أما الوصية العاشرة فهى قوله - تعالى - فى الآية الثالثة من هذه الآيات : { وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } .
قرأة الجمهور بفتح همزة { أَنَّ } وتشديد النون . ومحلها مع ما فى حيزها الجر بحذف لام العلة . أى : ولأن هذا الذى وصيتكم به من الأوامر والنواهى طريقى ودينى الذى لا اعوجاج فيه ، فمن الواجب عليكم أن تتبعوه وتعملوا به .
ويحتمل أن يكون محلها مع ما فى حيزها النصب على { مَا حَرَّمَ } أى : وأتلوا عليكم أن هذا صراطى مستقيما .
وقرأ حمزة والكسائى " إن " بكسر الهمزة على الاستئناف .
وقوله { وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل } يعنى الأديان الباطلة ، والبدع والضلالات الفاسدة { فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } أى : فتفرقكم عن صراط الله المستقيم وهو دين الإسلام الذى ارتضاه لكم .
روى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود - رضى الله عنه - قال : " خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا ثم قال : هذا سبيل الله ، ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله ثم قال : هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ثم قرأ { وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً } " .
وقد أفرد - سبحانه - الصراط المستقيم وهو سبيل الله ، وجمع السبل المخالفة له لأن الحق واحد والباطل ما خالفه وهو كثير فيشمل الأديان الباطلة ، والبدع الفاسدة ، والشبهات الزائفة ، والفرق الضالة وغيرها .
ثم ختمت الآية بقوله - تعالى - { ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } أى : ذلكم المذكور من اتباع سبيله - تعالى - وترك اتباع السبل وصاكم الله به لعلكم تتقون اتباع سبل الكفر والضلالة ، وتعملون بما جاءكم به هذا الدين .
قال أبو حيان : ولما كانت الخمسة المذكورة فى الآية الأولى من الأمور الظاهرة الجلية مما يجب تعلقها وتفهمها ختمت الآية بقوله { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } ، ولما كانت الأربعة المذكورة فى الآية الثانة خافية غامضة ولا بد فيها من الاجتهاد والتفكر حتى يقف الإنسان فيها على موضع الاعتدال ختمت بقوله : { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } ولما كان الصراط المستقيم هو الجامع للتكاليف ، وأمر - سبحانه - باتباعه ونهى عن اتباع السبل المختلفة ختم ذلك بالتقوى التى هى اتقاء النار ، إذ من اتبع صراطه نجا النجاة الأبدية وحصل على السعادة السرمدية " .
وبعد : فهذه هى الوصايا العشر التى جاءت بها هذه الآيات الكريمة ، والمتأمل فيها يراها قد وضعت أساس العقيدة السليمة فى توحيد الله - تعالى - وبنت الأسرة الفاضلة على أساس الإحسان بالوالدين والرحمة بالأبناء ، وحفظت المجتمع من التصدع عن طريق تحريمها لانتهاك الأنفس والأموال والأعراض ، ثم ربطت كل ذلك بتقوى الله التى هى منبع كل خير وسبيل كل فلاح .
فأين المسلمون اليوم من هذه الوصايا ؟ إنهم لو عملوا بها لعزوا فى دنياهم ولسعدوا فى أخراهم ، فهل تراهم فاعلون ؟
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَنّ هََذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتّبِعُوهُ وَلاَ تَتّبِعُواْ السّبُلَ فَتَفَرّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وهذا الذي وصاكم به ربكم أيها الناس في هاتين الاَيتين من قوله : قُلْ تَعَالَوْا أتْلُ ما حَرّمَ رَبّكُمْ عَلَيْكُمْ وأمركم بالوفاء به ، هو صراطه ، يعني طريقه ودينه الذي ارتضاه لعباده . مُسْتَقِيما يعني : قويما لا اعوجاج به عن الحقّ . فاتّبِعُوهُ يقول : فاعملوا به ، واجعلوه لأنفسكم منهاجا تسلكونه فاتبعوه . وَلا تَتّبِعُوا السّبُلَ يقول : ولا تسلكوا طريقا سواه ، ولا تركبوا منهجا غيره ، ولا تبغوا دينا خلافه من اليهودية والنصرانية والمجوسية وعبادة الأوثان وغير ذلك من الملل ، فإنها بدع وضلالات . فَتَفَرّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ يقول : فيشتت بكم إن اتبعتم السبل المحدثة التي ليست لله بسبل ولا طلاق ولا أديان ، اتباعكم عن سبيله ، يعني : عن طريقه ودينه الذي شرعه لكم وارتضاه ، وهو الإسلام الذي وصّى به الأنبياء وأمر به الأمم قبلكم . ذَلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ يقول تعالى ذكره : هذا الذي وصاكم به ربكم من قوله لكم : إنّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيما فاتّبِعُوهُ وَلا تَتّبِعُوا السّبُلَ وصاكم به لعلكم تتقون ، يقول : لتتقوا الله في أنفسكم فلا تهلكوها ، وتحذروا ربكم فيها فلا تسخطوه عليها فيحلّ بكم نقمته وعذابه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : وَلا تَتّبِعُوا السّبُلَ فَتَفَرّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ قال : البدع والشبهات .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَلا تَتّبِعُوا السّبُلَ : البدع والشبهات .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثنا معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : فاتّبِعُوهُ وَلا تَتّبِعُوا السّبُلَ فَتَفَرّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ، وقوله : وأقِيمُوا الدّينَ وَلا تَتَفَرّقُوا فِيهِ ونحو هذا في القرآن ، قال : أمر الله المؤمنين بالجماعة ونهاهم عن الاختلاف والفرقة ، وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ولاَ تَتّبِعُوا السّبُلَ فَتَفَرّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ يقول : لا تتبعوا الضلالات .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا حماد ، عن عاصم ، عن أبي وائل ، عن عبد الله ، قال : خطّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما خطّا ، فقال : «هَذَا سَبِيلُ اللّهِ » ثم خطّ عن يمين ذلك الخطّ وعن شماله خطوطا ، فقال : «هَذِهِ سُبُلٌ على كُلّ سَبِيلٍ مِنْها شَيْطَانٌ يَدْعُوا إلَيْها » . ثم قرأ هذه الاَية : وأنّ هَذَا صِرَاطي مُسْتَقِيما فاتّبِعُوهُ وَلا تَتّبِعُوا السّبُلَ فَتَفَرّقَ بكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَأنّ هَذَا صِرَاطي مُسْتَقِيما فاتّبِعُوهُ وَلا تَتّبِعُوا السّبُلَ فَتَفَرّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ : الإسلام ، وصراطه : الإسلام . نهاهم أن يتبعوا السبل سواه ، فَتَفَرّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ : عن الإسلام .
