اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{جَنَّـٰتِ عَدۡنٍ ٱلَّتِي وَعَدَ ٱلرَّحۡمَٰنُ عِبَادَهُۥ بِٱلۡغَيۡبِۚ إِنَّهُۥ كَانَ وَعۡدُهُۥ مَأۡتِيّٗا} (61)

قوله : { جَنَّاتِ عَدْنٍ } العامة على كسر التاء نصباً على أنها بدل من " الجنة " {[21737]} . وعلى هذه القراءة يكون قوله : { وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً } فيه وجهان :

أحدهما : أنه اعتراض بين البدل والمبدل منه .

والثاني : أنه حال . كذا قال أبو حيان{[21738]} .

وفيه نظرٌ من حيث إن المضارع المنفي ب " لا " كالمثبت في أنه لا تباشره واو الحال{[21739]} .

وقرأ أبو حيوة{[21740]} ، وعيسى بن عمر{[21741]} ، والحسن{[21742]} ، والأعمش{[21743]} : " جنَّات{[21744]} " بالرفع{[21745]} وفيه وجهان :

أحدهما : أنه خبر مبتدأ مضمر ، تقديره : تلك أو هي جنات عدن{[21746]} .

والثاني : وبه قال الزمخشري{[21747]} : أنها مبتدأ{[21748]} ، يعني ويكون خبرها " الَّتي وَعدَ " .

وقرأ الحسن بن حيّ{[21749]} ، وعلي بن صالح{[21750]} ، والأعمش في رواية " جنَّة{[21751]} عدنٍ " نصباً مفرداً{[21752]} . واليماني{[21753]} ، والحسن ، والأزرق{[21754]} عن حمزة{[21755]} ، " جَنَّةُ " رفعاً " مفرداً {[21756]} " {[21757]} . وتخريجها واضح مما تقدم{[21758]} .

قال الزمخشري : لما كانت الجنة{[21759]} مشتملة على جنات عدن أبدلت منها ، كقولك أبصرت دارك القاعة والعلالي{[21760]} ، و " عَدْن " معرفة بمعنى العدن ، وهو الإقامة كما جعلوا فينة{[21761]} ، وسحر ، وأمس فيمن لم يصرفه أعلاماً لمعاني الفينة والسحر والأمس{[21762]} ، فجرى مجرى العدن{[21763]} لذلك ، أو هو علم لأرض الجنة ، لكونها دار إقامة ، ولولا ذلك لما ساغ الإبدال ، لأنَّ النكرة لا تبدل من المعرفة إلا موصوفة ، ولما ساغ وصفها ب " التي " {[21764]} .

قال أبو حيان : وما ذكره متعقب ، أما دعواه : إن عدناً علم لمعنى العدن{[21765]} . فيحتاج إلى توقيف وسماع من العرب ، وكذا{[21766]} دعواه العلمية الشخصية فيه ، وأما قوله : ولولا ذلك{[21767]} ، إلى قوله : موصوفة ؛ فليس مذهب البصريين ، لأن مذهبهم جواز إبدال النكرة من المعرفة إن لم تكن موصوفة ، وإنما ذلك شيء قاله البغداديون ، وهم محجوجون بالسماع{[21768]} على ما بيناه ، وملازمته فاسدة . وأما قوله : ولما ساغ وصفها ب " التي " ، فلا يتعين كون " التي " صفة ، وقد ذكرنا أنه يجوز إعرابه بدلاً{[21769]} .

قال شهاب الدين{[21770]} : إن " التي " صفة ، والتمسك بهذا الظاهر كافٍ وأيضاً : فإن الموصول{[21771]} في قوة المشتقات ، وقد نصوا على أن البدل بالمشتق ، ضعيف{[21772]} ، فكذلك ما في معناه{[21773]} .

قوله : { بالغَيْبِ }{[21774]} فيه وجهان :

أحدهما : أن الباء حالية ، وفي صاحب الحال احتمالان :

أحدهما : ضمير الجنة ، وهو عائد الموصول ، أي : وعدها وهي غائبة عنهم لا يشاهدونها .

