التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لَا يَحۡزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡكُفۡرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَلَمۡ تُؤۡمِن قُلُوبُهُمۡۛ وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْۛ سَمَّـٰعُونَ لِلۡكَذِبِ سَمَّـٰعُونَ لِقَوۡمٍ ءَاخَرِينَ لَمۡ يَأۡتُوكَۖ يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ مِنۢ بَعۡدِ مَوَاضِعِهِۦۖ يَقُولُونَ إِنۡ أُوتِيتُمۡ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمۡ تُؤۡتَوۡهُ فَٱحۡذَرُواْۚ وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتۡنَتَهُۥ فَلَن تَمۡلِكَ لَهُۥ مِنَ ٱللَّهِ شَيۡـًٔاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمۡۚ لَهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞۖ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (41)

وبعد أن بين - سبحانه - ما بين من تكاليف قويمة ، وشرائع حكيمة ، تهدي من اتبعها إلى السعادة في الدنيا والآخرة . أتبع ذلك بالحديث عن بعض الوسائل الخبيثة التي اتبعها اليهود وأشباههم لكيد الدعوة الإِسلامية ، فذكر تلاعبهم بأحكامه - تعالى - ، ومحاولتهم فتنة الرسول صلى الله عليه وسلم عند تقاضيهم أمامه ، وحذر - سبحانه - رسوله من مكرهم وساق له ما يسليه ويشرح صدره ، فقال - تعالى - :

{ ياأيها الرسول . . . }

وردت أحاديث متعددة في سبب نزول هذه الآيات الكريمة ، ومن ذلك : ما أخرجه البخاري عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرواله أن رجلا منهم وامرأة قد زنيا . فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما تجدون في التوراة في شأن الرجم ؟ فقالوا : نفضحهم ويجلدون . فقال عبد الله بن سلام : كذبتم . إن فيها الرجم فأتوا بالتوراة فنشروها .

فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها . فقال له عبدالله بن سلام : ارفع يدك . فرفع يده فإذا آية الرجم ، فقالوا : صدق يا محمد ؛ فيها آية الرجم . فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما .

فقال عبد الله بن عمر : فرأيت الرجل يميل نحو المرأة يقيها الحجارة .

وروى مسلم في صحيحه عن البراء بن عازب قال : مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهودي محمم مجلود - أي قد وضع الفحم الأسود على وجهه للتنكيل به - .

فدعاهم فقال . هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ؟ فقالوا : نعم فدعا رجلا من علمائهم فقال : انشدك بالذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ؟ فقال : لا والله ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك ، تجد حد الزاني في كتابنا الرجم ، ولكنه كثر في أشرافنا ، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه . وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد . فقلنا : تعالوا حتى نجعل شيئاً نقيمه على الشريف والوضيع . فاجتمعنا على التحميم والجلد - مكان الرجم .

فقال النبي صلى الله عليه وسلم اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه قال : فأمر به فرجم . قال : فأنزل الله - تعالى : { ياأيها الرسول لاَ يَحْزُنكَ } .

وأخرج الإِمام أحمد عن ابن عباس قال : إن الله أنزل : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون } { فأولئك هُمُ الظالمون } { فأولئك هُمُ الفاسقون } قال ابن عباس : أنزلها الله في الطائفتين من اليهود . وكانت إحداهما قد قهرت الأخرى في الجاهلية ، حتى ارتضوا واصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقا . وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق . فكانوا على ذلك حتى قدم النبي صلى الله عليه وسلم فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلا ، فأرسلت العزيزة إلى الذليلة أن ابعثوا لنا بمائة وسق فقالت الذليلة : وهل كان في حيين دينهما واحد ونسبهما واحد ، وبلدهما واحد ، دية بعضهم نصف دية بعض ؟ إنما أعطيناكم هاذ خوفا منكم ، فأما إذ قدم محمد صلى الله عليه وسلم فلا نعطيكم ، فكادت الحرب تهيج بينهما . ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حكما بينهم .

ثم ذكرت العزيزة فقالت : والله ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم . ولقد صدقوا . ما أعطونا هذا إلا خوفا منا . فدسوا إلى محمد من يخبر لكم رأيه . إن أعطاكم ما تريدون حكمتموه ، وإن لم يعطكم لا تحكموه . فدسوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسا من المنافقين ليخبروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما جاءوه أخبر الله رسوله بأمرهم كله وما أرادوا . فأنزل الله - تعالى - : { ياأيها الرسول لاَ يَحْزُنكَ } إلى قوله : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الفاسقون } قال ابن كثير - بعد أن ساق هذه الأحاديث وغيرها - فهذه الأحاديث دالة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم بما يوافق حكم التوراة . وليس هذا من باب الإِكرام لهم بما يعتقدون صحته ، لأنهم مأمورون باتباع الشرع المحمدي لا محالة ، ولكن هذا بوحي خاص من الله - تعالى - إليه بذلك وسؤالهم إياه عن ذلك ليقررهم على ما بأيديهم مما تنواطأوا على كتمانه وجحوده وعدم العمل به تلك الدهور الطويلة . فلما اعترفوا به مع علمهم على خلافه ، ظهر زيفهم وعنادهم وتكذيبهم لما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم ، وعدولهم إلى تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم إنما كان عن هوى منهم وشهوه لموافقة آرائهم لا لاعتقادهم صحة ما يحكم به ، ولهذا قالوا : { إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ } أي : إن حكم بالجلد والتحميم فاقبلوا حكمه ، { وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فاحذروا } أي : وإن لم يحكم بذلك فاحذروا من قبوله واتباعه .

وبمطالعتنا لهذه الأحاديث التي وردت في سبب نزول الآيات ، نراها جميعها قد وردت بأسانيدها صحيحة وفي كتب السنة المعتمدة ، وأن بعها قد حكى أن الآيات نزلت في شأن القضية التي تحاكم فيها اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبعضها قد حكى أنها نزلت في قضية دماء . ولا تعارض بين هذه الأحاديث ، فقد يكون هذان السببان قد حصلا في وقت واحد ، أو متقارب ، فنزلت هذه الآيات فيهما معا . وقد قرر العلماء أنه لا مانع من تعدد أسباب النزول للآية الواحدة أو للطائفة من الآيات .

هذا ، وقد افتتحت هذه الآيات الكريمة بنداء من الله - تعالى - لرسوله صلى الله عليه وسلم فقال - سبحانه - : { ياأيها الرسول لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر مِنَ الذين قالوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الذين هَادُواْ } .

قال القرطبي : قوله - تعالى - { لاَ يَحْزُنكَ } قرأ نفاع بضم الياء وكسر الزاي وقرأ الباقون بفتح الياء وضم الزاي . والحزن خلاف السرور . ويقال : حزن الرجل - بالكسر - فهو حزن وحزين .

والمعنى : يأيها الرسول الكريم إن ربك يقول لك : لا تهتم ولا تبال بهؤلاء المنافقين ، وبأولئك اليهود الذين يقعون في الكفر بسرعة ورغبة ، ويوقولن بأفواهم آمنا بك وصدقناك مع أن قلوبهم خالية من الإِيمان ، ومليئة بالنفاق والفسوق والعصيان .

. لا تهتم - أيها الرسول الكريم - بهؤلاء جميعا ، فإني ناصرك عليهم ، وكافيك شرهم .

