التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{أَيۡنَمَا تَكُونُواْ يُدۡرِككُّمُ ٱلۡمَوۡتُ وَلَوۡ كُنتُمۡ فِي بُرُوجٖ مُّشَيَّدَةٖۗ وَإِن تُصِبۡهُمۡ حَسَنَةٞ يَقُولُواْ هَٰذِهِۦ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ وَإِن تُصِبۡهُمۡ سَيِّئَةٞ يَقُولُواْ هَٰذِهِۦ مِنۡ عِندِكَۚ قُلۡ كُلّٞ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ فَمَالِ هَـٰٓؤُلَآءِ ٱلۡقَوۡمِ لَا يَكَادُونَ يَفۡقَهُونَ حَدِيثٗا} (78)

ثم بين - سبحانه - أنه لا مفر لهم من الموت ، وأنهم مهما فروا منه فإنه سيلقاهم آجلا أو عاجلا فقال - تعالى - : { أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } .

والبروج : مع برج وهو الحصن المنيع الذى هو نهاية ما يصل إليه البشر فى التحصن والمنعة . وأصل البروج من التبرج بمعنى الظهور . يقال : تبرجت المرأة ، إذا أظهرت محاسنها . والمراد بها الحصون والقلاع الشاهقة المنيعة .

والمشيدة : أى المحكة البناء ، والعظيمة الارتفاع من شاد القصر إذا رفعه ، والمعنى : إنكم أيها الخائفون من القتال إن ظننتم أن هذا الخوف منه أو القعود عنه سينجيكم من الموت ، فأنتم بهذا الظن مخطئون ، لأن الموت حيثما سيدرككم ، ولو كنتم فى أقوى الحصون ، وأمنعها وأحكمها بناء ، وما دام الأمر كذلك فليكن موتكم وأنتم مقبلون بدل أن تموتوا وأنتم مدبرون .

والجملة الكريمة لا محل لها من الإِعراب ، لأنها مسوقة على سبيل الاستئناف لتبكيت هؤلاء الكارهين للقتال ، وتحريض غيرهم من المؤمنين على الإِقدام عليه من أجل نصرة الحق .

ويحتمل أنها فى محل نصب ، فتكون داخلة فى حيز القول المأمور به الرسول صلى الله عليه وسلم أى : قل لهم يا محمد متاع الدنيا قليل . وقل لهم { أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت } .

وأين : اسم شرط جازم ظرف مكان يجزم فعلين ، و " ما " زائدة للتأكيد ، وتكونوا فعل الشرط ويدرككم جوابه .

والتعبير بقوله { يُدْرِككُّمُ } للإِشعار بأن الموت كأنه كائن حى يطلب الإِنسان ويتبعه حيثما كان ، وفى أى وقت كان ، فهو طالب لابد أن يدرك ما يطلبه ولا بد أن يصل إليه هما تحصن منه ، أو هرب من لقائه .

وجواب ( لو ) محذوف اعتماداً على دلالة ما قبله عليه أى : ولو كنتم فى بروج مشيدة لأدرككم الموت .

وقريب فى المعنى من هذه الآية قوله - تعالى - { قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الفرار إِن فَرَرْتُمْ مِّنَ الموت أَوِ القتل } وقوله - تعالى - { قُلْ إِنَّ الموت الذي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ } فالجملة الكريمة صريحة فى بيان أن الموت أمر لا مفر منه ، ولا مهرب عنه سواء أقاتل الإِنسان أم لم يقاتل . وما أحسن قول زهير بن أبى سلمى :

ومن هاب أسباب المنايا ينلنه . . . ولو رام أسباب السماء بسلم

ثم حكى - سبحانه - ما كان يتفوه به المنافقون وإخوانهم فى الكفر من باطل وزور فقال - تعالى : { وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِ الله وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ الله } .

أى : إن هؤلاء المنافقين وأشباههم ، من ضعاف الإِيمان وإخوانهم فى الكفر بلغ بهم الفجور أنهم إذا أصابتهم حال حسنة من نعمة أو رخاء أو خصب أو غنيمة أو ظفر قالوا هذه الحال من عند الله ، وإذا أصابتهم حال سيئة من جدب أو مصيبة أو هزيمة قالوا هذه الحال من عندك يا محمد بسبب شؤمك وسوء قيادتك - وحاشاه من ذلك صلى الله عليه وسلم - .

وهذا القول منهم قريب من قول قوم فرعون لموسى - عليه السلام - كما حكاه القرآن عنهم فى قوله : { فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الحسنة قَالُواْ لَنَا هذه وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ } قال القرطبى : نزلت هذه الآية فى اليهود والمنافقين ، وذلك أنهم لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة عليهم قالوا : ما زلنا نعرف النقص فى ثمارنا ومزارعنا منذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه . قال ابن عباس : ومعنى { مِنْ عِندِكَ } أى : بسوء تدبيرك . وقيل { مِنْ عِندِكَ } أى بشؤمك الذى لحقنا ، قالوه على جهة التطير .

