الآن . . فآنفا يراد به الساعة التى هى أقرب الأوقات إليك ، من قولك استأنفت الشئ إذا ابتدأت به ومنه قولهم : أمر أُنف ، وروضة أُنُف ، أى : لم يرعها أحد .
وقال الآلوسى ما ملخصه : قوله : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ . . . } هم المنافقون ، وإفراد الضمير باعتبار اللفظ ، كما أن جمعه باعتبار المعنى .
قال ابن جرير ، كانوا مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيسمعون كلامه ولا يعونه ولا يراعونه حق رعايته تهاونا منهم .
ومقصود بقولهم : { مَاذَا قَالَ آنِفاً } الاستهزاء وإن كان بصورة الاستعلام .
و { آنِفاً } اسم فاعل على غير القياس أو بتجريد فعله من الزوائد لأنه لم يسمع له ثلاثى ، بل المسموع : استأنف وأتنف .
ثم بين - سبحانه - حالهم فقال : { أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ } . أى : أولئك المنافقون الذين قالوا هذا القول القبيح ، هم الذين طبع الله - تعالى - على قلوبهم بأن جعلها بسبب استحباهم الضلالة على الهداية لا ينتفعون بنصح ، ولا يستجيبون لخير ، وهم الذين اتبعوا أهواءهم وشهواتهم فصاروا لا يعقلون حقا ، ولا يفقهون حديثا .
فالآية الكريمة تصور تصويرا بليغا ما كان عليه هؤلاء المنافقون من مكر وخداع ، ومن خبث وسوء طوية . وترد عليهم بهذا الذم الشديد الذى يناسب جرمهم .
( ومنهم من يستمع إليك ، حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم : ماذا قال آنفا ? أولئك الذين طبع الله على قلوبهم ، واتبعوا أهوائهم . . )
ولفظة : ( ومنهم )تحتمل أن تكون إشارة للذين كفروا الذين كان يدور الحديث عنهم في الجولة السابقة في السورة : باعتبار أن المنافقين في الحقيقة فرقة من الكفار مستورة الظاهر ، والله يتحدث عنها بحقيقتها في هذه الآية .
كما تحتمل أن تكون إشارة للمسلمين باعتبار أن المنافقين مندمجون فيهم ، متظاهرون بالإسلام معهم . وقد كانوا يعاملون معاملة المسلمين بحسب ظاهرهم ، كما هو منهج الإسلام في معاملة الناس .
ولكنهم في كلتا الحالتين هم المنافقون كما تدل عليه صفتهم في الآية وفعلهم ، وكما يدل السياق في هذه الجولة من السورة ، والحديث فيها عن المنافقين .
وسؤالهم ذاك بعد استماعهم للرسول [ صلى الله عليه وسلم ] والاستماع معناه السماع باهتمام - يدل على أنهم كانوا يتظاهرون تظاهرا بأنهم يلقون سمعهم وبالهم للرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وقلوبهم لاهية غافلة . أو مطموسة مغلقة . كما أنه قد يدل من جانب آخر على الغمز الخفي اللئيم إذ يريدون أن يقولوا بسؤالهم هذا لأهل العلم : إن ما يقوله محمد لا يفهم ، أو لا يعني شيئا يفهم . فهاهم أولاء مع استماعهم له ، لا يجدون له فحوى ولا يمسكون منه بشيء ! كذلك قد يعنون بهذا السؤال السخرية من احتفال أهل العلم بكل ما يقوله محمد [ صلى الله عليه وسلم ] وحرصهم على استيعاب معانيه وحفظ ألفاظه - كما كان حال الصحابة رضوان الله عليهم مع كل كلمة يتلفظ بها الرسول الكريم - فهم يسألونهم أن يعيدوا ألفاظه التي سمعوها على سبيل السخرية الظاهرة أو الخفية . . وكلها احتمالات تدل على اللؤم والخبث والانطماس والهوى الدفين :
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِنْهُمْ مّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتّىَ إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُوْلََئِكَ الّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَىَ قُلُوبِهِمْ وَاتّبَعُوَاْ أَهْوَآءَهُمْ } .
