اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَقۡدُمُ قَوۡمَهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ فَأَوۡرَدَهُمُ ٱلنَّارَۖ وَبِئۡسَ ٱلۡوِرۡدُ ٱلۡمَوۡرُودُ} (98)

ثم وصفه فقال : { يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة } يقالُ : قدمَ فلانٌ فلاناً بمعنى تقدَّمهُ ، ومنه قادمة الرَّجُل كما يقالُ : قدَّمهُ بمعنى تقدَّمهُ ، ومنه : مقدَّمة الجيش .

والمعنى : أنَّ فرعون كان قُدوةً لقومه في الضَّلال حال ما كانوا في الدنيا ، وكذلك مقدمهم إلى النَّار ، وهم يتبعونه ويجُوزُ أن يكون معنى قوله : { وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ } أي : وما أمره بصالحٍ حميد العاقبةِ ، ويكون قوله : " يَقْدمُ قومُه " تبييناً لذلك وإيضاحاً ، أي : كيف يكون أمره رشيداً مع أنَّ عاقبته هكذا ؟ .

قوله : { فَأَوْرَدَهُمُ } يجوزُ أن تكون هذه المسألةُ من باب الإعمال ، وذلك أنَّ " يقدمُ " يصلح أن تسلَّط على " النَّارِ " بحرف الجر ، أي : يقدمُ قومه إلى النَّار ، وكذا : " أوْرَدهُم " يصحُّ تسلّطه عليها أيضاً ، ويكون قد أعمل الثاني للحذفِ من الأوَّل ، ولو أعمل الأوّل لتعدَّى ب " إلى " ولأضمر في الثاني ، ولا محلَّ ل " أوْرَدَ " لاستئنافه ، وهو ماضٍ لفظاً مستقبلٌ معنى ؛ لأنَّهُ عطف على هو نص في الاستقبال .

والهمزةُ في " أوْرَدَ " للتعدية ؛ لأنَّه قبلها يتعدَّى لواحدٍ ، قال تعالى : { وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ } [ القصص : 23 ] .

وقيل : أوقع المستقبل بلفظ الماضي هنا لتحققه . وقيل : بل هو ماض على حقيقته ، وهذا قد وقع وانفصل وذلك أنَه أوردهم في الدُّنيا النَّار . قال تعالى : { النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً } [ غافر : 46 ] وقيل : أوردهم موجبها وأسبابها ، وفيه بعدٌ لأجْلِ العطف بالفاءِ .

والوِرْد : يكون مصدراً بمعنى الوُرُود ، ويكون بمعنى الشيء المُورَد كالطِّحن والرِّعي .

ويُطلق أيضاً على الواردِ ، وعلى هذا إنْ جعلت الورد مصدراً أو بمعنى الوارد فلا بدَّ من حذفِ مضاف تقديرهُ : وبئس مكانُ الورد المورود ، وهو النَّارُ ، وإنَّما احتيج إلى هذا التقدير ؛ لأنَّ تَصَادُقَ فاعل " نِعْمَ " و " بِئْسَ " ومخصوصهما شرطٌ ، لا يقال : نِعْمَ الرَّجُلُ الفرس . وقيل : بل المورود صفة للوردِ ، والمخصوصُ بالذَّمِّ محذوفٌ تقديره : بئس الوردُ المورود النَّارُ ، جوَّز ذلك أبُو البقاءِ{[18971]} ، وابنُ عطيَّة{[18972]} ، وهو ظاهر كلام الزمخشري{[18973]} .

وقيل : التقديرُ : بئس القومُ المورودُ بهم هم ، فعلى هذا " الورد " المرادُ به الجمعُ الواردُون ، قال تعالى : { وَنَسُوقُ المجرمين إلى جَهَنَّمَ وِرْداً } [ مريم : 86 ] والمورود صفةٌ لهم ، والمخصوصُ بالذَّمِّ الضميرُ المحذوف وهو " هم " ، فيكونُ ذلك للواردين لا لموضع الورد كذا قالهُ أبو حيَّان وفيه نظرٌ من حيث إِنَّه : كيف يراد بالورد الجمع الواردُون ، ثم يقولُ : والمورودُ صفةٌ لهم ؟ .

وفي وصف مخصوص " نِعمَ " و " بِئْسَ " خلافٌ بين النَّحويين منعه ابن السَّراج وأبو علي .

قال الواحديُّ : لفظ " النار " مؤنث ، فكان ينبغي أن يقال : وبئست الورد المورود ، إلاَّ أنَّ لفظ " الورد " مذكر ؛ فكان التَّذكيرُ والتَّأنيثُ جائزين ، كما تقولُ : نعم المنزلُ دارك ، ونعمت المنزل دارك ، فمن ذكَّر عنى المنزل ومن أنَّث عنى الدَّار .

فصل

والمعنى : أدخلهم النَّار وبئس المدخلُ المدخولُ ؛ وذلك لأنَّ الورد إنَّما يراد لتسكين العطش وتبريد الأكباد ، والنَّار ضدُّه .


[18971]:ينظر: الإملاء 2/45.
[18972]:ينظر: المحرر الوجيز 3/205.
[18973]:ينظر: الكشاف 2/426.