التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَإِذۡ صَرَفۡنَآ إِلَيۡكَ نَفَرٗا مِّنَ ٱلۡجِنِّ يَسۡتَمِعُونَ ٱلۡقُرۡءَانَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوٓاْ أَنصِتُواْۖ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوۡاْ إِلَىٰ قَوۡمِهِم مُّنذِرِينَ} (29)

وبعد هذا التذكير والوعيد للكافرين ، بيَّن - سبحانه - جانبا من مظاهر تكريمه لنبيه - صلى الله عليه وسلم - حيث أرسل له نفرا من الجن ، يستمعون القرآن ، ويؤمنون به ، فقال - تعالى - : { وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً . . . فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } .

قال القرطبى ما ملخصه : قوله - تعالى - : { وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجن . . . } هذا توبيخ لمشركى قريش . أى : أن الجن سمعوا القرآن فآمنا به وعلموا أنه من عند الله ، وأنتم معرضون مصرون على الكفر .

قال المفسرون : لما مات أبو طالب ، خرج النبى - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف ، يلتمس من أهلها النصرة ، ويدعوهم إلى الإِيمان . . أغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويضحكون به . .

فانصرف - صلى الله عليه وسلم - عنهم ، حتى إذا كان ببطن نخلة - وهو موضع بين مكة والطائف - قام يصلى من الليل ، فمر به نفر من جن نصيبين - وهو موضع قرب الشام - فاستمعوا إليه وقالوا : أنصتوا .

وهناك روايات أخرى كثيرة فى عدد هؤلاء الجن ، وفى الأماكن التى التقوا فيها مع النبى - صلى الله عليه وسلم - عليهم ، وفيمن كان مع النبى - صلى الله عليه وسلم - خلال التقائه بهم . .

ويبدو لنا من مجموع هذه الروايات أن لقاء النبى - صلى الله عليه وسلم - بالجن قد تعدد ، وأن هذه الآيات تحكى لقاء معينا ، وسورة الجن تحكى لقاء آخر .

قال الآلوسى : وقد أخرج الطبرانى فى الأوسط ، وابن مردويه عن الحبر ، أى : عن ابن عباس أنه قال : صرفت الجن إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرتين .

وذكر الخفاجى أنه قد دلت الأحاديث ، على أن وفادة الجن كانت ست مرات ، ويجمع بذلك اختلاف الروايات فى عددهم ، وفى غير ذلك .

و " النفر " على المشهور - ما بين الثلاة والعشرة من الرجال وهو مأخوذ من النفير ، لأن الرجل إذا حزبه أمر نفر بعض الناس الذين يهتمون بأمره لإِغاثته .

والمعنى : واذكر - أيها الرسول الكريم - لقومك ، وقت أن صرفنا إليك ، ووجهنا نحوك ، نفراً من الجن ، يستمعون القرآن منك .

{ فَلَمَّا حَضَرُوهُ } أى : فحين حضروا القرى ، عند تلاوة منك ، أو فحين حضروا مجلسك { قالوا } على سبيل التناصح - { أَنصِتُواْ } أى : قالوا بعضهم لبعض : اسكتوا لأجل أن نستمع إلى هذا القرآن ، وهذا يدل على سمو أدبهم وحرصهم على تلقى العلم .

{ فَلَمَّا قُضِيَ } أى : فحين انتهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - من قراءته .

{ وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ } أى : انصروفوا إلى قومهم ليخوفوهم من عذاب الله - تعالى - إذا ما عصموه أو خالفوا أمره - سبحانه - .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَإِذۡ صَرَفۡنَآ إِلَيۡكَ نَفَرٗا مِّنَ ٱلۡجِنِّ يَسۡتَمِعُونَ ٱلۡقُرۡءَانَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوٓاْ أَنصِتُواْۖ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوۡاْ إِلَىٰ قَوۡمِهِم مُّنذِرِينَ} (29)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ الْجِنّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمّا حَضَرُوهُ قَالُوَاْ أَنصِتُواْ فَلَمّا قُضِيَ وَلّوْاْ إِلَىَ قَوْمِهِم مّنذِرِينَ } .