يقول تعالى ذكره : ومن هؤلاء الكفار يا محمد من يَسْتَمِع إِلَيْكَ وهو المنافِق ، فيستمع ما تقول فلا يعيه ولا يفهمه ، تهاونا منه بما تتلو عليه من كتاب ربك ، وتغافلاً عما تقوله ، وتدعو إليه من الإيمان ، حَتّى إِذَا خَرَجَوُا مِنْ عِنْدِكَ قالوا إعلاما منهم لمن حضر معهم مجلسك من أهل العلم بكتاب الله ، وتلاوتك عليهم ما تلوت ، وقِيلك لهم ما قلت إنهم لن يُصْغوا أسماعهم لقولك وتلاوتك ماذَا قالَ لنا محمد آنِفا ؟ وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إلَيْكَ حَتّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِك هؤلاء المنافقون ، دخل رجلان : رجل ممن عقل عن الله وانتفع بما سمع ورجل لم يعقل عن الله ، فلم ينتفع بما سمع ، كان يقال : الناس ثلاثة : فسامع عامل ، وسامع غافل ، وسامع تارك .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إلَيْكَ قال : هم المنافقون . وكان يقال : الناس ثلاثة : سامع فعامل ، وسامع فغافل ، وسامع فتارك .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا يحيى بن آدم ، قال : حدثنا شريك ، عن عثمان أبي اليقظان ، عن يحيى بن الجزّار ، أو سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس ، في قوله : حَتّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا للّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ ماذَا قالَ آنِفا قال ابن عباس : أنا منهم ، وقد سُئِلت فيمن سُئِل .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إلَيْكَ حَتّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ . . . إلى آخر الآية ، قال : هؤلاء المنافقون ، والذين أُوتُوا العلم : الصحابة رضي الله عنهم .
وقوله : أُولَئِكَ الّذِينَ طَبَعَ اللّهُ على قُلُوبِهِمْ يقول تعالى ذكره : هؤلاء الذين هذه صفتهم هم القوم الذين ختم الله على قلوبهم ، فهم لا يهتدون للحقّ الذي بعث الله به رسوله عليه الصلاة والسلام ، واتّبَعُوا أهْوَاءَهُمْ يقول : ورفضوا أمر الله ، واتبعوا ما دعتهم إليه أنفسهم ، فهم لا يرجعون مما هم عليه إلى حقيقة ولا برهان ، وسوّى جلّ ثناؤه بين صفة هؤلاء المنافقين وبين المشركين ، في أن جميعهم إنما يتبعون فيما هم عليه من فراقهم دين الله ، الذي ابتعث به محمدا صلى الله عليه وسلم أهواءهم ، فقال في هؤلاء المنافقين : أُولَئِكَ الّذِينَ طَبَعَ اللّهُ على قُلُوبِهِمْ وَاتّبَعُوا أهْوَاءَهُمْ وقال في أهل الكفر به من أهل الشرك ، كَمَنْ زُيّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ ، واتّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ .
{ ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك } يعني المنافقين كانوا يحضرون مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم ويسمعون كلامه فإذا خرجوا { قالوا للذين أوتوا العلم } أي لعلماء الصحابة رضي الله تعالى عنهم . { ماذا قال آنفا } ما الذي قال الساعة ، استهزاء أو استعلاما إذا لم يلقوا له آذانهم تهاونا به ، و{ آنفا } من قولهم أنف الشيء لما تقدم منه مستعار من الجارحة ، ومنه استأنف وائتنف وهو ظرف بمعنى وقتا مؤتنفا ، أو حال من الضمير في { قال } وقرأ ابن كثير " أنفا " .
{ أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم } فلذلك استهزؤوا وتهاونوا بكلامه .
وقوله تعالى : { ومنهم من يستمع إليك } يعني بذلك المنافقين من أهل المدينة ، وذلك أنهم كانوا يحضرون عند النبي عليه السلام فيسمعون كلامه وتلاوته ، فإذا خرجوا قال بعضهم لمن شاء من المؤمنين الذين عملوا وانتفعوا { ماذا قال آنفاً } فكان منهم من يقول هذا استخفافاً ، أي ما معنى ما قال وما نفعه وما قدره ؟ ومنهم من كان يقول ذلك جهالة ونسياناً ، لأنه كان في وقت الكلام مقبلاً على فكرته في أمر دنياه وفي كفره ، فكان القول يمر صفحاً ، فإذا خرج قال : { ماذا قال آنفاً } ، وهذا أيضاً فيه ضرب من الاستخفاف ، لأنه كان يصرح أنه كان يقصد الإعراض وقت الكلام ، ولو لم يكن ذلك بقصد لم يبعد أن يجري على بعض المؤمنين . وروي أن عبد الله بن مسعود وابن عباس ممن سئل هذا السؤال ، حكاه الطبري عن ابن عباس .