وفي ندائه صلى الله عليه وسلم بعنوان الرسالة { ياأيها الرسول } تشريف له وتكريم وإشعار بأن وظيفته كرسول أن يبلغ رسالة الله دون أن يصرفه عن ذلك عناد المعاندين ، أو كفر الكافرين ، فإن تكاليف الرسالة تحتم عليه الصبر على أذى أعدائه حتى يحكم الله بينه وبينهم .

والنهي عن الحزن - وهو أمر نفسي لا اختيار للإِنسان فيه - المراد به هنا : النهي عن لوازمه ، كالإِكثار من محاولة تجديد شأن المصائب . وتعظيم أمرها ، وبذلك تتجدد الآلام ، وتعز السلوى .

وفي هذه الجملة الكريمة تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وتأنيس لقلبه ، وإرشاد له إلى ما سيقع له من أعدائه من شرور حتى لا يتأثر بها عند وقوعها .

وفي التعبير بقوله : { يُسَارِعُونَ فِي الكفر } ذم لهم على انحدارهم في دركات الكفر بسرعة من غير مواناة ولا تدبر ولا تفكر . فهم يتنقلون بحركات سريعة في ثنايا الكفر ومداخلة دون أن يزعهم وازع من خلق أو دين .

قال صاحب الكشاف : يقال : اسرع فيه الشيب ، وأسرع في الفساد بمعنى : وقع فيه سريعا . فكذلك مسارعتهم في الكفر عبارة عن إلقائهم أنفسهم فيه على أسرع الوجوه ، بحيث إذا وجدوا فرصة لم يخطئوها .

وقال أبو السعود : والمسارعة في الشيء : الوقوع فيه بسرعة ورغبة . وإيثار كلمة ( في ) على كلمة إلى ، للإِيمان إلى أنهم مستقرون في الكفر لا يبرحونه .

وإنما ينتقلون بالمسارعة عن بعض فنونه وأحكامه إلى بعض آخر منها ، كإظهار موالاة المشركين ، وإبراز آثار الكيد للإِسلام ونحو ذلك .

وقوله : { مِنَ الذين قالوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } بيان لأولئك المسارعين في الكفر .

والمتنقلين في دركاته من دركة إلى دركة .

وقوله ( بأفواههم ) متعلق بقوله : ( قالوا ) وقوله : { وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } جملة حالية من ضمير ، قالوا .

وقوله : { وَمِنَ الذين هَادُواْ } معطوف على قوله : { مِنَ الذين قالوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِم } وعليه فيكون الذين هادوا داخلين في الذين يسارعون في الكفر .

أي أن المسارعين في الكفر فريقان : فريق المنافقين الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ، وفريق اليهود الذين تميزوا بهذا الإِسم واشتركوا مع المنافقين في نفاقهم والمعنى : لا تهتم يا محمد بأولئك الذين يسارعون في الكفر من المنافقين واليهود الذين من صفاتهم أنهم يظهرون الإِيمان على أطراف ألسنتهم والحال أن قلوبهم خالية منه .

وعلى هذا المعنى يكون الكلام قد تم عند قوله - تعالى - { وَمِنَ الذين هَادُواْ } ويكون ما بعده وهو قوله : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ } . إلخ . من أوصاف الفريقين معا ، لأنهم مشتركون في المسارعة في الكفر .

ومنهم من يرى أن قوله تعالى : { وَمِنَ الذين هَادُواْ } جملة مستأنفة لبيان أحوال فريق آخر من الناس وهم اليهود ، وأن قوله - تعالى - بعد ذلك { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ } إلخ .

من أوصاف هؤلاء اليهود ، وأن الكلام قد تم عند قوله - تعالى - { وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } وأن البيان بقوله : { مِنَ الذين قالوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } لفريق المنافقين .

قال الفخر الرازي : قوله { وَمِنَ الذين هَادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ } ذكر الفراء والزجاج ها هنا وجهين :

الأول : أن الكلام إنما يتم عند قوله : { وَمِنَ الذين هَادُواْ } ثم يبدأ الكلام من قوله { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ } وتقدير الكلام لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من المنافقين ومن اليهود ثم بعد ذلك وصف الكل بكونهم سماعين للكذب .

الثاني : أن الكلام تم عند قوله - تعالى - : { وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } ثم ابتدأ من قوله : { وَمِنَ الذين هَادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ } وعلى هذا التقدير فقوله ( سماعون ) صفة لمحذوف .

والتقدير : ومن الذين هادوا قوم سماعون .

قال الجمل : الأولى والأحسن أن يكون قوله : و { وَمِنَ الذين هَادُواْ } معطوفا على البيان وهو قوله : { مِنَ الذين قالوا آمَنَّا } فيكون البيان بشيئين المنافقين واليهود . أما على القول الثاني فيكون البيان بشيء واحد وهو المنافقون .

وقوله : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ } صفتان أخريان لأولئك الذين يقعون في الكفر بسرعة ورغبة .

وقوله : ( سماعون ) جمع سماع . وهو صيغة مبالغة جيء بها لا فادة أنهم كثيروا السماع للكذب ، وأنهم لفساد نفوسهم يجدون لذة في الاستماع إليه من رؤسائهم وأحبارهم ، ومن هم على شاكلتهم في العناد والضلال .

واللام في قوله : ( للكذب ) للتقوية أي : أنهم يسمعون الكذب كثيراً سماع قبول وتلذذ ، ويأخذونه ممن يقوله من أعداء الإِسلام على أنه حقائق ثابتة لا مجال للريب فيها .

وقيل إن اللام للتعليل أي أنهم كثيرو السماع لكلام الرسول صلى الله عليه وسلم ولأخباره من أجل الكذب عليه ، عن طريق تغيير وتبديل ما سمعوه على حسب ما تهواه نفوسهم المريضة .

وقوله : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ } بيان لمسلك آخر من مسالكهم الخبيثة بعد بيان احتفالهم بالأخبار الكاذبة ، وتقبلها بفرح وسرور .

أي : أن هؤلاء المسارعين في الكفر من المنافقين واليهود من صفاتهم أنهم كثيروا السماع للأكاذيب التي يروجها أعداء الدعوة الإِسلامية ضدها كثيرو السماع والقبول والاستجابة لما يقوله عنها قوم آخرون من أعدائها لم يحضروا مجالس الرسول صلى الله عليه وسلم تكبرا وعتوا ويجوز أن يكون المعنى : أنهم كثيروا السماع للكذب عن محبة ورغبة ، وأنهم كثيروا السماع لما يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم لينقلوه إلى قوم آخرين - من أشباههم في الكفر والعناد - ولم يحضروا مجالس الرسول صلى الله عليه وسلم أنفة وبغضاً فأنت ترى أن القرآن قد وصفهم بفساد بواطنهم حيث استحبوا الكذب على الصدق .

كما وصفهم بضعف نفوسهم حيث صاروا مطايا لغيرهم يطيعون أمرهم ويبلغون أخبار المسلمين ، فهم عيون على المسلمين ليبلغوا أخبارهم إلى زعماء الكفر والنفاق .

وإلى هذين المعنيين أشار صاحب الكشاف بقوله : ومعنى { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ } : قابلون لما بفتريه الأحبار ويفتعلونه من الكذب على الله وتحريف كتابه ، من قولك : الملك يسمع كلام فلان ، ومنه سمع الله لمن حمده .

وقوله : { سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ } يعني اليهود الذين لم يصلوا إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجافوا عنه لما أفرد فيهم من شدة البغضاء . وتبالغ من العداوة ، أي : قابلون من الأحبار ومن أولئك المفرطين في العداوة الذين لا يقدرون أن ينظروا إليك وقيل : سماعون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأجل أن يكذبوا عليه ، بأن يمسخوا ما سمعوا منه بالزيادة والنقصان والتبديل والتغيير سماعون من رسول الله لأجل قوم آخرين من اليهود وجهودهم عيونا ليبلغوهم ما سمعوا منه .