يقول تعالى ذكره مقرّعا كفار قريش بكفرهم بما آمنت به الجنّ وَإذْ صَرَفْنا إلَيْكَ يا محمد نَفَرا مِنَ الجِنّ يَسْتَمِعُونَ القُرْآنَ ذكر أنهم صرفوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحادث الذي حدث من رَجْمهم بالشهب . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن زياد ، عن سعيد بن جُبير ، قال : كانت الجنّ تستمع ، فلما رُجِموا قالوا : إن هذا الذي حدث في السماء لِشيء حدث في الأرض ، فذهبوا يطلبون حتى رأوا النبيّ صلى الله عليه وسلم خارجا من سوق عكاظ يصلي بأصحابه الفجر ، فذهبوا إلى قومهم .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن أيوب ، عن سعيد بن جُبير ، قال : «لما بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم حُرِست السماء ، فقال الشيطان : ما حُرِست إلا لأمر قد حدث في الأرض فبعث سراياه في الأرض ، فوجدوا النبيّ صلى الله عليه وسلم قائما يصلي صلاة الفجر بأصحابه بنَخْلة ، وهو يقرأ ، فاستمعوا حتى إذا فرغ وَلّوْا إلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ . . . إلى قوله مُسْتَقِيمٍ » .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَإذْ صَرَفْنا إلَيْكَ نَفَرا مِنَ الجِنّ يَسْتَمِعُونَ القُرْآنَ . . . . إلى آخر الاَية ، قال : لم تكن السماء تحرس في الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ، وكانوا يقعدون مقاعد للسمع فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم حرست السماء حرسا شديدا ، ورُجِمت الشياطين ، فأنكروا ذلك ، وقالوا : لا نَدْرِي أَشَرّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأرْضِ أمْ أرَادَ بِهِمْ رَبّهُمْ رَشَدا فقال إبليس : لقد حدث في الأرض حدث ، واجتمعت إليه الجنّ ، فقال : تفرّقوا في الأرض ، فأخبروني ما هذا الخبر الذي حدث في السماء ، وكان أوّل بعث ركب من أهل نصيبين ، وهي أشراف الجنّ وساداتهم ، فبعثهم إلى تهامة ، فاندفعوا حتى بلغوا الوادي ، وادي نخلة ، فوجدوا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الغداة ببطن نخلة ، فاستمعوا فلما سمعوه يتلو القرآن ، قالوا : أنصتوا ، ولم يكن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم علم أنهم استمعوا إليه وهو يقرأ القرآن فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين .

واختلف أهل التأويل في مبلغ عدد النفر الذين قال الله وَإذْ صَرَفْنا إلَيْكَ نَفَرا مِنَ الجِنّ فقال بعضهم : كانوا سبعة نفر . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا عبد الحميد ، قال : حدثنا النضر بن عربيّ ، عن عكرمة ، عن ابن عباس وَإذْ صَرَفْنا إلَيْكَ نَفَرا مِنَ الجِنّ يَسْتَمِعُونَ القُرْآنَ . . . الاَية ، قال : كانوا سبعة نفر من أهل نصيبين ، فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلاً إلى قومهم .

وقال آخرون : بل كانوا تسعة . نفر . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن زِرّ وَإذْ صَرَفْنا إلَيْكَ نَفَرا مِنَ الجِنّ قال : كانوا تسعة نفر فيهم زَوْبعة .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن عاصم ، عن زرّ بن حبيش ، قال : أنزل على النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو ببطن نخلة ، فَلَمّا حَضَرُوهُ قال : كانوا تسعة أحدهم زَوْبَعَة .

وقوله : فَلَمّا حَضَرُوهُ يقول : فلما حضر هؤلاء النفر من الجنّ الذين صرفهم الله إلى رسوله نبيّ الله صلى الله عليه وسلم .

واختلف أهل العلم في صفة حضورهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال بعضهم : حضروا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يتعرّفون الأمر الذي حدث من قبله ما حدث في السماء ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يشعر بمكانهم ، كما قد ذكرنا عن ابن عباس قبل . وكما :

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا هوذة ، قال : حدثنا عوف ، عن الحسن ، في قوله : وَإذْ صَرَفْنا إلَيْكَ نَفَرا مِنَ الجِنّ قال : ما شعر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاؤوا ، فأوحى الله عزّ وجلّ إليهِ فيهم ، وأخبر عنهم .