وقرأ الجمهور : «آنفاً » على وزن فاعل ، وقرأ ابن كثير وحده : «أنفاً » على وزن فعل ، وهما اسما فاعل من ائتنف ، وجريا على غير فعلهما ، وهذا كما جرى فقير على افتقر ولم يستعمل فقر ، وهذا كثير ، والمفسرون يقولون : «أنفاً » معناه : الساعة الماضية القريبة منا ، وهذا تفسير بالمعنى .
ثم أخبر تعالى أنه { طبع } على قلوب هؤلاء المنافقين الفاعلين لهذا ، وهذا الطبع يحتمل أن يكون حقيقة ، ويحتمل أن يكون استعارة وقد تقدم القول فيه .
{ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ العلم مَاذَا قَالَ ءَانِفاً } .
ضمير { ومنهم } عائد إلى { الذين كفروا } [ محمد : 12 ] الذين جرى ذكرهم غير مرة من أول السورة ، أي ومن الكافرين قوم يستمعون إليك ، وأراد بمن يستمع معهم المنافقين بقرينة قوله : { قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال } وقوله : { خرجوا من عندك } .
وليس المراد مجرد المستمعين مثل ما في قوله : { ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تُسمع الصم } [ يونس : 42 ] وقوله : { ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة } [ الأنعام : 25 ] للفرق الواضح بين الأسلوبين ، وهذا صنف آخر من الكافرين الذين أسرّوا الكفر وتظاهروا بالإيمان ، وقد كان المنافقون بعد الهجرة مقصودين من لفظ الكفار . وهذه السورة نازلة بقرب عهد من الهجرة فلذلك ذكر فيها الفريقان من الكفار .
ومعنى { يستمع إليك } : يحضرون مجلسك ويسمعون كلامك وما تقرأ عليهم من القرآن . وهذه صفة من يتظاهر بالإسلام فلا يُعرضون عن سماع القرآن إعراض المشركين بمكة . روي عن الكلبي ومقاتل : أنها نزلت في عبد الله بن أبي بن سلول ورفاعة بن الثابوت والحارث بن عَمرو وزيد بن الصلت ومالك بن الدخشم{[384]} .
والاستماع : أشد السمع وأقواه ، أي يستمعون باهتمام يظهرون أنهم حريصون على وَعي ما يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم وأنهم يُلقون إليه بالهم ، وهذا من استعمال الفعل في معنى إظهاره لا في معنى حصوله . وحق فعل استمع أن يعدّى إلى المفعول بنفسه كما في قوله : { يستمعون القرآن } [ الأحقاف : 29 ] فإذا أريد تعلقه بالشخص المَسموع منه يقال : استمع إلى فلان كما قال هنا { ومنهم من يستمع إليك } ، وكذا جاء في مواقعه كلها من القرآن .
و { حتى } في قوله : { حتى إذا خرجوا من عندك } ابتدائية و { إذَا } اسم زمان متعلق ب { قالوا } .
والمعنى : فإذا خرجوا من عندك قالوا الخ .
والخروج : مغادرة مكان معيّن محصوراً وغير محصور ، فمنه { إذ أخرجني من السجن } [ يوسف : 100 ] ، ومنه { يريد أن يخرجكم من أرضكم } [ الأعراف : 110 ] . والخروج من عند النبي صلى الله عليه وسلم مغادرة مجلسه الذي في المسجد وهو الذي عبر عنه هنا بلفظ { عندك } .
و { مِن } لتعدية فعل { خرجوا } وليست التي تزاد مع الظروف في نحو قوله تعالى : { مِن عند الله } [ البقرة : 89 ] .
والذين أوتوا العلم : هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الملازمون لمجلسه وسُمِّي منهم عبد الله بن مسعود وأبو الدرداء وابن عبّاس . وروي عنه أنه قال : أنا منهم وسُئِلتُ فيمن سُئل . والمعنى : أنهم يستمعون إلى النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن وما يقوله من الإرشاد وحذف مفعول { يستمعون } ليشمل ذلك .