وقوله : { يُحَرِّفُونَ الكلم مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } صفة أخرى للقوم الآخرين الذين لم يأتوا إلى مجالس الرسول صلى الله عليه وسلم أنفة وبغضاً . أو للمسارعين في الكفر من الفريقين .

وقوله : { يُحَرِّفُونَ } من التحريف وأصله من الحرف وهو طرف الشيء .

ومعناه إمالة الكلام عن معناه ، وإخراجه عن أطرافه وحدوده .

والكلم : اسم جنس جمعي للفظ كلمة ومعناه الكلام .

أي أن هؤلاء القوم الآخرين الذين لم يحضروا مجلسك نفورا منك ، أو هم والمسارعون في الكفر من المنافقين واليهود من صفاتهم ودأبهم تحريف جنس الكلم عن مواضعه . فهو يحرفون كلامك يا محمد ، ويحرفون التوراة ، ويحرفون معاني القرآن حسب أهوائهم وشهواتهم ويحرفون الحق الذي جئت به تارة تحريفاً لفظياً ، وتارة تحريفاً معنوياً ، وتارة بغير ذلك من وجوه التحريف والتبديل .

وقوله : { مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } أي : يحرفون الكلم من بعد استقرار مواضعه وبيان حلالها وحرامها .

وعبر هنا " من بعد مواضعه " وفي مواطن أخرى بقوله { عَن مَّوَاضِعِهِ } لأن المقام هنا للحديث عن الأحكام المستقرة الثابتة التي حاول أولئك المسارعون في الكفر تغييرها وإحلال أحكام أخرى محلها تبعاً لأهوائهم كما حدث في قضية الزنا وفي غيرها من القضايا التي تحاكموا فيها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان من المناسب هنا التعبير بقوله : { مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } أي : من بعد استقرار مواضعه وثبوتها لا يقبل التحريف أو التغيير أو الإِهمال .

وقوله : { يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فاحذروا } بيان لما نطقت به أفواه أولئك الذين لم يحضروا مجالس رسول الله من مكر وخداع وضلال .

أي : أن أولئك القوم الآخرين الذين لم يحضروا مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم عنادا وتكبرا لم يكتفوا بتحريف الكلم عن مواضعه هم وأشياعهم .

بل كانوا إلى جانب ذلك يقولون لمطاياهم السامعين منهم أو السامعين من أجلهم : يقولن لهم عندما أرسلوهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهم { إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ } أي : إن أفتاكم محمد صلى الله عليه وسلم يمثل هذا الذي نفتيكم به - كالجلد والتحميم بدل الرجم - فاقبلوا حكمه وخذوه واعملوا به { وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فاحذروا } أي : وإن أفتاكم بغير ما أفتيناكم به فاحذروا قبول حكمه ، وإياكم أن تستجيبوا له ، أو تميلوا إلى ما قاله لكم .

واسم الإِشارة هذا في قوله : { يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا } يعود إلى القول المحرف الذي تواضع أحبار اليهود على الإِفتاء به تبعاً لأهوائهم . كما حدث منهم في قضية الزنا حيث غيروا حكم الرجم بحكم آخر هو الجلد والتحميم .

وفي ترتيب الأمر بالحذر على مجرد عدم إيتاء المحرف ، إشارة إلى تخوفهم الشديد من ميل أتباعهم إلى حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم يحذرونهم بشدة من الاستماع إلى ما يقوله لهم مما يخالف ما تواضعوا عليه من أباطيل .

وقوله : { إِنْ أُوتِيتُمْ } مفعول لقوله : ( يقولون ) واسم الإِشارة ( هذا ) مفعول ثان " لأوتيتم " والأول نائب الفاعل وقوله : ( فخذوه ) جواب الشرط ثم بين - سبحانه - سوء عاقبتهم فقال : { وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئاً أولئك الذين لَمْ يُرِدِ الله أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدنيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ } .

أي : ومن يقض الله بكفره وضلاله ، فلن تملك له - أيها الرسول الكريم - شيئا من الهداية لتدفع بها ضلالة وكفره ، أولئك الموصوفون بما ذكر من الصفات الذميمة لم يرد الله - تعالى - أن يطهر قلوبهم من النفاق والضلال ؛ لأنهم استحبوا العمى على الهدى ، { لَهُمْ فِي الدنيا خِزْيٌ } أي : فضيحة وهوان بسبب ظهور كذبهم ، وفساد نفوسهم ، وانتشار تعاليم الإسلام التي يحاربونها ويشيعون الأباطيل حولها وحول من جاء بها صلى الله عليه وسلم .

{ وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ } وهو خلودهم في النار بسبب اجتراحهم السيئات ، ومحاربتهم لمن جاءهم بالحق والهدى والسعادة .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لَا يَحۡزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡكُفۡرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَلَمۡ تُؤۡمِن قُلُوبُهُمۡۛ وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْۛ سَمَّـٰعُونَ لِلۡكَذِبِ سَمَّـٰعُونَ لِقَوۡمٍ ءَاخَرِينَ لَمۡ يَأۡتُوكَۖ يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ مِنۢ بَعۡدِ مَوَاضِعِهِۦۖ يَقُولُونَ إِنۡ أُوتِيتُمۡ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمۡ تُؤۡتَوۡهُ فَٱحۡذَرُواْۚ وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتۡنَتَهُۥ فَلَن تَمۡلِكَ لَهُۥ مِنَ ٱللَّهِ شَيۡـًٔاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمۡۚ لَهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞۖ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (41)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ يَأَيّهَا الرّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الّذِينَ قَالُوَاْ آمَنّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الّذِينَ هِادُواْ سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هََذَا فَخُذُوهُ وَإِن لّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً أُوْلََئِكَ الّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الاَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } . .

اختلف أهل التأويل فيمن عُني بهذه الاَية ، فقال بعضهم : نزلت في أبي لُبابة بن عبد المنذر بقوله لبني قريظة حين حاصرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم : «إنما هو الذبح ، فلا تنزلوا على حكم سعد » . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : لا يحْزُنْكَ الّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الكُفْرِ مِنَ الّذِينَ قالُوا آمَنّا بأفْوَاهِهِم ولَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ قال : نزلت في رجل من الأنصار زعموا أنه أبو لُبابة أشارت إليه بنو قُريظة يوم الحصار ما الأمر ؟ وعلام ننزل ؟ فأشار إليهم : إنه الذبح .

وقال آخرون : بل نزلت في رجل من اليهود سأل رجلاً من المسلمين يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حكمه في قتيل قتله . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد بن بشر ، عن زكريا ، عن عامر : لا يحْزُنْكَ الّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الكُفْرِ قال : كان رجل من اليهود قتله رجل من أهل دينه ، فقال القاتل لحلفائهم من المسلمين : سلوا لي محمدا صلى الله عليه وسلم ، فإن كان يقضي بالدية اختصمنا إليه ، وإن كان يأمرنا بالقتل لم نأته .

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن زكريا ، عن عامر نحوه .

