اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{۞وَلَوۡ يُعَجِّلُ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ ٱلشَّرَّ ٱسۡتِعۡجَالَهُم بِٱلۡخَيۡرِ لَقُضِيَ إِلَيۡهِمۡ أَجَلُهُمۡۖ فَنَذَرُ ٱلَّذِينَ لَا يَرۡجُونَ لِقَآءَنَا فِي طُغۡيَٰنِهِمۡ يَعۡمَهُونَ} (11)

قوله تعالى : { وَلَوْ يُعَجِّلُ الله . . . } الآية .

هذا الامتناعُ نفيٌ في المعنى ، تقديره : لا يُعَجِّلُ الله لهم الشَّر ، قال الزمخشري : " فإن قلت : كيف اتَّصل به قوله : { فَنَذَرُ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا } ، وما معناها ؟ قلت : قوله " وَلَوْ يُعَجِّلْ " متضمِّن معنى نفي التَّعجيلِ ، كأنَّه قيل : ولا نُعَجِّل لهم بالشَّرِّ ، ولا نقضي إليهم أجلهم " .

قوله " استعجالهم " فيه أوجهٌ :

أحدها : أنَّه منصوبٌ على المصدر التَّشبيهيِّ ، تقديره : استعجالاً مثل استعجالهم ، ثُمَّ حذف الموصوف ، وهو " اسْتِعْجَال " ، وأقام صفته مقامه ، وهي " مِثل " ، فبقي : ولو يعجِّل الله مثل استعجالهم ، ثم حذف المضاف ، وأقام المضاف إليه مقامه ، قال مكِّي : " وهذا مذهبُ سيبويه " ، وقد تقدَّم مراراً أنَّ مذهب سيبويه في هذا ، أنَّه منصوبٌ على الحالِ من ذلك المصدرِ المُقدَّرِ ، وإن كان مشهورُ أقوالِ المُعْربين غيره ، ففي نسبةِ ما ذكرناه أولاً لسيبويه نظرٌ .

والثاني : أن تقديره : تعجيلاً مثل استعجالهم ، ثم فعل به ما تقدَّم قبله ، وهذا تقديرُ أبي البقاء ، فقدَّر المحذوف مطابقاً للفعل الذي قبلهُ ؛ فإنَّ " تَعْجِيلاً " مصدر ل " عَجّلَ " ، وما ذكره مكِّي موافقٌ للمصدر الذي بعده .

والذي يظهر ؛ ما قدَّره أبو البقاء ؛ لأنَّ موافقة الفعل أولى ، ويكون قد شبَّه تعجيله تعالى باستعجالهم ، بخلاف ما قدَّره مكِّي ، فإنَّه لا يظهر ؛ إذ ليس " اسْتِعْجَال " مصدراً ل " عَجَّل " ، وقال الزمخشري : " أصله : ولو يعجِّل الله للنَّاس الشرَّ تعجيله لهم الخير ، فوضع " اسْتِعْجَالهُم بالخَيْرِ " موضع تعجيله لهم الخيرَ ؛ إشعاراً بسُرعةِ إجابته لهُمْ وإسعافه بطلبهم ، كأنَّ استعجالهُم بالخير تعجيلٌ لهُم " ، قال أبو حيَّان : " ومدلُولُ " عَجَّل " غير مدلول " اسْتَعْجَل " ؛ لأنَّ " عَجَّل " يدلُّ على الوقوع ، و " اسْتَعْجَل " يدلُّ على طلب التَّعجيل ، وذلك واقعٌ من الله - تعالى - ، وهذا مضافٌ إليهم ، فلا يكون التقدير على ما قاله الزمخشري ، فيحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون التقدير : تَعْجِيلاً مثل استعجالهم بالخير ، فشبَّه التَّعجيل بالاستعجالِ ؛ لأنَّ طلبهم للخَيْر ، ووقوع تعجيله مقدَّمٌ عندهم على كلِّ شيء .

والثاني : أن يكون ثمَّ محذوفٌ يدلُّ عليه المصدر تقديره : ولو يُعَجِّل اللهُ للنَّاسِ الشرَّ ، إذا استعجلوا به اسْتعْجَالهُم بالخير ؛ لأنَّهم كانوا يَسْتَعْجِلُون بالشرِّ ووقوعه على سبيل التَّهكم ، كما كانُوا يَسْتعجلُون بالخير " .

الثالث : أنَّه منصوبٌ على إسقاط الخافض ، وهو كاف التَّشبيه ، والتقدير : كاستعجالهم .