ومعنى { آنفاً } : وقتاً قريباً من زمن التكلم ، ولم ترد هذه الكلمة إلا منصوبة على الظرفية .
قال الزجاج : هو من استَأنف الشيءَ إذا ابتدأه اه يريد أنه مشتق من فعل مزيد ولم يسمع له فعل مجرد ، وظاهر كلامهم أن اشتقاقه من الاسم الجامد وهو الأنْفُ ، أي جَارحة الشمّ وكأنهم عنوا به أنف البعير لأن الأنف أول ما يَبْدُو لراكبه فيأخذ بخطامه ، فلوحظ في اسم الأنْف معنى الوصف بالظهور ، وكني بذلك عن القرب ، وقال غيره : هو مشتق من أُنُف بضم الهمزة وضم النون يوصف به الكأس التي لم يُشرب منها من قَبل ، وتُوصف به الروضة التي لم تُرْع قبلُ ، كأنهم لاحَظوا فيها لازم وصف عدم الاستعمال وهو أنه جديد ، أي زمن قريب ، ف { آنفاً } زماناً لم يبعد العهد به . قال ابن عطية : « والمفسّرون يقولون : { آنفاً } معناه : الساعة القريبة مِنا وهذا تفسيرُ المعنى » اه . وفي كلامه نظر لأن أهل اللغة فسروه بوقت يقرب منا . وصيغ على زنة اسم الفاعل وليس فيه معنى اسم الفاعل ، فهذا اسم غريب التصريففِ ولا يحفظ شيء من شعر العرب وقع فيه هذا اللفظ .
واتفق القراء على قراءته بصيغة فاعل وشذت رواية عن البزي عن ابن كثير أنه قرأ { آنفاً } بوزن كتف . وقد أنكر بعض علماء القراءات نِسبتها إلى ابن كثير ولكن الشاطبي أثبتها في حرز الأماني وقد ذكرها أبو علي في الحجة . فإذا صحت هذه الرواية عن البزّي عنه كان { آنِفاً } حالاً من ضمير { من يستمع } أجري على الإفراد رعياً للفظ { مَن } . ومعناه : أنه يقول ذلك في حال أنه شديد الأنفة ، أي التكبر إظهاراً لترفعه عن وعي ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم وينتهي الكلام عند ماذا . وزعم أبو علي في الحجة : أن البزي توهمه مثل : حَاذر وحَذر . ولا يظن مثل هذا بالبزي لو صحت الرواية عنه عن ابن كثير .
وسياق الكلام يدل على ذم هذا السؤال لقوله عقبه { أولئك الذين طبع الله على قلوبهم } فهو سؤال يُنْبىء عن مذمة سائليه ، فإن كان سؤالهم حقيقة أنبأ عن قلة وعيهم لما يسمعونه من النبي صلى الله عليه وسلم فهم يستعيدونه من الذين علموه فلعل استعادتهم إياه لقصد أن يتدارسوه إذا خلوا مع إخوانهم ليختلقوا مغامر يهيئونها بينهم ، أو أن يجيبوا من يسألهم من إخوانهم عما سمعوه في المجلس الذي كانوا فيه . ويجوز أن يكون السؤال على غير حقيقته ناوين به الاستهزاء يُظهرون للمؤمنين اهتمامهم باستعادة ما سمعوه ويقولون لإخوانهم : إنما نحن مستهزؤون ، أو أن يكون سؤالهم تعريضا بأنهم سمعوا كلاماً لا يستبين المراد منه لإدخال الشك في نفوس مَن يُحسون منهم الرغبة في حضور مجالس النبي صلى الله عليه وسلم تعريضاً لقلة جدوى حضورها . ويجوز أن تكون الآية أشارتْ إلى حادثة خاصة ذكر فيها النبي صلى الله عليه وسلم المنافقين وأحوالهم وعَلِم الذين كانوا حاضرين منهم أنهم المعنيّون بذلك ، فأرادوا أن يسألوا سؤال استطلاع هل شعر أهل العلم بأن أولئك هم المعنيّون ، فيكون مفعول { يستمعون } محذوفاً للعلم به عند النبي صلى الله عليه وسلم .
{ أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ واتبعوا أهواءهم } .
استئناف بياني لأن قولهم : { ماذا قال آنفاً } سؤال غريب من شأنه إثارة سؤال من يسأل عن سبب حصوله على جميع التقادير السابقة في مرادهم منه .
وجيء باسم الإشارة بعد ذكر صفاتهم تشهيراً بهم ، وجيء بالموصول وصلتيه خبراً عن اسم الإشارة لإفادة أن هؤلاء المتميزين بهذه الصفات هم أشخاص الفريق المتقرر بين الناس أنهم فريق مطبوع على قلوبهم لأنه قد تقرر عند المسلمين أن الذين صمّموا على الكفر هم قد طبع الله على قلوبهم وأنهم متّبعون لأهوائهم ، فأفادت أن هؤلاء المستمعين زمرة من ذلك الفريق ، فهذا التركيب على أسلوب قوله تعالى : { أولئك هم المفلحون } في سورة البقرة ( 5 ) .
والطبع على القلب : تمثيل لعدم مخالطة الهدى والرشد لعقولهم بحال الكِتاب المطبوع عليه ، أو الإناء المختوم بحيث لا يصل إليه من يحاول الوصول إلى داخله ، فمعناه أن الله خلق قلوبهم ، أي عقولهم غير مدركة ومصدقة للحقائق والهدى . وهذا الطبع متفاوت يزول بعضه عَن بعض أهله في مدد متفاوتة ويدوم مع بعض إلى الموت كما وقعَ ، وزواله بانتهاء ما في العقل من غشاوة الضلالة وبتوجه لطف الله بمن شاء بحكمته اللطف به المسمى بالتوفيق الذي فسره الأشعرية بخلق القدرة والداعية إلى الطاعة ، وبأنه ما يقع عنده صلاح العبد آخره . وفسر المعتزلة اللطف بإيصال المنافع إلى العبد من وجه يدق إدراكه وتمكينُه بالقدرة والآلات .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ومن هؤلاء الكفار يا محمد "من يَسْتَمِع إِلَيْكَ "وهو المنافِق، فيستمع ما تقول فلا يعيه ولا يفهمه، تهاونا منه بما تتلو عليه من كتاب ربك، وتغافلاً عما تقوله، وتدعو إليه من الإيمان،
"حَتّى إِذَا خَرَجَوُا مِنْ عِنْدِكَ قالوا" إعلاما منهم لمن حضر معهم مجلسك من أهل العلم بكتاب الله، وتلاوتك عليهم ما تلوت، وقِيلك لهم ما قلت إنهم لن يُصْغوا أسماعهم لقولك وتلاوتك "ماذَا قالَ" لنا محمد "آنِفا"؟...
وقوله: "أُولَئِكَ الّذِينَ طَبَعَ اللّهُ على قُلُوبِهِمْ" يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين هذه صفتهم هم القوم الذين ختم الله على قلوبهم، فهم لا يهتدون للحقّ الذي بعث الله به رسوله عليه الصلاة والسلام.
"واتّبَعُوا أهْوَاءَهُمْ" يقول: ورفضوا أمر الله، واتبعوا ما دعتهم إليه أنفسهم، فهم لا يرجعون مما هم عليه إلى حقيقة ولا برهان. وسوّى جلّ ثناؤه بين صفة هؤلاء المنافقين وبين المشركين، في أن جميعهم إنما يتبعون فيما هم عليه من فراقهم دين الله، الذي ابتعث به محمدا صلى الله عليه وسلم أهواءهم، فقال في هؤلاء المنافقين: "أُولَئِكَ الّذِينَ طَبَعَ اللّهُ على قُلُوبِهِمْ وَاتّبَعُوا أهْوَاءَهُمْ" وقال في أهل الكفر به من أهل الشرك، "كَمَنْ زُيّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ، واتّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ".