وقال آخرون : بل نزلت في عبد الله بن صُورِيا ، وذلك أنه ارتدّ بعد سلامه . ذكر من قال ذلك :

حدثنا هناد وأبو كريب ، قالا : حدثنا يونس بن بكير ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني الزهريّ ، قال : سمعت رجلاً من مزينة يحدّث عن سعيد بن المسيب ، أن أبا هريرة حدثهم ، أن أحبار يهود اجتمعوا في بيت المدارس حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، وقد زنى رجل منهم بعد إحصانه بامرأة من يهود قد أحصنت . فقالوا : انطلقوا بهذا الرجل وبهذه المرأة إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، فاسألوه كيف الحكم فيهما فولوه الحكم عليهما ، فإن عمل فيهما بعملكم من التحميم ، وهو الجلد بحبل من ليف مطليّ بقارٍ ، ثم يُسوّد وجوههما ، ثم يُحملان على حمارين وتحوّل وجوههما من قِبَل دبر الحمار ، فاتبعوه ، فإنما هو ملك . وإن هو حكم فيهما بالرجم ( فإنه نبيّ ) فاحذروه على ما في أيديكم أن يسلُبكموه . قأتوه فقالوا : يا محمد هذا الرجل قد زنى بعد إحصانه بامرأة قد أحصنت ، فاحكم فيهما ، فقد وليناك الحكم فيهما فمشى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى أحبارهم في بيت المدارس ، فقال : «يا مَعْشَرَ اليَهُودِ أخْرِجُوا إلى أعْلَمَكُمْ » فأخرجوا إليه عبد الله بن صُورِيا الأعور . وقد روي بعض بني قريظة أنهم أخرجوا إليه يومئذٍ مع ابن صوريا أبا ياسر بن أخطب ووهب بن يهودا ، فقالوا : هؤلاء علماؤنا فسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى حصل أمرهم ، إلى أن قالوا لابن صوريا : هذا أعلم من بقي بالتوراة . فخلا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان غلاما شابا من أحدثهم سنا ، فألظّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم المسألة ، يقول : «يا ابْنَ صُورِيا أنْشُدُك الله وأذكرك أيادِيه عِنْدَ بني إسْرائيل ، ألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى حصل أمرهم ، إلى أن قالوا لابن صوريا : هذا أعلم من بقي بالتوراة . فخلا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان غلاما شابا من أحدثهم سنا ، فألظّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم المسألة ، يقول : «يا ابْنَ صُورِيا أنْشُدُك الله وأذكرك أيادِيه عِنْدَ بني إسْرائيل ، هل تَعْلَمُ أنّ الله حَكَمَ فيمَنْ زَنَى بَعْدَ إحْصَانِهِ بالرّجْمِ في التّوْرَاة ؟ » فقال : اللهمّ نعم أما والله يا أبا القاسم إنهم ليعلمون أنكّ نبيّ مرسل ، ولكنهم يحسدونَك . فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمر بهما فرُجما عند باب مسجده في بني عثمان بن غالب بن النجار . ثم كفر بعد ذلك ابن صُوريا ، فأنزل الله : يا أيّها الرّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الكُفْرِ مِنَ الّذِينَ قالُوا آمَنّا بأفْوَاهِهِمْ ولَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ( ح ) وحدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ( ح ) ، وحدثنا هناد ، قال : حدثنا عبيدة بن عبيد ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرّة ، عن البراء بن عازب ، قال : مُرّ على النبيّ صلى الله عليه وسلم بيهودي محمّم مجلود ، فدعا النبيّ صلى الله عليه وسلم رجلاً من علمائهم ، فقال : «أهَكَذا تَجِدُونَ حَدّ الزّاني فِيكُمْ ؟ » قال : نعم . قال : «فأنْشُدُك بالذي أنْزَلَ التّورَاةَ على مُوسَى ، أهَكَذا تَجِدُونَ حَدّ الزاني فيكم » ؟ قال : لا ، ولولا أنك نَشَدْتَني بهذا لم أحدثك ، ولكن الرجم ، ولكن كثر الزنا في أشرافنا ، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحدّ ، فقلنا تعالوا نجتمع فنضع شيئا مكان الرجم فيكون على الشريف والوضيع ، فوضعنا التحميم والجلد مكان الرّجم . فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «اللهمّ إني أنا أوّلُ مَنْ أَحْيَا أَمْرَكَ إذْ أَماتُوهُ » فأمر به فرجم ، فأنزل الله : لا يَحْزُنْكَ الّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الكُفْرِ . . . الاَية .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن الزهريّ ، قال : كنت جالسا عند سعيد بن المسيب وعند سعي ، رجل يوقره ، فإذا هو رجل من مزينة كان أبوه شهد الحديبية وكان من أصحاب أبي هريرة ، قال : قال أبو هريرة : كنت جالسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ح ) ، وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح كاتب الليث ، قال : ثني الليث ، قال : ثني عقيل ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني رجل من مزينة ممن يتبع العلم ويعيه ، حدّث عن سعيد بن المسيب ، أن أبا هريرة قال : بينا نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ جاءه رجل من اليهود ، وكانوا قد أشاروا في صاحب لهم زنى بعد ما أحصن ، فقال بعضهم لبعض : إن هذا النبيّ قد بُعث ، وقد علمتم أن قد فرض عليكم الرجم في التوراة فكتمتموه واصطلحتم بينكم على عقوبة دونه ، فانطلقوا فنسأل هذا النبيّ ، فإن أفتانا بما فرض علينا في التوراة من الرجم تركنا ذلك ، فقد تركنا ذلك في التوراة ، فهي أحقّ أن تطاع وتصدّق . فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا أبا القاسم إنه زنى صاحب لنا قد أحصن ، فما ترى عليه من العقوبة ؟ قال أبو هريرة : فلم يرجع إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قام وقمنا معه ، فانطلق يؤمّ مدراس اليهود حتى أتاهم ، فوجدهم يتدارسون التوراة في بيت المدارس ، فقال لهم : «يا مَعْشَرَ اليَهُودِ أنْشُدُكُمْ باللّهِ الّذِي أنْزَلَ التّوْرَاةَ على مُوسَى ماذَا تَجِدُونَ فِي التّوْرَاةِ مِنَ العُقُوبَةِ على مَنْ زَنى وَقَدْ أحْصِن » ؟ قالوا : إنا نجده يُحَمّم ويجلده . وسكت حبرهم في جانب البيت . فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم صمته ألظّ به النشدة ، فقال حبرهم : اللهمّ إذ نشدتنا فإنا نجد عليهم الرجم . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «فَمَاذَا كانَ أوّلَ ما تَرَخّصْتُمْ بِهِ أمْرَ اللّهِ » ؟ قال : زنى ابن عمّ ملك فلم يرجمه ، ثم زنى رجل آخر في أسرة من الناس ، فأراد ذلك الملك رجمه ، فقام دونه قومه ، فقالوا : والله لا ترجمه حتى ترجم فلانا ابن عمّ الملك فاصطلحوا بينهم عقوبةً دون الرجم ، وتركوا الرجم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «فإنّي أقْضِي بِمَا فِي التّوْرَاةِ » . فأنْزَلَ الله في ذلك : يا أيّها الرّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الكُفْرِ . . . إلى قوله : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ فأُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ .

وقال آخرون : بل عُني بذلك المنافقون . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير في قوله : يا أيّها الرّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الكُفْرِ مِنَ الّذِينَ قالُوا آمَنّا بأفْوَاهِهِم ولَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ قال : هم المنافقون .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : آمَنّا بأفْوَاهِهِمْ قال : يقول هم المنافقون .

وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال : عُنِي بذلك : لا يحْزُنْكَ الّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الكُفْرِ مِنَ الّذِينَ قالُوا آمَنّا بأفْوَاهِهِم ولَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ : قوم من المنافقين . وجائز أن يكون كان ممن دخل في هذه الاَية ابن صُوريا ، وجائز أن يكون أبو لُبابة ، وجائز أن يكون غيرهما . غير أن أثبت شيء رُوي في ذلك ما ذكرناه من الرواية قبل عن أبي هريرة والبراء بن عازب ، لأن ذلك عن رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . وإذا كان ذلك كذلك ، كان الصحيح من القول فيه أن يقال : عُني به عبد الله بن صُورِيا . وإذا صحّ ذلك كان تأويل الاَية : يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في جحود نبوّتك والتكذيب بأنك لي نبيّ من الذين قالوا : صدّقنا بك يا محمد أنك لله رسول مبعوث ، وعلمنا بذلك يقينا بوجودنا صفتك في كتابنا وذلك أن في حديث أبي هريرة الذي رواه ابن إسحاق ، عن الزهري ، أن ابن صوريا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أما والله يا أبا القاسم إنهم ليعلمون أنك نبيّ مرسل ، ولكنهم يحسدونك . فذلك كان على هذا الخبر من ابن صوريا إيمانا برسول الله صلى الله عليه وسلم بفيه ، ولم يكن مصدّقا لذلك بقلبه ، فقال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم مطلعه على ضمير ابن صوريا وأنه لم يؤمن بقلبه ، يقول : ولم يصدّق قلبه بأنك لله رسول مرسل .

القول في تأويل قوله تعالى : وَمِنَ الّذِينَ هادُوا سَمّاعُونَ للكَذِبِ سَمّاعُونَ لقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يأْتُوكَ .

يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : يا أيها الرسول ، لا يحزنك تسرّع من تسرّع من هؤلاء المنافقين الذين يظهرون بألسنتهم تصديقك ، وهم معتقدون تكذيبك إلى الكفر بك ، ولا تسرع اليهود إلى جحود نبوّتك . ثم وصف جلّ ذكره صفتهم ونعتهم له بنعوتهم الذميمة وأفعالهم الرديئة ، وأخبره معزّيا له على ما يناله من الحزن بتكذيبهم إياه مع علمهم بصدقه أنهم أهل استحلال الحرام والمآكل الرديئة والمطاعم الدنيئة من الرّشَا والسّحْت ، وأنهم أهل إفك وكذب على الله وتحريف كتابه . ثم أعلمه أنه محلّ بهم خزيه في عاجل الدنيا ، وعقابه في آجل الاَخرة ، فقال : همْ سَمّاعُونَ للكَذِبِ يعني هؤلاء المنافقين من اليهود ، يقول : هم يسمعون الكذب ، وسمعهم الكذب : سمعهم قول أحبارهم أن حكم الزاني المحْصن في التوراة : التحميم والجلد ، سَمّاعُونَ لَقْومٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يقول : يسمعون لأهل الزاني الذي أرادوا الاحتكام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم القوم الاَخرون الذين لم يكونوا أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا مصرّين على أن يأتوه ، كما قال مجاهد .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال مجاهد : سَمّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ : مع من أتوك .

واختلف أهل التأويل في السمّاعين للكذب السمّاعين لقوم آخرين ، فقال بعضهم : سماعون لقول آخرين يهود فدك ، والقوم الاَخرون الذين لم يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود المدينة . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن الزبير ، عن ابن عيينة ، قال : حدثنا زكريا ومجالد ، عن الشعبيّ ، عن جابر في قوله : وَمِنَ الّذِينَ هادُوا سَمّاعُونَ للكَذِبِ سَمّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ قال : يهود المدينة لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرّفُونَ الكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ قال : يهود فدك يقولون ليهود المدينة : إن أوتيتم هذا فخذوه .

وقال آخرون : المعنىّ بذلك قوم من اليهود كان أهل المرأة التي بغت بعثوا بهم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحكم فيها ، والباعثون بهم هم القوم الاَخرون ، وهم أهل المرأة الفاجرة ، لم يكونوا أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : وَمِنَ الّذِينَ هادُوا سَمّاعُونَ للكَذِبِ سَمّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرّفُونَ كان بنو إسرائيل أنزل الله عليهم : إذا زنى منكم أحد فارجموه . فلم يزالوا بذلك حتى زنى رجل من خيارهم فلما اجتمعت بنو إسرائيل يرجمونه ، قام الخيار والأشراف فمنعوه . ثم زنى رجل من الضعفاء ، فاجتمعوا ليرجموه ، فاجتمعت الضعفاء فقالوا : لا ترجموه حتى تأتوا بصاحبكم فترجمونهما جميعا فقالت بنو إسرود يقال لها بُسرة ، فبعث أبوها ناسا من أصحابه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : سلوه عن الزنا وما نزل إليه فيه فإنا نخاف أن يفضحنا ويخبرنا بما صنعنا ، فإن أعطاكم الجلد فخذوه وإن أمركم بالرجم فاحذروه . فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه ، فقال : «الرّجْم » . فأنزل الله عزّ وجلّ : وَمِنَ الّذِينَ هادُوا سَمّاعُونَ للكَذِبِ سَمّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرّفُونَ الكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ حين حرّفوا الرجم فجعلوه جلدا .

وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب ، قول من قال : إن السماعين للكذب ، هم السماعون لقوم آخرين . وقد يجوز أن يكون أولئك كانوا من يهود المدينة والمسموع لهم من يهود فدك ، ويجوز أن يكونوا كانوا من غيرهم . غير أنه أيّ ذلك كان ، فهو من صفة قوم من يهود سمعوا الكذب على الله في حكم المرأة التي كانت بغت فيهم وهي محصنة ، وأن حكمها في التوراة التحميم والجلد ، وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحكم اللازم لها ، وسمعوا ما يقول فيها قوم المرأة الفاجرة قبل أن يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم محتكمين إليه فيها . وإنما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك لهم ليعلموا أهل المرأة الفاجرة ما يكون من جوابه لهم ، فإن لم يكن من حكمه الرجم رضوا به حكما فيهم ، وإن كان من حكمه الرجم حذروه وتركوا الرضا به وبحكمه . وبنحو الذي قلنا كان ابن زيد يقول .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : سّماعُونَ للكَذِبِ سَمّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ قال : لقوم آخرين لم يأتوك من أهل الكتاب ، هؤلاء سماعون لأولئك القوم الاَخرين الذين لم يأتوه ، يقولون لهم الكذب : محمد كاذب ، وليس هذا في التوراة ، فلا تؤمنوا به .

القول في تأويل قوله تعالى : يُحَرّفُونَ الكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضَعِهِ يَقُولُونَ إنْ أُوتِيُتمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فاحْذَرُوا .

يقول تعالى ذكره : يحرّف هؤلاء السماعون للكذب ، السماعون لقوم آخرين منهم لم يأتوك بعد من اليهود الكَلِم . وكان تحريفهم ذلك : تغييرهم حكم الله تعالى ذكره الذي أنزله في التوراة في المحصنات والمحصنين من الزناة بالرجم إلى الجلد والتحميم ، فقال تعالى ذكره : يَحرّفُونَ الكَلِمَ يعني : هؤلاء اليهود ، والمعنى : حكم الكلم ، فاكتفى بذكر الخبر من تحريف الكلم عن ذكر الحكم لمعرفة السامعين لمعناه . وكذلك قوله : مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ والمعنى : من بعد وضع الله ذلك مواضعه ، فاكتفى بالخبر من ذكر مواضعه عن ذكر وضع ذلك ، كما قال تعالى ذكره : وَلَكِنّ البِرّ مَنْ آمَنَ باللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ والمعنى : ولكن البرّ برّ من آمن بالله الاَخر . وقد يحتمل أن يكون معناه : يحرّفون الكلم عن مواضعه ، فتكون «بعد » وُضعت موضع «عن » ، كما يقال : جئتك عن فراغي من الشغل ، يريد : بعد فراغي من الشغل .