وقال آخرون : بل أمر نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أن يقرأ عليهم القرآن ، وأنهم جمعوا له بعد أن تقدّم الله إليه بإنذارهم ، وأمره بقراءة القرآن عليهم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَإذْ صَرَفْنا إلَيْكَ نَفَرا مِنَ الجِنّ يَسْتَمِعُونَ القُرْآنَ قال : ذكر لنا أنهم صرفُوا إليه من نِيْنَوَى ، قال : فإن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، قال : «إني أمرت أن أقرأ القرآن على الجنّ ، فأيكم يتبعني » ؟ فأطرقوا ، ثم استتبعهم فأطرقوا ، ثم استتبعهم الثالثة فأطرقوا ، فقال رجل : يا رسول الله إنك لذو بدئه ، فاتبعه عبد الله بن مسعود ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم شعبا يقال له شعب الحجون . قال : وخطّ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم على عبد الله خطا ليثبته به ، قال : فجعلت تهوي بي وأرى أمثال النسور تمشي في دفوفها ، وسمعت لغطا شديدا ، حتى خفت على نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، ثم تلا القرآن فلما رجع نبيّ الله قلت : يا نبيّ الله ما اللغط الذي سمعت ؟ قال : «اجتمعوا إليّ في قتيل كان بينهم ، فقُضي بينهم بالحقّ » . وذُكر لنا أن ابن مسعود لما قَدِم الكوفة رأى شيوخا شُمطا من الزّط ، فراعوه ، قال : من هؤلاء ؟ قالوا : هؤلاء نفر من الأعاجم ، قال : ما رأيت للذين قرأ عليهم النبيّ صلى الله عليه وسلم الإسلام من الجنّ شبها أدنى من هؤلاء .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ذهب وابن مسعود ليلة دعا الجنّ ، فخطّ النبيّ صلى الله عليه وسلم على ابن مسعود خطا ، ثم قال له : «لا تخرج منه » . ثم ذهب النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الجنّ ، فقرأ عليهم القرآن ، ثم رجع إلى ابن مسعود فقال : «هل رأيت شيئا » ؟ قال : سمعت لغَطا شديدا ، قال : إن الجنّ تدارأت في قتيل قُتل بينها ، فقُضِي بينهم بالحقّ ، وسألوه الزاد ، فقال : «كل عظم لكم عرق ، وكلّ روث لكم خُضْرة » . قالوا : يا رسول الله تقذّرها الناس علينا ، فنهى النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يستنجى بأحدهما فلما قدم ابن مسعود الكوفة رأى الزّطّ ، وهم قوم طوال سود ، فأفزعوه ، فقال : أظَهَرُوا ؟ فقيل له : إن هؤلاء قوم من الزّطّ ، فقال ما أشبههم بالنفر الذين صُرِفوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم .

قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر . عن يحيى بن أبي كثير ، عن عبد الله بن عمرو بن غَيلان الثقفيّ أنه قال لابن مسعود : حُدثت أنك كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة وفد الجنّ ، قال : أجَل ، قال : فكيف كان ؟ فذكر الحديث كله . وذُكِر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم خطّ عليه خطا وقال : «لا تبرح منها » ، فذكر أن مثل العجاجة السوداء غشيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذُعِر ثلاث مرّات ، حتى إذا كان قريبا من الصبح ، أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : «أنِمْتَ » ؟ قلت : لا والله ، ولقد هممت مرارا أن أستغيث بالناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك تقول : «اجلسوا » ، قال : «لو خرجتَ لم آمن أن يختطفك بعضهم » ، ثم قال : «هل رأيت شيئا ؟ » قال : نعم رأيت رجالاً سودا مستشعري ثياب بيض ، قال : «أولئك جنّ نصيبين ، سألوني المتاع ، والمتاع الزاد ، فمتعتهم بكلّ عظم حائل أو بعرة أو روثة » ، فقلت : يا رسول الله ، وما يغني ذلك عنهم ؟ قال : «إنّهُمْ لَنْ يَجِدُوا عَظْما إلاّ وَجَدُوا عَلَيْهِ لَحْمَهُ يَوْمَ أُكِل ، وَلا رَوْثَةً إلاّ وَجَدُوا فِيها حَبّها يَوْمَ أُكِلَتْ ، فَلا يَسْتَنْقِيَنّ أحَدٌ مِنْكُمْ إذَا خَرَجَ مِنَ الخَلاءِ بعَظْمٍ وَلا بَعْرَةٍ وَلا رَوْثَةٍ » .

حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : أخبرنا أبو زُرْعة وهب بن راشد ، قال : قال يونس ، قال ابن شهاب : أخبرني أبو عثمان بن شبة الخزاعي ، وكان من أهل الشام أن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه وهو بمكة : «مَنْ أَحَبّ منْكُمْ أنْ يَحْضُرَ أمْرَ الجنّ اللّيْلَةَ فَلْيَفْعَلْ » . فلم يحضر منهم أحد غيري ، قال : فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة ، خطّ لي برجله خطا ، ثم أمرني أن أجلس فيه ، ثم انطلق حتى قام فافتتح القرآن ، فغشيته أسودة كبيرة حالت بيني وبينه حتى ما أسمع صوته ، ثم طفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب ذاهبين ، حتى بقي منهم رهط ، ففرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الفجر ، فانطلق متبرّزا ، ثم أتاني فقال : «ما فَعَلَ الرّهْطُ » ؟ قلت : هم أولئك يا رسول الله ، فأخذ عظما أو روثا أو جمجمة فأعطاهم إياه زادا ، ثم نهى أن يستطيب أحد بعظم أو روث .

حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ، قال : حدثنا عمي عبد الله بن وهب ، قال : أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، عن أبي عثمان بن شبة الخزاعي ، وكان من أهل الشأم ، أن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر مثله سواء ، إلا أنه قال : فأعطاهم روثا أو عظما زادا ، ولم يذكر الجمجمة .

حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ، قال : ثني عمي ، قال : أخبرني يونس ، عن الزهريّ ، عن عبيد الله بن عبد الله ، أن ابن مسعود ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «بِتّ اللّيْلَةَ أقْرأُ عَلى الجِنّ رُبُعا بالحَجُونِ » .

واختلفوا في الموضع الذي تلا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه القرآن ، فقال عبد الله بن مسعود قرأ عليهم بالحَجون ، وقد ذكرنا الرواية عنه بذلك .

وقال آخرون : قرأ عليهم بنخلة ، وقد ذكرنا بعض من قال ذلك ، ونذكر من لم نذكره .

حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا خلاد ، عن زهير بن معاوية ، عن جابر الجعفي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أن النفر الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من جنّ نصيبين أتوه وهو بنخلة .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وَإذْ صَرَفْنا إلَيْكَ نَفَرا مِنَ الجِنّ قال : لقيهم بنخلة ليلتئذ .

وقوله : فَلَمّا حَضَرُوهُ قالُوا أنْصِتُوا يقول تعالى ذكره : فلما حضروا القرآن ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ ، قال بعضهم لبعض : أنصتوا لنستمع القرآن . كما :

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن زِرّ فَلَمّا حَضَرُوهُ قالُوا أنْصِتُوا قالوا : صَهْ .

قال : ثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن عاصم ، عن زِرّ بن حُبَيْش ، مثله .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : فَلَمّا حَضَرُوهُ قالُوا أنْصِتُوا قد علم القوم أنهم لن يعقلوا حتى ينصتوا .

وقوله : فَلَمّا قُضِيَ يقول : فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من القراءة وتلاوة القرآن . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، فَلَمّا قُضِيَ يقول : فلما فرغ من الصلاة وَلّوْا إلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ . وقوله : وَلّوْا إلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ يقول : انصرفوا منذرين عذاب الله على الكفر به .

وذُكر عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلهم رسلاً إلى قومهم .

حدثنا بذلك أبو كُرَيب ، قال : حدثنا عبد الحميد الحِمّانيّ ، قال : حدثنا النضر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس . وهذا القول خلاف القول الذي رُوي عنه أنه قال : لم يكن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم علم أنهم استمعوا إليه وهو يقرأ القرآن ، لأنه محال أن يرسلهم إلى آخرين إلا بعد علمه بمكانهم ، إلا أن يقال : لم يعلم بمكانهم في حال استماعهم للقرآن ، ثم علم بعد قبل انصرافهم إلى قومهم ، فأرسلهم رسلاً حينئذٍ إلى قومهم ، وليس ذلك في الخبر الذي روي .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَإِذۡ صَرَفۡنَآ إِلَيۡكَ نَفَرٗا مِّنَ ٱلۡجِنِّ يَسۡتَمِعُونَ ٱلۡقُرۡءَانَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوٓاْ أَنصِتُواْۖ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوۡاْ إِلَىٰ قَوۡمِهِم مُّنذِرِينَ} (29)

{ وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن } أملناهم إليك والنفر دون العشرة وجمعه أنفار . { يستمعون القرآن } حال محمولة على المعنى . { فلما حضروه } أي القرآن أو الرسول . { قالوا أنصتوا } قالوا بعضهم لبعض اسكتوا لنسمعه . { فلما قضي } أتم وفرغ من قراءته ، وقرئ على بناء الفاعل وهو ضمير الرسول عليع الصلاة والسلام . { ولوا إلى قومهم منذرين } أي منذرين إياهم بما سمعوا . روي أنهم وافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي النخلة عند منصرفه من الطائف يقرأ في تهجده .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَإِذۡ صَرَفۡنَآ إِلَيۡكَ نَفَرٗا مِّنَ ٱلۡجِنِّ يَسۡتَمِعُونَ ٱلۡقُرۡءَانَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوٓاْ أَنصِتُواْۖ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوۡاْ إِلَىٰ قَوۡمِهِم مُّنذِرِينَ} (29)

وقوله تعالى : { وإذا صرفنا إليك نفراً من الجن } ابتداء قصة الجن ووفادتهم على النبي صلى الله عليه وسلم . و : { صرفنا } معناه : رددناهم عن حال ما ، يحتمل أنها الاستماع في السماء ، ويحتمل أن يكون كفرهم قبل الوفادة وهذا بحسب الاختلاف هنا هل هم الوفد أو المتجسسون ، وروي أن الجن كانت قبل مبعث النبي عليه السلام تسترق السمع من السماء ، فلما بعث محمد عليه السلام حرست بالشهب الراجمة ، فضاقت الجن ذرعاً بذلك ، فاجتمعت وأتى رأي ملئهم على الافتراق في أقطار الأرض وطلب السبب الموجب لهذا الرجم والمنع من استراق السمع ففعلوا ذلك . واختلف الرواة بعد فقالت فرقة : جاءت طائفة من الجن إلى النبي عليه السلام وهو لا يشعر ، فسمعوا القرآن وولوا إلى قومهم منذرين ، ولم يعرف النبي بشيء من ذلك حتى عرفه الله بذلك كله ، وكان سماعهم لقرآنه وهو بنخلة عند سوق عكاظ ، وهو يقرأ في صلاة الفجر{[10329]} .

وقالت فرقة : بل أشعره الله بوفادة الجن عليه واستعد لذلك ، ووفد عليه أهل نصيبين منهم{[10330]} .

قال القاضي أبو محمد : والتحرير في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه جن دون أن يعرف بهم ، وهم المتفرقون من أجل الرجم ، وهذا هو قوله تعالى : { قل أوحي إلي }{[10331]} [ الجن : 1 ] ثم بعد ذلك وفد عليه وفد ، وهو المذكور صرفه في هذه الآية{[10332]} . قال قتادة : صرفوا إليه من نينوى ، أشعر به قبل وروده{[10333]} . وقال الحسن : لم يشعر .

واختلف في عددهم اختلافاً متباعداً فاختصرته لعدم الصحة في ذلك ، أما أن ابن عباس رضي الله عنه قال : كانوا سبعة نفر من أهل نصيبين وقال زر : كانوا تسعة فيهم زوبعة ، وروي في ذلك أحاديث عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إني خارج إلى وفد الجن ، فمن شاء يتبعني » ، فسكت أصحابه ، فقالها ثانية ، فسكتوا ، فقال عبد الله أنا أتبعك ، قال فخرجت معه حتى جاء شعب الحجون ، فأدار لي دائرة وقال لي : لا تخرج منها ، ثم ذهب عني ، فسمعت لغطاً ودوياً كدوي النسور الكاسرة . ثم في آخر الليل جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن قرأ عليهم القرآن وعلمهم وأعطاهم زاداً في كل عظم وروثة ، فقال : يا عبد الله ، ما رأيت ؟ فأخبرته ، فقال : لقد كنت أخشى أن تخرج فيتخطفك بعضهم ، قلت يا رسول الله ، سمعت لهم لغطاً ، فقال : إنهم تدارأوا في قتيل لهم ، فحكمت بالحق . واضطربت الروايات عن عبد الله بن مسعود ، وروي عنه ما ذكرنا . وذكر عنه أنه رأى رجالاً من الجن وبهم شبه رجال الزطِّ{[10334]} السود الطوال حين رآهم بالكوفة . وروي عنه أنه قال : ما شاهد أحد منا ليلة الجن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاختصرت هذه الروايات وتطويلها لعدم صحتها .