وقوله { قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ الله } أمر من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بأن يرد على مزاعمهم الباطلة . أى قل لهم يا محمد كل واحدة من النعمة والمصيبة هى من جهة الله - تعالى خلقا وإيجاداً من غير أن يكون لى مدخل فى وقوع شئ منها بوجه من الوجوه كما تزعمون :

وقوله { فَمَالِ هؤلاء القوم لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً } جملة معترضة مسوقة لتعييرهم بالجهل والغباوة ، والفاء فى قوله { فَمَالِ } لترتيب ما عدها على ما قبلها والمعنى . وإذا كان الأمر كذلك وهو أن كل شئ من عند الله ، فمال هؤلاء القوم من المنافقين وإخوانهم فى الكفر وضعف الإِيمان لا يكادون - لانطماس بصيرتهم - يفقهون ما يلقى عليهم من مواعظ ، ولا يفهمون معنى ما يسمعون وما يقولون ، إذ لو فقهوا شيئا مما يوعظون به لعلموا أن الله هو القابض الباسط ، وأنه المعطى المانع .

قال - تعالى - { مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ العزيز الحكيم }

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{أَيۡنَمَا تَكُونُواْ يُدۡرِككُّمُ ٱلۡمَوۡتُ وَلَوۡ كُنتُمۡ فِي بُرُوجٖ مُّشَيَّدَةٖۗ وَإِن تُصِبۡهُمۡ حَسَنَةٞ يَقُولُواْ هَٰذِهِۦ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ وَإِن تُصِبۡهُمۡ سَيِّئَةٞ يَقُولُواْ هَٰذِهِۦ مِنۡ عِندِكَۚ قُلۡ كُلّٞ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ فَمَالِ هَـٰٓؤُلَآءِ ٱلۡقَوۡمِ لَا يَكَادُونَ يَفۡقَهُونَ حَدِيثٗا} (78)

71

هنا تجيء اللمسة الأخرى . اللمسة التي تصحح التصور عن حقيقة الموت والحياة ، والأجل والقدر ؛ وعلاقة هذا كله بتكليف القتال ، الذي جزعوا له هذا الجزع ، وخشوا الناس فيه هذه الخشية !

( أينما تكونوا يدرككم الموت ، ولو كنتم في بروج مشيدة ) . .

فالموت حتم في موعده المقدر . ولا علاقة له بالحرب والسلم . ولا علاقة له بحصانة المكان الذي يحتمي به الفرد أو قلة حصانته . ولا يؤخره أن يؤخر عنهم تكليف القتال إذن ؛ ولا هذا التكليف والتعرض للناس في الجهاد يعجله عن موعده . .

هذا أمر وذاك أمر ؛ ولا علاقة بينهما . . إنما العلاقة هناك بين الموت والأجل . بين الموعد الذي قدره الله وحلول ذلك الموعد . . وليست هنالك علاقة أخرى . . ولا معنى إذن لتمني تأجيل القتال . ولا معنى إذن لخشية الناس في قتال أو في غير قتال !

وبهذه اللمسة الثانية يعالج المنهج القرآني كل ما يهجس في الخاطر عن هذا الأمر ؛ وكل ما ينشئه التصور المضطرب من خوف ومن ذعر . .

إنه ليس معنى هذا ألا يأخذ الإنسان حذره وحيطته وكل ما يدخل في طوقه من استعداد وأهبه ووقاية . . فقد سبق أن أمرهم الله بأخذ الحذر . وفي مواضع أخرى أمرهم بالاحتياط في صلاة الخوف . وفي سور أخرى أمرهم باستكمال العدة والأهبة . . ولكن هذا كله شيء ، وتعليق الموت والأجل به شيء آخر . . إن أخذ الحذر واستكمال العدة أمر يجب أن يطاع ، وله حكمته الظاهرة والخفية ، ووراءه تدبير الله . . وإن التصور الصحيح لحقيقة العلاقة بين الموت والأجل المضروب - رغم كل استعداد واحتياط - أمر آخر يجب أن يطاع ؛ وله حكمته الظاهرة والخفية ، ووراءه تدبير الله . .

توازن واعتدال . وإلمام بجميع الأطراف . وتناسق بين جميع الأطراف . .

هذا هو الإسلام . وهذا هو منهج التربية الإسلامي ، للأفراد والجماعات . .