ويعني بقوله إنْ أُوتِيُتمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فاحْذَرُوا يقول : هؤلاء الباغون السماعون للكذب ، إن أفتاكم محمد بالجلد والتحميم في صاحبنا فخذوه ، يقول : فاقبلوه منه ، وإن لم يُفتِكم بذلك وأفتاكم بالرجم ، فاحذروا .

وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني الزهري ، قال : سمعت رجلاً من مزينة يحدّث سعيد بن المسيب ، أن أبا هريرة حدثهم في قصة ذكرها : وَمِنَ الّذِينَ هادُوا سَمّاعُونَ للكَذِبِ سَمّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ قال : بعثوا وتخلفوا ، وأمروهم بما أمروهم به من تحريف الكلم عن مواضعه ، فقال : يحرّفون الكلم من بعد مواضعه ، يقولون : إن أوتيتم هذا فخذوه للتحميم ، وإن لم تؤتوه فاحذروا : أي الرجم .

حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : إنْ أُوتِيُتمْ هَذا : إن وافقكم هذا ، فَخُذُوهُ يهود تقوله للمنافقين .

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : إنْ أُوتِيُتمْ هَذَا فَخُذُوهُ : إن وافقكم هذا فخذوه ، وإن لم يوافقكم فاحذروه . يهود تقوله للمنافقين .

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : يُحَرّفُونَ الكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ حين حرّفوا الرجم فجعلوه جلدا ، يقولون : إنْ أُوتِيُتمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإنْ لَمْ تُؤْتُوهُ فاحْذَرُوا .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن الزبير ، عن ابن عيينة ، قال : حدثنا زكريا ومجالد ، عن الشعبيّ ، عن جابر : يُحَرّفُونَ الكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إنْ أُوتِيُتمْ هَذَا فَخُذُوهُ يهود فدك يقولون ليهود المدينة : إن أوتيتم هذا الجلد فخذوه ، وإن لم تؤتوه فاحذروا الرجم .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : إنْ أُوتِيُتمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فاحْذَرُوا هُمُ اليهود ، زنت منهم امرأة ، وكان الله قد حكم في التوراة في الزنا بالرجم ، فنفسوا أن يرجموها ، وقالوا : انطلقوا إلى محمد فعسى أن يكون عنده رخصة ، فإن كانت عنده رخصة فاقبلوها . فأتَوْه فقالوا : يا أبا القاسم إن امرأة منا زنت ، فما تقول فيها ؟ فقال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم : «كَيْفَ حُكْمُ اللّهِ فِي التّوْرَاةِ في الزّانِي ؟ » فقالوا : دعنا من التوراة ، ولكن ما عندك في ذلك فقال : «ائْتُونِي بأعْلَمِكُمْ بالتّوْرَاةِ التي أُنْزِلَتْ على مُوسَى » . فقال لهم : «بالّذِي نَجّاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ وَبالّذِي فَلَقَ لَكُمْ البَحْرَ فَأْنجاكمْ وأغْرَقَ آلَ فِرْعَوْنَ إلاّ أخْبَرْتُمُونِي ما حُكْمُ اللّهِ فِي التّوْرَاةِ فِي الزّانِي » قالوا : حكمه الرجم . فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمت .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرّفُونَ الكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إنْ أُوتِيُتمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فاحْذَرُوا ذكر لنا أن هذا كان في قتيل من بني قريظة قتلته النضير ، فكانت النضير إذا قتلت من بني قريظة لم يقيدوهم ، إنما يعطونهم الدية لفضلهم عليهم ، وكانت قريظة إذا قتلت من النضير قتيلاً لم يرضوا إلا بالقود لفضلهم عليهم في أنفسهم تعزّزا . فقدم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم المدينة على هيئة فعلهم هذا ، فأرادوا أن يرفعوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لهم رجل من المنافقين : إن قتيلكم هذا قتيل عمد ، متى ما ترفعوه إلى محمد صلى الله عليه وسلم أخشى عليكم القود ، فإن قبل منكم الدية فخذوه ، وإلا فكونوا منه على حذر .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : يُحَرّفُونَ الكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يقول يحرّف هؤلاء الذين لم يأتوك الكلم عن مواضعه ، لا يضعونه على ما أنزله الله . قال : وهؤلاء كلهم يهود ، بعضهم من بعض .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو معاوية وعبيدة بن حميد ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرّة ، عن البراء بن عازب : يَقُولُونَ إنْ أُوتِيُتمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فاحْذَرُوا يقولون : ائتوا محمدا ، فإن أفتاكم بالتحميم والجلد فخذوه ، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا .

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَنْ يُرِدِ اللّهِ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئا .

وهذا تسلية من الله تعالى ذكره نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم من حزنه على مسارعة الذين قصّ قصتهم من اليهود والمنافقين في هذه الاَية ، يقول له تعالى ذكره : لا يحزنك تسرّعهم إلى جحود نبوّتك ، فإني قد حَتَمْتُ عليهم أنهم لا يتوبون من ضلالتهم ، ولا يرجعون عن كفرهم للسابق من غضبي عليهم ، وغير نافعهم حزنك على ما ترى من تسرّعهم إلى ما جعلته سبيلاً لهلاكهم واستحقاقهم وعيدي . ومعنى الفتنة في هذا الموضع : الضلالة عن قصد السبيل . يقول تعالى ذكره : ومن يرد الله يا محمد مرجعه بضلالته عن سبيل الهدى ، فلن تملك له من الله استنقاذا مما أراد الله به من الحيرة والضلالة ، فلا تشعر نفسك بالحزن على ما فاتك من اهتدائه للحقّ . كما :

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَمَنْ يُرِدِ اللّهِ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئا .

القول في تأويل قوله تعالى : أُولَئِكَ الّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أنْ يُطَهّرَ قُلُوَبهُمْ لَهُمْ فِي الدّنْيا خِزْيٌ ، ولَهُمْ فِي الاَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ .

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ، من اليهود الذين وصفت لك صفتهم ، وإن مسارعتهم إلى أُولَئِكَ الّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أنْ يُطَهّرَ قُلُوَبهُمْ لَهُمْ فِي الدّنْيا خِزْيٌ ، ولَهُمْ فِي الاَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ .

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ، من اليهود الذين وصفت لك صفتهم ، وإن مسارعتهم إلى لدنيا وذلك الذلّ والهوان ، وفي الاَخرة عذاب جهنم خالدين فيها أبدا .

وبنحو الذي قلنا في معنى الخزي روي القول عن عكرمة .

حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا سفيان ، عن عليّ بن الأرقم وغيره ، عن عكرمة : أُولَئِكَ الّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أنْ يُطَهّرَ قُلُوَبهُمْ لَهُمْ فِي الدّنْيا خِزْيٌ قال : مدينة في الروم تُفتح فيُسْبَوْن .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لَا يَحۡزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡكُفۡرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَلَمۡ تُؤۡمِن قُلُوبُهُمۡۛ وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْۛ سَمَّـٰعُونَ لِلۡكَذِبِ سَمَّـٰعُونَ لِقَوۡمٍ ءَاخَرِينَ لَمۡ يَأۡتُوكَۖ يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ مِنۢ بَعۡدِ مَوَاضِعِهِۦۖ يَقُولُونَ إِنۡ أُوتِيتُمۡ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمۡ تُؤۡتَوۡهُ فَٱحۡذَرُواْۚ وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتۡنَتَهُۥ فَلَن تَمۡلِكَ لَهُۥ مِنَ ٱللَّهِ شَيۡـًٔاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمۡۚ لَهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞۖ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (41)

{ يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر } أي صنيع الذين يقعون في الكفر سريعا أي في إظهاره إذا وجدوا منه فرصة . { من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم } أي من المنافقين والباء متعلقة بقالوا لا بآمنا والواو تحتمل الحال والعطف . { ومن الذين هادوا } عطف على { من الذين قالوا } { سماعون للكذب } خبر محذوف أي هم سماعون ، والضمير للفريقين ، أو للذين يسارعون ويجوز أن يكون مبتدأ ومن الذين خبره أي ومن اليهود قوم سماعون واللام في للكذب ، إما مزيدة للتأكيد أو لتضمين السماع معنى القبول أي ؛ قابلون لما تفتريه الأحبار ، أو للعلة والمفعول محذوف أي : سماعون كلامك ليكذبوا عليك فيه . { سماعون لقوم آخرين لم يأتوك } أي لجمع آخرين من اليهود لم يحضروا مجلسك وتجافوا عنك تكبرا وإفراطا في البغضاء ، والمعنى على الوجهين أي مصغون لهم قابلون كلامهم ، أو سماعون منك لأجلهم والإنهاء إليهم ، ويجوز أن تتعلق اللام بالكذب لأن سماعون الثاني مكرر للتأكيد أي : سماعون ليكذبوا لقوم آخرين : { يحرفون الكلم من بعد مواضعه } أي يميلونه عن مواضعه التي وضعه الله فيها ، إما لفظا : بإهماله أو تغيير وضعه ، وإما معنى : بحمله على غير المراد وإجرائه في غير مورده ، والجملة صفة أخرى لقوم أو صفة لسماعون أو حال من الضمير فيه أو استئناف لا موضع له ، أو في موضع الرفع خبرا لمحذوف أي هم يحرفون وكذلك { يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه } أي إن أوتيتم هذا المحرف فاقبلوه واعملوا به . { وإن لم تؤتوه } بل أفتاكم محمد بخلافه { فاحذروا } أي احذروا قبول ما أفتاكم به . روي ( أن شريفا من خيبر زنى بشريفة وكانا محصنين فكرهوا رجمهما ، فأرسلوهما مع رهط منهم إلى بني قريظة ليسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه وقالوا : إن أمركم بالجلد والتحميم فأقبلوا وإن أمركم بالرجم فلا ، فأمرهم بالرجم فأبوا عنه ، فجعل ابن صوريا حكما بينه وبينهم ، وقال له : أنشدك الله الذي لا إله إلا هو الذي فلق البحر لموسى ، ورفع فوقكم الطور ، وأنجاكم وأغرق آل فرعون والذي أنزل عليكم كتابه وحلاله وحرامه هل تجدون فيه الرجم على من أحصن ، قال : نعم فوثبوا عليه فقال : خفت إن كذبته أن ينزل علينا العذاب ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزانيين فرجما عند باب المسجد ) . { ومن يرد الله فتنته } ضلالته أو فضيحته . { فلن تملك له من الله شيئا } فلن تستطيع له من الله شيئا في دفعها . { أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم } من الكفر وهو كما ترى نص على فساد قول المعتزلة . { لهم في الدنيا خزي } هو أن بالجزية والخوف من المؤمنين { ولهم في الآخرة عذاب عظيم } وهو الخلود في النار ، والضمير للذين هادوا إن استأنفت بقوله ومن الذين وإلا فللفريقين .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لَا يَحۡزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡكُفۡرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَلَمۡ تُؤۡمِن قُلُوبُهُمۡۛ وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْۛ سَمَّـٰعُونَ لِلۡكَذِبِ سَمَّـٰعُونَ لِقَوۡمٍ ءَاخَرِينَ لَمۡ يَأۡتُوكَۖ يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ مِنۢ بَعۡدِ مَوَاضِعِهِۦۖ يَقُولُونَ إِنۡ أُوتِيتُمۡ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمۡ تُؤۡتَوۡهُ فَٱحۡذَرُواْۚ وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتۡنَتَهُۥ فَلَن تَمۡلِكَ لَهُۥ مِنَ ٱللَّهِ شَيۡـًٔاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمۡۚ لَهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞۖ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (41)

قرأ جمهور الناس «الكِلم » بفتح الكاف وكسر اللام ، وقرأ بعض الناس «الكِلْم » بكسر الكاف وسكون اللام وهي لغة ضعيفة في كلمة ، وقوله تعالى : { يحرفون الكلم } صفة لليهود فيما حرفوا من التوراة ، إذ ذاك أخطر أمر حرفوا فيه . ويحتمل أن يكون صفة لهم وللمنافقين فيما يحرفون من الأقوال عند كذبهم ، لأن مبادىء كذبهم لا بد أن تكون من أشياء قيلت أو فعلت ، وهذا هو الكذب المزين الذي يقرب قبوله ، وأما الكذب الذي لا ُيرَفد{[4546]} بمبدأ فقليل الأثر في النفس ، وقوله : { من بعد مواضعه } أي من بعد أن وضع مواضعه وقصدت به وجوهه القويمة والإشارة بهذا قيل :هي إلى التحميم والجلد في الزنا ، وقيل : هي إلى قبول الدية في أمر القتل ، وقيل إلى إبقاء عزة النضير على قريظة ، وهذا بحسب الخلاف المتقدم في الآية ، ثم قال تعالى لنبيه على جهة قطع الرجاء فيهم { ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً } أي لا تتبع نفسك أمرهم ، والفتنة هنا المحنة بالكفر والتعذيب في الآخرة ، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم الذين سبق لهم في علم الله ألا «يطهر قلوبكم » وأن يكونوا مدنسين بالكفر ، ثم قرر تعالى «الخزي في الدنيا » . والمعنى بالذلة والمسكنة التي انضربت عليهم في أقطار الأرض وفي كل أمة ، وقرر لهم العذاب في الآخرة بكفرهم .

وقوله : { سماعون للكذب } إن كان الأول في بني إسرائيل فهذا تكرار تأكيد ومبالغة ، وإن كان الأول في المنافقين فهذا خبر أيضاً عن بني إسرائيل وقوله تعالى : { أكالون للسحت } فعالون مبالغة بناء أي يتكرر أكلهم له ويكثر . و «السحت » كل ما لا يحل كسبه من المال . وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة «السحْت » ساكنة الحاء خفيفة ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي «السحُت » مضمومة الحاء مثقلة . وروي عن خارجة بن مصعب عن نافع «السِّحْت » بكسر السين وسكون الحاء واللفظة مأخوذة من قولهم سحت وأسحت إذا استأصل وأذهب فمن الثلاثي قوله تعالى : { فيسحتكم بعذاب }{[4547]} ومن الرباعي قول الفرزدق :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . *** إلا مسحتاً أو مجلف{[4548]}

والسُّحْت والسُّحُت بضم السين وتخفيف الحاء وتثقيلها لغتان في اسم الشيء المسحوت ، والسحْت بفتح السين وسكون الحاء المصدر ، سمي به المسحوت كما سمي المصيد صيداً في قوله عز وجل { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم }{[4549]} وكما سمي المرهون رهناً ، وهذا كثير .

