التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{كَيۡفَ يَهۡدِي ٱللَّهُ قَوۡمٗا كَفَرُواْ بَعۡدَ إِيمَٰنِهِمۡ وَشَهِدُوٓاْ أَنَّ ٱلرَّسُولَ حَقّٞ وَجَآءَهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُۚ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (86)

وبعد أن عظم - سبحانه - شأن الإسلام ، وبين أنه هو الدين المقبول عنده ، أتبع ذلك ببيان أن سنته جرت فى خلقه بأن يزيد الذين اهتدوا هدى ، أما الجاحدون للحق عن علم ، والمتبعون لأهوائهم وشهواتهم فهم بعيدون عن هداية الله ، ولن يقبلهم - سبحانه - إلا إذا تابوا عن ضلالهم ، وأصلحوا ما فسد منهم ، استمع إلى القرآن وهو يصور هذا المعنى بأسلوبه البليغ المؤثر فيقول : { كَيْفَ يَهْدِي . . . }

روى المفسرون روايات فى سبب نزول هذه الآيات الكريمة منها ما أخرجه النسائي عن ابن عباس قال . إن رجلا من الأنصار أسلم ثم ارتد ولحق بالشرك ثم ندم ؛ فأرسل إلى قومه : سلوا لى رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لى من توبة ؟ فجاء قومه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا . هل له من توبة ؟ فنزلت هذه الآيات ، فأرسل إليه قومه فأسلم .

وعن مجاهد قال : جاء الحارث بن سويد فأسلم مع النبى صلى الله عليه وسلم ثم كفر الحارث فرجع إلى قومه فأنزل الله هذه الآيات . قال : فحملها إليه رجل من قومه فقرأها عليه . فقال الحارث : إنك والله - ما علمت - لصدوق ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصدق منك ، وإن الله - عز وجل - لأصدق الثلاثة ، قال : فرجع الحارث فأسلم فحسن إسلامه وعن الحسن البصرى أنه قال : إنهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، رأوا نعت النبى صلى الله عليه وسلم فى كتابهم وأقروا به ، وشهدوا أنه حق ، فلما بعث من غيرهم حسدوا العرب على ذلك فأنكروه وكفروا بعد إقرارهم حسداً للعرب حين بعث من غيرهم .

هذه بعض الروايات التى وردت فى سبب نزول هذه الآيات ، ويبدو لنا أن أقربها إلى سياق الآيات هى الرواية التى جاءت عن الحسن البصرى بأن المقصود بالآيات أهل الكتاب ، وذلك لأن الحديث معهم من أول السورة ولأن القرآن قد ذكر فى غير موضع أن أهل الكتاب كانوا يعرفون صدق النبى صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم ، وأنهم كانوا يستفتحون به { عَلَى الذين كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ } ومع هذا فليس هناك ما يمنع من أن يكون حكم هذه الآيات شاملا لكل من ذكرتهم الروايات ولكل من يشابههم ، إن العبرة لعموم اللفظ لا بخصوص السبب .

قال ابن جرير - بعد أن ساق هذه الروايات - ما ملخصه : وأشبه هذه الأقوال بظاهر التنزيل ما قاله الحسن : من أن هذه الآيات معنى بها أهل الكتاب على ما قال ، وجائز أن يكون الله - تعالى - أنزل هذه الآيات بسبب القوم الذين ذكر أنهم كانوا ارتدوا عن الإسلام ، فجمع قصتهم وقصة من كان سبيله سبيلهم فى ارتداده عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فى هذه الآيات ، ثم عرف عباده سنته فيهم فيكون داخلا فى ذلك كل من كان مؤمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث ثم كفى به بعد أن بعث ، وكل من كان كافرا ثم أسلم على عهده صلى الله عليه وسلم ثم ارتد وهو حى عن إسلامه ، فيكون معينا بالآيات جميع هذين الصنفين وغيهرما ممن كان بمثل معناهما ، بل ذلك كذلك إن شاء الله .