وبهذا ربما ينتهي الحديث عن تلك الطائفة من المهاجرين . ويبدأ الحديث عن طائفة أخرى من الطوائف المنبثة في المجتمع الإسلامي ، والتي يتألف منها الصف المسلم ومن سواها . . هذا وإن كان السياق لا انقطاع فيه ، ولا فصل ، ولا وقفة تنبى ء بأن الحديث الآتي عن طائفة أخرى ، وأن الحديث عن هذه الطائفة قد انتهى . . ولكننا نمضي مع الاعتبارات التي أسلفناها :

( وإن تصبهم حسنة يقولوا : هذه من عند الله . وإن تصبهم سيئة يقولوا : هذه من عندك ! قل : كل من عند الله . فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ؟ ! ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك . وأرسلناك للناس رسولا . وكفى بالله شهيدا . من يطع الرسول فقد أطاع الله ، ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظًا ) . .

إن الذين يقولون هذا القول ، وينسبون ما يصيبهم من الخير إلى الله ، وما يصيبهم من الضر إلى النبي [ ص ] يحتمل فيهم وجوه :

الوجه الأول : أنهم يتطيرون بالنبي [ ص ] فيظنونه - حاشاه - شؤما عليهم . يأتيهم السوء من قبله . فإن أجدبت السنة ، ولم تنسل الماشية ، أو إذا أصيبوا في موقعة ؛ تطيروا بالرسول [ ص ] فأما حين يصيبهم الخير فينسبون هذا إلى الله !

الوجه الثاني : أنهم يريدون عامدين تجريح قيادة الرسول [ ص ] تخلصا من التكاليف التي يأمرهم بها . وقد يكون تكليف القتال منها - أو أخصها - فبدلا من أن يقولوا : إنهم ضعاف يخشون مواجهة القتال ، يتخذون ذلك الطريق الملتوي الآخر ! ويقولون : إن الخير يأتيهم من الله ، وإن السوء لا يجيئهم إلا من قبل الرسول [ ص ] ومن أوامره . وهم يعنون بالخير أو السوء النفع أو الضر القريب الظاهر !

والوجه الثالث : هو سوء التصور فعلا لحقيقة ما يجري لهم وللناس في هذه الحياة ، وعلاقته بمشيئة الله . وطبيعة أوامر النبي [ ص ] لهم ؛ وحقيقة صلة الرسول بالله سبحانه وتعالى . .

وهذا الوجه الثالث - إذا صح - ربما يكون قابلا لأن يوسم به ذلك الفريق من المهاجرين الذين كان سوء تصورهم لحقيقة الموت والأجل ، يجعلهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية . ويقولون : ( ربنا لم كتبت علينا القتال ؟ لولا أخرتنا إلى أجل قريب ) . . غير أننا ما نزال نميل إلى اعتبار المتحدث عنهم هنا طائفة أخرى . . تجتمع فيها تلك الأوجه كلها أو بعضها . وهذا الوجه الثالث منها . .

إن القضية التي تتناولها هذه الآيات ، هي جانب من قضية كبيرة . . القضية المعروفة في تاريخ الجدل والفلسفة في العالم كله باسم " قضية القضاء والقدر " أو " الجبر والاختيار " . . وقد وردت في أثناء حكاية ذلك الفريق من الناس ؛ ثم في الرد عليهم ، وتصحيح تصورهم . والقرآن يتناولها ببساطة واضحة لا تعقيد فيها ولا غموض . . فلنعرضها كما وردت وكما رد عليها القرآن الكريم :

وإن تصبهم حسنة يقولوا : هذه من عند الله . وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك . قل : كل من عند الله . فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ؟ . .

إن الله هو الفاعل الأول ، والفاعل الواحد ، لكل ما يقع في الكون ، وما يقع للناس ، وما يقع من الناس . فالناس يملكون أن يتجهوا وأن يحاولوا . ولكن تحقق الفعل - أي فعل - لا يكون إلا بإرادة من الله وقدر .

فنسبة إنشاء الحسنة أو إنشاء السيئة ، وإيقاعها بهم ، للرسول [ ص ] وهو بشر منهم مخلوق مثلهم - نسبة غير حقيقية ؛ تدل على عدم فقههم لشيء ما في هذا الموضوع .

إن الإنسان قد يتجه ويحاول تحقيق الخير ؛ بالوسائل التي أرشد الله إلى أنها تحقق الخير . ولكن تحقق الخير فعلا يتم بإرادة الله وقدره . لأنه ليست هناك قدرة - غير قدرة الله - تنشى ء الأشياء والأحداث وتحقق ما يقع في هذا الكون من وقائع . وإذن يكون تحقق الخير - بوسائله التي اتخذها الإنسان وباتجاه الإنسان وجهده - عملا من أعمال القدرة الإلهية .

وإن الإنسان قد يتجه إلى تحقيق السوء . أو يفعل ما من شأنه إيقاع السوء . ولكن وقوع السوء فعلا ، ووجوده أصلا ، لا يتم إلا بقدرة الله وقدر الله . لأنه ليس هناك قدرة منشئة للأشياء والأحداث في هذا الكون غير قوة الله .