قال القاضي أبو محمد : فسمي المال الحرام سحتاً لأنه يذهب وتستأصله النوب ، كما قال عليه السلام «من جمع مالاً من تهاوش أذهبه الله في نهابير »{[4550]} ، وقال مكي سمي المال الحرام سحتاً لأنه يذهب من حيث يسحت الطاعات أي يذهب بها قليلا قليلاً ، وقال المهدوي من حيث يسحت أديانهم .

قال القاضي أبو محمد : وهذا مردود لأن السيئات لا تحبط الحسنات اللهم إلا أن يقدر أنه يشغل عن الطاعات فهو سحتها من حيث لا تعمل وأما طاعة حاصلة فلا يقال هذا فيها ، وقال المهدوي سمي أجر الحجام سحتاً لأنه يسحت مروءة آخذه .

قال القاضي أبو محمد : وهذا أشبه ، أصل السحت كلب الجوع ، يقال فلان مسحوت المعدة إذا كان لا يُلفى أبداً إلا جائعاً يذهب ما في معدته ، فكان الذي يرتشي به من الشره ما بالجائع أبداً لا يشبع .

قال القاضي أبو محمد : وذلك بأن الرشوة تنسحت ، فالمعنى هو كما قدمناه ، وفي عبارة الطبري بعض اضطراب لأن مسحوت المعدة هو مأخوذ من الاستئصال والذهاب ، وليس كلب الغرث اصلاً للسحت ، والسحت الذي عني أن اليهود يأكلونه هو الرشا في الأحكام والأوقاف التي تؤكل ويرفد أكلها بقول الأباطيل وخدع العامة ونحو هذا ، وقال أبو هريرة وعلي بن أبي طالب : مهر البغي سحت وعسب{[4551]} الفحل سحت وكسب الحجام{[4552]} سحت وثمن الكلب والخمر سحت ، وقال ابن مسعود السحت أن يهدي لك من قد أعنته في حاجته أو حقه فتقبل ، قيل لعبد الله ما كنا نعد السحت إلا الرشوة في الحكم قال : ذلك الكفر ، وقد روي عن ابن مسعود وجماعة كثيرة أن السحت هو الرشوة في الحكم ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به ، قيل يا رسول الله وما السحت ؟ قال : الرشوة في الحكم »{[4553]} .

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وكل ما ذكر في معنى السحت فهو أمثلة ، ومن أعظمها الرشوة في الحكم والأجرة على قتل النفس ، وهو لفظ يعم كل كسب لا يحل ، وقوله تعالى : { فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم } تخيير للنبي صلى الله عليه وسلم ولحكام أمته بعده في أن يحكم بينهم إذا تراضوا في نوازلهم ، وقال عكرمة والحسن : هذا التخيير منسوخ بقوله { وأن احكم بينهم بما أنزل } [ المائدة : 49 ] وقال ابن عباس ومجاهد : نسخ من المائدة آيتان ، قوله تعالى : { ولا القلائد } [ المائدة : 2 ] نسختها آية السيف وقوله : { أو أعرض عنهم } نسختها { وأن احكم بينهما بما أنزل الله } [ المائدة : 49 ] .

قال القاضي أبو محمد : وقال كثير من العلماء هي محكمة وتخيير الحكام باق ، وهذا هو الأظهر إن شاء الله ، وفقه هذه الآية أن الأمة فيما علمت مجمعة على أن حاكم المسلمين يحكم بين أهل الذمة في التظالم ويتسلط عليهم في تغييره وينقر عن صورته كيف وقع فيغير ذلك ، ومن التظالم حبس السلع المبيعة وغصب المال وغير ذلك ، فأما نوازل الأحكام التي لا ظلم فيها من أحدهم للآخر وإنما هي دعاوي محتملة وطلب ما يحل ولا يحل وطلب المخرج من الإثم في الآخرة فهي التي هو الحاكم فيها مخير ، وإذا رضي به الخصمان فلا بد مع ذلك من رضى الأساقفة أو الأحبار ، قاله ابن القاسم في العتبية ، قال وأما إن رضي الأساقفة دون الخصمين أو الخصمان دون الأساقفة فليس له أن يحكم .

قال القاضي أبو محمد : وانظر إن رضي الأساقفة لأشكال النوازل عندهم دون أن يرضى الخصمان فإنها تحتمل الخلاف ، وانظر إذا رضي الخصمان ولم يقع من الأحبار نكير فحكم الحاكم ثم أراد الأحبار رد ذلك الحكم وهل تستوي النوازل في هذا كالرجم في زانيين والقضاء في مال يصير من أحدهما إلى الآخر ؟ وانظر إذا رضي الخصمان هل على الحاكم أن يستعلم ما عند الأحبار أو يقنع بأن لم تقع منهم معارضته ؟ ومالك رحمه الله يستحب لحاكم المسلمين الإعراض عنهم وتركهم إلى دينهم وقال ابن عباس ومجاهد وغيرهما قوله تعالى : { فإن جاؤوك } يعني أهل نازلة الزانيين .

قال القاضي أبو محمد : ثم الآية بعد تتناول سائر النوازل والله علم .


[4546]:- يقال: رفده رفدا ورفادة: دعمه برفادة، وهي: الدعامة. والمراد: تقويته بمبدأ
[4547]:- من قوله تعالى في الآية (61) من سورة (طه): {لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى}.
[4548]:- البيت كاملا: وعض زمان يا بن مروان لم يدع من المال إلا مسحتا أو مجلف. قال في (اللسان): أسحت رأسه: استأصله حلقا، وأسحت ماله: استأصله وأفسده"، وروى البيت، ثم قال: ويروى: "إلا مسحت أو مجلف"، ومن رواه كذلك جعل معنى: "لم يدع": لم يتقارّ، ومن رواه: "إلا مسحتا" جعل: "لم يدع" بمعنى: لم يترك ورفع قوله: "أو مجلف" بإضمار، كأنه قال: أو مجلّف. قال الأزهري: وهذا هو قول الكسائي.
[4549]:- من الآية (95) من سورة (المائدة).
[4550]:- في (اللسان) وفي (النهاية): نهاوش بالنون- وهي المظالم من قولهم: نهشه إذا جهده فهو منهوش. وفي رواية: مهاوش بالميم- وهو: كل ما أصيب من غير حلة ولا يدرى ما وجهه. والهواش بالضم: ما جمع من مال حرام وحلال، كأنه جمع مهوش من الهوش: الجمع والخلط، والميم زائدة. والنهابر: المهالك والأمور المتبددة، وواحد النهابر: نهبور (النهاية) أما الحديث فقد جاء عنه في تمييز الطيب من الخبيث: مرسل ضعيف وفيه متروك، وقال التقي السبكي: لا يصح.
[4551]:- عُسَبْ الفحل- بضم العين وبفتحها- ماؤه- والمراد أن أخذ الأجر عليه حرام. (المعجم الوسيط).
[4552]:- الحجّام: صاحب حرفة الحجامة، وهي: امتصاص للدم من الجسم بالمحجم. وقد قال القرطبي: إن كسب الحجام حلال طيب.وروى حديث أنس: احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، حجمه أبو طيبة، فأمر له بصاع من تمر..الخ.
[4553]:- أخرجه عبد بن حميد، وابن جرير، وابن مردويه- عن ابن عمر. (الدر المنثور).