والاستفهام فى قوله - تعالى - { كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ } للنفى ولاستبعاد هدايتهم إلى الصراط المستقيم وهم على هذا الحال من الارتكاس فى الكفر والضلال ، مع علمهم بالحق ، وإيمانهم به لفترة من الوقت .

والمعنى : أن الله - تعالى - جرت سنته فى خلقه ألا يهدى إلى الصراط المستقيم ، قوما { كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ } أى ارتدوا إلى الكفر بعد أن آمنوا ، وبعد أن { شهدوا أَنَّ الرسول } وهو محمد صلى الله عليه وسلم " حق " وأنه صادق فيما يبلغه عن ربه ، وبعد أن { جَآءَهُمُ البينات } أى البراهين والحجج الناطقة بحقيقة ما يدعيه ، من قرآن كريم عجز البشر عن الإتيان بسورة من مثله ، ومن معجزات باهرة دالة على صدقه صلى الله عليه وسلم .

فأنت ترى أن حالهم التى أوجبت هذا النفى والاستبعاد تتمثل فى أنهم كانوا مؤمنين ، وكانوا يشهدون بأن الرسول حق ، وجاءتهم البينات اليقينية الملزمة التى تؤيد إيمانهم وشهادتهم ، ومع كل ذلك استحبوا العمى على الهدى ، واختاروا الكفر على الإيمان ، واستولى عليهم التعصب بالباطل فأرداهم وحرمهم من هداية الله حتى يغيروا ما بأنفسهم ويتوبوا عن غيهم ، ويصلحوا ما أفسدوه ، ويخلصوا وينيبوا إلى خالقهم وبارئهم .

قال صاحب الكشاف : " قوله { كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً } أى كيف يلطف بهم وليسوا من أهل اللطف ، لما علم الله من تصميمهم على كفرهم ، ودل على تصميمهم بأنهم كفروا بعد إيمانهم ، وبعد ما شهدوا بأن الرسول حق وبعد ما جاءته الشواهد من القرآن وسائر المعجزات التى تثبت بمثلها النبوة - وهم اليهود - كفروا بالنبى صلى الله عليه وسلم بعد أن كانوا مؤمنين به ، وذلك حين عاينوا ما يوجب قوة إيمانهم من البينات .

فإن قلت : علام عطف قوله { وشهدوا } ؟ قلت : فيه وجهان : أن يعطف على ما فى إيمانهم من معنى الفعل ، لأن معناه بعد أن آمنوا . ويجوز أن تكون الواو للحال بإضمار " قد " . بمعنى كفروا وقد شهدوا أن الرسول حق " .

وقوله - تعالى - { والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين } جملة حالية أو معترضة .

والمعنى : أنه - سبحانه - قد مضت سنته فى خلقه أنه لا يهدى إلى الحق أولئك الذين آثروا الكفر على الإيمان ، عن تعمد وإصرار ، ووضعوا الشىء فى غير موضعه مع علمهم بسوء صنيعهم .

وفى تذييل الآية الكريمة بهذه الجملة مع إطلاق لفظ الظلم ، إشعار بأنهم قد ظلموا أنفسهم بإيقاعها فى مهاوى الردى والعذاب وظلموا الرسول الذى شهدوا له بأن ما جاء به هو الحق ثم كفروا به ، وظلموا الحقائق والبراهين التى نطقت بأحقية الإيمان وببطلان الكفر ثم تركوا هذه الحقائق والبراهين وانقادوا لأهوائهم وشهواتهم ومطامعهم .

وإن الظلم متى سيطر على النفوس أفقدها رشدها وإدراكها للأمور إدراكا سليما ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول : " اتقوا الظلم فإنه ظلمات يوم القيامة " .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{كَيۡفَ يَهۡدِي ٱللَّهُ قَوۡمٗا كَفَرُواْ بَعۡدَ إِيمَٰنِهِمۡ وَشَهِدُوٓاْ أَنَّ ٱلرَّسُولَ حَقّٞ وَجَآءَهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُۚ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (86)

65

هذا هو الإسلام كما يريده الله ؛ ولا عبرة بالإسلام كما تريده أهواء البشر في جيل منكود من أجيال الناس ! ولا كما تصوره رغائب أعدائه المتربصين به ، وعملائهم هنا أو هناك !