وقوله : { نفراً } يقتضي أن المصروفين رجالاً لا أنثى فيهم ، والنفر والرهط : القوم الذين لا أنثى فيهم .

وقوله تعالى : { فلما حضروه قالوا أنصتوا } فيه تأدب مع العلم وتعليم كيف يتعلم وقرأ جمهور الناس : «قُضِي » على بناء الفعل للمفعول . . وقرأ حبيب بن عبد الله بن الزبير وأبو مجلز : «قضى » على بناء الفعل للفاعل ، أي قضى محمد القراءة .

وقال ابن عمر وجابر بن عبد الله : قرأ عليهم سورة [ الرحمن ] فكان إذا قال : { فبأي آلاء ربكما تكذبان } [ الرحمن : 13 ] قالوا : لا بشيء من آلائك نكذب ، ربنا لك الحمد ، ولما ولت هذه الجملة تفرقت على البلاد منذرة للجن . قال قتادة : ما أسرع ما عقل القوم .

قال القاضي أبو محمد : فهنالك وقعت قصة سواد وشصار وخنافر وأشباهها{[10335]} صلى الله على محمد عبده ورسوله .


[10329]:روى البخاري، ومسلم في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال:(انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين، فقالوا: ما لكم؟ قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب، قالوا: ما ذاك إلا من شيء قد حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الأمر، فمرّ النفر الذين توجهوا نحو تهامة بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو بنخلة، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن تسمعوا له، فقالوا: هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهنالك رجعوا إلى قومهم{فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد}، فأنزل الله على نبيه{ قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن} وهذا الحديث أورده السيوطي في (الدر المنثور)، وزاد نسبته إلى أحمد، وعبد بن حميد، والترمذي، والنسائي، وابن المنذر، والحاكم، والطبراني، وابن مردويه، وأبي نعيم، والبيهقي في الدلائل. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم، وإنما أتوه بنخلة فسمعوا القرآن. و"نخلة" موضع بين مكة والطائف، وإليها ينسب "بطن نخلة". فهذا الحديث دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرف بأن الجن استمعوا إليه، ولم يؤمر بالقراءة عليهم.
[10330]:في مسلم من حديث علقمة، قال: قلت لعبد الله: من كان منكم مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال: ما كان منا معه أحد. فقدناه ذات ليلة ونحن بمكة، فقلنا اغتيل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو استطير، فانطلقنا نطلبه في الشعاب، فلقيناه مقبلا من نحو حراء، فقلنا: يا رسول الله، أين كنت؟ لقد أشفقنا عليك، وقلنا له: بتنا الليلة بشرِّ ليلة بات بها قوم حين فقدناك، فقال: إنه أتاني داعي الجن، فذهبت أقرئهم القرآن، فذهب بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم- وهذا الحديث رواه أيضا أحمد في مسنده، وذكره السيوطي في (الدر المنثور)، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، والترمذي،- وروى معنى هذا الحديث معمّر عن قتادة، وفيه قال: ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(إني أمرت أن أقرأ على الجن، فأيكم يتبعني؟....) إلخ الحديث. وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أُمر أن يقرأ على الجن القرآن، وكان يعرف أنهم سيحضرون لسماعه.
[10331]:من الآية (1) من سورة (الجن).
[10332]:فابن عطية يرى أن الجن الذين استمعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في بطن نخلة حين تفرقوا من أجل الرجم بالشهب من السماء غير الجن الذين أمر بأن يقرأ عليهم في هذه الآية:{وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن}.
[10333]:يعني بالوفد، فالضمير عائد على "وفد".
[10334]:الزط: جيل أسود من السند تنسب إليهم الثياب الزطية، وقيل: الزط: إعراب "جت" بالهندية، وهم جيل من أهل الهند.
[10335]:هذه أسماء بعض الجن الذين سمعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.