الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{وَٱلَّذِينَ يَرۡمُونَ ٱلۡمُحۡصَنَٰتِ ثُمَّ لَمۡ يَأۡتُواْ بِأَرۡبَعَةِ شُهَدَآءَ فَٱجۡلِدُوهُمۡ ثَمَٰنِينَ جَلۡدَةٗ وَلَا تَقۡبَلُواْ لَهُمۡ شَهَٰدَةً أَبَدٗاۚ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ} (4)

القذف يكون بالزنى وبغيره ، والذي دلّ على أن المراد قذفهنّ بالزنى شيئان ، أحدهما : ذكر المحصنات عقيب الزواني . والثاني : اشتراط أربعة شهداء ؛ لأنّ القذف بغير الزنى يكفي فيه شاهدان ، والقذف بالزنى أن يقول الحرّ العاقل البالغ لمحصنة : يا زانية ، أو لمحصن : يا زاني ، يا ابن الزاني ، يا ابن الزانية ، يا ولد الزنا ، لست لأبيك ، لست لرشدة . والقذف بغير الزنا أن يقول : يا آكل الربا ، يا شارب الخمر ، يا يهودي ، يا مجوسي ، يا فاسق ، يا خبيث ، يا ماص بظر أمّه . فعليه التعزير ، ولا يبلغ به أدنى حدّ العبيد وهو أربعون ، بل ينقص منه . وقال أبو يوسف : يجوز أن يبلغ به تسعة وسبعون . وقال : للإمام أن يعزر إلى المائة . وشروط إحصان القذف خمسة : الحرية ، والبلوغ ، والعقل ، والإسلام ، والعفة . وقرىء : «بأربعة شهداء » بالتنوين . وشهداء صفة .

فإن قلت : كيف يشهدون مجتمعين أو متفرّقين ؟ قلت : الواجب عند أبي حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم أن يحضروا في مجلس واحد ، وإن جاءوا متفرقين كانوا قذفة . وعند الشافعي رضي الله عنه : يجوز أن يحضروا متفرقين .

فإن قلت : هل يجوز أن يكون زوج المقذوفة واحداً منهم ؟ قلت : يجوز عند أبي حنيفة خلافاً للشافعي .

فإن قلت : كيف يجلد القاذف ؟ قلت : كما جلد الزاني ، إلاّ أنه لا ينزع عنه من ثيابه إلاّ ما ينزع عن المرأة من الحشو والفرو . والقاذفة أيضاً كالزانية ، وأشدّ الضرب ضرب التعزير ، ثم ضرب الزنا ، ثم ضرب شرب الخمر ، ثم ضرب القاذف . قالوا : لأنّ سبب عقوبته محتمل للصدق والكذب ، إلاّ أنه عوقب صيانة للأعراض وردعاً عن هتكها .

فإن قلت : فإذا لم يكن المقذوف محصناً ؟ قلت : يعزر القاذف ولا يحدّ ، إلاّ أن يكون المقذوف معروفاً بما قذف به فلا حدّ ولا تعزير . ردّ شهادة القاذف معلق عند أبي حنيفة رضي الله عنه باستيفاء الحدّ ، فإذا شهد قبل الحدّ أو قبل تمام استيفائه قبلت شهادته ، فإذا استوفى لم تقبل شهادته أبداً وإن تاب وكان من الأبرار الأتقياء . وعند الشافعي رضي الله عنه : يتعلق ردّ شهادته بنفس القذف ، فإذا تاب عن القذف بأن رجع عنه ، عاد مقبول الشهادة ، وكلاهما متمسك بالآية ، فأبو حنيفة رضي الله عنه جعل جزاء الشرط الذي هو الرمي : الجلد ، وردّ الشهادة عقيب الجلد على التأبيد ، فكانوا مردودي الشهادة عنده في أبدهم وهو مدّة حياتهم ، وجعل قوله : { وَأُوْلَئِكَ هُمُ الفاسقون } كلاماً مستأنفاً غير داخل في حيز جزاء الشرط ، كأنه حكاية حال الرامين عند الله بعد انقضاء الجملة الشرطية .