حدثني محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن أبان : أن رجلاً قال لابن مسعود : ما الصراط المستقيم ؟ قال : تركنا محمد صلى الله عليه وسلم في أدناه ، وطرفه في الجنة ، وعن يمينه جوادّ ، وعن يساره جوادّ ، وثمّ رجال يدعون من مرّ بهم ، فمن أخذ في تلك الجوادّ انتهت به إلى النار ، ومن أخذ على الصراط انتهى به إلى الجنة . ثم قرأ ابن مسعود : وَأن هَذَا صِرَاطي مُسْتَقِيما . . . الاَية .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : وَأنّ هَذَا صِرَاطي مُسْتَقِيما فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين : وأنّ بفتح الألف من «أن ، وتشديد النون ، ردّا على قوله : أنْ لا تُشْركُوا بِهِ شَيْئا بمعنى : قل تعالوا أتل ما حرّم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا ، وأن هذا صراطي مستقيما . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين : «وَإنّ » بكسر الألف من «إن » ، وتشديد النون منها على الابتداء وانقطاعها عن الأول ، إذ كان الكلام قد انتهى بالخبر عن الوصية التي أوصى الله بها عباده دونه عندهم .
والصواب من القول في ذلك عندي : أنهما قراءتان مستفيضتان في قرّاء الأمصار وعوامّ المسلمين صحيح معنياهما ، فبأيّ القراءتين قرأ القارىء فهو مصيب الحقّ في قراءته . وذلك أن الله تعالى ذكره قد أمر باتباع سبيله ، كما أمر عباده بالأشياء . وإن أدخل ذلك مدخل فيما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين : تَعالَوْا أتْلُ ما حَرّمَ رَبّكُمْ عَلَيْكُمْ وما أمركم به ، ففتح على ذلك «أن » فمصيب . وإن كسرها إذ كانت «التلاوة » قولاً وإن كان بغير لفظ القول لبعدها من قوله : «أتل » ، وهو يريد إعمال ذلك فيه فمصيب . وإن كسرها بمعنى ابتداء وانقطاع عن الأوّل «والتلاوة » ، وأن ما أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بتلاوته على من أمر بتلاوة ذلك عليهم قد انتهى دون ذلك ، فمصيب . وقد قرأ ذلك عبد الله بن أبي إسحاق البصريّ : «وأنْ » بفتح الألف من «أن » ، وتخفيف النون منها ، بمعنى : قل تعالوا أتل ما حرّم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا ، وأن هذا صراطي فخففها إذ كانت «أن » في قوله : أنْ لا تُشْركُوا بِهِ شَيْئا مخففة ، وكانت «أن » في قوله : وأنّ هَذَا صِرَاطي معطوفة عليها ، فجعلها نظيرة ما عطفت عليه . وذلك وإن كان مذهبا ، فلا أحبّ القراءة به لشذوذها عن قراءة قرّاء الأمصار وخلاف ما هم عليه في أمصارهم .
{ وأن هذا صراطي مستقيما } الإشارة فيه إلى ما ذكر في السورة فإنها بأسرها في إثبات التوحيد والنبوة وبيان الشريعة . وقرأ حمزة والكسائي { إن } بالكسر على الاستئناف ، وابن عامر ويعقوب بالفتح والتخفيف . وقرأ الباقون بها مشددة بتقدير اللام على أنه علة لقوله . { فاتبعوه } وقرأ ابن عامر { صراطي } بفتح الياء ، وقرئ " وهذا صراطي " " وهذا صراط ربكم " " وهذا صراط ربك " { ولا تتبعوا السبل } الأديان المختلفة أو الطرق التابعة للهوى ، فإن مقتضى الحجة واحد ومقتضى الهوى متعدد لاختلاف الطبائع والعادات . { فتفرق بكم } فتفرقكم وتزيلكم . { عن سبيله } الذي هو اتباع الوحي واقتفاء البرهان . { ذلكم } الاتباع . { وصاكم به لعلكم تتقون } الضلال والتفرق عن الحق .