قال أبُو البقاء : " وهو بعيدٌ ؛ إذ لو جاز ذلك ، لجاز " زيدٌ غلام عمرو " أي : كغلام عمرو " . وبهذا ضعَّفهُ جماعةٌ ، وليس بتضعيفٍ صحيحٍ ؛ إذ ليس في المثال الذي ذكر فعلٌ يتعدَّى بنفسه عند حذف الجارِّ ، وفي الآية فعلٌ يَصِحُّ فيه ذلك ، وهو قوله : " يُعَجل " ، وقال مكِّي{[18329]} : " ويَلزَمُ مَنْ يجُوِّز حذفَ حرفِ الجر منه ، أن يُجيز " زيدٌ الأسدُ " ، أي : كالأسد " .

قال شهابُ الدِّين{[18330]} : " قوله : ويَلْزَمُ . . إلى آخره " ، لا رَدَّ فيه على هذا القائل ، إذ يلتزمه ، وهو التزامٌ صحيحٌ سائغٌ ؛ إذ لا يُنكِرُ أحَدٌ " زيدٌ الأسد " ، على معنى : كالأسَد ، وعلى تقدير التَّسليم ، فالفرقُ ما ذكره أبو البقاء ، أي : إنَّ الفعل يطلب مصدراً مُشَبَّهاً ، فصار مدلُولاً عليه .

وقال بعضهم : تقديره : في استعجالهم ؛ نقله مكِّي ، فلمَّا حذفت " في " انتصبَ ، وهذا لا معنى له ، وقال البغوي : المعنى " ولو يُعَجِّل الله إجابة دعائهم في الشرِّ والمكروه استعجالهم بالخير ، أي : كما يحبُّون استعجالهم بالخير " .

وقال القرطبي{[18331]} : قال العلماء : التَّعجيلُ من الله ، والاستعجال من العبدِ ، وقال أبو عليّ : هُمَا من الله .

فصل

في كيفية النَّظم وجوه :

أحدها : قال ابن الخطيب{[18332]} : " إنَّه ابتدَأ السورة بذكر شُبُهَاتِ المنكرينَ للنُّبوَّة مع الجواب عنها :

فالشبهة الأولى : أنَّ القوم تعجَّبُوا من تخصيص الله محمداً بالنُّبوة ، فأزال الله ذلك التعجُّب بقوله : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ } [ يونس : 2 ] ، ثم ذكر دلائل التَّوحيد ، ودلائل صحَّة المعاد .

وحاصل الجواب أن يقول : إنِّي ما جئتُكُم إلاَّ بالتوحيد ، والإقرار بالمعاد ، وقد دَلَّلنا على صحتهما ، فلمْ يَبْقَ للتعجُّب من نبوَّتِي معنى .

والشبهة الثانية : أنَّهم كانوا يقولون : اللَّهُمَّ إن كان ما يقول محمدٌ حقاً في ادِّعاء النُّبوَّة والرٍِّسالة ، فأمطر علينا حجارة من السَّماء ، أو ائتِنَا بعذابٍ أليمٍ ، فأجاب الله - تعالى - عن هذه الشبهة بهذه الآية .

وثانيها : قال القاضي : " لمَّا بيَّن الله - تعالى - الوعْد والوعِيدَ ، أتبعهُ بما يدلُّ على أن من حقِّهما ، أن يتأخَّرا عن هذه الحياة الدُّنيويَّة ؛ لأنَّ حصولهما في الدُّنيا ، كالمانع من بقاءِ التَّكليف .

وثالثها : قال القفال : إنَّه لمَّا وصف الكفار بأنهم لا يرجون لقاء الله ، ورضوا بالحياةِ الدُّنيا ، واطمأنوا بها ، وكانُوا عن آيات الله غافلين ، بيَّن أنَّ من غفلتهم ، أنَّ الرسول - عليه الصلاة والسلام - متى أنذرهم استعجلوا العذاب جهلاً منهم وسفهاً .

فصل

أخبر - تعالى - في آيات كثيرة : أنَّ هؤلاء المشركين متى خُوفوا بنزول العذاب في الدُّنيا ، استعجلوا ذلك العذاب ، كقولهم : { اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال : 32 ] ، وقوله تعالى : { سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } [ المعارج : 1 ] الآية ، ثم إنهم لما توعدوا بعذاب الآخرة في هذه الآية ، بقوله { أولئك مَأْوَاهُمُ النار بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [ يونس : 8 ] ، استعجلوا ذلك العذاب ، وقالوا متى يحصل ذلك ؟ كما قال - تعالى - : { يَسْتَعْجِلُ بِهَا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا } [ الشورى : 18 ] ، وقال بعد هذه الآية ، في هذه السورة : { وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ يونس : 48 ] ؛ إلى قوله { الآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ } [ يونس : 51 ] وقال - تعالى - في سورة الرعد : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ المثلات } [ الرعد : 6 ] .

