فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{ذَٰلِكَ ٱلۡكِتَٰبُ لَا رَيۡبَۛ فِيهِۛ هُدٗى لِّلۡمُتَّقِينَ} (2)

{ ذلك } يشار به إلى البعيد- غالبا { الكتاب } المكتوب الجامع .

{ ريب } شك ، تهمة . { هدى } دلالة ودعوة وتنبيه .

{ للمتقين } للمتقين المعاصي والمساخيط ، المطيعين لما أمروا به .

{ ذلك الكتاب } هذا القرآن كتابنا الذي سما على الكتب وجمع كل الخير وكل البر والحق ، وهو كتاب عزيز نفيس ، هو الكتاب على الحقيقة . و( ذلك ) يشار بها إلى البعيد غالبا ؛ وهنا قد يكون المعنى : الإشارة إلى علو رتبته ورفعة شرفه .

مما أورد صاحب الجامع لأحكام القرآن{[77]} : { ذلك } قد تستعمل في الإشارة إلى حاضر وإن كان موضوعا للإشارة إلى غائب كما قال تعالى في الإخبار عن نفسه : { ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم }{[78]} ، أقول : وهو سبحانه أقرب إلينا من حبل الوريد وقد بين ذلك الذكر الحكيم في أكثر من آية { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب . . }{[79]} كما بين أنه تبارك وتعالى رقيب وشاهد { وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه . . }{[80]} ؛ و( الكتاب ) اسم من أسماء القرآن المجيد ، وقد أورد منها صاحب تفسير غرائب القرآن{[81]} نحوا من أربعين اسما ، الله العليم سماه فرقانا ، يقول جل وعز{ تبارك الذي نزل الفرقان على عبده . . }{[82]} ؛ ولعل في التسمية ما يشير إلى نزوله متفرقا على مدى بضع وعشرين سنة ، أو لأنه يفرق بين الحق والباطل ؛ وسماه المولى سبحانه ( حكما ) كما في الآية القرآنية { وكذلك أنزلناه حكما عربيا . . }{[83]} وسماه ( روحا ) و( نورا ) يقول ربنا تقدست أسماؤه : { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا . . }{[84]} ، ويقول : ( . . ولكن جعلناه نورا . . ){[85]} .

{ لا ريب } لا شك ولا تهمة في أنه تنزيل الله الخالق جل وعلا ، وأنه حق فإن قلت كيف نفى الريب على سبيل الاستغراق ، كم من شقي مرتاب فيه ، ؟ قلت : ما نفى من أحد مرتاب فيه وإنما المنفى كونه متعلقا للريب ومظنة له لأنه من وضوح الدلالة بحيث لا ينبغي لمرتاب أن يقع فيه{[86]} ، وقيل : هو خبر ومعناه النهي ، أي : لا ترتابوا فيه .

{ هدى للمتقين } الهدى قد يعني : التبيين والدلالة والتنبيه والدعوة ، ومنها قول الله عز ثناؤه : { . . ولكل قوم هاد }{[87]} : { . . وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم }{[88]} ، وهذا هو الذي تقدر عليه الرسل وأتباعهم ؛ وقد يعني الهدى : التأييد والتوفيق وخلق الإيمان في القلب ، وهذا لا يقدر عليها إلا الله ، يقول سبحانه : { . . ولكن الله يهدي من يشاء . . }{[89]} ، { إنك لا تهدي من أحببت . . }{[90]} ؛ { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام . . }{[91]} ؛ والمتقي : هو المؤتمر للمأمورات ، المنتهي عن المحظورات ، فحقيقة التقوى الخشية ، وقد يراد بها التوحيد كما في قول الله عز من قائل : { . . وألزمهم كلمة التقوى . . }{[92]} ، أي كلمة التوحيد : لا إله إلا الله ؛ وقد يراد بها الإخلاص ، ومنه ما جاء في الآية الكريمة { . . فإنها من تقوى القلوب }{[93]} ، أي : إخلاصها ؛ عن ابن عباس : المتقون{[94]} : هم المؤمنون الذين يتقون الشرك ويعملون بطاعة الله وقال قتادة : هم الذين نعتهم الله بقوله : { الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة }{[95]} واختيار ابن جرير{[96]} أن الآية تعم ذلك كله ؛ والفرقان الحكيم يبني ويدل على الحق ويرشد ويدعو إلى البر ، { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم . . }{[97]} لكن المنتفعين بهداه{[98]} هم الذين يخشون الله ، ويطلبون رحمته وثوابه ورضاه ، { فذكر بالقرآن من يخاف وعيد }{[99]} ، { وإنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب . . }{[100]} .


[77]:هو أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي.
[78]:سورة السجدة الآية 6.
[79]:سورة البقرة من الآية 186.
[80]:سورة يونس من الآية 61.
[81]:الحسن بن محمد ابن حسين القمي النيسابوري.
[82]:سورة الفرقان من الآية 1.
[83]:سورة الرعد الآية 37.
[84]:سورة الشورى من الآية 52.
[85]:سورة الشورى من الآية 52.
[86]:ما بين العارضتين من تفسير غرائب القرآن.
[87]:سورة الرعد من الآية 7.
[88]:سورة الشورى من الآية 52.
[89]:سورة البقرة من الآية 272.
[90]:سورة القصص من الآية 56.
[91]:سورة الأنعام من الآية 125.
[92]:سورة الفتح من الآية 26.
[93]:سورة الحج من الآية 32.
[94]:سأل عمر أبي ابن كعب عن التقوى فقال له أما سلكت طريقا ذا شوك قال ؟ بلى قال فماذا عملت قال شمرت واجتهدت قال فذلك التقوى.
[95]:سورة البقرة الآية 3.
[96]:هو أبو جعفر محمد بن جرير الطبري صاحب تفسير جامع البيان.
[97]:سورة الإسراء من الآية 9.
[98]:نظم بعضهم أثر القرآن فيه فقال: يا بيانا جل عن كل شبيه *** وتعالى عن أساليب العرب وكتابا كلما ارتلت فيه *** خشع القلب لديه واضطرب هو إن رق نسيم نافع *** بشذا الخلد وأنفاس النعيم
[99]:سورة ( ق) من الآية 45.
[100]:سورة يس من الآية 11.