فأما الذين لا يقبلون الإسلام على النحو الذي أراده الله ، بعدما عرفوا حقيقته ، ثم لم تقبلها أهواؤهم ، فهمفي الآخرة من الخاسرين . ولن يهديهم الله ، ولن يعفيهم من العذاب :

( كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم ، وشهدوا أن الرسول حق ، وجاءهم البينات . والله لا يهدي القوم الظالمين . أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين . خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون ) . .

وهي حملة رعيبة يرجف لها كل قلب فيه ذرة من إيمان ؛ ومن جدية الأمر في الدنيا وفي الآخرة سواء . وهو جزاء حق لمن تتاح له فرصة النجاة ، ثم يعرض عنها هذا الإعراض .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{كَيۡفَ يَهۡدِي ٱللَّهُ قَوۡمٗا كَفَرُواْ بَعۡدَ إِيمَٰنِهِمۡ وَشَهِدُوٓاْ أَنَّ ٱلرَّسُولَ حَقّٞ وَجَآءَهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُۚ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (86)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوَاْ أَنّ الرّسُولَ حَقّ وَجَآءَهُمُ الْبَيّنَاتُ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ * أُوْلََئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ * إِلاّ الّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنّ الله غَفُورٌ رّحِيمٌ }

اختلف أهل التأويل فيمن عنى بهذه الآية ، وفيمن نزلت ، فقال بعضهم : نزلت في الحارث بن سويد الأنصاري ، وكان مسلما ، فارتدّ بعد إسلامه . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع البصري ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان رجل من الأنصار أسلم ، ثم ارتدّ ولحق بالشرك ، ثم ندم ، فأرسل إلى قومه : أرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل لي من توبة ؟ قال : فنزلت : { كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْما كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ } إلى قوله : { وَجَاءَهُمُ البَيّنَاتُ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ إِلاّ الّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وأصْلَحُوا فَإِنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } فأرسل إليه قومه ، فأسلم .

حدثني ابن المثنى ، قال : ثني عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن عكرمة بنحوه ، ولم يرفعه إلى ابن عباس ، إلا أنه قال : فكتب إليه قومه ، فقال : ما كذبني قومي ، فرجع .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا حكيم بن جميع ، عن عليّ بن مسهر ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة عن ابن عباس ، قال : ارتدّ رجل من الأنصار ، فذكر نحوه .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا جعفر بن سليمان ، قال : أخبرنا حميد الأعرج ، عن مجاهد ، قال : جاء الحارث بن سويد ، فأسلم مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ثم كفر الحارث فرجع إلى قومه ، فأنزل الله عزّ وجلّ فيه القرآن :

{ كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْما كَفَرُوا بَعْدَ إيمانِهِمْ } إلى : { إِلاّ الّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وأصْلَحُوا فَإِنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } قال : فحملها إليه رجل من قومه ، فقرأها عليه ، فقال الحارث : إنك والله ما عُلِمْتُ لصدوق ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصدق منك ، وإن الله عزّ وجلّ لأصدق الثلاثة ! قال : فرجع الحارث فأسلم ، فحسن إسلامه .