فبيَّن - تعالى - أنه لا مصلحة في تعجيل إيصال الشرّ إليهم ؛ لأنه - تعالى - لو أوصل ذلك إليهم لماتوا ، لأن تركيبهم في الدنيا لا يحتمل ذلك ولا صلاح في إماتتهم ، فربما آمنُوا بعد ذلك ، أو خرج من صلبهم من يؤمن ، وذلك يقتضي ألاَّ يُعَاجلهُم الله بإيصال الشرِّ إليهم .

وسمى العذاب شرّاً ؛ لأنه أذى في حقِّ المعاقب ، كما سماه سيئة في قوله : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة } [ الرعد : 6 ] ، وفي قوله : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] .

والمراد من استعجالهم الخير : أنَّهم كانوا عند نزول الشدائد يدعون الله بكشفها ؛ لقوله : { إِذَا مَسَّكُمُ الضر فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } [ النحل : 53 ] ، { فَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَانَا } [ الزمر : 49 ] .

قوله : " لقُضِيَ " قرأ ابنُ{[18333]} عامر : " لقَضَى " بفتح القاف مبنياً للفاعل ، " أجلهم " بالنصب مفعولاً ، والباقون : بالضمِّ والكسر مبنياً للمفعول ، " أجلهم " رفعاً لقيامه مقام الفاعل ، وقرأ الأعمش{[18334]} ، ويعقوب ، وعبد الله : " لقَضَيْنَا " مسنداً لضمير المُعَظِّم نفسه ، وهي مؤيِّدةٌ لقراءةِ ابنِ عامرِ .

فصل

معنى { لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ } أي : لفرغ من هلاكهم ولماتُوا جميعاً ، وقيل : إنَّها نزلت في النَّضر بن الحارث ، حين قال : { اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ } [ الأنفال : 32 ] الآية . قوله : { فَنَذَرُ الذين لاَ يَرْجُونَ } فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنَّه معطوفٌ على قوله : " ولوْ يُعجل اللهُ " ، على معنى أنَّه في قُوَّة النَّفي ، وقد تقدَّم تحقيقه في سؤال الزمخشري ، وجوابه فيه ، إلاَّ أنَّ أبا البقاء ردَّ عطفه على " يُعَجِّلُ " ، فقال : " ولا يجُوزُ أن يكون معطوفاً على " يُعَجِّلُ " ؛ إذ لو كان كذلك لدخل في الامتناع الذي تقتضيه " لَوْ " ، وليس كذلك ؛ لأنَّ التعجيل لم يقع ، وتركهم في طغيانهم وقع " .

قال شهاب الدِّين : " إنَّما يتمُّ هذا الرَّدُّ ، لو كان معطوفاً على " يُعَجِّلُ " فقط ، باقياً على معناه ، وقد تقدَّم أنَّ الكلام صار في قُوَّة : لا نُعجل لهم الشَّرَّ : فنذرهم ، فيكون " فَنَذَرُهُم " معطوفاً على جملة النَّفي ، لا على الفعل الممتنع وحده ، حتَّى يلزم ما قال " .

والثاني : أنَّه معطوفٌ على جملةٍ مقدَّرة : أي : ولكن نمهلهم فنذر ، قالهُ أبو البقاء .

والثالث : أن تكون جملة مستأنفة ، أي : فنحنُ نذر الذين ؛ قاله الحوفي .

فصل

المعنى : { فَنَذَرُ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا } : لا يخافون البعث ، والحساب { فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } .

قال أهل السنة : إنَّه - تعالى - لمَّا حكم عليهم بالطُّغيان والعمه ، امتنع أن لا يكونوا كذلك ، وإلا لزم أن يَنْقَلِبَ خبر الله تعالى الصِّدق كذباً ، وعلمهُ جهلاً ، وحكمه باطلاً ، وكلّ ذلك محالٌ .


[18329]:ينظر: المشكل 2/375.
[18330]:ينظر: الدر المصون 4/11.
[18331]:ينظر: تفسير القرطبي 8/202.
[18332]:ينظر: الرازي 17/39.
[18333]:ينظر: السبعة ص (324)، الحجة 4/253، حجة القراءات ص (328)، إعراب القراءات 1/261، إتحاف 2/105.
[18334]:ينظر: الكشاف 2/332، المحرر الوجيز 3/108، البحر المحيط 5/133، الدر المصون 4/11.