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
الناس في الاستماع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تُفرّق إلى فرق ثلاث: فالمؤمنون كانوا يستمعون إليه للاسترشاد واستزادة الهدى، وهم كقوله: {فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا} الآية [التوبة: 124]. [والكفرة كانوا يستمعون إليه ليقولوا لأتباعهم: إنه افتراه بنفسه، وإنه كذب، وإنه سحر، لئلا يقع في قلوب أتباعهم أن ما جاء به محمد حق، فيستمعوا منه، وهم كقوله: {سمّاعون للكذب} [المائدة: 41]. والمنافقون كانوا يستمعون إليه إظهارا للموافقة له لئلا يتعرّض لهم في ما أضمروا، وأسرّوا من العداوة والخلاف، وهم كقوله: {وأما الذين في قلوبهم مرض} [التوبة: 125]...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} وهم المنافقون يستمعون قولك، فلا يعونه، ولا يفهمونه تهاوناً منهم بذلك، وتغافلاً...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
(أولئك الذين طبع الله على قلوبهم) أي وسم قلوبهم وجعل عليها علامة تدل على أنهم كفار لا يؤمنون، وهو كالختم، وإن صاحبه لا يؤمن، فطبع الله على قلوب هؤلاء الكفار ذما لهم على كفرهم أي لكونهم عادلين عن الحق واخبر أنهم "اتبعوا "في ذلك "أهواءهم" وهو شهوة نفوسهم وما مال إليه طبعهم دون ما قامت عليه الحجة...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
"ماذا قال آنفا" أي: ماذا قال الآن صاحبكم؟ وآنفا: قريبا، وكانوا يقولون هذا على طريق الاستهزاء يعني: إنا شغلنا عن سماع كلامه، فماذا قال؟... والمراد من الآية وفائدتها: هو منع المسلمين أن يكونوا مثل هؤلاء، وبيان حالهم للمؤمنين...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
" ومنهم من يستمع إليك "أي من هؤلاء الذين يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام، وزين لهم سوء عملهم قوم يستمعون إليك وهم المنافقون...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
يقول تعالى مخبرا عن المنافقين في بلادتهم وقلة فهمهم حيث كانوا يجلسون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويستمعون كلامه ولا يفهمون منه شيئا، فإذا خرجوا من عنده {قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} من الصحابة: {مَاذَا قَالَ آنِفًا} أي: الساعة، لا يعقلون ما يقال، ولا يكترثون له. قال الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} أي: فلا فهم صحيح، ولا قصد صحيح...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ومنهم من يستمع} أي بغاية جهده لعله يجد في المتلو مطعناً يشك به على الضعفاء، وبين تعالى بعدهم بقوله: {إليك} ولما أفرد المستمع نظراً إلى لفظ "من "إشارة إلى قلة المستمع جمع نظراً إلى معناه إشارة إلى كثرة المعرضين الجامدين المستهزئين من المستمعين منهم والسامعين فقال تعالى: {حتى} أي واستمر إجهادهم لأنفسهم بالإصغاء حتى {إذا خرجوا} أي المستمعون والسامعون جميعاً {من عندك قالوا} أي الفريقان عمى وتعاميا واستهزاء. ولما كان مجرد حصول العلم النافع مسعداً، أشار إلى تعظيمه ببنائه لما لم يسم فاعله فقال تعالى: {للذين أوتوا العلم} أي بسبب تهيئة الله لهم بما آتاهم من صفاء الأفهام لتجردهم عن النفوس والحظوظ وانقيادهم لما تدعوا إليه الفطرة الأولى: {ماذا قال} أي النبي صلى الله عليه وسلم {آنفاً} أي قبل افتراقنا وخروجنا عنه من ساعة...
{أولئك} أي خاصة هؤلاء البعداء من الفهم ومن كل خير {الذين طبع الله} أي الملك الأعظم الذي لا تناهي لعظمه جل وعلا {على قلوبهم} أي فلم يؤمنوا ولم يفهموا فهم الانتفاع لأن مثل هذا الجمود لا يكون إلا بذلك...