والثاني : أن يكون هو{[21775]} " عِبَادَهُ " {[21776]} ، أي : وهم غائبون عنها لا يرونها ، إنما آمنوا بها بمجرد الإخبار عنه .

والوجه الثاني : أن الباء سببية ، أي : بسبب تصديقه الغيب ، وبسبب الإيمان " به{[21777]} " {[21778]} .

قوله : { إنَّهُ كَانَ } . يجوز{[21779]} في هذا الضمير وجهان :

أحدهما : أنه ضمير الباري تعالى يعود على " الرحمن " أي : إن الرحمن كان وعده مأتياً .

والثاني : أنه ضمير الأمر والشأن ، لأن مقام تعظيم وتفخيم .

وعلى الأول يجوز أن يكون في " كان " ضمير هو اسمها يعود على الله -تعالى- و " وَعْدُهُ " بدل من ذلك الضمير بدل اشتمال ، و " مَأتِيًّا " خبرها .

ويجوز أن لا يكون فيها ضمير ، بل هي رافعة ل " وعده " و " مأتياً " الخبر أيضاً{[21780]} .

وهو نظير : إن زيداً كان أبوه منطلقاً .

و " مأتيًّا " فيه وجهان :

أحدهما : أنه مفعول على بابه ، والمراد بالوعد : الجنة ، أطلق عليها المصدر ، أي : موعود ، نحو درهم ضرب الأمير{[21781]} .

وقيل : الوعد مصدر على بابه ، و " مأتيا " مفعول بمعنى فاعل{[21782]} . ولم يرتضه الزمخشري فإنه قال : قيل في " مأتيا " مفعول بمعنى فاعل ، والوجه أن الوعد هو الجنة ، وهم يأتونها ، أو هو من قولك : أتى إليه إحساناً ، أي : كان وعده مفعولاً منجزاً{[21783]} .

وقال الزجاج : كل ما وصل إليك فقد وصلت إليه ، وما أتاك فقد أتيته{[21784]} .

والمقصود من قوله : { إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً } بيان أن وعده تعالى -وإن كان بأمر غائب- فهو{[21785]} كأنه مشاهد حاصل ، والمراد{[21786]} تقرير ذلك في القلوب .