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْما كَفَرُوا بَعْدَ إيمانِهِم وَشَهِدُوا أنّ الرّسُولَ حَقّ } قال : أنزلت في الحارث بن سويد الأنصاري كفر بعد إيمانه ، فأنزل الله عزّ وجلّ فيه هذه الاَيات ، إلى : { أُولَئِكَ أصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ } ثم تاب وأسلم ، فنسخها الله عنه ، فال : { إِلاّ الّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وأصْلَحُوا فإِنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عزّ وجلّ : { كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْما كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أنّ الرّسُولَ حَقّ وَجَاءَهُمْ البَينات } قال رجل من بني عمرو بن عوف كفر بعد إيمانه .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريح ، عن مجاهد ، قال : هو رجل من بني عمرو بن عوف كفر بعد إيمانه . قال ابن جريج : أخبرني عبد الله بن كثير ، عن مجاهد ، قال : لحق بأرض الروم فتنصر ، ثم كتب إلى قومه : أرسلوا هل لي من توبة ؟ قال : فحسبت أنه آمن ثم رجع . قال : ابن جريج : قال عكرمة : نزلت في أبي عامر الراهب ، والحارث بن سويد بن الصامت ، ووَحْوَح بن الأسلت في اثني عشر رجلاً رجعوا عن الإسلام ، ولحقوا بقريش ، ثم كتبوا إلى أهلهم : هل لنا من توبة ؟ فنزلت : { إِلاّ الّذِي تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ } . . . الاَيات .

وقال آخرون : عنى بهذه الآية أهل الكتاب ، وفيهم نزلت . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْما كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ } فهم أهل الكتاب عرفوا محمدا صلى الله عليه وسلم ، ثم كفروا به .

حدثنا محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، قال : حدثنا عباد بن منصور ، عن الحسن في قوله : { كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْما كَفَرُوا بَعْدَ إيمانِهِمْ } . . . الاَية كلها ، قال اليهود والنصارى .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كان الحسن يقول في قوله : { كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْما كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ } . . . الآية ، هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، رأوا نعت محمد صلى الله عليه وسلم في كتابهم ، وأقرّوا به ، وشهدوا أنه حقّ ، فلما بعث من غيرهم حسدوا العرب على ذلك ، فأنكروه وكفروا بعد إقرارهم حسدا للعرب حين بعث من غيرهم .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن في قوله : { كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْما كَفَرُوا بَعْدَ إيمانِهِمْ } قال : هم أهل الكتاب¹ كانوا يجدون محمدا صلى الله عليه وسلم في كتابهم ، ويستفتحون به ، فكفروا بعد إيمانهم .

قال أبو جعفر : وأشبه القولين بظاهر التنزيل ما قال الحسن ، من أن هذه الآية معنيّ بها أهل الكتاب على ما قال . غير أن الأخبار بالقول الآخر أكثر ، والقائلين به أعلم بتأويل القرآن ، وجائز أن يكون الله عزّ وجلّ أنزل هذه الآيات بسبب القوم الذين ذكر أنهم كانوا ارتدّوا عن الإسلام ، فجمع قصتهم وقصة من كان سبيله سبيلهم في ارتداده عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم في هذه الآيات ، ثم عرّف عباده سنته فيهم ، فيكون داخلاً في ذلك كل من كان مؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث ، ثم كفر به بعد أن بعث ، وكل من كان كافرا ثم أسلم على عهده صلى الله عليه وسلم ثم ارتدّ وهو حيّ عن إسلامه ، فيكون معنيا بالآية جميع هذين الصنفين وغيرهما ممن كان بمثل معناهما ، بل ذلك كذلك إن شاء الله .

فتأويل الآية إذا : { كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْما كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ } يعني : كيف يرشد الله للصواب ، ويوفق للإيمان ، قوما جحدوا نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، بعد إيمانهم : أي بعد تصديقهم إيّاهُ ، وإقرارهم بما جاءهم به من عند ربه . { وَشَهِدُوا أنّ الرّسُولَ حَقّ } يقول : وبعد أن أقرّوا أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خلقه حقا . { وَجَاءَهُمُ البَيّناتُ } يعني : وجاءهم الحجج من عند الله ، والدلائل بصحة ذلك . { وَاللّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ } يقول : والله لا يوفق للحقّ والصواب الجماعة الظلمة ، وهم الذين بدّلوا الحقّ إلى الباطل ، فاختاروا الكفر على الإيمان . وقد دللنا فيما مضى قبل على معنى الظلم ، وأنه وضع الشيء في غير موضعه بما أغنى عن إعادته .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{كَيۡفَ يَهۡدِي ٱللَّهُ قَوۡمٗا كَفَرُواْ بَعۡدَ إِيمَٰنِهِمۡ وَشَهِدُوٓاْ أَنَّ ٱلرَّسُولَ حَقّٞ وَجَآءَهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُۚ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (86)

{ كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات } استبعاد لأن يهديهم الله فإن الحائد عن الحق بعد ما وضح له منهمك في الضلال بعيد عن الرشاد . وقيل نفي وإنكار له وذلك يقتضي أن لا تقبل توبة المرتد ، { وشهدوا } عطف على ما في { إيمانهم } من معنى الفعل ونظيره فأصدق وأكن ، أو حال بإضمار قد من كفروا وهو على الوجهين دليل على أن الإقرار باللسان خارج عن حقيقة الإيمان . { والله لا يهدي القوم الظالمين } الذين ظلموا أنفسهم بالإخلال بالنظر ووضع الكفر موضع الإيمان فكيف من جاءه الحق وعرفه ثم أعرض عنه .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{كَيۡفَ يَهۡدِي ٱللَّهُ قَوۡمٗا كَفَرُواْ بَعۡدَ إِيمَٰنِهِمۡ وَشَهِدُوٓاْ أَنَّ ٱلرَّسُولَ حَقّٞ وَجَآءَهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُۚ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (86)

قال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت هذه الآيات من قوله : { كيف يهدي الله } نزلت في الحارث بن سويد الأنصاري ، كان مسلماً ثم ارتد ولحق بالشرك ، ثم ندم فأرسل إلى قومه أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لي من توبة ؟

قال : فنزلت { كيف يهدي الله } الآيات ، إلى قوله { إلا الذين تابوا } فأرسل إليه قومه فأسلم ، وقال مجاهد : حمل الآيات إليه رجل من قومه فقرأها عليه ، فقال له الحارث ، إنك والله لما علمت لصدوق ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصدق منك ، وإن الله لأصدق الثلاثة{[3305]} ، قال : فرجع الحارث فأسلم وحسن إسلامه . وقال السدي : نسخ الله تعالى بقوله : { إلا الذين تابوا } قوله { أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله } .

قال الفقيه أبو محمد : وفي هذه العبارة تجوز كثير ، وليس هذا بموضع نسخ ، وقال عكرمة : نزلت هذه الآية في أبي عامر الراهب{[3306]} والحارث بن سويد بن الصامت ووحوح بن الأسلت{[3307]} في اثني عشر رجلاً ، رجعوا عن الإسلام ولحقوا بقريش ثم كتبوا إلى أهليهم هل لنا من توبة ؟ فنزلت هذه الآيات وقال ابن عباس أيضاً والحسن بن أبي الحسن : إن هذه الآيات نزلت في اليهود والنصارى ، شهدوا بنعت الرسول صلى الله عليه وسلم وآمنوا به ، فلما جاء من العرب حسدوه ، وكفروا به ورجح الطبري هذا القول ، وقال النقاش : نزلت هذه الآيات في طعيمة بن أبيرق{[3308]} .

وقال الفقيه القاضي : وكل من ذكر فألفاظ الآية تعمه .

وقوله تعالى : { كيف } سؤال عن حال لكنه سؤال توقيف على جهة الاستبعاد للأمر كما قال عليه السلام : كيف تفلح أمة أدمت وجه نبيها{[3309]} ؟ فالمعنى أنهم لشدة هذه الجرائم يبعد أن يهديهم الله تعالى ، وقوله تعالى : { وشهدوا } عطف على { كفروا } بحكم اللفظ ، والمعنى مفهوم أن الشهادة قبل الكفر ، والواو لا ترتب ، وقال قوم : معنى قوله { بعد إيمانهم } بعد أن آمنوا فقوله { وشهدوا } عطف على هذا التقدير ، وقوله تعالى { والله لا يهدي القوم الظالمين } عموم معناه الخصوص فيمن حتم كفره وموافاته عليه .


