الأولى- قرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي وابن محيصن : " تصاعر " بالألف بعد الصاد . وقرأ ابن كثير وعاصم وابن عامر والحسن ومجاهد : " تُصَعّر " وقرأ الجحدري : " تُصْعر " بسكون الصاد ، والمعنى متقارب . والصعر : الميل ، ومنه قول الأعرابي : وقد أقام الدهر صعري ، بعد أن أقمت صعره . ومنه قول عمرو بن حني التغلبي :
وكنا إذا الجبار صَعَّرَ خدَّه *** أقمنا له من ميله فتقَوَّمِ{[12593]}
وأنشده الطبري : " فتقوما " . قال ابن عطية : وهو خطأ ؛ لأن قافية الشعر مخفوضة{[12594]} . وفي بيت آخر : أقمنا له من خده المتصعر . قال الهروي : " لا تصاعر " أي لا تعرض عنهم تكبرا عليهم . يقال : أصاب البعير صعر وصيد إذ أصابه داء يلوي منه عنقه . ثم يقال للمتكبر : فيه صعر وصيد . فمعنى : " لا تصعر " أي لا تلزم خدك الصعر . وفي الحديث : ( يأتي على الناس زمان ليس فيهم إلا أصعر أو أبتر ) والأصعر : المعرض بوجهه كبرا ، وأراد رذالة الناس الذين لا دين لهم . وفي الحديث : ( كل صعار ملعون ) أي كل ذي أبهة وكبر .
الثانية- معنى الآية : ولا تمل خدك للناس كبرا عليهم وإعجابا واحتقارا لهم . وهذا تأويل ابن عباس وجماعة . وقيل : هو أن تلوي شدقك إذا ذكر الرجل عندك كأنك تحتقره . فالمعنى : أقبل عليهم متواضعا مؤنسا مستأنسا ، وإذا حدثك أصغرهم فاصغ إليه حتى يكمل حديثه . وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل .
قلت : ومن هذا المعنى{[12595]} ما رواه مالك عن ابن شهاب عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تباغضوا ولا تدابروا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانا ، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ) . فالتدابر الإعراض وترك الكلام والسلام ونحوه . وإنما قيل للإعراض تدابر لأن من أبغضته أعرضت عنه ووليته دبرك ، وكذلك يصنع هو بك . ومن أحببته أقبلت عليه بوجهك وواجهته لتسره ويسرك ، فمعنى التدابر موجود فيمن صعر خده ، وبه فسر مجاهد الآية . وقال ابن خويز منداد : قوله : " ولا تصاعر خدك للناس " كأنه نهى أن يذل الإنسان نفسه من غير حاجة ، ونحو ذلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ليس للإنسان أن يذل نفسه ) .
الثالثة- قوله تعالى : " ولا تمش في الأرض مرحا " أي متبخترا متكبرا ، مصدر في موضع الحال ، وقد مضى في " الإسراء " {[12596]} . وهو النشاط والمشي فرحا في غير شغل وفي غير حاجة . وأهل هذا الخلق ملازمون للفخر والخيلاء ، فالمرح مختال في مشيته . روى يحيى بن جابر الطائي عن ابن عائذ الأزدي عن غضيف بن الحارث قال : أتيت بيت المقدس أنا وعبد الله بن عبيد بن عمير{[12597]} قال : فجلسنا إلى عبد الله بن عمرو بن العاصي فسمعته يقول : إن القبر يكلم العبد إذا وضع فيه فيقول : يا ابن آدم ما غرك بي ! ألم تعلم أني بيت الوحدة ! ألم تعلم أني بيت الظلمة ! ألم تعلم أني بيت الحق ! يا ابن آدم ما غرك بي ! لقد كنت تمشي حولي فدادا . قال ابن عائذ قلت لغُضيف : ما الفدّاد يا أبا أسماء ؟ قال : كبعض مشيتك يا ابن أخي أحيانا . قال أبو عبيد : والمعنى ذا مال كثير وذا خيلاء . وقال صلى الله عليه وسلم : ( من جر ثوبه خيلاء لا ينظر الله إليه يوم القيامة ) . والفخور : هو الذي يعدد ما أعطي ولا يشكر الله تعالى . قاله مجاهد . وفي اللفظة الفخر بالنسب وغير ذلك .
ولما كان من {[53950]}آفات العبادة{[53951]} لا سيما الأمر والنهي - لتصورهما بصورة الاستعلاء - الإعجاب الداعي إلى الكبر ، قال محذراً من ذلك معبراً عن الكبر بلازمه ، لأن نفي الأعم نفي للأخص ، منبهاً على أن المطلوب في الأمر والنهي اللين لا الفظاظة والغلظة الحاملان على النفور{[53952]} : { ولا تصعر{[53953]} خدك } أي لا تمله معتمداً إمالته بإمالة العنق متكلفاً لها صرفاً عن الحالة القاصدة ، وأصل الصعر داء يصيب البعير يلوي منه عنقه ، وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي : تصاعر ، والمراد بالمفاعلة والتفعيل تعمد فعل ذلك لأجل الكبر حتى يصير خلقاً ، والمراد النهي عما يفعله المصعر من الكبر - والله أعلم .
ولما كان ذلك قد يكون لغرض من الأغراض التي لا تذم ، أشار إلى المقصود بقوله تعالى : { للناس } بلام{[53954]} العلة ، أي لا تفعل ذلك لأجل الإمالة عنهم ، وذلك لا يكون إلا تهاوناً بهم من الكبر ، بل أقبل عليهم بوجهك كله مستبشراً منبسطاً من غير كبر ولا علو ، {[53955]}وأتبع{[53956]} ذلك ما يلزمه فقال : { ولا تمش } ولما كان في أسلوب التواضع وذم الكبر ، ذكره بأن أصله تراب ، وهو لا يقدر أن يعدوه فقال : { في الأرض } وأوقع المصدر موقع الحال أو العلة فقال : { مرحاً } أي اختيالاً وتبختراً ، أي لا تكن{[53957]} منك هذه الحقيقة لأن ذلك مشي أشر وبطر وتكبر ، فهو جدير بأن يظلم صاحبه ويفحش ويبغي ، بل امش هوناً فإن ذلك يفضي بك{[53958]} إلى التواضع ، فتصل إلى كل خير ، فترفق بك الأرض إذا صرت فيها حقيقة بالكون في بطنها .
ولما كانت غاية ذلك الرياء للناس والفخر عليهم المثمر لبغضتهم الناشئة عن بغضة الله تعالى ، علله{[53959]} بقوله مؤكداً لأن كثيراً من الناس يظن أن أسباغ النعم الدنيوية من محبة الله : { إن الله } أي الذي لا ينبغي الكبر إلا له لما له من العظمة المطلقة . ولما كان حب الله الذي{[53960]} يلزمه حب الناس محبوباً للنفوس ، وكان فوات{[53961]} المحبوب أشق على النفوس من وقوع{[53962]} المحذور ، وكانت " لا " لا تدخل إلا على المضارع المستقبل قال : { لا يحب } أي فيما يستقبل من الزمان ، ولو قال " يبغض " لاحتمل التقييد بالحال ، ولما كان النشر المشوش أفصح لقرب الرجوع تدليا فيما ترقى فيه المقبل قال : { كل مختال } أي{[53963]} مراء للناس في مشيه تبختراً يرى له فضلاً على الناس فيشمخ بأنفه ، وذلك فعل المرح { فخور } يعدد مناقبه ، وذلك فعل المصعر ، لأن ذلك من الكبر الذي تردى به سبحانه وتعالى فمن نازعه إياه قصمه{[53964]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.