[21737]:من قوله تعالى: {فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا} من الآية السابقة. انظر تفسير ابن عطية 9/495، البيان 2/128، التبيان 2/877، البحر المحيط 6/201.
[21738]:البحر المحيط 6/201، وأبو حيان: هو محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان، الإمام أثير الدين أبو حيان الأندلسي، الغرناطي نحوي عصره، ولغويه، ومحدثه. من مصنفاته: البحر المحيط، التذييل والتكميل في شرح التسهيل، وغير ذلك، مات سنة 745 هـ. طبقات المفسرين للداودي 2/286-291.
[21739]:نص النحويون على أن هناك صورا تمتنع واو الحال فيها، منها المضارع المثبت المجرد من (قد)، نحو قوله تعالى: {ولا تمنن تستكثر} الآية 6 من سورة المدثر، وذلك لأنه يشبه اسم الفاعل في الزنة والمعنى، والواو لا تدخل على اسم الفاعل، فكذلك ما أشبهه. ومنها المضارع المنفي بـ (لا) نحو قوله تعالى: {و ما لنا لا نؤمن بالله} [المائدة:84]، لأن المضارع المنفي بـ (لا) في تأويل اسم الفاعل المضاف إليه (غير) فأجري مجراه في الاستغناء عن الواو. قاله ابن مالك في شرح الكافية 2/762-763: وابن الناظم جعل ترك الواو في المضارع المنفي بـ (لا) أكثر من اقترانه بالواو، وأنشد على مجيء الواو قول مالك بن رقية: ...***وكنت ولا ينهنهني الوعيد وقول مسكين الدارمي: أكسبته الورق البيض أيا *** ولقد كان ولا يدعى لأب. وعلى رأي ابن الناظم فلا محل للنظر. شرح التصريح 1/391 – 392، شرح الأشموني 2/188-189.
[21740]:هو شريح بن يزيد، أبو حيوة، الحضرمي، الحمصي، صاحب القراءة الشاذة، ومقرئ الشام، له اختيار في القراءة، عن أبي البرهسم عمران بن عثمان، وعن الكسائي قراءته، روى عنه ابنه حيوة، مات سنة 203 هـ. طبقات القراء 1/325.
[21741]:هو عيسى بن عمر الثقفي أبو عمر مولى خالد بن الوليد، إمام في النحو والعربية، والقراءة، أخذ عن ابن أبي إسحاق، وغيره، وكان مشهورا بالفصاحة، والغريب، وصنف في النحو: الإكمال، والجامع. مات سنة 149 هـ. بغية الوعاة 2/237-138.
[21742]:في ب: والحسن. وعيسى بن عمر.
[21743]:هو سليمان بن مهران الأعمش، أبو محمد الأسدي الكاهلي مولاهم الكوفي، أخذ القراءة عرضا عن إبراهيم النخعي، وزر بن حبيش، وعاصم بن أبي النجود، وغيرهم، وروى القراءة عنه عرضا وسماعا حمزة الزيات، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وغيرهما مات سنة 148 هـ. طبقات القراء 1/315 -316.
[21744]:"جنات" سقط من ب.
[21745]:المختصر (85)، الكشاف 2/415، تفسير ابن عطية 9/495، البحر المحيط 6/201.
[21746]:تفسير ابن عطية 9/495، التبيان 2/877، البحر المحيط 6/201.
[21747]:تقدم.
[21748]:انظر الكشاف 2/415.
[21749]:تقدم.
[21750]:علي بن صالح بن صالح بن حي، أبو محمد البكالي، أخذ القراءة عرضا عن عاصم، وحمزة، وعرض عليه عبيد الله بن موسى، مات سنة 154 هـ. طبقات القراء 1/546.
[21751]:في ب: جنات. وهو تحريف.
[21752]:المختصر (85)، البحر المحيط 6/201.
[21753]:هو محمد بن عبد الرحمن السميفع – بفتح السين – أبو عبد اليماني له اختيار في القراءة ينسب إليه شذ فيه. طبقات القراء 2/161-162.
[21754]:هو إسحاق بن يوسف بن يعقوب الأزرق، أبو محمد الواسطي، قرأ على حمزة، وروى القراءة عن أبي عمرو، وحروف عاصم عن أبي بكر بن عياش، وروى عن الأعمش، وغيره، وروى عنه القراءة إسماعيل بن إبراهيم بن هود، وغيره، مات سنة 195 هـ. طبقات القراء 1/158.
[21755]:هو حمزة بن حبيب الزيات، أبو عمارة الكوفي التيمي مولاهم، أحد القراء السبعة ولد سنة 80 هـ، وأدرك الصحابة بالسن فيحتمل أن يكون رأى بعضهم، أخذ القراءة عرضا عن الأعمش، وغيره، وروى عن خلق أشهرهم الكسائي، مات سنة 156 هـ. طبقات القراء 1/261-263.
[21756]:البحر المحيط 6/201 - 202.