[3305]:- أخرجه النسائي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن حبان، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه –عن ابن عباس وأخرجه عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر- عن مجاهد، وقال: هو الحارث بن سويد، وأخرجه عبد بن حميد، وابن جرير، عن السدي، وأخرجه كذلك ابن إسحاق، وابن المنذر- عن ابن عباس. (فتح القدير: 1/328).
[3306]:- هو عامر عبد عمرو بن صيفي بن مالك بن النعمان، أحد بني ضبيعة، كان يسمى في الجاهلية الراهب فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاسق، ذكره ابن هشام في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد.
[3307]:- هو وحوح بن الأسلت، واسمه عامر بن جُشم بن وائل الأوسي الأنصاري، أخو أبي قيس الشاعر. قال عبد الله بن محمد بن عمارة: له صحبة وشهد الخندق وما بعدها من المشاهد (الإصابة. 3/631) وكذا "الاستيعاب".
[3308]:- هو طعيمة بن أبيرق بن عمير الأنصاري، ذكره أبو إسحاق المستملي في الصحابة، وقال: شهد المشاهد كلها إلا بدرا، وساق من طريق خالد بن معدان عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أمشي قدامه فسأله رجل: ما فضل من جامع أهله محتسبا، قال: غفر الله لهما البتة. استدركه يحيى بن منده على جده. وإسناده ضعيف قال أبو موسى. "الإصابة. 2/224".
[3309]:- أخرجه البخاري، ومسلم، وغيرهما عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أحد، وشج في وجهه حتى سال الدم، فقال: (كيف يفلح قوم) الحديث. "فتح القدير للشوكاني 1/34).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{كَيۡفَ يَهۡدِي ٱللَّهُ قَوۡمٗا كَفَرُواْ بَعۡدَ إِيمَٰنِهِمۡ وَشَهِدُوٓاْ أَنَّ ٱلرَّسُولَ حَقّٞ وَجَآءَهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُۚ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (86)

استئناف ابتدائي يناسب ما سبقه من التنويه بشرف الإسلام .

{ وكيف } استفهام إنكاري والمقصود إنكار أن تحصل لهم هداية خاصة وهي إما الهداية الناشئة عن عناية الله بالعبد ولطفه به ، وإسنادها إلى الله ظاهر ؛ وإما الهداية الناشئة عن إعمال الأدلة والاستنتاج منها ، وإسنادُها إلى الله لأنّه موجد الأسباب ومسبّباتها . ويجوز أن يكون الاستفهام مستعملاً في الاستبعاد ، فإنهم آمنوا وعلموا ما في كتب الله ، ثمّ كفروا بعد ذلك بأنبيائهم ، إذ عبدَ اليهود الأصنام غير مرة ، وعبد النصارى المسِيح ، وقد شهدوا أنّ محمداً صادق لقيام دلائل الصدق ، ثم كابروا ، وشككوا الناس . وجاءتهم الآيات فلم يتعظوا ، فلا مطمع في هديهم بعد هذه الأحوال ، وإنما تسري الهداية لمن أنصف وتهيّأ لإدراك الآيات دون القوم الذين ظلموا أنفسهم . وقيل نزلت في اليهود خاصّة . وقيل نزلت في جماعة من العرب أسلموا ثم كفروا ولحقوا بقريش ثم ندموا فراسلوا قومهم من المسلمين يسألونهم هل من توبة فنزلت ، ومِنهم الحارث بن سويد ، وأبو عامر الراهب ، وطُعيمة بن أُبَيْرِق .

وقوله : { وشهدوا } عطف على { إيمانهم } أي وشهادتهم ، لأنّ الاسم الشبيه بالفعل في الاشتقاق يحسن عطفه على الفعل وعطفُ الفعل عليه .