{واتبعوا} أي بغاية جهدهم {أهواءهم} أي مجانبين لوازع العقل وناهي المروءة، فلذلك هم يتهاونون بأعظم الكلام ويقبلون على جمع الحطام، فهم أهل النار المشار إليهم قبل آية "مثل الجنة" بأنهم زين لهم سوء أعمالهم.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
ومن المنافقين {مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} ما تقول استماعا، لا عن قبول وانقياد، بل معرضة قلوبهم عنه... {مَاذَا قَالَ آنِفًا} أي: قريبا، وهذا في غاية الذم لهم، فإنهم لو كانوا حريصين على الخير لألقوا إليه أسماعهم، ووعته قلوبهم، وانقادت له جوارحهم، ولكنهم بعكس هذه الحال... ولهذا قال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} أي: ختم عليها، وسد أبواب الخير التي تصل إليها بسبب اتباعهم أهواءهم، التي لا يهوون فيها إلا الباطل...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولفظة: (ومنهم) تحتمل أن تكون إشارة للذين كفروا الذين كان يدور الحديث عنهم في الجولة السابقة في السورة: باعتبار أن المنافقين في الحقيقة فرقة من الكفار مستورة الظاهر، والله يتحدث عنها بحقيقتها في هذه الآية. كما تحتمل أن تكون إشارة للمسلمين باعتبار أن المنافقين مندمجون فيهم، متظاهرون بالإسلام معهم. وقد كانوا يعاملون معاملة المسلمين بحسب ظاهرهم، كما هو منهج الإسلام في معاملة الناس. ولكنهم في كلتا الحالتين هم المنافقون كما تدل عليه صفتهم في الآية وفعلهم...
يريدون أن يقولوا بسؤالهم هذا لأهل العلم: إن ما يقوله محمد لا يفهم، أو لا يعني شيئا يفهم. فها هم أولاء مع استماعهم له، لا يجدون له فحوى ولا يمسكون منه بشيء! كذلك قد يعنون بهذا السؤال السخرية من احتفال أهل العلم بكل ما يقوله محمد [صلى الله عليه وسلم] وحرصهم على استيعاب معانيه وحفظ ألفاظه -كما كان حال الصحابة رضوان الله عليهم مع كل كلمة يتلفظ بها الرسول الكريم- فهم يسألونهم أن يعيدوا ألفاظه التي سمعوها على سبيل السخرية الظاهرة أو الخفية.. وكلها احتمالات تدل على اللؤم والخبث والانطماس والهوى الدفين: أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهوائهم..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والاستماع: أشد السمع وأقواه، أي يستمعون باهتمام يظهرون أنهم حريصون على وَعي ما يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم وأنهم يُلقون إليه بالهم، وهذا من استعمال الفعل في معنى إظهاره لا في معنى حصوله. وحق فعل استمع أن يعدّى إلى المفعول بنفسه كما في قوله: {يستمعون القرآن} [الأحقاف: 29] فإذا أريد تعلقه بالشخص المَسموع منه يقال: استمع إلى فلان كما قال هنا {ومنهم من يستمع إليك}، وكذا جاء في مواقعه كلها من القرآن...
. {آنفاً} زماناً لم يبعد العهد به.وسياق الكلام يدل على ذم هذا السؤال لقوله عقبه {أولئك الذين طبع الله على قلوبهم} فهو سؤال يُنْبئ عن مذمة سائليه، فإن كان سؤالهم حقيقة أنبأ عن قلة وعيهم لما يسمعونه من النبي صلى الله عليه وسلم فهم يستعيدونه من الذين علموه فلعل استعادتهم إياه لقصد أن يتدارسوه إذا خلوا مع إخوانهم ليختلقوا مغامر يهيئونها بينهم، أو أن يجيبوا من يسألهم من إخوانهم عما سمعوه في المجلس الذي كانوا فيه. ويجوز أن يكون السؤال على غير حقيقته ناوين به الاستهزاء يُظهرون للمؤمنين اهتمامهم باستعادة ما سمعوه ويقولون لإخوانهم: إنما نحن مستهزؤون، أو أن يكون سؤالهم تعريضا بأنهم سمعوا كلاماً لا يستبين المراد منه لإدخال الشك في نفوس مَن يُحسون منهم الرغبة في حضور مجالس النبي صلى الله عليه وسلم تعريضاً لقلة جدوى حضورها. ويجوز أن تكون الآية أشارتْ إلى حادثة خاصة ذكر فيها النبي صلى الله عليه وسلم المنافقين وأحوالهم وعَلِم الذين كانوا حاضرين منهم أنهم المعنيّون بذلك، فأرادوا أن يسألوا سؤال استطلاع هل شعر أهل العلم بأن أولئك هم المعنيّون، فيكون مفعول {يستمعون} محذوفاً للعلم به عند النبي صلى الله عليه وسلم. والطبع على القلب: تمثيل لعدم مخالطة الهدى والرشد لعقولهم بحال الكِتاب المطبوع عليه، أو الإناء المختوم بحيث لا يصل إليه من يحاول الوصول إلى داخله، فمعناه أن الله خلق قلوبهم، أي عقولهم غير مدركة ومصدقة للحقائق والهدى. وهذا الطبع متفاوت يزول بعضه عَن بعض أهله في مدد متفاوتة ويدوم مع بعض إلى الموت كما وقعَ، وزواله بانتهاء ما في العقل من غشاوة الضلالة وبتوجه لطف الله بمن شاء بحكمته اللطف به المسمى بالتوفيق الذي فسره الأشعرية بخلق القدرة والداعية إلى الطاعة، وبأنه ما يقع عنده صلاح العبد آخره.