[21757]:ما بين القوسين مكرر في ب.
[21758]:أي أن تخريجها كتخريج قراءة "جنات" بالجمع رفعا ونصبا.
[21759]:في ب: الآية. وسقطت من الأصل.
[21760]:العلالي: جمع (علّيّة) بكسر العين وضمها مع تشديد اللام مكسورة والياء وهي الغرفة. انظر اللسان (علا).
[21761]:الفينة: الحين، الكسائي، وغيره: الفينة: الوقت من الزمان. اللسان (فين).
[21762]:ذلك أن (فينة) حين تجعل علما على الوقت المعين من الزمان منعت من الصرف للعملية والعدل. و(سحر) إذا أريد به سحر يوم بعينه واستعمل ظرفا مجردا من (ال) والإضافة: كجئت يوم الجمعة سحر. فإنه ممنوع من الصرف للتعريف والعدل. فهو معرفة بالعملية، لأنه جعل علما لهذا الوقت، وهو معدول عن السحر المقترن بأل. و(أمس) إذا كان مرادا به اليوم الذي يليه يومك، ولم يضف ولم يقرن بأل، ولم يصغّر، ولم يكسّر، ولم يقع طرفا، فإن بعض بني تميم يمنع صرفه مطلقا رفعا ونصبا وجرا، لأنه علم معدول عن الأمس المعرف بـ (أل)، فيقولون: مضى أمس بالرفع بلا تنوين، وشاهدت أمس، وما رأيت زيدا من أمس. بالفتح فيهما، وبعضهم يخص ذلك الإعراب بحالة الرفع خاصة دون حالتي النصب والجر فيبنيه على الكسر فيهما، والحجازيون يبنونه على الكسر مطلقا في الرفع والنصب والجر على تقدير متضمنا معنى اللام المعرفة. شرح التصريح 2/223- 226.
[21763]:في ب: و.
[21764]:الكشاف 2/415.
[21765]:في ب: علما لمعان أي المعنى العدن.
[21766]:في ب: وكذلك.
[21767]:في الأصل: ذاك.
[21768]:إبدال النكرة من المعرفة من الأمور المختلف فيها بين البصريين، والكوفيين، والبغداديين، فذهب الكوفيون، والبغداديون إلى جواز إبدال النكرة من المعرفة بشرط كون النكرة موصوفة، ووافقهم في ذلك السهيلي وابن أبي الربيع نحو قوله: {عن الشهر الحرام قتال فيه} [البقرة: 217] لأن النكرة إذا لم تكن موصوفة لم تفد، إذ لا فائدة في قولك: مررت بزيد برجل. وزاد البغداديون: أو يكون من لفظ الأول، كقوله: {بالناصية ناصية كاذبة} [العلق:13،14]. وذهب البصريون إلى جواز إبدال النكرة من المعرفة مطلقا، لورودها غير موصوفة، وليست من لفظ الأول، كقوله: فصدوا من خيارهن لقاحا *** يتقاذفن كالغصون عزاز فـ (عزاز) بدل من الضمير في (يتقاذفن). وقوله: فإلى ابن أم أناس أرحل ناقتي *** عمرو فتبلغ حاجتي أو تزحف ملك إذا نزل الوفود ببابـــــــه *** عرفوا موارد مزبد لا يـــنزف فـ (ملك) بدل من (عمرو). الهمع 2/127.
[21769]:البحر المحيط 6/202.
[21770]:هو أحمد بن يوسف بن عبد الدائم بن محمد الحلبي، شهاب الدين، المعروف بالسمين، كان فقيها بارعا في النحو، والقراءات ويتكلم في الأصول، أديبا، لازم أبا حيان إلى أن فاق أقرانه، أخذ القراءات عن التقي الصائغ، وسمع الحديث من يونس الدبوسي، وله تفسير القرآن (الدر المصون)، والإعراب، وشرح التسهيل، وشرح الشاطبية، وغير ذلك، مات سنة 756 هـ. بغية الوعاة 1/402.
[21771]:في ب: الموصوف. وهو تحريف.
[21772]:لأن الغالب في البدل أن يكون جامدا. بحيث لو حذفت الأول لاستقل الثاني، ولم يحتج إلى متبوع قبله في المعنى، فإن لم يكن جامدا كقوله: فلا وأبيك خير منك أني *** ليؤذيني التحمحم والصهيل قدر الموصوف أي: فلا وأبيك رجل خير منك. شرح الكافية 1/338.
[21773]:الدر المصون 5/10 ميكرو فيلم (15355) دار الكتب.
[21774]:في ب: {رجما بالغيب} [الكهف: 22].
[21775]:في النسختين: هي.
[21776]:عباده: سقط من ب.
[21777]:الكشاف 2/415، البحر المحيط 6/202.
[21778]:به: سقط من ب.
[21779]:في ب: فإن قيل: إنه يجوز.
[21780]:التبيان 2/877.
[21781]:المرجع السابق.
[21782]:تفسير غريب القرآن لابن قتيبة ص 274.
[21783]:الكشاف 2/415.
[21784]:معاني القرآن وإعرابه 3/336.
[21785]:هو: سقط من ب.
[21786]:المراد: سقط من ب.