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وتصف الآيات الكريمة مشهدا من مشاهد "المنافقين "بالمدينة، وهم أولئك الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، عجزا منهم عن المجاهرة بالعداء للإسلام، إذ أصبح له جنود وأنصار، وقوة تزخر بها الديار، فهم بحكم انتمائهم إلى الإسلام يحضرون مجالس الرسول عليه الصلاة والسلام، ويستمعون إليه وهو يتلوا القرآن، لكنهم بحكم ما انطووا عليه من الكفر لا يجدون في أنفسهم أي استعداد لفهم ما أنزل عليه، بل هم في حيرة وخبال، والتباس دائم وإشكال،...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وهذا حديث عن المنافقين، وهم الفئة المستورة من الكافرين، لأنهم يبطنون الكفر ويظهرون الإيمان، في سبيل التأثير السلبي على حركة الإسلام في الدعوة والحياة، عبر استعمال قدراتهم الذاتية في إرباك الواقع الإسلامي من الداخل، أو عبر تحالفاتهم العدوانية مع المشركين واليهود الذين يشكِّلون المجتمع المعادي لعقيدة الإسلام ومجتمعه، الأمر الذي جعل منهم مشكلةً صعبةً في عهد النبوّة المدنيّ الذي كان يعمل النبي فيه على تمتين قواعد المجتمع على مستوى المنهج والعلاقات، وعلى تركيز الثبات في مواجهة التحديات، وفي تحريك المواقع، فقد كان المنافقون يعملون على إيجاد عوامل الاهتزاز الروحي الذي يُفقِد المسلمين ثقتهم بأنفسهم ...
{وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} في اهتمامٍ ظاهريَ يوحي بالرغبة في المعرفة والحاجة إلى الاستفادة، كغيرهم من المسلمين الذين يجتمعون إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) عندما كان يتلو القرآن أو يعظ أصحابه...
{حَتَّى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً} في لهجة من يريد الاستعلام عن بعض المفاهيم التي لم تتضح له طبيعتها، ولكنها تحمل إيحاءً بأن كلام النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلّم) غير مفهوم لأنه لا يعبّر بوضوحٍ عن فكره، ما يجعل السامعين لا يفهمون ما يريد، فيبادرون إلى الاستفهام ممن يملكون العلم، ليروا هل أن المسألة هي مسألة قصور فهم لدى السامعين، أو مسألة قصور تعبير لديه... {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} فأغلقها عن الانفتاح على الحق، بعدما أغلقوها بكفرهم ونفاقهم...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفاً) وكان مرادهم من ذلك الرجل هو النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم). إنّ تعبير هؤلاء في شأن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكلماته البليغة، كان من القبح والبذاءة إلى درجة تدل على أنّهم لم يؤمنوا بالوحي السماوي قط...
ثمّ إنّ التعبير ب (الذين أوتوا العلم) يوحي بأنّ إحدى علامات المؤمن امتلاكه الوعي الكافي، فكما أنّ العلم مصدر الإيمان، فكذلك هو وليد الإيمان وحاصله. إلاّ أنّ القرآن الكريم قد أجابهم جواباً قاطعاً، فقال: إنّ كلام النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن غامضاً ولا معقّداً، بل (أُولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم). وفي الحقيقة فإنّ الجملة الثّانية علّة للجملة الاُولى، أي إنّ اتباع الهوى يسلب الإنسان القدرة على إدراك الحقائق وتمييزها، ويلقي الحجاب على قلبه، بحيث أنّ قلوب متبعي الهوى تصبح كالظرف المختوم، فلا يدخله شيء، ولا يخرج منه شيء.